من المعروف أن التفسيرات كثيرا ما تكون غائية، بمعنى أن الظاهرة تعلل تبعا للغاية المقصودة منها؛ إذ إن الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» كثيرا ما يجاب عليها بتحديد غاية معينة يعتقد أن فيها تعليلا كافيا للظاهرة موضوع البحث، ولما كانت النظرة الغائية إلى الأمور قد جلبت للعلم أضرارا كبيرة لم يستطع التخلص منها كلها حتى اليوم، فقد كان من الطبيعي أن ينفر نصير متحمس للعلم مثل بيرسن من فكرة التفسير ومن كل سؤال يبدأ بكلمة «لماذا»، ونستطيع أن نقول: إن مخاوف بيرسن من النظرة الغائية مشروعة تماما، وكل ما في الأمر أننا قد نضطر أحيانا - في مجالات معينة - إلى إدخال الاعتبارات الغائية دون أن نكون قد خالفنا الروح العلمية؛ ففي مجال التاريخ مثلا تحتل النظرة الغائية أهمية غير قليلة؛ إذ إن كثيرا من الحوادث التاريخية تفسر تفسيرا كافيا بالغايات المقصودة منها، كذلك يوجد للغائية مجال في العلوم البيولوجية، فإذا أجبنا عن السؤال: لماذا كانت رقبة الزرافة طويلة؟ بقولنا: لكي تستطيع أن تحصل على غذائها من الأشجار العالية، لم يكن في إجابتنا هذه خروج عن الروح العلمية كما يبدو لأول وهلة؛ إذ إن الإجابة ترتكز على حقيقة أساسية من حقائق التطور البيولوجي، وهي تكيف الكائنات الحية مع ظروف بيئتها، وبالاختصار فحملة بيرسن على النظرة التفسيرية يمكن أن تعد مشروعة إذا كان المقصود منها استبعاد التفسيرات الغائية وتشبيه الطبيعة بالإنسان، وإن تكن هناك مجالات معينة لا تتعارض فيها فكرة الغائية مع وجهة النظر العلمية. (2)
هناك فهم لغوي معين لفكرة التفسير، يعتقد فيه أنها تفترض وجود ارتباط ضروري بين الأشياء، ولما كان العلم التجريبي يخلو بطبيعته من عنصر الضرورة، فقد تصور بيرسن أن من الطبيعي استبعاد التفسيرات من مجال هذا العلم. ولكن هل صحيح أن كل إجابة على الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» تتوقف على إمكان إثبات ارتباط ضروري بين الظواهر؟ الواقع أن أساس المشكلة كلها إنما يرجع إلى معنى «الضرورة» المقصودة في كل حالة، فهناك نوعان من الضرورة: (أ)
ضرورة تحليلية، كالقول: إن الجزء يجب أن يكون أصغر من الكل. (ب)
ضرورة تركيبية، كالقول: إن كل جسم أخف من الماء يجب أن يطفو.
ولقد كانت حملة بيرسن على التفسير راجعة أساسا إلى اعتقاد موروث عن هيوم - فيلسوف التجريبية الأكبر - مؤداه أن التجربة لا تضمن لنا أي نوع من اليقين الضروري. وهذا صحيح إذا كان المقصود هو النوع الأول من الضرورة، أي الضرورة المنطقية. غير أن هناك نوعا آخر من الضرورة، لا يقل إحكاما عن الأول، ويمكن أن يستمد من التجربة؛ فالمبدأ القائل: إن كل جسم أخف من الماء يجب أن يطفو في الماء هو مبدأ ضروري. ومن المحال أن يوجد له استثناء واحد، ولكنه مع ذلك ضروري بالمعنى التركيبي لا التحليلي؛ إذ إن تأكيد عكسه لا يستتبع أي تناقض «منطقي». ولا جدال في أن هيوم كان يتصور الضرورة بمعناها المنطقي فحسب، وسايره في ذلك كل التجريبيين من بعده، مع أن النوع الآخر من الضرورة لا يقل عنه لزوما، ويمكن في الوقت ذاته أن يرتكز على أساس من العلم التجريبي. وفي اعتقادي أن التجريبيين قد ارتكبوا خطأ كبيرا حين تصوروا أن الضرورة الوحيدة التي ينبغي الاعتراف بها هي الضرورة المنطقية الشكلية، وأنها هي وحدها التي لا تتخلف، وظنوا أن في كلمة «ضرورة تركيبة» تناقضا في الألفاظ، على أساس أن الضرورة لا تكون إلا تحليلية فحسب؛ ذلك لأن الضرورة التي تجعل الحجر يسقط إذا ترك في الهواء لا تقل لزوما عن تلك التي تجعل الجزء أصغر من الكل، وإن تكن من نوع مختلف. (3)
