إهداء الرواية
مقدمة
مصادفات قاهرة
حرب في قلب
غرس الحب في القلب
نشوة الغرور
حرب بين النفس والقلب
صرخة مباغتة
عظة في السجن
نقص القانون
تناظر المنطاد وورقة الشجرة
غرائب القدر
بارقة أمل
الجارة الرسولة
دوي وصدى
التفسير حسب الظواهر
الحية وحواء
تاريخ قديم
سفر التكوين
شيء من التاريخ أيضا
إحياء الموتى
بين المال والعمل
الاتفاق على مكيدة
التاريخ يثبت بعضه بعضا
حيلة كأنها صدفة
فرار العصفور من القفص
استطلاع أسرار
مصير الفيلسوف
ما أسهل الغدر على الصديق!
تطريق فؤاد صلد
الضمير المستتر
المفاجأة
مشاجرة الكبرياء والأنفة
كيف اهتدت ليلى إلى يوسف؟
هي تعد وهو يفي
الفصل الرابع والثلاثون
ملتقى الأسرار
إفلات العصفور ثانية
ضمير يدمع
ابن الطبيعة
لسان الثعلب
مؤامرة رجيمين
قصور في الهواء
العملي غير النظري
الاهتداء إلى الفخ
الزلزال
نصب الفخ
سلسلة الفخ
وتد الفخ
فخ لذئبين
الفخ من نار
يد من بعيد
زوبعة عواطف
ابنة الزانية
في حضرة إله الحب
أول قبلة
تتمة التاريخ
إهداء الرواية
مقدمة
مصادفات قاهرة
حرب في قلب
غرس الحب في القلب
نشوة الغرور
حرب بين النفس والقلب
صرخة مباغتة
عظة في السجن
نقص القانون
تناظر المنطاد وورقة الشجرة
غرائب القدر
بارقة أمل
الجارة الرسولة
دوي وصدى
التفسير حسب الظواهر
الحية وحواء
تاريخ قديم
سفر التكوين
شيء من التاريخ أيضا
إحياء الموتى
بين المال والعمل
الاتفاق على مكيدة
التاريخ يثبت بعضه بعضا
حيلة كأنها صدفة
فرار العصفور من القفص
استطلاع أسرار
مصير الفيلسوف
ما أسهل الغدر على الصديق!
تطريق فؤاد صلد
الضمير المستتر
المفاجأة
مشاجرة الكبرياء والأنفة
كيف اهتدت ليلى إلى يوسف؟
هي تعد وهو يفي
الفصل الرابع والثلاثون
ملتقى الأسرار
إفلات العصفور ثانية
ضمير يدمع
ابن الطبيعة
لسان الثعلب
مؤامرة رجيمين
قصور في الهواء
العملي غير النظري
الاهتداء إلى الفخ
الزلزال
نصب الفخ
سلسلة الفخ
وتد الفخ
فخ لذئبين
الفخ من نار
يد من بعيد
زوبعة عواطف
ابنة الزانية
في حضرة إله الحب
أول قبلة
تتمة التاريخ
آدم الجديد
آدم الجديد
رواية اجتماعية عصرية
تأليف
نقولا حداد
إهداء الرواية
إلى الفقيد العزيز مؤسس الهلال
يا غائب الصورة وحاضر الخبر.
ويا فاني المادة وخالد الأثر.
أمام خبرك وأثرك المجيدين ينحني كاتب هذه السطور؛ احتراما وتوقيرا.
أبيت إلا أن تستريح الراحة الخالدة بعد أن طرحت من يدك الريشة التي كملت بها تصوير مدنية العوالم الشرقية في جميع أدوارها، حتى إذا تناول تلك الريشة أحد بعدك، فلا يجد مكان قطرة منها في تلك الصورة الجميلة.
وما تركت الهلال المنير إلا وقد ربيت له رساما يرسم فيه صورا جديدة للمدنيات الغابرة والحاضرة، ولكنك تركت في آخره فراغا لا يدري أحد سواك كيف يملؤه.
كنت تملأ ذلك الحيز بصورة الماضي، فإذا كنت تأذن لصديق وفي أن يملأه بعدك، فاقبل منه هذه الصورة من صور الحاضر، فإن رسوم الفضائل التي فيها منسوخة عما اتصفت وعلمت، ورسوم الرذائل عما ترفعت وحذرت.
نقولا الحداد
مقدمة
صراع الحق والقدرة
في الهيئة الاجتماعية قوتان تتصارعان: الحق والقدرة، كلاهما قوي:
الحق يريد الإنصاف ليرضي الضمير.
القدرة تريد الأثرة لتشبع الطمع.
الحق يبتغي أن تكون الشريعة فوق الإنسان.
القدرة تبتغي أن يكون الإنسان فوق الشريعة.
فهو يسلح الضعيف بالقانون ليرد القوي عنه.
وهي تقيد الضعيف بالقانون ليستحكم القوي منه.
الحق ينمي الطبيعة الملكية في الإنسان.
والقدرة تنمي الطبيعة البهيمية فيه.
فهو يحول الذئب إلى إنسان.
وهي تحول الإنسان إلى ذئب.
الحق يبني ارتقاء الجماعات كلها معا على مستوى واحد.
والقدرة تهدم جماعة لتبني بأنقاضها جماعة أخرى.
هذه الرواية مصرع يتصارع فيه آدمان - آدم الحق وآدم القدرة - والقارئ شاهد عيان، وضميره حكم، والتاريخ يدله على أي المصارعين فائز أخيرا.
نقولا الحداد
مصادفات قاهرة
في الساعة الأولى بعد الظهر كانت أربع فتيات يتراكضن في ميدان «العتبة الخضراء» بمصر؛ لكي يدركن ترام العباسية، فأدركنه وهو يكاد يتحرك، ودخلن إلى المقعد الأخير منه، وكان جالسا عليه فتى فأصبحن معه خمسة أنفار على مقعد واحد.
على أن الفتى قلص جنبيه والفتيات تحاشدن جهد طاقتهن حتى وسعهن المكان، وكانت الأخيرة منهن أجهدهن في التقلص؛ لكيلا تحتك بالفتى، ولكن ما بلغ القطار جانب حديقة الأزبكية حتى لم تعد الفتاة تطيق تقلصا، فالتفتت إلى الفتى وخاطبته بالإفرنسية متلجلجة متوردة الوجنتين: هل تتفضل بأن تنتقل إلى المقعد الثاني؛ لأننا أصبحنا هنا خمسة أنفار؟ - عفوا مولاتي، هل كنتن تجهلن عددكن قبل أن ركبتن القطار؟ - لم نكن نجهله، ولكن بوق الكمساري لم يمهلنا حتى نتخير مقعدا واحدا لنا جميعا، فاحتشدنا هنا على أمل أن يتفضل خامسنا من نفسه بإخلاء المكان. - لماذا أكون يا سيدتي الخامس الذي يخلي المكان مع أني لست دخيلا عليكن؟
فامتقع وجه الفتاة دلالة على امتزاج الخجل بالغضب، وقالت: عفوا يا سيدي لولا ظني بأنك كنت غافلا عن ضيق المحل علينا ما نبهتك إليه؛ فاعذر فضولي.
فازمهر وجه الفتى، وقال: لولا أنه يصعب علي جدا يا سيدتي أن تلقي علي درسا في «فن آداب الترام» ما كنت أتردد في إخلاء محلي لكن ...
وهنا انتهى الجدال، فالفتاة تبرمت وأعرضت عنه إلى رفيقاتها، والفتى غلا تغيظا من هذه الخاتمة السيئة، وبعد هنيهة توقف الترام في المحطة الأولى من شارع كلوت بك، ولكن ما تحرك ثانية حتى انسل الفتى من تحت العارضة الحديدية، التي تمنع الصعود والنزول من أيسر المركبة، واتفق حينذاك أن قطارا قادما داهمه وهو منسل، وكانت الفتيات ينظرن إليه وهو يخرج، فجزعن عليه وصرخن مستغيثات، بيد أنه توارى عن أبصارهن حالا؛ إذ اندفع قطارهن في سبيله تاركا الفتى تحت رحمة القطار الآخر، وهن لا يدرين كيف انتهى أمره، وبعد هنيهة قالت إحداهن للفتاة الأولى التي كانت تناقشه: أظنك خاشنته يا ليلى.
فلم تجب ليلى، بل كانت مفكرة مضطربة الداخل. •••
أما الفتى فما إن رأى القطار الآخر يداهمه حتى انعطف وراء القطار الذي كان فيه ونجا.
وما هي إلا دقيقة حتى رأى قطارا آخر من قطارات العباسية، فاستأنف مسيره فيه وهو يفكر فيما حدث بينه وبين الفتاة، ويراجع الحديث الذي جرى ويزنه؛ ليعلم هل كان ملوما. فلم يجد - بحسب اعتقاده - ما يبرر مناقشة الفتاة له، فقال في نفسه: يلوح لي أن المرأة الشرقية متى كانت تتكلم لغة أجنبية تعتقد أن ما تفعله يجب أن يكون قاعدة، وما تقوله شريعة وما تريده حقا، وأن الرجل يجب أن يكون لديها بلا إرادة ولا حرية ولا حق.
وما زالت هذه الأفكار وأمثالها تحوم في ضميره، وهو لاه عن كل ما يمر به إلى أن نبهه الكمساري قائلا: هنا «حي الظاهر» الذي تريد النزول فيه.
فأسرع الفتى ونزل من القطار، وأخذ من جيبه بطاقة، وقرأ ما فيها، ثم تقدم إلى أول عطفة عن اليسار، ونظر إلى اسم الشارع وقال: هذا هو الشارع بعينه.
وما إن مشى فيه قليلا حتى رأى فتاة قد ظهرت من شارع آخر مقاطع، ومشت في نفس الشارع الذي كان يمشي فيه، وهي على بعد عشرين خطوة منه، فاشتبه بها ورجح أنها هي الفتاة التي كان يناقشها في الترام، وجعل يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وما دقق النظر في ثوبها وبرنيطتها حتى لم يبق عنده شك بأنها هي الفتاة بعينها، وتراءى له أنها رأته، وتيقن أنها اعتقدت بأنه لم يوجد هناك صدفة بل عمدا كأنه يتبعها، فكبر عليه هذا الأمر، وقال في نفسه: يجب أن أختفي من هذا المكان؛ لكي تغير هذه الفتاة المتعجرفة ظنها بي، وتعتقد أني لست متتبعا لها، وأنها لم تخطر لي على بال.
وأسرع لكي ينعطف إلى الشارع الآخر المقاطع الذي بدت منه، ولكن قبل أن يصل إليه رآها تدخل في باب، وتراءى له أنها رأته يسرع نحوه، فلعن الصدفة قائلا: لقد وقع ما كنت أتحاشاه، وصارت الفتاة تظن أني مفتون بها في حين أني أكره أن أراها.
ولما لم تصح خطته في تحاشيها تقدم في سبيله، وهو ينظر إلى الأرقام التي على المنازل إلى أن وجد الرقم الذي يقصد إليه على نفس الباب الذي دخلت فيه الفتاة، فقال في نفسه ساخطا: يا الله ما بال التقادير تسوقني إلى حيث تكون هذه الفتاة الثقيلة!
وفيما هو يتردد بين أن يدخل إلى المنزل الذي يقصد إليه، أو أن يعود أدراجه أقبل عليه فتى، فتبادلا النظرات وسبقه الفتى بالكلام قائلا: ما أظنني غلطانا، المسيو ... - ... يوسف براق يا مسيو مراني. - أهلا وسهلا، لم تضل عن منزل صديقك، فتفضل ندخل.
فابتسم يوسف قائلا: من تزوده يا مسيو نجيب بهذه المنارة (مشيرا إلى البطاقة) التي تفضلت علي بها في باريس فلا يضل.
حرب في قلب
بعد قليل كان يوسف براق في قاعة فاخرة الرياش، أنيقة الترتيب تدل على جمال الذوق المتناهي، فقال في نفسه: لا أظن هذا المنزل المشتمل على هذا الذوق الجميل يشتمل أيضا على تلك الفتاة في وقت واحد، فلا بد أن تكون الفتاة ساكنة أو زائرة في طبقة أخرى من طبقات هذه البناية.
وبعد أن رحب نجيب المراني بضيفه ترحاب العربي الكريم قال له: متى قدمت من أوروبا؟ - أول أمس. - أهلا وسهلا، عسى أن تستطيب الإقامة في مصر. - أقول لك الحق أيها العزيز: إن طيب الإقامة فيها يتوقف على التوفق في الشغل. - لا أظنك استطعت أن تبحث عن شغل حتى الآن. - بحثت بعض البحث بناء على نصح رفيق رافقته من الإسكندرية إلى هنا، فأرشدني إلى بعض البنوك والشركات، فذهبت إلى بعضها وسألت عن وظائف خالية فلم أجد. - هل قصدت إلى البنك الأميركاني؟ - قصدت إليه فقيل لي أن لا وظيفة خالية فيه.
فضحك نجيب وقال: وأنا أعلم أن هذا البنك يحتاج إلى بعض المستخدمين؛ لأنه جديد، ولعل أكثر الدوائر التي قصدت إليها تحتاج إلى قليل مستخدمين، ولكن الذين تسألهم لا يقرون بالوظائف الخالية؛ لأن عندهم من ذويهم طلابا لها، هل قدمت «طلبا» إلى هذا البنك؟ - «طلبا» خطيا؟ لا، بل تقدمت بنفسي. - لقد أخطأت؛ لأنك لم تقدم نفسك إلا للأشخاص الذين يقفلون الباب في وجه كل طالب من غير ذويهم، ورأيي أن تكتب «طلبا» تبسط فيه أهليتك وتشفعه بنسخ من الشهادات التي معك، ثم تدفعه بنفسك وتطلب مقابلة مدير البنك، وتلتمس منه أن يمتحنك. - ولماذا الامتحان بعد أن يطلع المدير على طلبي وشهادتي؟ - لا بد من الامتحان والوساطة أيضا. - لا بأس من الامتحان، أما الوساطة فلماذا إذا كان الامتحان يثبت أهليتي؟! - لا بد منها أيضا؛ لأنه قد يكون بين الطالبين الأكفاء من أوصى به أحد أصدقاء المدير، فالوساطة لأجله تقدمه عليك وإن كان أقل منك أهلية. - كم هي ماهيات الوظائف الخالية؟ - حوالي ثمانية جنيهات.
