نصب الفخ
في تلك السهرة كان جورجي عند فهيم بك وهما مختليان في غرفة مستقلة، وقد دار بينهما الحديث التالي:
قال فهيم: لماذا لم تقابل جميل فهو مفوض عني بكل أمر؟ - وددت هذه المرة أن أقابل الأصيل دون الوكيل؛ لأن لي حديثا خاصا معه. - بالطبع فيما يتعلق بالفتاة هيفاء فما الذي عرفته بشأنها؟ - تحققت وتأكدت أنه ليس للفتى يوسف براق يد في فرارها هذه المرة، ولا يعرف عنها شيئا. - كيف تأكدت ذلك؟ - عرفت أن للبطركخانة يدا في الأمر، وأن البطريرك والكاهن أمبروسيوس يعلمان مقر الفتاة، ولكن لا أدري أين هي مودعة. - كيف تأكدت ذلك أيضا؟ - تأكدته من رفض الكاهن أمبروسيوس مساعدتي له في البحث عن الفتاة، كأنه أصبح في غنى عن البحث عنها. - ولكن ما غرض هذا الكاهن في البحث عن الفتاة؟ أما عرفت؟ - عرفت أن للفتاة أهلا غير أمها يبحثون عنها، وقد فوضوا هذا الكاهن بالبحث. - هل عرفت من هم أهلها؟ - لا، فماذا تقول أمها عنهم ؟ - أمها تعترف أن الفتاة ليست ابنتها بل ابنة أختها، وأنها تيتمت أبا وأما وهي طفلة فربتها، وتقول: إن أهلها خاملو الذكر. - ولكن إذا كان الكاهن قد عثر عليها فهل سلمها لأهلها؟ وإلا فلماذا يخفيها؟ وحتى متى يخفيها؟ - الحق أني إلى الآن لم أدر شيئا من ذلك، ولكني سأواصل البحث والسعي، ولا بد أن أكتشف مقرها في هذا الأسبوع. - هل تعتقد أنك تستطيع؟ - أثق كل الثقة بأني أستطيع ما دام للكاهن ثقة بي. - حسن وجزاؤك محفوظ يا جورجي، فهل تستطيع ذلك في برهة قصيرة؟ - قد أستطيع. - إذا لم تنجز الأمر سريعا يفوت يا جورجي، فابذل جهدك فيه. - إني باذل جهدي، ولكني ما جئت لأباحثك بهذا الأمر؛ لأني لم أبلغ فيه إلى النهاية والحديث فيه الآن بلا معنى. - هذا ما أراه؛ ولذلك أستغرب لماذا قصدت إلي رأسا، فما هو الأمر الآخر؟ - تقول جنابك: إن الفتاة من أصل خامل الذكر، فلماذا أنت مصر على البحث عنها والتزوج منها، فدعها، وهناك كثير من الفتيات أجمل وأفضل منها. - أستغرب أنك تتقلد وظيفة النصح لي، فهل اجتمعت بالفتاة وأنت تمكر علي؟ - كلا، وإنما هناك فتاة أخرى أود أن أوجه نظرك إليها. - من هي؟ - دعد.
فاختلج فهيم وقال: هل تعرف دعدا؟ - اليوم عرفتها. - لماذا تريد أن توجه نظري إليها؟ - لأنها في حاجة تستوجب انعطافك إذ لا بد أن تكون عالما بأمرها ...
فامتقع فهيم، وقال: علمت، وما شأني معها؟ - هل عندك شك بأنك أنت السبب في ذلك؟ - لم أخدعها والذنب ذنب أمها وذنبها هي أيضا. - ولكن لو لم تكثر من التردد عليها ... - نعم أكثرته ولكن بإغراء أمها بل بإغراء الفتاة نفسها، ولو لم تمهدا لي السبيل ما وقعت في أحبولتهما.
فقال جورجي باسما: إذن هما جنتا على عفافك.
فعبس فهيم وقال: تقرع بي؟ - لست أقرع بك ولكني أقول: إن الفتاة مسكينة، فإذا لم تستر عارها أخسرتها مستقبلها. - الحق عليها وعلى أمها، والذنب ذنبهما معا، فإذا خسرت كانت تنال عقاب ذنبها. - ولكن عند الفتاة أدلة على أنك أنت ألقيتها في الهاوية بعد أن منيتها بالوعود.
فانتفض فهيم وقال: وهل تريد هي وأمها أن تعلنا تلك الأدلة؟ فلتعلناها بل فلتقاضياني، والمحكمة لا تحكم علي بأكثر من تعويض. - لا تريدان أن تفعلا شيئا من ذلك، بل تبتغيان مقاضاتك عند نفسك، ففيك الخصام وأنت الخصم والحكم، فاحكم بما تروم، وهما تخضعان لحكمك. - إني مستعد لأي تعويض تطلبانه. - ولكن التعويض لا ينتشل الفتاة من سقطتها. - أعطيها خمسة آلاف جنيه، فتعيش بها كأشرف امرأة، والمال يستر عارها ويقرب الناس منها. - ولكن المال لا يضمن لها زوجا تستر به عارها، ولا سيما إذا قام وليدها شاهدا عدلا عليه. - إنها مجنونة إذا كانت تطلب زوجا، فلماذا لا تعيش حرة ويكون لها كل يوم الزوج الذي تريده؟ - المرأة غير الرجل يا فهيم بك، فلو كان عندها مال قارون كله، وبقي عارها كساء لها لبقيت في نظر أحقر الناس فضلا عن أشرافهم ساقطة، وهي تفضل الفقر مع الستر على الغنى مع العار، وليس أحد غيرك يخطئها في ذلك، الفتاة في ويل الآن لا يشعر به أحد غيرها، ولا يقدره قدره أحد سواها، وليس من ينقذها من هذا الويل إلا أنت.
ففكر فهيم وقال: ماذا أستطيع أن أفعل لها؟ - تتزوجها فتجدها خير زوجة، وهي جميلة الخلق والخلق، فهل تطمع بأجمل منها؟ - أرجو منك أن تضرب صفحا عن هذا الموضوع؛ لأني لا أستطيع أن أتزوج اثنتين. - هل لك زوجة أخرى؟ - نعم هيفاء لا بد أن تصير زوجتي على أي حال مهما تكلفت.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: ووليد دعد يبقى شاهدا على إثمك وعلى عارها. - أما أنا فلا يهمني؛ لأن مالي يطهرني من كل إثم. - ودعد المسكينة؟ - تحتمل عارها عقابا لها. - «حرام عليك.»
صفحة غير معروفة