لم يكن الانتقال من نظام الرق إلى المرحلة الإقطاعية انتقالا مفاجئا، ولم يكن يمثل ثورة إنتاجية وعقلية بالمعنى الصحيح؛ ذلك لأن القوى المنتجة في نظام الإقطاع - وهي رقيق الأرض - لم تكن تختلف كثيرا عن العبيد في نظام الرق القديم. كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغير أساسي؛ إذ إنه ظل في أساسه زراعيا، فضلا عن أن حجم الإنتاج كان محدودا. وكانت أساليبه لا تختلف كثيرا في بساطتها عن نظيرتها في نظام الرق.
أما الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية فكان انتقالا حاسما بحق؛ فقد طرأ على شكل الإنتاج تحول أساسي؛ بحيث لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، بل حلت محلها الصناعة، التي لم يكن لها في المراحل السابقة إلا دور محدود، يناظر الأساليب الساذجة التي كانت تستخدم في ممارسة الحرف اليدوية. كذلك فإن القوى الإنتاجية قد طرأ عليها تغير أساسي، يتمثل في الانتقال من رقيق الأرض إلى العامل الأجير. ولعل أهم مظاهر هذا التغير هو أن الاستبداد الذي كان يحل على رقيق الأرض أو حتى على العبد كان منصبا عليه مباشرة من حيث هو «شخص». أما العامل الأجير فقد أصبح يخضع لنوع غير مباشر من الاستبداد، لا ينصب على شخصه، بل عليه من حيث هو ينتمي إلى «طبقة»؛ فصاحب العمل لا يستغل هذا العامل أو ذاك على وجه التحديد، بل هو يستغل العمال من حيث هم أجيرون؛ أي من حيث إن لهم وضعا طبقيا خاصا.
ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس تأثير هذه التغيرات الحاسمة على العادات العقلية والنزعات الفكرية للإنسان في العصر الرأسمالي. ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تحدث دفعة واحدة، بل حدثت متدرجة على مراحل متعددة، يختلف تعدادها باختلاف وجهة النظر المتبعة في بحثها؛ على أننا نستطيع - بالنسبة إلى أغراض بحثنا - أن نلمح فارقا أساسيا بين مرحلتين للرأسمالية، كانت لكل منهما خصائصها المميزة (مع وجود سمات هامة مشتركة بينهما بطبيعة الحال)، هما مرحلة الرأسمالية المبكرة، ومرحلة الرأسمالية المكتملة، وسوف ندرس كلا من هاتين المرحلتين من الزاوية التي ينصب عليها موضوع هذا الفصل؛ وأعني بها التأثير الفكري والمعنوي الذي يترتب على كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي. (3-1) الرأسمالية المبكرة
كانت أهم المعالم التي تنبئ بانهيار المرحلة الإقطاعية وبداية ظهور مرحلة جديدة في التطور الاجتماعي هي: (1)
ظهور فئة منتجة مستقلة هي فئة «الصناع»، التي يمكن أن يعد ظهورها مرحلة وسطا بين الاقتصاد الإقطاعي الذي كان زراعيا، ولم يكن يعرف إنتاجا حرفيا منظما، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الفئة لم تكن قد انفصلت تماما عن الواقع الذي تنتج فيه ومن أجله، بل كانت لا تزال لها صلات قوية بإنتاجها وبالأغراض التي تنتج من أجلها. (2)
ظهور نمط اقتصادي لا يستهدف الاستهلاك في نفس الوحدة المنتجة؛ أي ظهور البوادر الأولى «للسوق»، التي ينفصل فيها المنتج عن المستهلك. ومع ذلك فإن المعالم الكاملة للسوق، من حيث هي كيان لا شخصي مجهول لا يعرف العامل المنتج عنه شيئا سوى أنه قوة تتحكم فيه دون أن يدري عنها شيئا؛ هذه المعالم لم تكن قد تحددت بعد بوضوح في هذه الفترة. (3)
ولعل أهم مظاهر التحول إلى المرحلة الجديدة هو ظهور التاجر من حيث هو قوة رئيسية في الاقتصاد، تتحمل مخاطرة الشراء من المنتج لكي تبيع لمستهلك لا صلة له بهذا المنتج. ومن المعترف به أن التجارة قد عرفت منذ أبعد العصور. ولكن دورها في هذا العصر كان متميزا: فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد المعروف للثروة. هذا النوع الجديد هو رأس المال التجاري الذي أصبحت له أهمية فعالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج ولتخزين المنتجات، فضلا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية.