فانقبض يوسف براق، وقال: أقول لك الحق: إني لا أريد أن أقتل وقتي في وظيفة بأقل من عشرين جنيها.
فضحك نجيب وقال: إني لواثق بأهليتك يا عزيزي يوسف، ولكن لا وصول إلى الوظائف العالية إلا بالصعود من الوظائف الواطئة. - يا لله! ألأجل وظيفة صغيرة أحتاج إلى واسطة؟! - نعم، وإذا لم تكن الواسطة فعالة فلا تنجح مهما كانت الوظيفة حقيرة؛ لأنك غريب في البلاد، وعليك أن تبتدئ بالصعود من أول السلم، ومتى اكتسبت قلوب معارفك الجدد يقدرونك قدرك، فتستعين بهم على الترقي إلى الوظائف العالية.
عند ذلك رأى يوسف فتاة عادلة القوام قد لاحت في رحبة المنزل، وما وقعت عينه على عينها حتى اضطرب، وفي الحال نهض يريد الخروج، فأمسك به نجيب قائلا: إلى أين؟ - أستأذنك بالانصراف الآن إلى ملتقى آخر. - لا، بل تتغدى معنا وتتعرف بسائر العائلة. - إني ممتن لفضلك جدا، لقد تغديت فأذن لي بالانصراف.
وبذل نجيب جهده في إقناعه بالبقاء فلم يفلح.
غرس الحب في القلب
قالت ليلى وهي وأهلها جلوس إلى مائدة الطعام: من هذا الفتى يا أخي نجيب؟
فأجاب نجيب: يدعى يوسف براق، وقد تعرفت به في باريس حين كنت أمتحن في الحقوق، فكان لي صديقا ودودا، وكنت أستلذ عشرته لسمو آدابه وسعة معارفه.
فقالت ليلى وهي تستعيد في ذهنها حادثة الترام: لا تدل ملامحه على شيء من ذلك. - لم تريه جيدا حتى يحق لك أن تحكمي على ملامحه من مجرد رؤيتك له لمحة، مع أن كل نظرة منه تدل على قاموس لغة أو دائرة معارف. - يا لله أراك تغالي كثيرا في محاسن هذا الفتى. - لا أبالغ إذا قلت: إنه فيلسوف؛ لأنه يعرف الإنكليزية والإفرنسية كأهلهما ، ويعرف العربية كأبلغ الكتاب، ومع ذلك فمعارفه اللغوية ليست شيئا في جنب معارفه العلمية والفلسفية. - إذا كان كما تقول أفليس عجيبا أن يترك أوروبا - مهد العلم ووطن الأعمال - ويأتي إلى مصر؟ - يلوح لي أنه سيئ الحظ من العالم؛ لأن أخلاقه ومزاجه وتربيته لا تقدره على حسن الجهاد لأجل الحياة، فهو حر الضمير وصادق الطوية وقويم المبادئ أكثر من اللازم لهذا الجهاد، وروح الاجتماع الحاضر تحسب هذه الصفات جرائم، والمدنية الحالية تعاقب ذويها بنكد الطالع، وإذا أضفنا إلى ذلك عصبية مزاجه وحدة طبعه اتضح لنا السبب في عدم توفقه في أوروبا، وإيثاره امتحان بخته في مصر. - غريب أن يكون عصبي المزاج وهو بدين. - وهو شديد العضل أيضا، فإذا غالب الدب غلبه، ولكنه يتحاشى أن يتقاوى على نملة.
وكان نجيب يتمادى بهذا الحديث، وهو لا يدري أنه يغرس به غرس حب في فؤاد أخته ليلى، وبعد سكوت هنيهة قالت ليلى: إذا كان هذا الفتى لم يوفق إلى مسترزق يرضيه في أوروبا، حيث يعلم الناس أقدار الناس، فهل يؤمل أن يجده في مصر؟ - تقلب في أشغال كثيرة في باريس ولندن، حتى إنه اشتغل في التأليف والتحرير، لكن ضعف رأيه في تدبير أموره وفي تصرفه مع الناس في ميدان المزاحمة والمناظرة كان يفضي دائما إلى فشله، فنصحت له أن يرحل إلى مصر، حيث يقل مزاحموه إلى الوظائف العالية لعظم أهليته، والآن أرشدته إلى البنك الأميركاني، ونصحت له أن يصعد على سلم الارتقاء درجة درجة، وسأبحث مع عمي بولس رئيس قلم الترجمة في هذا البنك عسى أن يستطيع التوسط له، ولم أشأ أن أذكر له شيئا من هذا القبيل قبل أن أرى عمي لأعلم ماذا يقول.
بعد الغداء اختلت ليلى في غرفتها خلافا لعادتها.
نشوة الغرور
في الساعة الثالثة من اليوم التالي كان يوسف براق في حضرة مدير البنك الأميركاني، فقال له المدير: إذا صدق ما كتبته في عريضتك كان لك عندنا وظيفة، فهل أنت مستعد للامتحان؟ - إذا شئت فتفضل به الآن.
فاستدعى المدير رجلا كهلا، وقال له: أود أن تمتحن هذا الفتى بالترجمة من اللغات الثلاث وإليها.
فتبع يوسف ذلك الرجل الكهل إلى مكتبه، وبعد أن تخاطبا باللغتين الإنكليزية والفرنساوية، دفع إليه الرجل ورقة مكتوبة بالإنكليزية، وقال: هذه رسالة كتبتها الآن إلى أحد العملاء، فأود منك أن تترجمها إلى الإفرنسية والعربية، وهذه رسالة أخرى بالعربية أود أن تترجمها إلى الإنكليزية والفرنساوية.
فقرأ يوسف الرسالتين ثم تناول ورقة، وبعد أن كتب قليلا طوى الورقة ووضعها في ظرف، وختمه ودفعه إلى ذلك الرجل قائلا: أود أن تأمر بإرسال هذا الظرف إلى جناب المدير.
فاستغرب الرجل تصرف الفتى، وقال: هل أنجزت الترجمات بهذه السرعة؟
وهم الرجل أن يفض الظرف فأمسك يوسف يده، وقال: لا تفضه يا سيدي فهو معنون باسم المدير شخصيا.
فازداد الرجل حيرة، ولكنه لم يتردد في إرسال الرسالة إلى المدير، فلما فضها المدير قرأ فيها ما يأتي:
مولاي جناب المدير
أرجو أن تعين لامتحاني موظفا أكثر معرفة مني، واقبل فائق احترامي.
كاتبه: يوسف براق
فابتسم المدير واستدعى يوسف إليه، وقال له: لماذا فعلت هكذا؟ أما شعرت أنك تهين من وليته أمر امتحانك؟ - ربما شعرت الآن بذلك، وشعرت أيضا أن هذا الامتحان إهانة لي أعظم من إهانة ممتحني؛ لأن الأمر بيني وبينك الآن والرجل لا يدري ماذا جرى؛ فأرجو أن تمتحنني أنت أو أن تعين لامتحاني شخصا آخر أوسع علما منه. - ليس عندنا أوسع علما منه، والوظائف التي عندنا لا تحتاج إلى معرفة أوفر من معرفته. - إذن أرجو أن تقبلني بلا امتحان، وتجربني في العمل شهرا أو أسبوعا أو يوما، فإذا لم تقنع بأهليتي فاصرفني خائبا.
وكان المدير يعجب بكلامه بالإنكليزية، فسأله بالإفرنسية: هل تعرف العربية كالإنكليزية؟ فأجابه بالإفرنسية أيضا: هي لغة أبي وأمي يا سيدي، وقد درست نحوها وبيانها في أشهر مدارس سوريا، وكتبت بها مقالات في بعض المجلات العربية.
وكان إعجاب المدير بكلامه بالإفرنسية أشد منه بكلامه بالإنكليزية، فقال له: إذن تعال غدا واشتغل، مهلا ...
ثم ضغط المدير على زر، فجاءه خادم فقال : استدع المسيو سرار إلى هنا.
وفي لحظة حضر المسيو سرار، فقال له المدير: بعد غد الاثنين يأتي المسيو يوسف براق هذا إلى مكتبك، فاشغله بأي ترجمة تريدها.
وقبل أن ينصرف يوسف قال للمدير: أود يا سيدي أن أعلم درجة الوظيفة، التي تعينني بها إذا كنت راضيا كل الرضا عن عملي.
ففكر المدير هنيهة ثم قال: ليس عندنا الآن وظائف بماهية أكثر من 8 جنيهات في الشهر. - وهب أني برهنت بالفعل على أني أهل لأن أشغل وظيفة عالية جدا ... - لا أقدر أن أبحث معك الآن بذلك، فإذا شئت أن تشتغل كما اتفقنا، فتعال غدا وإلا فأنت وشأنك.
واستأنف المدير النظر في أوراقه. - إني آت غدا يا سيدي.
ثم ودعه وانصرف متغيظا، وهو يقول في نفسه: الناس هم هم في كل مكان، وليس من يميز بين الغث والسمين، وإذا كان ذلك الرجل الكهل أوفر موظفي هذا البنك علما، أو ليس بينهم أعلم منه، فلا ريب أن أترقى سريعا، وأكون في عهد قصير ثاني المدير. فلأطاوع هؤلاء الأغبياء صابرا إلى أن تتبرهن لهم أهليتي.
أما ذلك الرجل الكهل، فهو بولس المراني عم نجيب المراني، وقد شغلت باله الرسالة التي قدمها يوسف إلى مدير البنك، وكانت وسيلة للتفاهم بينهما، وعقد النية على أن يطلع عليها ولو خلسة، فتلاهى في مكتبه حتى انصرف المدير من البنك، ودخل إلى مكتبه وبحث عن الرسالة طويلا، فوجدها في سلة الأوراق المهملة ممزقة بعض التمزق، فجمع أجزاءها ورتبها، ولما اطلع عليها كانت له ابتسامة لو رآها يوسف لندم على ما فعل.
حرب بين النفس والقلب
وكان اليوم التالي الأحد والأشغال معطلة، فاغتنم جوزف العطلة، وخرج من غرفته في فندق السياح وذهب يبحث عن غرفة مفروشة أرخص من غرف الفنادق، فطاف عدة جهات فلم يجد غرفة تلائم ذوقه وتسد حاجته.
وأخيرا وجد نفسه عند سبلندد بار، ورأى المكان مكتظا بالناس، فجلس فيه إلى إحدى الموائد، وفيما هو يجيل نظره وقعت عينه على عين ليلى، فخفق فؤاده وقال في نفسه: ويحك يا قلبي ما بالك تستهدف لسهام هذه المتكبرة، أما كفى نفسي هوانا؟
ثم أسرع وشرب قهوته، ونهض لا يلتفت إلى أحد، ومضى يتمشى في رصيف الشارع وهو لا يدري إلى أين يذهب، وما شعر إلا أنه راجع إلى سبلندد بار رغم أنفه، فدخل إلى داخله بحيث لا يراه من هم جلوس خارجه، وجلس في زاوية عند أحد الأبواب، وكان أحد مصراعي الباب مقفلا، فنظر من خلال زجاجه إلى حيث ليلى جالسة، فوجدها مع جماعة «من أهلها طبعا»، وما إن تبينهم جميعا حتى عض على سفلى شفتيه، وكاد يدميها؛ لأنه رأى بين تلك الجماعة ذلك الرجل الكهل، الذي كان يمتحنه في البنك الأميركاني، وجعل يتساءل: ماذا عسى أن تكون نسبة ذلك الرجل إلى ليلى؟
وكان كلما رام أن ينهض ليمضي يشعر بقوة تقوده، وهو يقول: ما ضرني أن أبقى هنا، وليس من يعرفني ولا هي ولا ذووها يرونني.
وبقي على هذه الحال حتى قامت جماعة ليلى ومضت، فنهض ومشى وما وجد نفسه إلا ماشيا وراء تلك الجماعة، فلعن نفسه قائلا: هل أنا بعير حتى تقودني هذه المتصلفة بخيط من حب؟
ثم انقلب راجعا، ودخل إلى «كافه إيجبسيان»، ووقف فيها يتفرج على لاعبي البلياردو، وبعد هنيهة حسبها ساعة خرج ومشى مستعجلا، وهو يظن أنه متمهل، وما صار في وسط شارع نوبار «الذي سمي بعد ذلك شارع باب الحديد»، حتى رأى الجماعة أمامه فقال: إني سائر في سبيل عمومي يسير فيه كل الناس، فما أنا تابع هذه الثقيلة.
بلغت الجماعة إلى شارع عباس وهو يتبعها عن بعد، ويغالط نفسه قائلا: إن هذا الشارع عمومي يسوغ لي أن أسير فيه كغيري، إني أبحث عن غرفة.
وما زال يسير كأنه يسوق تلك الجماعة أمامه ولا نور هناك غير نور الشارع، حتى انعطفت الجماعة في شارع آخر، فتقدم إلى ذلك الشارع ووقف عند زاويته يرصد القوم حتى دخلوا في باب، فنظر في اسم الشارع المعلق في الزاوية، وقرأه على النور الضئيل، فإذا هو الشارع الذي يسكن فيه صديقه نجيب المراني، فقال لنفسه: تبا لك من غرور لقد قادتك إلى حيث تقطن.
ثم انقلب راجعا وهو يتغيظ من هذه المصادفات القاهرة، وقال: لقد انقضى النهار وأنا لم أهتد إلى غرفة موافقة، فلماذا لا أسكن في هذا الشارع، فإنه طلق الهواء بعيد مسرح النظر.
وكان واقفا أمام منزل قد كتب فوقه «غرف للإيجار»، فدخل إليه واتفق مع صاحبة المنزل وهي إيطالية على الغرفة وأجرتها، وأتى بحقيبته وأقام في غرفته الجديدة، وهو يشعر بشيء من الارتياح إلى مسكنه الجديد.
وكان شباك الغرفة يطل على منزل مجاور، وليس بين المنزلين إلا فسحة ضيقة تتصل بالشارع العمومي، ويفصلها عنه جدار واطئ، وبعد أن رتب يوسف غرفته جلس على مقعد عند الشباك، وجعل يطالع في أحد كتبه وفكره سابح في فضاء الخيال.