وعلى أية حال فالبحث عن التفسير في مجال العلم قد لا يعني أكثر من السعي إلى الاقتناع العقلي فحسب، وبهذا المعنى يكون تفسير الظاهرة مرادفا لتقديم إيضاح يرضي العقل، وفهم الظاهرة فهما كاملا يكفي لتحقيقه الاقتصار على وصفها ، وعندئذ يكون التفسير مشروعا، بل يكون هو العلامة المميزة للتفكير العلمي من الخبرة المكتسبة في الحياة العادية، فقد نعلم بفضل هذه الخبرة اليومية أن النباتات تنمو إذا رويت وتعرضت لضوء النهار، أو أن الندى يتكون على السطح البارد للأجسام في الصباح الباكر. ولكن العالم وحده هو الذي يستطيع تقديم «تفسير» لهاتين الظاهرتين، بمعنى أنه هو وحده الذي يستطيع تقديم بيان مقنع لعقولنا عن أسباب حدوثهما، ولا يكتفي بوصف التعاقبات المتضمنة فيهما. وبعبارة أخرى: فقد يكون الاكتفاء بالوصف من العلامات المميزة للأذهان غير العلمية، على حين أن القدرة على تقديم التفسير هي أمر ينفرد به العالم وحده. (4)
وأخيرا ، فإن فكرة الوصف - كما يدعو إليها بيرسن - تنطوي على قدر غير قليل من الغموض؛ ذلك لأنه يؤكد أن القوانين العلمية تركيبات فكرية نستعيض بها عن المعطيات التجريبية للإدراك الحسي، وأن الحركة لا تنطبق مباشرة على ما يوجد في عالم الحس، وإنما تنطبق على تلك الفئة من المعقولات التي يستعيض بها العالم عن المعطيات الحسية، ولنسلم جدلا بأن هذا كله صحيح، لكن كيف يكون العلم في هذه الحالة وصفيا؟ وهل نكون قد وصفنا محتويات الإدراك إذا استعضنا عنها بنسق من الأفكار الهندسية الغريبة عنها؟ إن ما يقوم به العالم - كما يحدد بيرسن مهمته - هو في واقع الأمر عكس الوصف تماما؛ ومن هنا كان «كاسيرر» على حق حين قال: إذا كانت مهمة الوصف الموضوعي - بمعناه الصحيح - هي تصور المعطى على أدق نحو ممكن، دون أية إضافة أو أي حذف، فإن هذا التحوير للتجربة الأصلية - على عكس ذلك - هو بعينه الذي يميز العملية العقلية التي تقوم بها الفيزياء، وهو ما يضفي عليها قيمتها، فبدلا من التكرار السلبي المحض، نرى أمامنا عملية إيجابية، تنقل ما هو معطى في البداية إلى مجال منطقي جديد، وإنها لطريقة غريبة حقا في وصف ما هو حاضر أمامنا، أن ينصب اهتمامنا - في سبيل تحقيق هذا الغرض - على تصورات بحتة، لا تستطيع هي ذاتها أن تكون «حاضرة» على أي نحو.
21
وإذن فهناك خلط في فهم معنى «الوصف» لا يقل خطورة عن الخلط الذي لاحظناه من قبل في فهم معنى «التفسير»، وأساس هذا الخلط راجع إلى أن معنى الوصف بطبيعته سلبي، على حين أن بيرسن لا يكف عن تأكيد وجود عناصر إيجابية في عملية البحث العلمي؛ إذ يتدخل الذهن بمفاهيمه الخاصة التي لا تنتمي إلى مجال الإدراك المباشر على الإطلاق، وعلى حين أن الأفكار العقلية في رأيه ترتد آخر الأمر إلى انطباعات حسية مباشرة، فإنه يؤكد في الوقت ذاته ثنائية الفكر والواقع تأكيدا قاطعا، وذلك حين يصر على أن يجعل مفاهيم الرياضة والفيزياء منتمية إلى المجال العقلي وحده، ويفصلها تماما عن مجال الإدراك المباشر، مؤكدا أنها لغة عقلية اصطنعت لأغراض معينة فحسب. ولقد كانت هذه الثنائية القاطعة بين التركيبات الذهنية وبين الظواهر، وما تستتبعه من استبعاد تام للأفكار التي يستخدمها العالم في وصف الطبيعة من مجال الطبيعة ذاتها، موضوعا لانتقاد كثير من الباحثين في مناهج التفكير العلمي؛ إذ إنها تكرار لنفس الخطأ الذي وقع فيه ديكارت من قبل، حين ظن أن عالم الذهن بما فيه من كليات ومبادئ عقلية ينفصل تماما عن عالم الطبيعة المادية. صحيح أن الظواهر لا تطيع القانون العقلي حرفيا في كثير من الأحيان، وأن أي ظاهرتين لا يمكن أن تكونا في هوية تامة. ولكن هذا لا يعني أن القانون ذهني فقط، وأن عالم الفكر منفصل تماما عن عالم الطبيعة، فمن الممكن أن يكون هذا الانحراف الذي نلمسه في الطبيعة راجعا إلى تعقد ظواهرها وتشابكها. ومع ذلك يكون القانون صحيحا لو وجدت هذه الظواهر في حالتها الخالصة،
22
صفحة غير معروفة