نعم هدم الكتاب هدما ، وما أعرف أن شيئا مما رأيت أو شيئا مما لم أر ترك في نفسي من الآثار المؤلمة والندوب التي ستبقى ما بقيت مثل ما تركه فيها منظر الكتاب المتهدم. فما تزال معالم الكتاب باقية، على نحو ما كانت تبقى معالم الديار لقدماء الشعراء. فالكتاب الآن طلل تمحوه الأيام شيئا فشيئا وتبقي من آثاره إلى الآن بقية مؤذية حقا، لقد ماتت القناة عن شماله وسويت الطريق عن يمينه، ونزع منها ذلك الخط الحديدي الضئيل الذي كانت تمضي عليه تلك القطارات الزراعية الصغيرة تحمل القصب إلى معمل السكر أثناء العمل وتحمل التراب والحصى، إذا كان الفيضان، لردم هذا المستنقع العظيم الذي كان يؤذي المدينة في كل عام.
نزع هذا الخط وسويت هذه الطريق وقلت الحركة عن يمين الكتاب وشماله، وعملت معاول الهدم في الكتاب نفسه وفيما كان يجاوره ويوازيه من البناء حول دار المأمور، فالمنظرة التي كانت أمام الكتاب والتي كان ينزل فيها أضياف المأمور قد هدمت كما هدم الكتاب، وأصبحت طللا مثله. والبيت الذي كان يقوم وراء الكتاب وتعيش فيه أسرة عم نوح قد هدم كما هدم الكتاب وانتثرت هذه الأطلال في هذا الفضاء انتثارا محزنا موئسا، ولكن مكان الكتاب بينها يثير في النفوس أسى غريبا ولوعة محرقة حقا، إن أرضه ما زالت مرصوفة بهذه الأحجار التي كان يغسلها التلاميذ مساء الأربعاء من كل أسبوع بعد أن يقرءوا الحزب، وإن عتبته ما زالت قائمة، ولم تمح جدرانه كلها محوا، وإنما بقي منها شيء يرتفع هنا وينخفض هناك، وتستطيع أن تتبين مواضع المقاعد الخشبية التي كانت مسندة إلى هذه الجدران والتي كان يجلس سيدنا على أحدها عن يمينك إذا دخلت ويجلس العريف على أحدها الآخر عن شمالك إذا دخلت، ويجلس المترفون من التلاميذ على سائرها ثم يختلط بينها الفقراء وأبناء الشعب، على حصر ممزقة تستر بعض الأرض وتبين عن بعضها الآخر، ولا تكاد تجدد إلا حين تستحيل إلى قش لا يكاد يتصل، وحين يجود بعض الأغنياء بما يقوم مقامها.
قل ما شئت ، واعجب بالشعر ما أحببت، واحفظ من وقوف الشعراء على الأطلال وبكائهم على الديار وذكرهم للظاعنين ما استطعت أن تحفظ، فسيظل هذا كله في نفسك كلاما أجوف لا يحتوي شيئا ولا يدل على شيء، حتى تقف موقفا منذ حين كالذي وقفته بين هذه الأطلال عن يمين وشمال، وحتى تذكر ما ذكرت من هذه الحياة القوية الغنية الخصبة التي كانت تملؤها الحركة والنشاط، وتضطرب فيها الأماني والآمال، وتختصر جيلا مضى وتنبئ عن جيل مقبل، فذهبت هباء وتفرقت في الأرض، ولم يبق منها في هذا المكان إلا صدى لا يحسه الناس جميعا، ولا يقدرون وجوده، وإنما يحسه مثلك ومثلي من الذين اشتركوا في هذه الحياة وتأثروا بها وملئوا من صورها النفوس والقلوب، لقد وقفت على الكتاب وقفة طويلة وجعلت أنظر حولي فلا أرى إلا هذه الأحجار المتناثرة وأمد أذني فلا أسمع إلا هذا الصدى الذي كان يضطرب في الفضاء، ولكني مع ذلك كنت أرى رفاقنا جميعا، وقد أخذوا مجالسهم في الكتاب، هذا يقرأ، وهذا يسمع، وهذا يغلو، وهذا يكتب، وهذا يلعب، وكنت أحلل هذا الصدى المتردد فأجد فيه هذا اللغط الذي كان يسمع من مكان بعيد فيدل سامعه على مكان الكتاب، ولولا أني ما زلت محتفظا ببقية إرادة، وفضل من القدرة على ضبط النفس لجننت ولتحدثت إلى هؤلاء الأشخاص الذين كنت أراهم يجرون ويلعبون، ولشاركتهم في الجري واللعب، لا أخفي عليك أني ملكت نفسي فلم يذهب بها الجنون، ولكني لم أملك عيني، ففاضت الدموع. هممت أن أمضي ولكني لم أسلك الطريق العامة حيث كان يمتد الخط الحديدي، وإنما هممت أن أمضي نحو بيت المأمور، فما راعني إلا النخلتان اللتان كانتا تقومان بين الكتاب وبيت نوح، وإذا هما قائمتان كعهدهما تبسطان ما كانتا تبسطانه من الظل، وتحملان ما تعودتا حمله من التمر الذي لم يتم نضجه بعد، وتلقيان ما كانتا تلقيان من بعض هذا التمر الذي كنا نلتقطه فنعبث به، ثم كنا نلتقطه فنأكله إذا قارب النضج، ثم كنا نزدحم عليه ونتنافس فيه إذا تم نضجه، وما زالت النخلتان قائمتين بين هذه الأطلال المتهدمة ولكنهما قد فقدتا ما كانتا تبعثان من بهجة، وظهرت عليهما كآبة عميقة حزينة مثيرة لليأس كأنهما تجدان الوحشة في هذا المكان الذي خلا بعد عمران، ومات بعد حياة.