ولما مل هذه الحال أطفأ مصباحه واضجع في سريره، ولكنه لم يستطع هجوعا، فكان تارة ينزل من سريره، ويقعد على المقعد ثم يعود إلى السرير حتى ضاق ذرعه من الأرق.
صرخة مباغتة
صارت الساعة الثانية بعد نصف الليل، وهو على هذه الحال، وكان الليل هادئا لم يقلق هدوءه إلا دوي الأوتوموبيلات حينا بعد آخر، وقل دوي قطار المطرية.
وما كادت عينه تهجع حتى أيقظته صرخة كأنها كانت في أذنه، فنهض مبغوتا، ونظر من شباكه، فرأى في شرفة المنزل المقابل له شبحين، ولكنهما لم يرياه؛ لأن غرفته كانت مظلمة، فأنعم النظر جيدا وأصغى فسمع مثل بكاء فتاة وخطاب امرأة.
وقد اعتاد يوسف أن يترك الشباك مفتوحا؛ لكي يتجدد الهواء في غرفته دائما، فأنصت جيدا للحديث، فسمع في هدوء الليل معظم الحديث بل كله هكذا: انهضي يا شقية إلى غرفتك. - دعيني هنا وحدي. - تموتين من برد الليل. - أود أن أموت. - قصف الله عمرك فإنك بليتي، قومي ادخلي. - قلت لك: لا أدخل وهذا هنا. - لماذا لا تدخلين؟ هل هو حوت يلتهمك؟ - بل هو ذئب مفترس فلا أكون حيث يكون. - هو في غرفته وأنت في غرفتك. - لا أسكن في منزل هو فيه. - هل نطرده؟ - إذن لم يكن في وسعك أن تطرديه فاطرديني. - لقد دفع أجرة غرفته مقدما، فلا أقدر أن أطرده. - أنا عالمة أنك لا تقدرين أن تطرديه؛ لأننا كلتينا مقيمتان في منزله. - من قال لك يا شقية: إن هذا منزله، وأنت تعلمين أنه مستأجر؟ - من أين لك مال حتى تقطني منزلا كهذا وتقني هذا الفرش النفيس؟ - هذا لا يعنيك. - بل يعنيني؛ لأن المال منه فلا أريد أن أعيش بمال دنس. - اصمتي يا شقية وادخلي.
ورأى يوسف أن المرأة قد أمسكت الفتاة بيدها، وهمت أن تدخلها بالقوة، فحاولت الفتاة أن تصرخ فوضعت المرأة يدها على فم الفتاة لتمنعها من الصراخ، ورأى يوسف حينذاك رجلا قد اغترف الفتاة ودخل، وعند ذلك أقفل الشباك، ولم يعد يوسف يرى شيئا أو يسمع صوتا، وكان المنزل مظلما.
إن ما يدور في خلد القارئ الآن دار في خلد يوسف حينذاك. •••
انهزم الكرى من عيني يوسف؛ لأنه قلق على تلك الفتاة، وصار يود أن يعلم ماذا يكون مصيرها في تلك الليلة في ذلك المنزل.
فكر قليلا، ثم نهض ولبس ثوبه وخرج من المنزل بكل هدوء، وصعد إلى السطح وطاف عليه، فوجد في المنزل جناحا يقرب جدا من المنزل الآخر، فلاح له أن يثب وثوبا من سطح إلى سطح، ولكن خاف أن يكون لوثبته رجة في السطح توقظ السكان، وقد عثر على السطح بحطام سرير من خشب مرمية عليه فتناول لوحا وألقاه على السطحين وعبر عليه، وجعل يطوف على السطح الآخر بكل هدوء، وكان كلما خطا خطوتين انحنى فوق شباك من شبابيك المنزل، وأصغى إلى أن بلغ إلى نقطة كان يسمع عندها من الشباك الذي تحته كلاما مختلطا ومثل بكاء ممتزج بسخط، فقال في نفسه: لا بد أن تكون هذه الفتاة فريسة، وأنا المسئول عن خلاصها؛ لأني الوحيد الذي عرف بأمرها.
ثم جعل يفكر في كيف يستطيع أن يسمع الحديث الجاري. •••
ولابد أن يتوق القارئ أن يعلم ما كان جاريا في ذلك المنزل مما لم يعلمه يوسف.
في تلك الدقيقة كانت الفتاة والمرأة في إحدى غرف المنزل، ولا نور في الغرفة إلا نور مصباح بترول ضئيل جدا، وكانت الفتاة تنحب والمرأة تقول لها: إنك غبية لا تعرفين مصلحتك، وقد قضيت خمسة عشر عاما وأنا أربيك وأعدك لمستقبل مجيد زاهر، فلما أقبل مجدك جعلت تنبذينه ... - أي مجد هذا؟ - أليس مجدا لك أن تكوني ساكنة القصور ورافلة بالدمقس والحرير، وحالية بالألماس والحجارة الكريمة، وآمرة بالخدم؟ - لا أتنغص لمجد لم أتعوده ولم أحلم به. - إذا كنت أنت غبية تجهلين مصلحتك، فأنا أتولى أمرك وعليك أن تطاوعيني فلا تندمي، لا تخاشني فهيما فإنه يحبك ويفعل كل ما ترومينه لسرورك، وقد ... - إن الصلة بهذا الرجل تروعني، فلا تقربيه مني ولا تقربيني منه. - يا لله لماذا تروعك الصلة به، وهو لا يدخر وسعا في إرضائك؟ أما أهدى إليك اليوم ...؟ - لا تذكري هديته، فهو يبتغي أن يقتنصني بها. - غريب أمرك، لا أدري لماذا تؤولين هديته بالقصد السيئ، وهو لا يضن بأي برهان على أنه يحبك؟ - يتمادى بمداعبتي.
فضحكت المرأة، وقالت: فهمت أنك تستنكرين أنه يقبلك، فأعذرك إذا نفرت منه؛ لأنك حديثة العهد بالحب؛ ولأن النفور طبع الفتيات وهو الدليل على حشمتهن، ولكن لا يسوغ للفتاة أن تعني بنفورها صدودا وجفاء؛ لئلا تخسر نصيبها الثمين وبختها السعيد.
فقالت الفتاة ساخطة: لا أعرف للنفور إلا معنى واحدا وعليه أن يفهمه، فماذا تنتظرين مني غير أن أنفر؟ - لا بأس أن تنفري تارة دون أخرى. - يا لله، ويحك، أراك تبيعينني لهذا الرجل بيع السلعة الرخيصة. - كلا يا غبية بل إياه أبيع لك رخيصا وهو غال. - نعم تبيعينه لي وتريدين أن أدفع أغلى ما عندي ثمنا له؟ - أتعدين القبلة ثمنا غاليا يا بنيتي؟ - أغلى منه كثيرا. - أتريدين أن تقني سعادتك مجانا؟ - ويلاه إنك تروعينني، ما هذا الدرس الجديد الذي تلقينه علي الآن؟ متى كنت تسوغين أن تمس طهارتي يد؟ - كنت أصونك إلى أن أجد لك النصيب الثمين، وقد وجدته الآن فلا تضيعيه بنفورك يا غبية. - عجيب أمرك، إنك تساومين على فؤادي مساومة، لا ترى نفسي هذا النصيب ثمينا بل بالعكس تراه حقيرا. - لعلك لا تعلمين مقام فهيم السامي وغناه الطائل. - أعلم، أعلم، ولكن كل ذلك لا يرضي قلبي، فأي سعادة في أن أعيش كملكة، وأنا لا أطيق أن أساكن من تحسبينه كالملك بجاهه وغناه؟
فتأففت المرأة وقالت: يا لله، لا أدري لماذا تنفرين من هذا الفتى، وألوف من الفتيات تتمنى أن يبتسم لهن. - تقولين: إنه فتى، وهو أكبر من أبي. - آ، فهمت فهمت؛ تنفرين منه لأنه أكبر منك سنا، ولو كنت عاقلة ما كنت تحسبين الكبر عيبا؛ ولا سيما لأن الفرق بينك وبينه في السن مألوف بين الأزواج. - لا تحاولي سد الأبواب والباب الكبير مفتوح، وهو أني لا أقدر أن أحبه. - متى عاشرته برهة تحبيه من أعماق قلبك، فلاطفيه يا هيفاء، إنه نصيب عزيز تحسدك عليه بنات الأمراء، فإياك أن يفلت من يدك.
فسكتت الفتاة هنيهة ثم قالت متنهدة: إنك تدفعينني إلى الهاوية. - لا تخافي يا بنيتي، إنك مندفعة إلى غبطة عظيمة، سيأتي الآن إليك. فاعتذري له عما فرط منك من الخشونة، وسترين منه رقة ولطفا يسرانك، لا تخسرين شيئا إذا لاطفته يا حبيبتي.
ونهضت المرأة وقبلت الفتاة فقالت هذه: رحماك رحماك لا تدعيه يأتي إلى هنا وحده.
ثم خرجت المرأة إلى القاعة حيث كان فهيم ينتظر، وقالت له: لو سمعت ... - ماذا؟ - تقبل لو تثق أن تكون زوجها. - قلت لك: لا تقربي من هذا الموضوع. - عجيب أن تبعد عنه مع أنه يسهل كل عسير. - قلت لك: لا أقدر أن أتزوج ولا أريد، فلا داعي لتكرار القول. - ولكن إقناع الفتاة صعب إلا بالزواج. - إذن لماذا وعدتني بأن تسهلي صلتي بها؟ - لأنني ظننت أنك تستطيع أن تستميلها. - بماذا أستطيع أن أستميلها بغير المال؟ فقد وعدتها بأن أسكنها قصرا أنيق الرياش يحف فيه الخدم حولها، وأن ألبسها أفخر الحلل وأزينها بأنفس الحلي. - إذن واظب على استمالتها بألطف الأساليب، ولكن لا تدعها تفهم أنها لا تكون زوجة. - ولا أقدر أن أدعها أن تفهم أنها تكون زوجة. - إذن دع المسألة غامضة الآن، وابذل جهدك في ملاطفتها والتحبب إليها ولندع الأمر للمستقبل، قم ادخل إليها الآن فقد مهدت لك سبيل الاجتماع بها.
ودخلت المرأة إلى غرفة الفتاة، وهي لم تزل مضجعة في سريرها، ودخل فهيم وراءها وهي تقول ضاحكة: تعال يا فهيم صافح هيفاء فهي لم تقصد بنفورها ما فهمت أنت، والحق عليك فقد تسرعت في فهم قصدها.
ووضعت يده في يدها وخرجت.
أما فهيم فشعر بأن الفتاة تضطرب، فقال لها: لا تخافي يا حبيبتي إني واقف نفسي على إسعادك فاطلبي ما تشائين.
وعند ذلك أدخل يده الأخرى تحت رأسها وضمها إلى صدره، فاختلجت ونفرت منه، ولكنها كانت بلا قوة، فقال لها: تعالي إلى فؤادي يا مالكته.
وضمها بكلتا يديه إلى صدره، وما هي إلا لحظة حتى راعه صوت من ورائه يقول له: دع النعجة الطاهرة في طهارتها أيها الذئب الخبيث!
فانتفض فهيم جزعا، ولكنه نهض بكل هدوء والتفت إلى ورائه، فرأى شبحا واقفا في الشرفة عند الشباك، وفي يده مسدس مصوب نحوه من بين مصراعي الشباك المنفتحين قليلا، فارتعدت فرائصه وابتعد عن سرير الفتاة مذعورا، وهو يتوقع دوي الرصاص في الغرفة، وفي الحال خرج منها، واستقبل المرأة عند بابها وقال مرتعبا: من هذا الذي في الشرفة؟ - لا أدري، شعرت بحركة في الشرفة، إنه لص، استصرخ الخفير. - كلا كلا، لا تستصرخي أحدا فليس في الأمر لصوصية بل تهديد.
واندفعت المرأة إلى الغرفة ونظرت في الشرفة، فلم تجد أحدا ولكنها لمحت شبحا يصعد إلى السطح متسلقا على شيء مدلى منه.
ثم شعروا بحركة على السطح، وسمعوا بعض البرابرة الذين يبيتون على السطح يلطون قائلين: ها هو يا خفير قبضنا عليه، خذه إلى القرقول!
فقال فهيم: الأفضل أن نتظاهر بأننا لم نعلم شيئا، ولا شعرنا بشيء ما دام هذا المتطفل قد وقع في يدي الخفير، وغدا نستفهم من البرابرة عن أمره. - حسن رأيك، ولكن تعال قل لي: ماذا رأيت؟
فروى لها فهيم ما رأى وسمع، وقال لها: تعالي قولي لي من هذا ؟ - لا أدري. - لابد أنك تدرين، من هذا الذي يجسر أن يصل إلى هذه الشرفة في آخر الليل، ويتهددني في أهم لحظة كأنه يعلم سر الأمر؟ ألا تعرفين شخصا آخر يحب هيفاء؟ - والله لا أعلم ولا أعتقد أن هناك شخصا آخر يحبها أو يعرفها أو تعرفه. - إنك تمكرين علي. - أقسم لك بشرفي أني لا أعلم. - هل زدتني بهذا القسم تصديقا؟ - ثق أني لا أعرف أحدا يعرف هذه الفتاة هنا في مصر. - إذن من هذا؟ - إني متحيرة مثلك ولا أشك أنه لص، ولما رأى أن من في المنزل لم يزالوا يقظين ادعى القداسة والغيرة على الشرف، ورام أن يشفي غليله منك.
فلم يقتنع فهيم بهذا التعليل، ثم تقدم إلى الفتاة وقال لها: أنت تعلمين هذا الشخص يا هيفاء؟ - لم أره وقد راعني قبلك. - كيف ذلك؟ - سمعت صوته قبيل دخولك علي، ولم أفهم كلامه فجزعت جدا. - عجيب ألا تفهمي كلامه. - لم أفهمه؛ لأنه كان همسا. - لا أصدق. - لا يهمني أن تصدق.
فسكت فهيم، وبعد هنيهة قال: لعلنا غدا نعرف الحقيقة.
عظة في السجن
لما شق الفجر حجاب الظلماء، وكانت أمواج النور القصوى تلاطم الآفاق، كان يوسف براق يتبين في السجن الذي أودع فيه في «قرقول الأزبكية» بضعة أشخاص آخرين مرتمين على الأرض كالغنم في الحظيرة، كان بعضهم يغطون في نومهم كأنهم يتوسدون الوثير في شم القصور، وبعضهم يقظين متململين ويوسف من جملتهم.
