وتلك مفارقة قد يجدها المرء غريبة للوهلة الأولى؛ إذ إن الفن كلما أراد الاقتراب من الواقع بصورة مباشرة، أصبح عاجزا عن التعبير عن أهم ما في هذا الواقع؛ أي ازداد ابتعادا عنه. ولكن هذه المفارقة تختفي إذا وضعنا نصب أعيننا الوظيفة الحقيقة للفن؛ فليس من مهمة الفن أن يكون نسخة محاكية للواقع كما تصور أفلاطون. بل إن المحاكاة الكاملة مستحيلة في الفن؛ لأن الفن مهما حاول أن ينقل الواقع على ما هو عليه، يظل لديه قدر معين من الاستقلال؛ لأنه على الأقل ينتقي عناصر معينة من هذا الواقع ويستبعد عناصر أخرى، بدليل الاختلاف الدائم بين اللوحة المرسومة - مهما كانت واقعية - وبين الصورة الفوتوغرافية، أو بين الرواية أو المسرحية - مهما كانت واقعية - وبين الشريط الذي يسجل محادثات فعلية دارت بين الناس.
وهكذا تتجلى قدرة الفن على التعبير عن حقيقته الخاصة - أوضح ما تكون - من خلال «الإيعاز» غير المباشر، وتبدو المفارقة السابقة في صورة معكوسة حين نقول: إن الفن يزداد اقترابا من أعماق الواقع لما ابتعد عنه، وتلك في الحق هي الفلسفة التي ترتكز عليها كثير من الاتجاهات الفنية الحديثة، في التصوير مثلا؛ فالمصور الذي يقدم إليك وجه إنسان تحتل فيه العين مساحة كبيرة، ولا تقع في موضعها الطبيعي، ولا يحافظ على قواعد المنظور في وضع الوجه، يبتعد عن الواقع ابتعادا شديدا. ولكنه يريد بذلك أن يقول: إن هذه هي «رؤيته» لهذا الوجه، وإنه يصوره كما يحس به في أعماقه الباطنة، لا كما يراه كل الناس؛ ومن ثم فهو يعبر - بهذا الابتعاد عن الواقع - عن حقيقة أعمق بكثير من تلك التي يعبر عنها من يصور هذا الوجه بطريقة «موضوعية» لا تتضمن «رؤية» خاصة.
لقد كان العلم - منذ بدايته - يتضمن تمييزا أساسيا بين «مظاهر» الأشياء و«جوهرها» الباطن، فمن المستحيل أن يتوصل المرء إلى أية حقيقة ما لم يستطع التفرقة بين ما هو عرضي وما هو أساسي في الأشياء، وما لم يستبعد صفاتها المتغيرة، ويحتفظ منها بالصفات الثابتة. وفي وسعنا الآن أن ندرك وجود تشابه بين الحقيقة العلمية والحقيقة الفنية في هذا الصدد؛ فالعمل الفني بدوره يستبعد ما هو عرضي، ويستبقي ما هو جوهري. صحيح أن هناك اختلافا يتمثل في أن الحقيقة العلمية تتخذ طابعا عاما، مجردا، كالقانون الرياضي الذي يعبر عن العلاقات الأساسية بين الظواهر، على حين أن العمل الفني يتخذ طابعا فرديا عينيا ملموسا؛ لأنه ينصب دائما على «موضوع» بعينه. وليس على مجردات ذهنية خالصة؛ فالعمل الفني متجسد دائما في العالم المحسوس، بينما الحقيقة العلمية مقرها العقل. ومع ذلك فإن الفن - في تصويره للموضوع الفردي - لا يسعى إلى التعبير عن هذا الفرد لذاته، بل يقدم ما هو جوهري وأساسي فيه. وهكذا فإن اللوحة المصورة إذا عبرت عن الفرح، فإنها لا تعبر عن فرح «س» أو «ص» من بني البشر، وإنما تعبر عن «ماهية» الفرح أو جوهره الباطن كما يتصوره الفنان، وقل مثل هذا عن القطعة الموسيقية أو التمثال أو أي عمل فني جاد، فللفن إذن حقيقته الخاصة، وهذه الحقيقة تشترك مع الحقيقة العلمية في أنها تترك جانبا ما هو عرضي في الأشياء وتحتفظ بما هو أساسي، وإن كانت تختلف عنها في أن الأولى تعبر عن جوهر الأشياء من خلال صيغ عقلية مجردة، على حين أن الثانية تعبر عنه من خلال نماذج فردية محسوسة.
على أن الحقيقة الفنية لا تكتفي بالتعبير عن جوهر «موضوع» ما، بل هي تعبر أيضا عن جوهر «الذات»؛ فالفنان لا يتعمق بنا إلى لب الشيء الذي يتحدث عنه فحسب. بل إنه يقودنا إلى الأعماق الباطنة لذاته، من حيث هو إنسان، وهذه صفة تنفرد بها الحقيقة الفنية عن الحقيقة العلمية؛ إذ إن العالم يركز جهوده على موضوع بحثه وحده. أما ذاته - من حيث هو إنسان - فتتوارى أو تختفي تماما وراء بحثه الموضوعي، ومهما تدخلت العوامل الذاتية في كشفه العلمي، فإنه يحرص كل الحرص على إخفاء هذه العوامل حين يعرض أبحاثه؛ لأن ظهور أي عامل منها يهدد «موضوعيته» بالخطر، ويصبح نقطة ضعف خطيرة في أبحاثه. وربما تحدث العالم عن تأثير هذه العوامل الذاتية حديثا شخصيا، حين يكتب سيرته الذاتية. أما حين يخاطب جمعا من العلماء فإن ذاته تختفي اختفاء تاما، وينصب الحديث كله على موضوع بحثه.