ولقد وقفت عند هاتين النخلتين لحظة ما أعرف أني قضيت مثلها، ولقد ذقت في هذه اللحظة من لذة الذكرى وألم الحسرة ما لا أعرف أني ذقت مثله قط، وإني لأذكر الآن هاتين النخلتين فأمنحهما حبا ومودة وأهزأ بهذا الامتحان الذي أخضعكم له ذات يوم أستاذ من أساتذتكم في الجامعة حتى ذكر حلوان ثم استطرد إلى نخلتي حلوان ثم كلفكم أن تبحثوا عن هاتين أين كانتا وماذا قيل فيهما من الشعر ومن ذا تغنى بهما من الشعراء! لقد أجهدت نفسك في البحث، ولقد كنت تعجب بشعر مطيع في هاتين النخلتين، ولقد كتبت كلاما كثيرا عما عرفت من أمر هاتين النخلتين، ولقد كنت راضيا عن نفسك لأن الأستاذ كان راضيا عنك، ولكن ماذا تركت نخلتا مطيع في نفسك من أثر، وماذا بعثتا في قلبك من عاطفة؟ إنما هو كلام يروى ثم يثير في أنفسكم العجب والتيه والغرور أكثر مما يثير فيها الشعور الصادق بالجمال الصادق. أسرع أيها الصديق إلى مدينتنا فألمم بها يوما أو بعض يوم قبل أن تمحى معالم الكتاب محوا، وقبل أن تجتث النخلتان اجتثاثا، وقبل أن تتم الحضارة عماراتها الشاهقة، على هذه القبور العزيزة التي دفنا فيها الصبي، وما كان يملؤه من الفرح والمرح ومن الحياة والنشاط، أسرع إلى النخلتين فاجلس إليهما واستظل بظلهما ثم أنشد شعر مطيع، فستفهمه وستتذوقه وستشعر بما يصور من الحزن كما شعر به مطيع نفسه.
ليت الأيام تتيح لي أن أحقق أمنية تضطرب في نفسي فأجمع نفرا من رفاقنا ونقصد إلى الكتاب وإلى ما حوله من الأطلال وإلى النخلتين فننظر ونسمع ونجلس ونتحدث ونحيي عهدنا القديم ساعة أو بعض ساعة.
لست أدري أتقرأ هذا الكتاب الطويل أم تضيق به، وتشفق من طوله، وتكره أن تنفق في قراءته من وقتك ما أنت في حاجة إليه، لتستعد لدرس من الدروس، أو لتقرأ في كتاب من الكتب، أو لتحفظ من بعض الدواوين، ولكني لم أكن أستسيغ أن أكتب إليك أقصر مما كتبت، ولولا إشفاقي عليك ورثائي لك لكتبت إليك أطول مما كتبت، فقد تقدم الليل حتى تجاوز نصفه، فكل شيء ساكن من حولي إلا هذه الأصوات التي تبلغني من حين إلى حين، أصوات الخفراء حين يتنادون أو أصوات الديكة، فتحسب أن الفجر قد لاح، فتصدح بندائها العذب لتلقاه بالتحية ولتنبئ الناس بمطلعه، ثم تعلم بعد ذلك أنها قد خدعت، أو هي لا تعلم شيئا وإنما يمضي بها النوم في أمواجه المتصلة المتلاطمة فتعود إلى الصمت وتغرق فيه. ولعلي أجرد نفسي من خواطرها، وأسلها مما حولها سلا، وأعلقها في هذا السكون تعليقا، فأسمع أصداء تتردد ويدعو بعضها بعضا ويجيب بعضها بعضا، وتصور لي ذلك الصدى الذي كنت أسمعه في الكتاب ثم أريد أن أحلل هذه الأصداء وأردها إلى أصولها، وأتخذ لها أشخاصا أحياء، فيخيل إلي أنها نفوس الأجيال التي سكنت قريتنا على اتصال الزمن، ويخيل إلي أن أجسام الناس والحيوان والأشياء هي وحدها التي تزول، وهي وحدها التي تتغير، وهي وحدها التي تبرح الأرض. فأما نفوس الناس والحيوان والأشياء فمتصلة بالأرض لا تبرحها، مضطربة في الجو لا تفارقه ولا تزول عنه، وإنما هي تملؤه حياة لا يشعر بها الأحياء إلا إذا سلوا أنفسهم من المادة سلا، وعلقوها في سكون الليل تعليقا، لقد تقدم الليل حتى جاوز نصفه وكاد يبلغ ثلثيه، ولقد سكن من حولي كل شيء، وأنا لا أسمع دعوة النوم ولا أحس مقدمه، ولا أرغب فيه، وإنما أنا حريص كل الحرص على أن أبقى مع هذه الذكريات أتحدث إليها، وأسمع منها حين أتخذها موضوعا لما أحمل هذا الكتاب إليك من حديث، وما أظن أن الفجر سيلقاني نائما بل أنا واثق بأنه سيلقاني يقظان، ولولا أن يراع أهل الدار وأن تظن بي الظنون لخرجت لاستقباله في الفضاء فأنا أكره أن يدخل علي نوره من النافذة، كأنه اللص، وأحب أن ألقاه في الفضاء الطلق، فأملأ به نفسي وقلبي، وألتمس في ضوئه الهادئ الحلو هدوءا لهذه الثورة التي لا أستطيع أن أكبح جماحها، ولا أن أنتهي بها إلى السكون.