ولما اتضح الصبح قليلا رأى يوسف إلى جانبه رجلا ملتحيا، وعلى رأسه قبعة من الصوف وقد صحا من نومه، فأنعم النظر فيه فخاطبه الرجل باليونانية.
فقال له يوسف: لا أعرف اليونانية.
فسأله الرجل بالعربية: هل معك سيكارة؟ - من حسن الحظ لا أدخن.
فتأفف الرجل وقال: بل من سوئه؛ لأني لا أطيق الصبر عن التدخين. - أراك تتكلم العربية جيدا، أفما أنت يوناني؟ - بلى، ولكني قضيت عهدا طويلا عشير العرب. - أستغرب أنك سجين هنا وللأجانب امتيازات. - نعم، ولبعض الناس امتيازات أيضا، ومنها أنهم يجدون أنفسهم في مثل هذا المبيت أحيانا.
فاستغرب يوسف هذا الخطاب، وقال: اعذرني يا سيدي، إلى الآن لم أفهم لماذا أنت بائت هنا؟ - لأن القرقول فندق سكارى الطريق. - تقول: إنك أجنبي، فلماذا يجاء بك إلى هنا؟ - لأن السكر لا يفرق بين جنسية وأخرى، ونحن الأجانب أحق من الوطنيين بهذا الفندق الفخيم.
فابتسم يوسف وبقي ساكتا هنيهة، ثم قال: لا تؤاخذني يا سيدي إذا سألتك لماذا لا تذهب إلى منزلك قبل أن يؤتى بك إلى هنا؟ - لأني الآن فقير، وهنا مصير السكير الفقير في الليل. - وإذا كنت تعلم هذا المصير، فلماذا لا تكف عن السكر؟ - وماذا يضرني أن أسكر إذا كان البوليس يعنى بي ويؤاويني في القرقول؟ وإذا كنت بلا دينار، فهل تظنني أجد مبيتا أفضل من هذا الفندق؟ - بالطبع إذا كنت تنفق دينارك على الخمرة تبقى بلا دينار، فلماذا لا تصون الدينار؛ لكي تنفقه على ما يصلح شأنك فتعيش عيشة أفضل؟ - جربت كل نوع من أنواع المعيشة، فلم أجد أفضل من هذا النوع.
فازداد استغراب يوسف لحديث هذا الرجل، ولكنه استلذ حديثه فقال: عجيب أمرك، لم أر أحدا قبلك يستلذ عيشة الفقر.
فضحك الرجل، وقال: لم أعن عيشة الفقر بل عيشة السكر. - الفرق بين العيشتين لفظي فقط؛ لأن السكر يفضي إلى الفقر، وأنت خير مثل على ذلك.
فقهقه الرجل وقال: يلوح لي أنك عديم الاختبار، هل تجهل أن كثيرين من السكيرين عاشوا أغنياء وماتوا أغنياء؟ - أعلم ذلك، وأعلم أيضا أن كثيرين ماتوا فقراء من جراء السكر، فهل تقول لي لماذا أنت الآن بلا دينار؟ - لأني كميزان الحرارة تارة أكون صاعدا وأخرى نازلا، فأمس كنت في درجة الخمسين واليوم في درجة الصفر. - درجة الخمسين؟ - نعم، كان أمس معي خمسون جنيها فخسرتها بالقمار، وخرجت أسكر مع بعض أصحابي، فأصبحت اليوم ولا جنيه معي، فأنا الآن في درجة الصفر. - خمسون جنيه في ليلة واحدة؟ وماذا تفعل اليوم ولا فلس عندك؟ - كما فعلت منذ أسبوع أو منذ شهر أو منذ عام، فلطالما لعبت هذا الدور. - إنك لتدهشني يا سيدي، فهل تستسهل خسارة خمسين جنيها في ليلة واحدة؟ - كما أستسهل ربحها في ساعة واحدة. - أرى حديثنا يسوقني إلى الفضول، فاعذر يا سيدي فضولي. - لا، لا تقل فضولا، إذا لم يكن لحديثنا فائدة إلا قتل هذا الوقت الطويل فكفى به فائدة. - إذن أود أن أتعلم منك كيف تربح الخمسين جنيها في ساعة، فما هو شغلك يا سيدي؟ - أشتغل أي شغل أوفق إليه فتارة أكون سمسارا، وأخرى «جرصونا» في «قهوة»، وطورا صاحب حانة، وتارة صاحب محل قمار أو مقامرا أو مضاربا في البورصة؛ ولهذا قلت لك: إني كميزان الحرارة. - إذا كانت لك هذه المقدرة على كسب المال، فلماذا لا تجعل ميزان حرارتك صاعدا دائما، وتعيش عيشة الكبراء؟ - من قال لك إني لا أعيش عيشتهم؟ فأمس كان بضعة من أبناء الذوات يسكرون معي وهم يقامرون وأنا أقامر، وهم يطوفون ملاهي الأزبكية وأنا أطوفها. - وهل تعد هذا النمط من العيشة عيشة راضية؟ - إذا كان الأغنياء يؤثرون هذا النمط من المعيشة، فما أنا أفضل منهم إلا بأني أبيت في القرقول أحيانا، وهم يبيتون في القصور، بل أنا أسعد حالا منهم؛ لأني أقدر أن أبيت حيث لا يقدرون أن يبيتوا.
فحار يوسف كيف يستطيع أن ينبه هذا الرجل إلى عاقبة سيرته؛ لأنه رآه متشبثا بأسلوب معيشته، وكلما أرشده إلى خطر هذا الأسلوب موه الرجل عليه متهكما. وبعد تفكير هنيهة قال يوسف: كم عمرك يا سيدي؟ - قل خمسين أو ستين سنة. - عجبا، لا يلوح لي أنك تناهز الخمسين. - بل أكثر. - ولم تزل في عافية؟ - وقوة أيضا. - كم سنة تعيش أيضا؟ - هذا ما لا يدريه إلا علام الغيوب. - أجل، لا أحد يعرف أجلا، ولكن القوة والعافية؟ - ماذا؟ - هل تدومان؟ - ففكر الرجل هنيهة وقال: لم يخطر لي هذا قبل الآن. - ليس عجيبا ألا يخطر لك؛ لأن ميزان حرارتك متى صعد أطمعك بحسن المستقبل، ومتى هبط ألهتك الخمرة عن كل مستقبل، على أني أسأل الله أن تعيش حتى التسعين لترى نهاية المستقبل، أفما رأيت أحدا في التسعين أو الثمانين؟ - رأيت. - كيف رأيت الرجل في الثمانين ؟ - تريد أن تقول لي: إنه ضعيف؟ - قد يكون قويا. - لا بد أن تضعف قوته مهما سلم من الأمراض. - إذا ضعفت قوته البدنية، فقد تبقى له قوة مالية.
فاكفهر وجه الرجل وفكر هنيهة، ثم قال: وإذا كان مثلي بلا قوة مالية؟ - حينئذ تسميه ضعيفا. - ولكنك نسيت الأصدقاء. - بل أنت نسيتهم، أمس كنت تسكر مع أبناء الأغنياء، فلما استنفدت الخمرة صوابكم أخذتهم مركباتهم إلى قصورهم وأخذك البوليس إلى هذا القرقول، فأين أصدقاؤك الآن؟ وأين يكونون متى صرت هرما، ولم تعد عشرتك تلذ لأبناء الأغنياء؟ - ففكر الرجل هنيهة ثم قال: لقد نبهت يا صاح غافلا، وأنا أشعر الآن أني أضعف قوة مما كنت منذ خمس سنين أو عشر. - وهل ترتاب بأن تكون في منتهى الضعف حين تكون ابن ثمانين؟ فأنت تستنفد الآن كل قوتك العضلية والعقلية والمالية، ولا تدخر شيئا إلى حين تهرم، فالواجب عليك نحو نفسك الآن أن توفر من قواك إلى آخر سنيك.
فسكت الرجل على هذا الخطاب، وبعد قليل قال: لقد أيقظتني من غروري يا سيدي وصار لك علي فضل، تكلم يا أخي فإني أستلذ كلامك. - أخاف أن تحسب كلامي فضولا. - بل هو فضل. - إذن ائذن لي أن أسألك: أما لك عائلة؟ - كلا البتة. - حسن جدا فقد خف وقر ذنبك عليك، ولكني ألومك على أمر واحد في ماضيك. - على السكر والقمار طبعا؟ - لا لا، بل ألومك على أمر سبب تطوحك في السكر والقمار، وهو أنك بقيت عازبا.
فتنهد الرجل وبقي ساكتا، وبعد قليل قال له يوسف: لا ريب أنك شعرت الآن بهذا الغلط؛ لأنك لو تزوجت لوجدت في عائلتك لذة لا تجدها في سكر ولا في قمار.
وكان النور قد ملأ المكان من نوافذه «المحددة»، فرأى يوسف دمعتين تنحدران على لحية الرجل، وعند ذاك قال الرجل ليوسف: هل أنت متزوج؟
فأجابه يوسف: كلا. - إذن كيف تعرف لذة العيلة؟ - أعرفها بالمشاهدة، ومن منا لا يرى ألوفا من العيلات السعيدة بألفتها، فلماذا لم تتزوج حين كنت في يسر؟ - كنت مزوجا يا أخي .
وهنا استرسل الرجل بذرف الدموع، فقال له يوسف: أظنك لم تكن سعيدا بزواجك، وقد أخطرت على بالك مصيبة فاعذرني. - كلا يا أخي، لم أكن تعسا في زواجي، ولكن الأحوال فرقتني عن عيلتي، وشتتتها. - إذن لم تزل لك عيلة. - لا أدري فقد تكون عيلتي منقرضة.
وكاد الرجل يجهش بالبكاء، فقال له يوسف: لا تؤاخذني على استدراجك إلى هذا الموضوع الذي يذكرك بأحزان ماضية فدعنا منه. - نعم، دعنا منه، ولكني أود أن تكون صديقي. - إني صديقك فأود أن أتعرف بك، فهل تتفضل باسمك الكريم؟ - اسمي جورجي آجيوس. - منزلك؟ - هذا الفضاء الواسع، وإنما تجدني غالبا في «قهوة الشيشة»، فهل تذهب إلى هناك؟ - لا، ولكني أذهب لأجلك وإن كان لا مأرب لي «بالشيشة». - اسمك الكريم؟ - يوسف براق. - لم تقل لي لماذا أنت هنا. - إني متهم غلطا ومتى استجوبوني برأت نفسي. - لا أشك أن مثلك لا يؤتى به إلى هنا إلا بالغلط.
عند ذلك انفتح الباب، وكان شرطي ينتدب السجناء واحدا بعد الآخر.
نقص القانون
كانت الساعة التاسعة حين جيء بيوسف إلى المأمور، وبعد أن ألقى عليه الأسئلة المعتادة سأله: لماذا جيء بك إلى هنا؟ - ائذن لي يا سيدي أن أكون وحدي معك؛ لأني أود أن يكون التحقيق سريا.
وبعد جدال قليل أمر المأمور من في مكتبه أن يخرجوا، وجعل يوسف يقص عليه الحادثة بالتفصيل، فروى له ما عرفه القارئ منها إلى أن كان على السطح فوق شباك، وكان يسمع كلاما صادرا منه فقال: ولما لم أستطع تفهم الكلام فكرت بطريقة لسماعه، وكان قرب ذلك الشباك شرفة «بلكون» فخطر لي أن أنزل إليها، وقد نبهني إلى هذه الفكرة ما عثرت عليه من الحبال المنصوبة على السطح لنشر «الغسيل»، فحللت بعضها وطويتها ثلاثا وعقدتها عقدا، وربطت طرف مثلوثها بأسفل العمود الذي كان الحبل مربوطا بأعلاه، وأدليت الطرف الآخر، ثم نزلت بواسطته إلى زاوية الشرفة؛ حيث لا يراني أحد ولا يشعر بي، وكان الشباك الذي يصدر منه الكلام قريبا جدا من زاوية الشرفة، فجعلت أتسمع.
وهنا روى يوسف بعض الحديث الذي علمه القارئ، وقال: ولما أدركت أني في خطر أسرعت وصعدت، وما بلغت إلى السطح إلا رأيت نفسي بين يدي بربريين وهما يستصرخان الخفير للقبض علي، فحاولت الإفلات منهما ولكني ما لبثت أن وقعت بين يدي الخفير، ولم أدر كيف وجد هناك في تلك اللحظة.
فقال له المأمور: سنرى كيف وجد الخفير هناك حينذاك.
وفي الحال استدعى الخفير، وأمره أن يروي حكاية قبضه على يوسف، فقال الخفير: كنت أتمشى في نقطتي فرأيت شبحا في الفضاء بين سطحي منزلين، فاستغربت أمره ورغبت أن أعلم سره؛ لأني توهمته طائرا، ثم ما لبثت أن رأيته قد مشى إلى أحد السطحين، وجعل يطوف عليه متسرقا فازدادت ريبتي فيه، ثم جعلت أنعم النظر في ما بين السطحين؛ لكي أعلم كيف انتقل من الفضاء إلى السطح، فلم أقدر أن أرى شيئا؛ لأنه لم يكن من نور إلا نور النجوم الضئيل، وما زلت أراه يظهر ويتوارى حتى ازددت رغبة في معرفة سره، فدخلت من بوابة المنزل، وصعدت إلى السطح بكل هدوء، فلم أجد أحدا، فجعلت أطوف فيه، ثم قرعت على باب غرفة من غرف السطح، فخرج منها بربريان فسألتهما في الأمر، فقالا: إنهما لم يشعرا بوجود إنس ولا جن، ثم تفرقنا جميعا في السطح نبحث عن ذلك الشبح، وتقدمت إلى الخلاء الذي بين السطحين لأرى كيف كان ذلك الشبح في الفضاء، فوجدت لوحا ملقى على السطحين، ففهمت أنه كان يعبر عليه من سطح إلى سطح، عند ذلك استصرخني البربريان، فأسرعت ووجدت هذا الفتى يحاول الإفلات منهما، فقبضت عليه وسقته إلى هنا صاغرا. - عافاك الله، لقد قمت بالواجب عليك خير قيام، اخرج الآن.