أما الفنان فإنه لا يحاول أن يخفي ذاته، وإنما يحرص - وخاصة في العصر الحديث - على أنه يطبع نظرته الخاصة إلى الحياة وميوله وتفضيلاته، على عمله الفني، ولا نعد نحن هذه السمة نقصا فيه، بل نراها - بعكس ذلك - علامة من علامات النضج الفني؛ فالفنان الذي تظهر خصائصه الذاتية في عمله الفني هو في نظرنا فنان له «شخصيته» المميزة التي تنعكس على أعماله، أما الفنان الذي لا تكشف أعماله عن ذاته، والذي ينتج أعمالا لا نستطيع أن نربطها به هو بالذات - وكان يمكن أن ينتجها أي فنان آخر - فهو فنان باهت اللون عديم المذاق.
وهكذا تتخذ الحقيقة الفنية طابعا مزدوجا لا نجده في الحقيقة العلمية؛ فهي تعبر عن جوهر الموضوع الذي تعرضه، وتعبر أيضا عن جوهر ذات الفنان، على حين أن الحقيقة العلمية تلتزم جانب التعبير الموضوعي وحده؛ ومن هنا كان في الفن بعد لا نجده في العلم، وأعني به «الصدق الفني»، وهو غير الصدق الأخلاقي المعروف، وإن كان يشاركه بعض صفاته؛ فالصدق الفني هو أن يكون الفنان معبرا في عمله عن تجربة أصيلة، وألا يعمد إلى خداع النفس أو التملق أو التعبير عما لا يحس به. وصحيح أن هذا معيار يصعب التحقق منه؛ لأننا لا نستطيع أن ننفذ إلى أعماق الفنان لكي نعلم إن كان صادقا مع نفسه أم غير صادق. ولكن الأعمال الفنية الكبيرة هي تلك التي تعبر عن معان ومشاعر عميقة لا بد أن يكون الفنان قد عاشها حتى يستطيع أن يعرضها علينا بكل هذا العمق، ويثير فينا معاني وأحاسيس مناظرة.
هذا الارتباط الوثيق بين العمل الفني وبين «ذات» الفنان هو الذي يجعل الفن في جوهره «تجربة»، بالمعنى الشخصي لهذه الكلمة. وفي هذه الصفة تختلف الحقيقة الفنية عن الحقيقة العلمية، وتقترب من ذلك النمو الخاص من الحقيقة الذي يحدثنا عنه المتصوف، والذي لا يستطيع أن يعبر عن أعمق ما فيه بالكلام؛ لأنه «تجربة» تجل عن الكلام، وعلى حين أن ما يهمنا - حين نقرأ كشفا علميا - هو «الاستنتاجات» النهائية، أيا كانت الصيغة التي تعرض بها، فإننا في حالة التجربة الفنية نحرص على المذاق الخاص للعمل الفني، الذي لا يتوافر إلا في جو خاص وعن طريق عناصر معينة تتكامل سويا لإحداث التأثير المنشود. وبعبارة أخرى؛ فالحقيقة الفنية لا تقدم إلينا قدرا معينا من المعلومات فحسب كما يحدث في الحقيقة العلمية، وإنما تضع هذه المعلومات في إطار خاص وفي قالب متميز، يحدث فينا تأثيرا فريدا.
ولو غيرنا هذا الإطار أو القالب لفقدت الحقيقة الفنية القدر الأكبر من تأثيرها؛ فحين نحول جميع المعاني المتضمنة في قصيدة شعرية رفيعة إلى لغة النثر، يضيع الجانب الأكبر من تأثير القصيدة، وتفقد «الحقيقة» التي تنقلها إلينا طابعها المميز، وتلك هي المشكلة التي تثيرها «ترجمة الشعر» من لغة إلى أخرى، مما دفع الكثيرين «عن حق» إلى أن ينظروا إلى هذا النوع من الترجمة على أنه تشويه غير مشروع للعمل الشعري الذي لا تكتمل مقوماته إلا في إطار لغته الأصلية.
ولنقل، بتعبير موجز: إن الحقيقة العلمية تهتم بالمضمون قبل الشكل، على حين أن الشكل في الحقيقة الفنية هو الذي يعطي المضمون تأثيره وقيمته، ويضفي على التجربة الفنية طابعها المميز.
وحين نقول: إن الفن في صميمه «تجربة» فريدة، فإننا نعني بذلك أن الفن لا ينافس الكتب العلمية في تقديم معلومات تغذي عقول الناس؛ إذ إن الفن يخاطب - إلى جانب العقل - مشاعر الإنسان ووجدانه. ولكن هذه التجربة ليست عاطلة أو عقيمة، وليست خبرة ذاتية مقفلة على نفسها دون أن يكون لها أي صدى خارجي؛ فالفن تجربة غنية مثمرة، قد لا يقدم إلينا معلومات مباشرة، ولكنها تزودنا بخبرة عميقة بالحياة، فقد يقدم إلينا العمل الفني الواحد من الفهم لأنفسنا وللناس وللعالم ما لا تقدمه عشرات الكتب. ولكنه لا يقدم إلينا هذا الفهم بالتلقين المباشر، وإنما يوعز به في إطار شكل متكامل يتسم بالجمال. وهو لا يصل إلى هدفه هذا بالتدرج المعروف عن العلم، بل يقدم إلينا حقيقة تنفذ بنا مباشرة إلى أعماق الموضوع.
صفحة غير معروفة