أي إن البناء - في رأي سيباج - مستقل «فكريا» عن الإنسان ولكنه «واقعيا» يظل مرتبطا به ومعتمدا عليه.
ويقف «فرانسوا شاتليه
François Châtelet » موقفا مماثلا في دفاعه عن البنائية ضد تهمة التشكيك في مفهوم الإنسان، والقضاء على الحرية الإنسانية التي يقال: إنها تضيع عندما يصبح «النسق» مسيطرا على جميع مجالات الواقع، دون أن يترك أي مجال للمبادرة الإنسانية؛ ففي رأي «شاتليه» أن المسألة ليست عدوانا على حرية الإنسان، أو تشكيكا في مفهوم الإنسان، بل هي أولا وأخيرا سعي إلى «العلمية» في ميدان دراسة الإنسان، وكل سعي إلى إخضاع الظواهر الإنسانية للعلم كان يتهم في وقت ما بأنه يقضي على حرية الإنسان، ثم يتبين فيما بعد أنه يدعم هذه الحرية إذ يساعد على مزيد من الفهم للإنسان، وكل ما تسعى البنائية إلى القضاء عليه - في رأي شاتليه - هو تلك الطريقة غير العلمية في بحث الإنسان، التي غلبت عليها النزعة البلاغية والإنشائية، التي كانت سائدة في البحوث الإنسانية قبل ظهور البنائية. والواقع أنه ليس هناك ما يمنع من أن تكتسب العلوم الاجتماعية طابعا موضوعيا مماثلا لذلك الذي نجده في العلوم الطبيعية وإن كان نوعه مختلفا؛ فالمجتمعات البشرية ليست أعقد من أن تدرس موضوعيا، وهي لا تعرف ذلك الخضوع المزعوم لنزوات الحرية وتلقائيتها.
ولكي تحقق العلوم الاجتماعية هدف الموضوعية هذا، لا بد لها من أن تشيد لنفسها لغة مجردة تعمل بها على تفسير عالم الحياة اليومية، بدلا من أن تتحدث بلغة هذا العالم ذاته؛ على أن كل منهج يعتمد في دراسته للإنسان على التجربة الحية أو الوعي العلمي، يتقيد بهذه اللغة اليومية؛ أي إنه يظل متعلقا بالمظاهر بدلا من أن يصل إلى جوهر الظواهر الإنسانية.
ومن هنا كانت البنائية تستهدف الانتقال من بحث المظاهر الخارجية إلى ما تطلق عليه الفلسفة الكلاسيكية اسم «الماهيات»؛ وبذلك تتوصل إلى المعقولية الكامنة من وراء التجربة العينية المعاشة؛ وعلى ذلك فإن البناءات لا تعدو أن تكون تلك المجردات التي تتوصل بها إلى المعقولية في فهم الظواهر الإنسانية؛ أي إنها «أنساق للمعقولية
systémes d’intelligibilité »،
51
فعلم اللغة البنائي هو الهيكل الفكري أو التصوري الذي أمكن بفضله جعل اللغات الفعلية معقولة، ومفهوم اللاشعور هو الإطار الفكري الذي جعل من الممكن إضفاء مزيد من المعقولية على ممارسات الإنسان وسلوكه، وأنساق القرابة تضفي معقولية على الظواهر المعاشة في المجتمعات البدائية، والبناء الأساسي لعلاقات الإنتاج هو التصور الذي أصبحت بفضله ممارسات المجتمع - في نظر ماركس - معقولة. ومن المؤكد أن سعي البنائية إلى تحقيق المعقولية في كل هذه الميادين، التي كانت خاضعة لمفاهيم غير علمية تغذيها نزعة إنسانية تعتمد على «التجارب المعاشة»، وعلى المظاهر الخارجية لسلوك الإنسان؛ هذا السعي إلى تحقيق المعقولية لا يحد من حرية الإنسان، ولا ينطوي على إنكار لتصور الإنسان إلا في ظل مذهب يسيء فهم النزعة الإنسانية فحسب.
ولكن من حقنا - بعد هذا كله - أن نتساءل: هل يظل معنى النسق واحدا في حالة البناء الرياضي. وفي حالة البناء الإنساني الاجتماعي؟ هل يكون من المشروع تشبيه النسق الذي يجمع بين أطراف واقعية ملموسة - كنظام القرابة أو علاقة الإنتاج - بالنسق الذي تكون أطرافه تجريدات عقلية خالصة؟ وهل يوافق العلم على هذا التشبيه؟ يبدو أن «دوفرين
M. Dufrenne » كان على حق حين قال: إن البنائيين وقعوا في خطأ كبير حين تصوروا أن معنى النسق واحد في الحالتين، وأن هذا الخطأ راجع إلى أنهم - بقدر ما أرادوا التشبه بالعلم - لم يكونوا علماء بالمعنى الصحيح؛ ولذلك كان هناك قدر من الصواب في عبارته الساخرة التي أطلقها على فلسفة البناء أو النسق: «إن فلسفة النسق هي فلسفة للعلم وضعها أناس لم يمارسوا العلم»،
صفحة غير معروفة