ولما خرج الخفير قال المأمور: إن حكاية الخفير تنطبق على حكايتك تماما، وقصتك معقولة، ولكنها لا تنفي الشبهة عنك. - أي شبهة يا سيدي؟ - شبهة التلصص. - ولكني رويت لك الحقيقة عن سبب تلصصي. - إذا كنت صادقا فيما رويت، فقد كنت متطفلا فيما لا يعنيك. - بل أعتقد أني فعلت الواجب علي. - لا واجب عليك . - يا لله، لم يعلم أحد غيري بالضيق الذي كانت فيه الفتاة؛ ولهذا حسبت نفسي مسئولا عن خلاصها. - هل عينتك الحكومة جاسوسا على الناس؟ - لا. - إذن لا مسئولية عليك، وليس في القانون ما يحملك أقل مسئولية. - نعم لا مسئولية قانونية علي، ولكن علي مسئولية أدبية. - نحن هنا لا نفهم إلا القانون الذي سنته الحكومة. - إذن القانون ناقص.
فضحك المأمور قائلا: لك أن تقدم هذه الملاحظة للحكومة، وتقترح عليها سن قانون يخولك التلصص على الناس، ولكني أثق أن الحكومة لا تفعل شيئا من هذا القبيل؛ لأن الناس أحرار في منازلهم.
فتغيظ يوسف وقال بحدة: إذن القانون يترك الفتاة فريسة لذلك الذئب؟ - لا، بل القانون يعاقبه على افتراسه لها. - ولكن شبح القانون لم يكن حاضرا ليردعه عن فريسته، ولو لم أكن أنا هناك وأتهدده لافترسها. - لو افترسها وثبت افتراسه لها لعوقب. - ولكنه قد يغويها ويفترسها ثم ينجو من العقاب، فإذن قد يعجز القانون عن حماية الفتاة من شره، ولم يبق من منقذ لها إلا العناية الإلهية، وأنا أعتقد أن العناية الإلهية استخدمتني لإنقاذها.
ففكر المأمور هنيهة ثم قال: أقول لك: إننا هنا منفذو قوانين لا مشترعون، والقانون يقضي علي بأن أكتب «محضرا» بهذه الحادثة، وبعد ذلك تقول ما شئت في المحكمة، وللمحكمة وحدها الحق بالنظر في قضيتك، قلت: إنك تهددت الرجل فبماذا تهددته؟ - شهرت عليه «مسدسا» لإرهابه وردعه، ولكني لم أطلقه. - أين المسدس؟ - رميته على السطح، وأعتقد أن أحد البربريين أخذه.
بعد أن كتب المأمور المحضر انصرف يوسف.
تناظر المنطاد وورقة الشجرة
بعد أن اشتغل يوسف براق في البنك الأميركاني أسبوعا، انفرد به المسيو سرار الذي كان يشغله في مكتبه، وقال له: لقد كلفني جناب المدير أن أبلغك أمرا لا أدري إن كان يسوءك. - ماذا؟ - يتأسف جنابه شديد الأسف بأن يبلغك أن لا وظيفة لك في البنك الآن، فإذا فرغت في المستقبل وظيفة لائقة بك استدعاك إليها؛ لأنه مقتنع بأهليتك، وإني متأسف يا مسيو براق أن أكون مبلغك رغبة جنابه، ولكن ما على الرسول إلا البلاغ، ولي الأمل أن تثق بإخلاصي وأسفي، وهذا تحويل على الخزينة بأجرة الأسبوع.
فشكر يوسف للمسيو سرار تلطفه، ومضى وبعد أن تردد هنيهة ذهب إلى المدير وسأله عن سر عزله، فلم يشأ المدير أن يفاوضه بهذا الموضوع، بيد أنه أبلغه أن لا وظيفة له حينئذ، وأنه إذا خلت له وظيفة استدعاه إليها؛ لأنه لا ينكر أهليته.
على أن يوسف خرج كاسف البال غير مقتنع بأن سبب عزله الاستغناء عنه، وما إن ابتعد قليلا حتى أدركه فتى من زملائه في البنك يدعى خليل نادم، وهو فتى ذكي الفؤاد وسيئ البخت كيوسف، وجعل يماشيه في سبيله، وفي أثناء ذلك قال له: أحقيق يا مسيو براق أن المدير أبلغك عدم الحاجة إليك؟ - كيف عرفت ذلك يا خليل؟ - كل المستخدمين في دائرة الترجمة كانوا يلغطون بذلك. - إذن لا بد أن تكون قد عرفت السبب. - أما عرفته أنت؟ - لم يذكر المدير لي سببا غير أن لا وظيفة لي، ولكني لم أقتنع بهذا السبب، وأنا أرى أن الشغل أكثر من الكتبة في دائرة الترجمة، أفما فهمت من لغط الكتبة شيئا؟
فسكت خليل فقال يوسف: يلوح لي أنك تعلم شيئا، فماذا كانوا يتحدثون؟ - ألا تعرف القول السائر «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»؟ - إذن تخاف أن تقول. - نعم؛ لأن الدسائس تكثر في كل دائرة بقدر كثرة عمالها، وأنا عرضة لأخطار هذه الدسائس.
فتوقف يوسف عن التمشي، كأنه تنبه لأمر يغفل عنه وحملق بالفتى قائلا: علام الدسائس؟ - الأفضل أن نتمشى في طريق آخر؛ لئلا يتبعنا بعض الكتبة ويسيئوا الظن بنا. - لا يهمني سوء ظنهم؛ لأني لن أعود إلى هذا البنك إذا كان دار دسائس. - أما أنا فيهمني؛ لأني مضطر إلى الاستخدام، وأخاف على وظيفتي من خيال مزاحم. - يا لله! أتستمسك بوظيفة ستة جنيهات، وأنت تستحق اثني عشر جنيها؟! - أستمسك بوظيفة أربعة جنيهات ما دمت لا أجد سواها. - لم تقل لي ماذا كانوا يلغطون بأمري. - تقول: إنه لا يهمك الرجوع إلى البنك؛ فاعذرني إذا لم أقل لك شيئا؛ لأني أخاف مغبة القول. - بل أود أن أتلقن درسا جديدا، فأتعهد لك بشرفي أني لا أبوح بكلمة مما تقول؛ فقل.
فتردد الفتى وهو يقول: الحق عليك. - بماذا؟ هل قصرت بواجباتي؟ هل عجزت عن ترجمة شيء؟ - كلا، بل بالعكس كنت تعمل أكثر من واجباتك، وتحسن الترجمة أكثر من كل واحد. - إذن كيف يكون الحق علي؟ هل ارتكبت وزرا من حيث لا أدري؟ - نعم، ذنبك أنك تشتغل أكثر من سواك، وعملك أحسن من عمل غيرك، فلو كنت أقل علما واجتهادا لكنت أرسخ قدما في وظيفتك. - أستغرب ما تقوله ولا أفهمه؛ لأني كنت أبذل جهدي في إعجاب رؤسائي وإرضائهم. - إن ما تظنه إعجابا وإرضاء لرؤسائك يحسبونه إغضابا، بل ذنبا تستحق عليه الطرد؛ فأنت الجاني على نفسك. - يا لله! لم أفهم بعد معنى قولك هذا. - أستغرب أنك لا تفهم. - لا أقدر أن أفهم ما يخالف السنة الطبيعية، أفهم سر وقوع ورقة الشجرة إلى الأرض، ولكن إذا قلت لي: إنك رأيتها تصعد إلى السماء، فلا أفهم ولا أصدق؛ لأن صعودها مخالف لناموس الطبيعة. - وإذا رأيت المنطاد يصعد إلى السماء؟ - أعلل صعوده بسنة الطبيعة أيضا. - إذن يمكن حدوث أمرين متخالفين، وتعليل حدوثهما بسنة الطبيعة. - من غير بد. - فاعلم إذن أن للأمور الأدبية سننا كسنن الأمور الطبيعية تماما، ولو كانت ورقة الشجرة تحس وتعقل لكانت تغضب من المنطاد، حتى ولو كان صاعدا بها إلى السماء.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: إنك يا أخي لفيلسوف في الأمور الاجتماعية، تعني أن رؤسائي يغضبون من إظهار براعتي واجتهادي، ولو كنت أنجز مضاعف الشغل الذي يكلفونني به؛ لأنهم ... - نعم؛ لأنهم يخافون أن تصعد فوقهم كصعود المنطاد فوق ورقة الشجرة. - ولكني أقسم لك بشرفي أني لم أضمر قط مزاحمتهم في مناصبهم، بل لم يخطر لي إلا تجنب ذلك. - هل تنكر أنك كنت تود إظهار كل أهليتك حتى تترقى؟ - لا أنكر ذلك، ولكني كنت أطمع أن أترقى إلى وظيفة يخليها من هو فوقي إلى من هو فوقه، فهم السابقون ونحن اللاحقون. - ولكنهم ليسوا قارئي نيات وأفكار حتى يثقوا أنك لا تزاحمهم، ولو أقسمت لهم بالله وبرسله وأنبيائه ما صدقوك، بل ما كانوا يصدقون إلا أنك تبذل جهدك في مزاحمتهم، وهب أنك كنت تنوي ما تقول فمدير البنك إذا رأى أنه ينتفع منك أكثر من رئيسك يجعلك فوق رئيسك رضيت أو لم ترض، وهذا ما يحسبون حسابه مهما كنت أنت طيبا وحسن النية. - عجيب أن يعتقدوا ذلك. - بل عجيب ألا يعتقدوا ذلك. - لماذا؟ - لأنك كل يوم كنت تهددهم ألف مرة.
فبهت يوسف لهذا الجواب وقال: يا لله! إنك تكذب أو إنك تعني غيري. - بل أعنيك أنت يوسف براق. - متى تهددتهم؟ - حين كنت تناقشهم في أغلاطهم. - بل هم كانوا يصلحون جوابي بغلطهم، وأنت كنت تسمع وترى، هل كان المسيو سرار محقا اليوم بتنقيحه ضمير «سن»، وجعله مذكرا، فهل ترتاب أنت أنها مؤنثة؟ انظر في أي قاموس شئت. - أعلم أنها في القاموس مؤنثة، ولكنها في قاموس البنك يجب أن تكون مذكرا؛ لأن المسيو سرار رئيسنا يريدها كذلك. - لا بأس من هذه، ولكن ما قولك في الأغلاط الأخرى الفرنساوية والإنكليزية التي كان يرتكبها سرار وغيره. - هنا في الشارع الحق معك فيها، وأما في البنك فالحق في جانب المسيو سرار وغيره من الرؤساء. - لو كان المسيو سرار يرتكب هذه الأغلاط في ترجماته ما كنت أتعرض له؛ لأني لست مسيطرا عليه فهو حر أن يترجم كما يشاء، ولكنه كان هو وغيره ينقحون ترجماتي، فيقلبون الصواب خطأ فظيعا لا يطاق، فلا ألام إذا كنت أناقشهم لكي تكون ترجماتي بليغة فصيحة خلوا عن الخطأ. - نعم تلام؛ لأنهم رؤساء وأنت مرءوس. - كلا، لا ألام؛ لأني لو كنت أسلم بإصلاحهم - وهو خطأ فظيع - لكنت أثبت عدم أهليتي. - بل بالعكس لكنت تثبت أهلية عظمى لو كنت تعترف لهم بسمو علمهم على علمك. - هذا ما لا قبل لي عليه، لا أستطيع أن أجاري الجهلة على جهلهم. - وهم لا يستطيعون مجاراتك في صعودك فوقهم، فاعذرهم إذن. - تعني أني أعذرهم على سعاياتهم ضدي. - نعم ، نعم اعذرهم.
وبعد سكوت هنيهة قال يوسف: هل لك أن تقول لي يا خليل: من كان الساعي ضدي؟ - كلهم، وكلهم الآن فرحون بأنهم أبعدوك من البنك؛ لأنهم كانوا يخافون من رسوخ قدمك، وإعجابك للرؤساء الكبار؛ لئلا يقدموك عليهم، فهل فهمت غلطك الآن؟ - فهمته، ولكن لم يكن في وسعي تجنبه. - لأنك حر، وحرية الضمير جناية على المرء. - هل تعلم إن كان المسيو بولس المراني من جملة الذين سعوا ضدي؟ - الحق أني لا أدري شيئا من نحوه، فقد يكون منهم؛ لأنه الرئيس الأعلى «لقلم» الترجمة كما لا يخفى عليك، و... - ماذا؟ قل ما تعرفه وثق أني لا أقول كلمة. - إني واثق بصدق طويتك يا مسيو براق، ولولا صدق مودتي لك ما كنت أخاطبك بهذا الموضوع، فلا أخفي عليك أني وجدت بالصدفة بين الأوراق التي على مكتب بولس أفندي المراني شطري ورقة، وقرأت فيهما سطرين بإمضائك، فهل كان مراني أفندي موكلا بامتحانك قبل تعيينك؟
فعض يوسف على شفتيه، وقال: لقد سبق السيف العذل، دعنا من هذا الموضوع يا أخي؛ فقد عرفت ممن جاءت الضربة. - أتظن أنها جاءت من بولس المراني؟ لم أزل في شك من ذلك؛ لأن بولس أفندي مشهور عندنا بطيب عنصره. - مهما يكن الأمر فقد كان ما كان، ولكن ألا ترى يا خليل أني مظلوم؟ - لا شك عندي في ذلك؛ لأني أعتقد أنك أقدر من كل من في هذا البنك وأهل لأعلى وظيفة فيه وأطيب قلبا وأصدق نية من كل زملائنا، ولكن هل تنتظر من الناس أن يعدلوا مجانا، أو أن ينصفوا عفوا ويرحموا بلا سبب؟ - كأنك تقول لي: إن كل شيء يجب أن يكون بثمن أو جزاء، حتى الحق يجب أن يباع ويشرى، والمرء لا يعدل عن الكذب إلا إذا كوفئ على الصدق، ولا يجنح عن الخيانة واللؤم إلا إذا كان يقبض ثمن الاستقامة غاليا. - نعم، نعم يا يوسف، لا يتبع أحد الحق لأجل الحق، ولا يصدق أحد لأجل الصدق، ولا يستقيم لأجل الاستقامة. - إني أتعجب ممن يصعدون إلى قمة النجاح على سلم الظلم واللؤم والكذب والخيانة. - لا تتعجب يا صديقي؛ فإن الإنسان مسلسل من الحيوان الذي اضطره تنازع البقاء إلى الحيلة واللؤم والغدر والخيانة، والناس كالحيوانات ينازعون بعضهم بعضا، وجميع هذه الرذائل أسلحة لهم. - إذن لماذا يتبجحون بالنواميس الأدبية ويدعون حيوية الضمير؟ - ما هذه النواميس إلا قيود يقيد المستقيمون أنفسهم بها، وأما الأغرار فيعتقدون أن الناس في تنازعهم كأنهم في حرب عوان، والحرب تجيز اتخاذ كل وسيلة للغلبة. - لا أعتقد أنهم يغلبون أخيرا. - عجبا يا يوسف! أما رأيت أن المنافقين فازوا عليك وأنت الصادق المستقيم؟
فوجم يوسف وانتفض متغيظا، وقال: كأنك يا هذا تحرضني على التذرع بالرذيلة إلى النجاح. - كلا، كلا لا أحرضك على ذلك، بل أمتدحك إذا لازمت جانب الاستقامة ولو بقيت في الحضيض، وإنما أقول لك: إن ذلك هو الواقع، الأشرار يقومون والأبرار يسقطون؛ فإن كنت تبتغي النجاح فاسلك إليه من طريق الشر؛ فهو أقصر وأقرب، وإلا فلا تطمع به عاجلا.