والواقع أن الدور الأكبر الذي قام به التاجر في تطوير الاقتصاد نحو المرحلة الرأسمالية، كان يتمثل في تأكيده لأهمية المال كقوة جديدة لها وزنها الفعال في المجال الاقتصادي. فبعد أن كانت الأرض وقوة العمل التي يبذلها فيها الفلاحون هي المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في المجتمع، أصبح هناك مصدر جديد لا صلة له بأي شكل مباشر من أشكال الإنتاج (لأن المال النقدي لا يستطيع - بذاته - أن ينتج شيئا). ولقد كان هذا المصدر الجديد هو الذي أعطى المرحلة الرأسمالية شكلها المميز، وهو نقطة البداية في تحديد المعالم الرئيسية لهذه المرحلة الجديدة. (أ) تأثير التعامل النقدي
لكي ندرك قوة التأثير المادي والمعنوي الذي أحدثه التعامل النقدي في العصر الرأسمالي المبكر، ينبغي علينا أن نبدأ بكلمة موجزة نعرض فيها لطبيعة النقود من حيث هي قوة اقتصادية؛ فالنقود وسيط يتم عن طريقه التبادل، وهي وسيلة لتخزين الثروة ومقياس للقيمة، وإن كانت مقياسا متقلبا لا يتسم بالثبات. وقد كانت النقود تتخذ في البداية شكل قطع من المعدن (كالذهب أو الفضة أو النحاس) توزن عند إجراء كل تعامل أو صفقة، ثم صنعت قطع من المعدن لها وزن ثابت وسمك معلوم، وأصبحت الحكومات ضامنة لها، وبهذه الوسيلة أصبح تبادل السلع أيسر بكثير مما كان عليه في نظام المقايضة؛ إذ إن هذا النظام الأخير يحتم على الشخص الذي يريد استبدال سلع أن يجد شخصا آخر لديه ما يريد من السلع، ويريد ما لديه منها، وهو شرط لا يمكن تحقيقه في كل الأحوال؛ ولذلك كانت النقود عاملا حاسما في ازدهار التجارة، وفي تعميق تقسيم العمل وتوسيع نطاقه. وقد يسرت النقود تكديس الفوائض في الثروة، وبالتالي تكوين رأس المال؛ وذلك لسهولة تخزينها وإمكان جمعها في حيز محدود؛ ولأنها لا تفسد كالحاصلات الزراعية مثلا، فضلا عن سهولة نقلها من مصادر متعددة؛ بحيث يصبح من السهل جمع مدخرات أناس كثيرين في مكان واحد واستغلالها في مشروع أوسع نطاقا.
ولا يمكن القول: إن هذا التعامل النقدي قد بدأ لأول مرة في الفترة التي نتناولها هنا بالعرض؛ إذ إن بوادره الأولى قد بدأت منذ الحضارات القديمة: كالحضارة السومرية، التي ظهرت فيها أول بدايات نظام الائتمان ودفع الفوائد لقاء القروض، كذلك تضمن قانون حمورابي الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1750 قبل الميلاد نصوصا خاصة بالعقود وبالتعهدات والالتزامات في مجال الأعمال الاقتصادية. ولكن أهمية التعامل النقدي - بوصفه عاملا حاسما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية - لم تظهر بوضوح إلا في العهد المبكر للرأسمالية.
صفحة غير معروفة