قلت وقد أغرقت في الضحك: هما حماران على كل حال، ولكن صورة الحمار الوحشي تعجبني من الناحية الفنية.
قال: كل يصف حماره الوحشي كما يستطيع، فما أظنك تريدني على أن أصفه كما كان الشعراء الأقدمون يصفون حمرهم الوحشية، وإنك لتعلم أن أولئك الشعراء كانوا يرون حمرا تمشي على أربع، أما نحن فنرى حمرا تمشي على رجلين، ثم صب لنفسه قدحا من الشاي وأخذ يدير الملعقة فيه مستأنيا بطيئا، كأنما يأتي عملا آليا على حين قد شردت نفسه وفارقته إلى مكان بعيد، وسكت عنه حينا فلم يتحدث، ومضيت في الصمت فمضى فيه ومضت يده تدير الملعقة في القدح، حتى إذا أنكرت منه ذلك قلت له: ويحك! ماذا تصنع وفيم تفكر؟ قال: يا سيدي إن الحمر لا تفكر، ثم ألقى الملعقة من يده وأخذ يحسو الشاي مصمما على الصمت وماضيا فيه، قلت: فإني أغضبتك حين شبهتك مع صاحبك بحماري العبادي، فلا بأس عليك، فواحدة بواحدة. لقد أغضبتني أول من أمس ثم اعتذرت إلي، وقد أغضبتك الآن وأنا أعتذر إليك، فعد إلى مثل ما كنا فيه من الحديث.
قال: ما أغضبتني وما أكره أن أكون حمارا ما دمت أعرف أني حمار مثقف متحضر، فارتفاع القامة في السماء وانحناء الجسم إلى الأرض والمشي على رجلين أو على أربع، كل ذلك لا يعنيني ما دمت أجد اللذة والألم في الحس والشعور والتفكير، أتدري ماذا كنت أصنع حين أقبلت علي آنفا؟ قلت: لا. قال: فإني كنت أتحدث إلى امرأتي فأطلت الحديث، ثم أحسست أنها لن تفهم من حديثي شيئا، فطويت كتابي وتحدثت إلى أبي في الأسطر القصيرة التي أقرؤها عليك، ثم أخذ يقرأ:
والدي العزيز ...
إذا انتهى إليك كتابي هذا، فستجد معه صك الطلاق، فإني قد طلقت حميدة أمس على كره مني؛ لأني لا أدري كم يطول مقامي في أوربا، وما أحب أن أفرض عليها حياة معلقة مع أنها لم تجن ذنبا ولم تقترف إثما، وما لها تتعذب لأني أريد أن أتعلم، وتشقى لأني أكلف بالاغتراب! وإني لمحزون لهذا الطلاق الذي أقدمت عليه، ولكن لا بد مما ليس منه بد. فاقرأ عليها تحيتي وعذري واستوص بها وبأهلها خيرا، والسلام عليك ورحمة الله.
ثم قال: وكذلك يا سيدي أديت في هذا اللفظ القصير السخيف معان لا تتسع لها الكتب الطوال؛ لأن الله قد أراد ألا يفهم الناس عن الناس، وأن تظل بينهم الحجب الصفاق، فهم يعيشون ويتعاملون ويعتقدون أنهم يعيشون معا وأنهم يتعاونون على الحياة، وإن لكل واحد منهم لبرجا من العاج يعيش فيه لا يظهر عليه أحد ولا يظهر هو منه على إنسان.
قلت: وكتابك إلى امرأتك ماذا صنعت به؟ قال: طويته، وماذا تريد أن أصنع به إلا أن أمزقه وأرميه في النار؟ قلت: فألقه إلي إن لم تجد بذلك بأسا. قال: وأي بأس أن تلتهمه أنت أو أن تلتهمه النار! سواء علي، ولكن لا تطلب إلي أن أقرأ عليك هذا الكتاب، فخذه وليقرأه عليك غلامك الأسود متى شئت، أما أنا فإني متعب مكدود، وأظن أن قد آن لي أن أنصرف عنك، فليس بد أن يخلو هذا البيت مما فيه من الأثاث، قلت: ستنصرف عني، وستخلي بيتك من أثاثه ولكن بعد أن تستريح، فأنفق معي بقية اليوم وافرغ لأمرك إذا كان الغد وقم فلننصرف إلى بيتي؛ فلعلك تظفر فيه ببعض الراحة.
ثم نهضنا متثاقلين، وخرجنا متباطئين، فلما جاوزنا الباب قال في ضحك خفيف: ما زال حمارك الشيخ أو شيخك الحمار في ركنه يقظان كالنائم، ونائما كاليقظان!
11
يونيو في ...
صفحة غير معروفة