فحرق يوسف الأرم وزمجر متغيظا، وقال: يا لك من عهد يترأس فيه الغبي الجاهل، وينجح الماكر المخاتل، ويسعد اللئيم، ويشقى المستقيم! فالحرب بيني وبينك أيهذا العصر المعوج، فإما أن تقلبني أو أقلبك.
غرائب القدر
كانت الساعة الثامنة مساء حين ازدحم أول شارع كلوت بك من جهة الأزبكية بالمركبات، بعضها مركبات نقل وبعضها مركبات ركوب، وبعضها مركبات كهربائية، فحدث اصطدام خطير لولا العناية الإلهية لأفضى إلى حادثة مشئومة.
وتحرير الخبر أن مركبة كانت تقل فتاتين إحداهما بقبعة والأخرى «بحبرة»، واتفق أنه كان وراءها بعض مركبات وقطار كهربائي، وأمامها بعض مركبات نقل، فحاول حوذيها في أول الأمر أن يتجاوز مركبات النقل التي أمامه، ولكنه رأى قطارا كهربائيا مندفعا نحوه وكاد ينطح جوادي مركبته، فما لوى عنانه حتى رأى مركبة أخرى من ورائه قد اندفعت إلى جانبه الأيسر، فلوى العنان إلى أيمنه، والظاهر أنه ارتبك والجوادان جمحا، واندفعا إلى الرصيف فأصبحت عجلتا المركبة اليمنيان على الرصيف والعجلتان الأخريان ما زالتا في أرض الشارع، فارتعبت الفتاتان ووقفتا ووثبت ذات الحبرة إلى الرصيف، وكان الحوذي حينذاك يلوي عنان الجوادين إلى الشارع، فرامت الفتاة ذات القبعة أن تثب فلم تستطع؛ لأن المركبة مثقلة بها من الجانب السفلي، فانقلبت المركبة بالفتاة وأصبح نصف الفتاة بين العجلتين، وكادت العجلة الخلفية تمر عليها لو بقي الجوادان يندفعان إلى الأمام، وفيما كانت الفتاة تصرخ من الرعب معتقدة أن أجلها سينقضي في تلك اللحظة، شعرت أن قوة هائلة ترفع جانب المركبة عنها، والفتاة الأخرى رفيقتها تستخرجها من تحت المركبة.
كل ذلك حصل في بضع ثوان.
وقفت الفتاة وهي تصرخ: «رجلي رجلي، انكسرت رجلي.» وكانت في الوقت نفسه تنظر إلى القوة التي رفعت المركبة عنها، فرأت فتى يجاهد في تقويم المركبة، والحوذي الذي انقلب من المركبة أيضا نهض، وجعل يعاونه إلى أن اعتدلت المركبة في مكانها.
وكان جمهور من الناس قد تجمهر، وبينهم شرطي يأمر الحوذي بالذهاب إلى القرقول.
أما الفتى فانعطف إلى الفتاة يستعلم منها عما أصابها، فأمسك بيدها قائلا: ألا تستطيعين أن تنقلي رجلك؟
فنقلها ومشت خطوتين قائلة: أظن رجلي سليمة من الكسر ولكني أشعر بألم. - الحمد لله أنها سليمة؛ لأن المركبة لم تضغط عليها إلا لحظة أو أقل من لحظة. - إني ممتنة لتداركك الخطر الذي داهمني، بربكم مركبة أخرى تأخذني إلى بيتنا، وفي الحال استدعى الفتى حوذيا آخر فأخذ الفتاتين.
وكان الفتى بطل روايتنا يوسف براق، أما الفتاة فكانت ليلاه، ولكنه لم يعرفها إلا وهي تستقل المركبة، فتراجع إلى الوراء كأنه استكبر أن تعلم بوجوده هناك في تلك اللحظة، ولكن الظروف ساقته إليها كأن الأقدار تمهد الطريق لإيجاد علاقة بينه وبين الفتاة.
بارقة أمل
في ذلك المساء نفسه عاد يوسف إلى حي الأزبكية.
وفيما هو قادم إلى سبلندد بار شعر بيد تقبض على ذراعه، فالتفت فرأى صديقه نجيب المراني، وهو يقول له: إني أبحث عنك.
فبغت يوسف قائلا: لماذا؟ - تعال نجلس ونتكلم.
فجلسا وقال نجيب: أستغرب يا صاح أنك لم تعد تزورنا قط مع أني كنت أنتظر زيارتك لكي أقوم بخدمة لك، ولكن يلوح لي أنك تريد أن تستغني عن خدم أصدقائك.
فابتسم يوسف مكفهرا قليلا، وقال: بل بالعكس لا غنى لي عن فضل أصدقائي، ولكني لا أريد أن أثقل عليهم. - إلى الآن لم تثقل بأمر، وليس في خدمتك خسارة كبيرة ولا صغيرة، فأرجو أن لا تبالغ في تجنب ما تحسبه تثقيلا، إلا إذا كنت أنت لا تريد أن يثقل عليك صديقك بأمر. - بل أود أن أستطيع خدمة لكل صديق. - علمت أنك تركت الخدمة في البنك الأميركاني. - من أبلغك ذلك؟ - الذي بشرني بأنك استخدمت في ذلك البنك. - من؟ - عمي بولس.
فاكفهر يوسف وسكت، فاستأنف نجيب الكلام قائلا: إني أستغرب أن قدمك لم ترسخ هناك مع أن البنك جديد، وأشغاله تتسع يوما فيوما، ولا غنى له عن مستخدمين جدد، ولمثلك مستقبل كبير فيه. - ماذا قال لك عمك عن سبب تركي البنك؟ - لم يعلم عمي حقيقة السبب، ولا درى بالأمر إلا بعد وقوعه، والآن هل وجدت شغلا؟ - كلا، ولم أزل أبحث عن شغل. - لقد وجد عمي وظيفة موافقة لك في مصلحة التنظيم، وأوصى بك صديقنا سليم أفندي هيزلي الموظف هناك، وهو صاحب نفوذ وفي وسعه أن يضمن تعيينك في الوظيفة، وهاك بطاقة من عمي لهيزلي أفندي، فاذهب إليه وإني أرجح أنك تنال الوظيفة.
فتناول يوسف البطاقة وقرأ فيها ما يأتي:
عزيزي سليم أفندي هيزلي، حامل هذه البطاقة يوسف أفندي براق الذي أوصيتك به، وقد جمع المعرفة الواسعة والعقل الراجح والقلب الطيب، ومتى قابلك يبرهن لك على صدق قولي، فإذا كنت تساعده بكل قوتك تكون قد قلدتني جميلا عظيما.
بولس المراني
فخفق فؤاد يوسف لهذه التوصية، وقال في نفسه: هل يصدق هذا أو يمين؟
ثم قال لصديقه نجيب: إني أمتن جدا لفضل عمك، ولا أدري كيف يحق له أن يكتب هذه الفقرة وهو لا يعرفني؟ - يقول: إنه عرف أهليتك جيدا، وقد حاول أن يقنع المدير بردك إلى وظيفتك في البنك الأميركاني فلم ينجح. - لا بد أن يكون قد علم بعدئذ سبب عزلي. - من طبع عمي تقليل الكلام، وتحاشي القال والقيل؛ ولهذا لم يبحث كثيرا في الأمر، وجل ما علمه أن بعض الموظفين في قلم الترجمة كانوا يتذمرون من وجودك، والظاهر أنهم أقلقوا المدير بالشكوى منك. - ألم يقل عمك ماذا كانت شكواهم؟ - يظهر أن لا شكوى حقيقية لهم، وإنما الحسد - قاتله الله. - هل يعتقد عمك ذلك؟ - هذا ما فهمته منه، ولو كنت قد أخبرته بشيء من ذلك قبل صدور أمر المدير لقاوم مقاصدهم، فلماذا لم تتردد إليه؟ - لم أعرف أنه عمك إلا بعد حين.
الجارة الرسولة
عاد يوسف إلى غرفته مرتاح النفس من جهة مسترزقه؛ لأنه أمل أن يحصل على الوظيفة في مصلحة التنظيم، على أن حادث ذلك المساء شغل كل لبه وقلبه.
كان في الأيام التي مرت يتناسى تلك الذات التي احتفرت منزلا في فؤاده، حتى كاد ينساها، ولكن حادث المركبة كان كلفحة هواء هبت على جذوة نار خابية تحت الرماد، فسفت الرماد عنها وجعلت تضرمها حتى ألهبتها.
لم يهجع يوسف تلك الليلة؛ لأنه كان كلما أغمض جفنيه متوسلا إلى الكرى لاح في مخيلته طيف تلك الذات، وقال للكرى: «لا يسع هذا الحيز اثنين في وقت واحد، فإما أنت وإما أنا.» فكان الكرى نافرا والطيف أنيسا.
وكان ذهن يوسف يتعقل تلك الذات فيراها تترقى رويدا رويدا، حتى ملأت فضاء خياله، وأخيرا قال في نفسه: «أين أهل الثرى من أهل الثريا؟» ثم عاد ذهنه من ذلك الفضاء الواسع وهو يتعثر بين هضبات الآمال، فيرقى هضبة من رجاء ثم ينحدر إلى وهدة من يأس.
قد يود القارئ أن يطلع على كل ما دار في خلد يوسف تلك الليلة؛ لكي يدرس فيه فلسفة الحب، ولكن لو طلبنا إلى يوسف أن يدون ذلك على الورق ما بقي في هذا الكتاب محل للحكاية.
كانت مخيلة يوسف تلك الليلة كالسينماتوغراف، تبدي وتعيد كل حادث ذي علاقة بالفتاة من حادث الترام الأول إلى حادث المركبة الأخيرة، وكان يقف عند كل حادث ويوسع نفسه لوما؛ لأنه أساء التصرف، ففي الترام خاشنها، وفي الطريق قرب منزلها تجسس عليها، وفي منزلها جافاها، وفي سبلندد بار نافرها، وفي حادث المركبة الأخير قلل الأدب؛ لأنه لم يرافقها حتى منزلها كحارس لها؛ لئلا يحدث لها في الطريق حادث آخر؛ أو لئلا يتعذر عليها الصعود إلى المنزل؛ أو لئلا يجزع أهلها لمباغتتها إياهم متألمة محتاجة إلى من تتوكأ عليه لتصعد.
كيفما قلب يوسف تصرفه وجده نموذج الهمجية والتوحش، ولم يكن ليخف عنه تعذيب ضميره على ذنوبه هذه، إلا إذا خطر له ما يعتقده من تصلف الفتاة وخيلائها.
طلع الصباح ويوسف لم ينم، فنهض ولبس ثوبه وخرج ينوي الذهاب إلى مصلحة التنظيم، وفيما هو خارج من باب المنزل السفلي رأى فتاة تحملق فيه، وهي مئتزرة بمئزر «بحبرة»، فنظر فيها كأنه يسألها إن كانت تريد منه شيئا، فقالت له: بونجور مسيو يوسف. - بونجور مدموزال، أتذكر أني رأيت هذا الوجه، ولكن متى وأين لا أتذكر. - في هذه الناحية طبعا. - نعم نعم، تقطنين في المنزل المجاور لهذا المنزل، يسرني أن أراك الآن؛ لأني لم أعد أراك منذ بضعة أيام، وكنت أود أن أختلس برهة لمقابلتك، فأين كنت؟
فاحمر وجه الفتاة، وقالت: تركت هذا المنزل. - وحدك؟
فأجابت متلعثمة: وحدي. - فعلت حسنا.
فاستغربت الفتاة حديثه، واضطربت قليلا وقالت: لماذا؟ - لأنك نجوت من الهاوية. - أية هاوية هذه؟
فغالط يوسف نفسه، وقال: أما أنت الفتاة التي كنت منذ نحو أسبوع تقطنين في هذا المنزل مع أمك ورجل؟
فاكفهرت الفتاة وقالت: نعم، وكنت أراك كما تراني. - إذن لماذا تنكرين الهاوية التي كانت أمك ترميك فيها؟
فازداد اظطراب الفتاة واحمرار خديها، وقالت: كيف ترميني أمي في هاوية؟ - أما كانت تريد أن تبيعك رخيصة لسافل زنيم؟ - هل روى لك أحد خبرا؟ - كلا إنما رأيت بعيني وسمعت بأذني.
فوجفت الفتاة، وقالت بصوت خافت: ماذا رأيت وماذا سمعت؟ - رأيت الزنيم كحية حواء يستغويك؛ ليرميك في هاوية الإثم الذي لا يغتفره الناس وإن اغتفره الله، وسمعت أمك تساوم ذلك الزنيم على طهارتك، هذا ما سمعت وهذا ما رأيت. - أين ومتى؟ - منذ نحو عشرة أيام تقريبا في نحو الساعة الثالثة بعد نصف الليل، في غرفتك رأيت وفي الغرفة المجاورة لها سمعت، فذاب فؤادي إشفاقا عليك.