يا للحزن ويا للأسى! ويا للوعة ويا للحسرة! ويا لليأس ويا للقنوط! لقد أقبلت على الريف وكنت أظن أني سأملأ عيني وأذني ونفسي وقلبي بما أحببت وبما ألفت، وأني سأحمل هذا كله إلى حيث أريد أن أقيم وراء البحر، فلم أجد شيئا، وهأنذا سأعود إليك بعد أيام، ثم أرحل إلى مصر بعد أسابيع لا لا أحمل في نفسي إلا أطلالا متهدمة، ونخلتين قائمتين صامتتين تجدان الوحشة، وتبعثانها من حولهما، ما أكثر ما كنت أريد! وما أقل ما وجدت! وما أكثر ما يعبث بنا من الآمال!
تقبل تحية صديقك اليائس. •••
وأنا أعترف أني تلقيت هذا الذي هو أشبه بالسفر منه بالرسالة في شيء من الخوف والإشفاق من طوله، ولكني تعودت من صديقي طول الحديث واختلافه وكثرة الافتنان فيه، فأبقيته يوما كاملا لم أقرأه، ولم أعرف ما فيه حتى فرغت له آخر النهار فقرأته، ولكني لم أحس له من الأثر مثل ما أحسست له حين أعدت قراءته في هذه الأيام، وكأن الأمد بين صديقي وبيني كان بعيدا أشد البعد، فقد كنت أقدر الذكرى وآنس إليها وأحب التحدث عن العهود القديمة، ولكني لم أكن أكلف بهذه العهود ولا أحفل ولا آسى عليها.
ولعلي كنت مدفوعا إلى أن أسخر منها سخرا غير قليل، فقد كنت مفتونا بحياتي في القاهرة راضيا عما كنت أتلقاه كل يوم من جديد الأمر، مبتهجا بما كانت تتفتح له نفسي كل ساعة من العلم، وكان هذا النشاط العقلي يبهرني، ويسحرني ويدفعني إلى طور من أطوار الحياة يشبه أن يكون سكرا متصلا، وكان تذكر العهود القديمة يؤذيني؛ لأنه يخرجني من هذه الحياة اللذيذة بعض الشيء، ويردني إلى تلك الحياة التي طالما ضقت بها أيام كنت صبيا ناشئا في الريف، فلم أحفل بالقناة ولا بموتها ، ولم أحفل بالخط الحديدي ولا بانتزاعه، ولم أكترث للكتاب ولم أعرف للنخلتين خطرا، وما قيمة الكتاب وما قيمة النخلتين ولم يقل أحد في الكتاب ولا في النخلتين شعرا، ولم يتحدث كتاب قديم عن الكتاب ولا عن النخلتين ولا عن القناة ولا عن الخط الحديدي، ولا عن معمل السكر. والله عز وجل قادر على أن يغفر لي الخطيئة ويعفو لي عن الذنب، ويتجاوز لي عن السيئة، فقد لقيت ما أنبأني به صديقي من موت سيدنا بشيء من الابتسام وهز الكتفين. أما الآن فأراني مع صديقي متلمسا أصل القناة باحثا عما ألفنا من الأحياء والأشياء، حزينا ملتاعا يائسا قانطا، أما الآن فإني أقرأ هذا الكتاب فأسأل نفسي: أين ذهب الكتاب والنخلتان؟ وماذا قام في ذلك المكان، الذي قضينا فيه شطرا من حياتنا لعله خير ما أتيح لنا أن نحيا.
صفحة غير معروفة