فانتفضت الفتاة مدهوشة جازعة، وقالت: أنت ال ... - أنا هو الذي أنذرك و... - وتهدد ذلك الفاسق؟ - نعم. - وكيف نجوت من يد الخفير؟ فقد سمعنا البرابرة الذين على السطح يستصرخون الخفير ويقولون له: إنهم قبضوا عليك. - لم أنج من يده، بل ساقني إلى المخفر. - إني آسفة. - لا تخافي، برأتني المحكمة العادلة، ولكن ألم يخرج الرجل وأمك ليروا من هذا الذي كان يتجسس عليكم؟ - لا، وإني مستغربة ذلك. - لا تستغربي؛ لأن الأثمة يخافون أن يظهروا للناس فأحمد الله أنك نجوت. - ولكن ما معنى قولك: إن أمي كانت تساوم على طهارتي؟ - أما فهمت ذلك؟ - لا. - أما فهمت شيئا من علاقة ذلك الرجل بكم؟ - فهمت أن أمي تريد أن تحبب الرجل بي؛ لكي يتزوجني وأنا كنت أمانع.
فضحك يوسف مكفهرا وقال: لماذا تمانعين إذا كان الرجل يتزوجك زواجا شرعيا؟ - لأني لا أحبه ولن أحبه ولا أطيقه. - وهل كنت واثقة أنه سيتزوجك؟ - لم أكن أشك بذلك؛ لأنه كان يبذل جهده في إرضائي. - نعم ولكن لا ليتزوجك، بل ليقتنصك، وأقول لك: إن أمك كانت تساعده على اقتناصك.
فاسود وجه الفتاة واغرورقت عيناها بالدموع وقالت: آه أمي، أمي، لو كانت أمي.
فانتبه يوسف وقال: أما هي أمك؟ - أدعوها أمي، ولكنها بالحقيقة خالتي أخت أمي، والآن صرت أشك أيضا بأنها خالتي؛ لأن الخالة كالأم تضن بابنة أختها، ولا سيما إذا كانت قد ربتها منذ الصغر، إني أشكر غيرتك جدا يا مسيو براق، وأود منك ألا تفوه بكلمة مما سمعت ورأيت؛ لأني أود أن أنسى كل ما كان وقد مضى بلا أذى والحمد لله. - كيف عرفت اسمي؟ - لم يبق عندي وقت الآن، فاسمح لي أن أدفع لك هذه الرسالة وأنطلق قبل أن تراني خالتي هنا.
فتناول منها الرسالة، وهو يقول لها: ممن هذه الرسالة؟ - من سيدتي ليلى. - ليلى؟ - نعم ألا تعرفها؟ - لا. - يا لله، هل نسيت أمس؟
فبغت يوسف وقال: هل كنت معها؟ - نعم، أنا التي كنت معها ولم تنتبه لي؛ لأنك انشغلت بها.
ثم ودعته الفتاة منطلقة فقال: ألا تنتظرين جوابا؟ - كلا، فهل من جواب؟ - لا أدري، هل يمكن أن أراك غدا في مثل هذا الوقت وفي هذا المكان؟ - نعم إذا كنت ترغب في ذلك.
دوي وصدى
أما يوسف ففض الرسالة خافق الفؤاد وقرأ ما يأتي:
ليت الأقدار تفهم فكانت تغنيك عن تحمل مشقة، وتنقذني من عذاب أليم.
أنت تكلفت جهدا ضائعا، وأنا أقاسي ألما بلا مسكن، والذنب ذنب القدر الأعمى.
لولا المصادفة لوفرت أنت جهدا عنيفا، ولقضيت أنا واسترحت من عذابي.
حملتني تلك المصادفة دينا لك، فلا أنا أستطيع وفاءه ولا أنت تبتغي بذله.
فاحسب هذا الدين في جملة خسائرك، وأنا أحسب هذا الشقاء في جملة مصائبي.
لا تكن مشفقا كل حين، فقد يضيع إشفاقك مع غير أهله.
وقد تكون هذه الرسالة فضولا مني، ولكني فكرت طويلا فلم أر بدا من هذا الفضول؛ ليكون مبلغك شكري لك.
وكانت الرسالة بلا إمضاء كما كانت بلا عنوان. •••
وما انتهى يوسف من تلاوة الرسالة، وهو يتمشى حتى قال: «لله من كبريائك.»
وكاد يمزق الرسالة تمزيقا، ولكن أنامله لم تطاوعه، وبعد أن طواها ووضعها في جيبه استعادها وقرأها ثانية وثالثة، ثم قال لنفسه: «نسيت أن أسائل الفتاة عن رجل ليلى، تقول: إن اسمها ليلى، فهل أنا قيسها ولي منها عذاب قيس؟ شكت أمس من ألم رجلها، فلا ريب أنها تعذبت الليلة الفائتة، وتأرقت أرقي ولكن شتان بين أرقينا.» •••
ذهب يوسف إلى مصلحة التنظيم، ودفع بطاقة بولس المراني إلى سليم الهيزلي، فاستقبله هذا أجمل استقبال، وقال: لقد أوصاني بك المسيو نجيب مراني أيضا، يلوح لي أن أسرة المراني كلها تودك يا مسيو براق؛ ولذلك أحسب نفسي سعيدا إذا استطعت أن أقوم بخدمة لصديق يوده آل مراني هذا الود.
فشكر يوسف له تلطفه، وهو يشعر بوخز في ضميره من جراء ما ألحق ببولس المراني من الإهانة.
ولا نطيل الكلام على القارئ، فإن سليم الهيزلي قدم يوسف إلى مدير المكتب، وتوسل إليه أن يقبله في الوظيفة، فامتحنه المدير بنفسه، وأعجب بمعارفه وبصدق ما بدا من بواطنه، ولم يتردد في توظيفه، فكان يشتغل في المكتب تحت يد سليم الهيزلي؛ لأن هذا أقدم منه. •••
في ذلك المساء كان يوسف منزويا في إحدى القهوات، وهو يعيد تلاوة الرسالة الآنفة الذكر، ويتفهم معانيها كأنها إنجيله الذي يحتاج ترو، ثم تناول ورقة، وجعل يكتب تارة ويشطب أخرى، وبعد التنقيح استقر قلمه على الأسطر الآتية:
ليت الأقدار تفهم فكانت تمدني بقوة وسرعة تكفيان لتلافي تلك الحادثة قبل وقوعها، بحيث لا يبقى لي مسوغ أن أقترب منك.
أنا دائما ضائع الجهد، وإلا لاستطعت أن أوفر عنك ألما، ولكن الذنب ذنب القدر الأعمى فسامحيه وسامحي ضعفي.
حملتني تلك المصادفة واجبا لك، فأنا ضعيف عن القيام به وأنت تبتغين الاستغناء عنه، فأنا سيئ الحظ، وقد عداك سوء حظي، فليت في وسعي أن أزيل هذا السوء عنك.
فاحسبي هذا الحظ السيئ عارضا في حياتك، وأنا أضيف هذا العجز إلى سائر عجزي، ولو كان القدر يفهم وينصف لعداني ألمك، ولكن لا، لعله يفهم وينصف فلا يراني أستحق هذه العدوى.
لا تكوني حليمة؛ فقد يضيع حلمك مع غير أهله. ليتك أطنبت بالتأنيب، فهو عندي إيجاز والإيجاز لا يشبع نفسي
قد تكون هذه الرسالة جسارة مني، ولكني فكرت طويلا فلم أجد نفسي مستغنيا عن هذه الجسارة؛ لتكون ذريعة لشكر حلمك.
في صباح اليوم التالي كان يوسف في باب المنزل السفلي، وهو كل هنيهة يكشف الساعة، ويستبطئ الثواني حتى ضاق ذرعه قبل أن بدت له الفتاة المؤتزرة، فلما أقبلت عليه قال مبتسما: خفت أن لا تأتي. - الوعد دين يا مسيو يوسف. - هل عرفت ليلى بقدومك؟ - استأذنتها. - ألم تزل تتألم؟ - لا تتألم. - رجلها؟ - جاء الطبيب في الحال وفحصها، فقال: إنها مرضوضة رضا خفيفا جدا، فوصف لها مروخا أزال الألم حالا.
فاستغرب يوسف هذا القول المخالف لظاهر نص الرسالة، ثم قال: تنتظر ليلى جوابا لكتابها؟ - لا أدري. - هل فهمت ليلى لماذا أتيت أنت ؟ - قلت لها: إنك ضربت لي ميعادا.
فلم يرتح يوسف لأجوبة الفتاة المقتضبة، ثم قال: هل هي صديقتك؟ - نعم. - هل أنت جارتها؟ - بل مقيمة معها. - بأي صفة؟ - خادمتها. - خادمتها؟ لماذا ذلك؟ - ماذا أفعل؟ - هل ترضى أمك أو خالتك كما تقولين؟ - لا تدري حتى أعلم إن كانت ترضى؛ ولهذا لا أود أن أتأخر هنا؛ لئلا تصادفني فتأخذني إليها بالرغم مني، وقد ائتزرت بهذه «الحبرة» لكيلا تعرفني. - كيف اتصلت بليلى؟ - لما وجدت نفسي عرضة لذلك الذئب، حاولت الفرار من المنزل وذهبت إلى «المخدم» أطلب خدمة، وكانت ليلى هناك تطلب خادمة فذهبت معها. - هل عرفت ليلى بقصتك؟ - عرفت ببعضها، عرفت أني تركت أمي؛ لأنها تريد أن تزوجني ممن لا أريد فأشفقت علي وآوتني عندها. - هل أنت مرتاحة إلى خدمتها؟ - جدا؛ لأنها تعاملني كأخت. - عجيب. - أين العجيب؟ لو كنت تعرف ليلى ...
وكان كل جواب من أجوبة الفتاة كإزميل يعمل في فؤاد يوسف، فقال: فماذا؟ - لكنت تقول: إنها ليست كسائر البنات. - صدقت ليست كذلك. - إذن تعرفها؟ - لا، ولكن ماذا قالت عني؟ - لم تقل شيئا. - هل عرف أهلها بتفصيل الحادثة؟ - نعم، ولكنها لم تسم لهم الفتى الذي أنقذها ولا أنا فعلت؛ لأني لا أخالفها بأمر. - حسن، إذن أنت محتمية بها. - نعم، ومسرورة جدا تحت حمايتها. - لم تقولي لي اسمك. - هيفاء. - اسم جميل، هل يمكنني أن أراك غدا أيضا يا هيفاء، ولك مني الجزاء الذي تطلبين؟ - أفعل إذا لم تمانع ليلى. - ولا أنا ألومك إذا مانعت، هل تتفضلين أن تدفعي هذه الرسالة إليها وحدها؟ (وكانت الرسالة بلا عنوان ولا إمضاء.) - بكل سرور أفعل. - إني أمتن لك.
ثم افترق الاثنان هو إلى الجنوب وهي إلى الشمال.
التفسير حسب الظواهر
وكان طريق الفتاة من أمام منزل أمها «أو خالتها»، فما بلغته حتى رأت أمها تنزل من آخر درجة من السلم، فأسرعت وكان إسراعها منبها لظنون أمها، فأسرعت هذه وراءها حتى أدركتها بعد عدة خطوات ونظرت إلى وجهها قائلة: هيفاء، إلى أين يا شقية؟ وأين كنت؟ - لا شغل لك معي، لقد كتبت لك أني في سلامة فلا تبحثي عني، فدعيني في سبيلي.
ولكن المرأة لم تدعها تنطلق في سبيلها، بل صدتها وأرجعتها بالقوة محاسنة تارة ومتوعدة أخرى، حتى أدخلتها إلى المنزل، وهناك جعلت تلومها، وتعنفها تارة، وتلاطفها وتتملقها طورا حتى أقنعتها بالبقاء في المنزل، على أن هيفاء ما زالت تود أن تنتهز فرصة للفرار إلى ليلى؛ لكي تدفع لها الرسالة، فلم يتسنى لها الفرار في ذلك النهار عينه، على أنها أبكرت في فجر اليوم التالي؛ لكي تنسل من المنزل على نية أن تذهب إلى ليلى وتدفع لها الرسالة، وتعتذر عن عدم إمكانها البقاء عندها، إلا إذا كانت ليلى تجد وسيلة شرعية للاستمساك بها؛ لأن أمها أقنعتها أنها لم تزل قاصرة، وأنها لا تقدر أن تفعل حسب مطلق حريتها.
نهضت هيفاء لترتدي ثوبها، وأول ما خطر لها هو أن تبحث عن الرسالة في جيب ثوبها الذي كانت ترتديه أمس فلم تجده، بحثت عنه في كل مكان وفي غرفتها فلم تقف لها على أثر، فتحيرت في أمرها، ومع ذلك لم تعدل عن إزماعها إلى ليلى؛ لتبلغها ماذا جرى.
فما همت أن ترتدي ثوبها حتى انفتح الباب بغتة، ودخلت عليها أمها قائلة: لماذا تلبسين ثوبك الآن والوقت لم يزل فجرا؟ فإلى أين؟ - لست ذاهبة وإنما ... - ماذا؟ - أبحث عن شيء أعهده في جيبي ففقدته. - تعنين رسالة؟
فبغتت هيفاء، وقالت: أخذتها؟ - نعم، واكتشفت سرك منها. - سري أنا؟ - نعم سرك، إنك مجنونة لا تعرفين مصلحتك، وإلا ما كنت تفضلين هذا الفتى الأهوج على فهيم الذي لا يفرق عن الأمراء إلا بالاسم. - أي فتى تعنين؟ - أتظنين أني غبية مثلك، فلا أعلم أنك تحبين هذا الفتى المجاور لنا، وأنه يحبك ويستغويك، فأين كان يجتمع بك كل هذه المدة؟ وأين كنت مختبئة يا شقية؟ ألا تعلمين أنك ارتكبت وزرا لا يغتفر، وكدت تخسرين مستقبلك المجيد؟ ماذا حدث بينك وبينه؟ قولي لي؛ لكي أعلم كيف أتلافى مصيبتك.
فامتقع وجه الفتاة وخفق فؤادها جزعا، وقالت: إنك تسيئين الظن بي يا أماه، فلا علاقة لي بهذا الفتى. - اصمتي يا كاذبة، هل تنكرين أنك كنت معه أول أمس، وأنكما افترقتما أمام المنزل؟
فاقشعرت الفتاة وقالت: لم أكن معه إلا لحظة صباحا أمام باب منزله. - وما شغلك معه يا شقية؟ أتنكرين أنه يستغويك؟ - إنك تتهمينني به زورا يا أمي. - اصمتي، هل تنكرين هذه الرسالة التي أعطاك إياها؛ لكي تقرئيها على انفراد، وكلها تحبب وتذلل واستغواء؟
فكادت الفتاة تنكر أن الرسالة لها، ولكنها أمسكت نفسها عن الإنكار؛ لئلا تضطر أن تقول لمن كانت الرسالة، وهو أمر لا تريده ولو شنقت؛ لأنها خافت سوء المغبة على ليلى في حين أن ليلى أمنتها على سرها. - ما بالك صامتة؟! تكلمي، أجيبي. أما هو الذي سطا علينا تلك الليلة غيرة عليك وقد تجاهلت سطوه؟
فبقيت هيفاء صامتة واجفة؛ ولا سيما لأن أمها هولت عليها كل التهويل، وبعد سكوت هنيهة قالت أمها: هل شعرت الآن بغلطك الفظيع في انخداعك بهذا الفتى الأرعن الطائش؟ - تأكدي يا أماه أنه ليس بيني وبين هذا الفتى من علاقة البتة. - وهذه الرسالة؟ - أودعها في يدي وأنا لا أدري ما فيها، فإذا كان هو يتحبب إلي تحببا فما ذنبي أنا؟ - أين كنت كل هذه المدة؟ - قلت لك أمس: إني كنت خادمة في بيت المراني، فإذا لم تصدقي فاسأليهم. - ولماذا قابلت الفتى أمس؟ - بالصدفة قابلته. - اسمعي يا هيفاء، ما مضى قد مضى، فإياك أن تعيديه أو تذكريه أو تدعي أحدا يعلم أنك كنت خادمة عند أحد، أو أنه كانت لهذا الفتى علاقة معك؛ لئلا يعلم فهيم بالأمر فيفسد مشروعي الذي لا أقصد به إلا خيرك.
وجعلت تغريها على قبول فهيم ومحاسنته، وتحببها به حتى أثرت فيها بعض التأثير.
الحية وحواء
في آخر السهرة كان فهيم مجالسا تلك المرأة في غرفة وحدهما، وهما يتكلمان همسا، فقالت: ما معنى هذه المقاطعة يا فهيم؟ - وما معنى زيارتي يا نديمة والفتاة نافرة وقد هربت بسببي؟ - الفتاة صغيرة وجاهلة، وقد عادت من نفسها بعد أن كانت مختبئة عند الراهبات؛ لأنها شعرت بغلطها واليوم أقنعتها فاقتنعت. - اقتنعت؟ - نعم ولكن يجب أن تعدها بالزواج؟ - إنك لغبية وجاهلة، ألا تفهمين أني لا أقدر أن أتزوج؟ - فهمت ذلك؛ لأن لك عدة زوجات غير شرعيات.
فاختلج الرجل قائلا: كيف فهمت ذلك؟
فضحكت نديمة، وقالت: علمت أن لك زوجة في العباسية، وأخرى في الإسماعيلية، وشبه زوجة شرعية في المطرية، فلتكن هيفاء رابعتهن.
فضحك فهيم وقال: كيف عرفت كل ذلك يا شقية؟ - وهل كان لي شغل سوى أن أدرس أحوالك فقد عرفتها، فتزوج هيفاء وليس من يشترط عليك أن تترك الخليلات الثلاث. - متى صرت زوجا وصارت هيفاء زوجتي لا تقولين هذا القول؛ لأن عقد الزواج يكون سلاحا في يدك ضدي. - وإذا كان عقد الزواج مزورا؟
فبهت فهيم، ثم قال: هذا ما لم يخطر لي. - أما أنا فخطر لي أن آتي بثوب قسيس وقلنسوة، وأنت تأتي بأي رجل ذي لحية، فيلبس الثوب والقلنسوة. - الحق أنك داهية، وإذا عرف الأمر بعدئذ؟ - لن يعرف، ومتى صارت الفتاة في منزلك الخاص لا تعود تود الخروج منه، ولو عرفت أن زواجها كان مزورا، ولا سيما إذا بقيت أنا أقرأ النصح على رأسها.
فسكت فهيم وفكر هنيهة، ثم قال: إنك يا نديمة سر لا يدرك، ولكني أود أن أعلم سرك قبل أن أقدم على هذا المشروع، فقولي لي: ما علاقة هذه الفتاة بك؟
فضحكت نديمة وقالت: ابنتي. - تكذبين، قولي الحقيقة. - قلتها. - لا أصدق أن أما تفعل هكذا. - وإذا قلت لك: إنها ابنة أختي. - ولا ابنة أختك. - هذه هي الحقيقة، ولماذا لا تصدق؟ أليست الفتاة التي في المطرية خليلتك بعلم أمها ورضاها؟ - نعم ولكن لأم تلك أحوالا أخرى. - مثل أحوالي، تلك لم تكن زوجة شرعية وأنا لم أكن زوجة شرعية لأحد، وقد قضيت حياتي خليلة لواحد بعد آخر، كما أنت تقضيها الآن، وكما يقضيها كثيرون. - وتريدين أن تسير هيفاء في هذا السبيل؟ - ماذا يضرها أن تسير فيه كما سرت أنا فيه؟ وهل تطمع بأن تعيش أفضل من عيشتي مع أخلائي، وعيشة خليلاتك معك؟ - هبي أني تركتها بعد حين. - لا تتركها إلا وتترك معها ما يقيها الفقر. - أفليس الأفضل أن تزوجيها زواجا شرعيا من فتى كفء؟ - لا أجد الفتى الذي أعيش معه ومعها كما أريد، فقد تعودت أن أعيش عيشة الرخاء. - إذن تسعين إلى مصلحتك. - لا أظنك تلومني، وإلا فما كنت أعنى بتربيتها حتى صارت وردة جميلة أو ثمرة شهية، هل تلومني؟ - لا ألومك. - طبعا لا تلومني؛ لأن مبادئك تنطبق على مبادئي، وأحسب نفسي سعيدة بأني توفقت إلى صديق لا يستنكر مبادئي، فهل تستنكرها؟ قل، إنك حر الضمير. - لا أقدر أن أستنكرها؛ لأني جار عليها. - وكثيرون مثلنا يجرون عليها والدنيا لهؤلاء.
فضحك فهيم قائلا: ماذا تعنين؟ - أعني أن ما يسمونه مبادئ أدبية وفضيلة لا يجتمع مع الغنى إلا نادرا، دلني على واحد من أقرانك الأغنياء يسير في غير هذا السبيل. - لا أجد واحدا؛ ولهذا أستغرب تمسك الناس بهذه المبادئ الأدبية التي لا حرمة لها عند الأغنياء، فلماذا لا يلغونها حتى تتمتع كل طبقة بالحرية المطلقة؟
فضحكت نديمة قائلة: كأنك غبي لا تدري أن إطلاق الحرية لجميع فئات الناس، يزيل الحد الفاصل بين الغني والفقير وبين القوة والضعف وبين الاستعباد والعبودية، فلو تيسر أن يكون كل الناس أحرارا لكان نصيبك من التمتع عشر نصيبك منه الآن، فلا تقدر أن تتمتع ما لم يتقشف عشرة أشخاص غيرك، وهذه المبادئ التي يسمونها أدبية ليست إلا قيودا للفقراء؛ لكي يستحكم الأغنياء منهم لامتصاص دمائهم، والتمتع بإتعابهم.
فقهقه فهيم قائلا: أراك تتكلمين كاشتراكية، فلا أنت عاملة ولا أنا صاحب عمل، فلماذا تتعرضين لمسألة التنازع في الأمور الاقتصادية؟ نحن نتكلم بمسألة المبادئ الأدبية. - كل الأمور مرتبطة بعضها ببعض، ترى الفقير بل المتوسط يقمع شهواته ويحرم نفسه لذاتها، ويلزم جانب الاستقامة حتى ينال سمعة حسنة، ويذاع عنه أنه فاضل؛ فالفضيلة هي رأس ماله الوحيد، وبها وحدها يكسب ثقة معامليه؛ ولذلك تراه إذا قرب في سبيله من منتدى للفجور أو الخلاعة أو القمار تجنبه؛ لئلا يقال عنه: إنه فاسق أو خليع أو مقامر فيخسر ثقة معامليه ؛ وبالتالي يفقد مسترزقه ويعد ملوثا بالعار، وأما المثري المستقوي بماله فيقني الحسان كما يقني الجياد، ويتقلب بين الحانات وأندية القمار كأنه يتردد بين المعابد والمساجد، وليس من يجسر أن يفتح فمه بمثلبة به، بل يضطر المقربون إليه أن يبجلوه وينعتوه بجميع النعوت الحميدة كأنه نموذج الفضيلة. - لا أنكر هذا الواقع، ولكني لا أجد علاقة بينه وبين موضوع اهتضام الأغنياء للفقراء. - بينهما كل العلاقة؛ فإذا كان كل الناس أفاضل مستقيمين، وكل منهم قنوعا بحقوقه، فلا يكون ثمت هاضم ومهضوم، ولكن لما كان الناس اثنين متنازعين - الواحد شرير طماع والآخر فاضل قنوع - صار في وسع الأول أن يختلس حق الثاني حين يكون القانون غامضا ومنفذ القانون غافلا، أما الثاني فلا يستطيع أن يختلس حق الأول؛ لأن الفضيلة شكيمة لضميره تكبح نفسه عن الاعتداء على حق سواه، فترى أن الأول حر والثاني مقيد، وهما في ساحة نزاع؛ فالأول مستحكم من الثاني طبعا؛ ولهذا استقوى الأول بما اختلسه من الثاني فصار ذاك غنيا وهذا فقيرا، وذاك سيدا وهذا عبدا، وذاك فوق المبادئ الأدبية وهذا تحت نفوذها.
فبهت فهيم من تعليل نديمة، وتحمس في الرد عليها قائلا: لا أنكر أن الفضيلة قيد لذويها يضعفهم تلقاء قوة الأشرار، ولكني لا أسلم أن الطمع يفضي إلى الغنى دائما، ولا أن الفضيلة تقود إلى الفقر، فبين الفقراء أشرار وبين الأغنياء أفاضل. - ولا أنا قلت ما لا تسلم به كما أني لا أنكر هذا الاستثناء الذي تقوله، وإنما أقول لك: إن معظم الذين ادخروا الثروات الطائلة في حياتهم لم يحرز الواحد منهم جنيها، إلا كان أحد السذج المتمسكين بالفضيلة قد اشتغل مجانا شغلا يساوي الجنيه، فإذا لم يوجد في العالم كثيرون مثل هؤلاء السذج، فلا يمكن أن يجمع أولئك الطماعون تلك الثروات الطائلة.
فقهقه فهيم قائلا: «إذن فلتحي الفضيلة.»
فقالت نديمة باسمة: لا تهزأ بقولي يا فهيم، نعم، فلتحي الفضيلة، وليكثر الأفاضل السذج؛ لأنهم هم الأغنام التي تقتات بها ذئاب البشر. - كأنك تمثلين الأغنياء بالذئاب. - ليس الأغنياء كلهم ذئابا ، بل بينهم أغنام سمينة تأكلها ذئاب أخرى قوية، كما أنه ليس كل الأفاضل أغناما، بل فيهم ذئاب في جلود الأغنام يقفون في المعابد يضرعون ولكن لإله المال، ويصلون وهم يفكرون في استنباط المكايد لغيرهم، هم الفريسيون الذين قال عنهم الناصري: إنهم يعفون عن البعوضة ويبلعون الجمل، فهؤلاء أشر الذئاب، والحمد لله أنك لست منهم، بل أنت ذئب قوي لا يخشى أن يقتات جهارا بأغنامه.
وهنا قهقهت نديمة ملء شدقيها، وقهقه فهيم معها، ثم قال: والله إنك لفيلسوفة، وما كنت أظنك محنكة هذه الحنكة، فمن أين لك كل هذه الخبرة يا نديمة؟
فابتسمت قائلة: لقد اختبرت العالم جيدا يا فهيم، وذقت حلوه ومره، وكنت سيدة وأمة وذئبا ونعجة. - ولكنك خبيرة جدا بشئون الأغنياء. - لأني كنت خليلة غني. - أين؟ - هنا في مصر. - من هو؟ - لا أود أن أقلق راحته الآن في رمسه، دعنا منه. - دعينا منه، نعود الآن إلى هيفاء، أليس لها أهل يهمهم أن يعلموا مصيرها؟ - كلا لا تخف، ليس لها أهل غيري. - أبوها؟ أمها؟ - لا أب ولا أم. - عموم؟ أخوال؟ - لا يهتمون بأمرها. - من هم؟ - لا تسل عنهم. - أود أن أعرف أصلها وفصلها، وإلا فلا أجسر أن أقدم على المشروع الذي اقترحته. - لا تعقد المسألة يا فهيم. - ماذا يضرك أن تقولي من هم؟ إذا كانوا لا يهتمون بأمرها، فأود أن أعلم لمن أنتسب فيما لو صارت هيفاء حليلتي ولو بالرغم مني.
فاستبشرت نديمة بهذا الجواب وقالت: أطمئنك، إذا صارت هيفاء حليلتك فلا تخجل بمن تنتسب إليهم بل تفتخر؛ فاطمئن ولا تستزدني إعلاما. - يا لله قولي لي من هم أهلها والسر بيننا، فلعل لي في المسألة نظرا آخر.
ففكرت نديمة هنيهة ثم قالت: أخاف أن يضرني القول؛ فاعذرني وثق أني لا أخدعك؛ فالفتاة تنتمي إلى عائلة رفيعة الشأن، فإن اتخذتها حليلة لا تندم، وإن أردتها خليلة فلا يهمك نسبها ولا أنت مسئول، فثق بي وطاوعني، لست أخدعك. - لا أفهم لماذا يضرك القول وأنا أتعهد لك بشرفي ألا أبوح بكلمة، فثقي بي كما أنك تطلبين إلي أن أثق بك. - يضرني القول؛ لأن أهل الفتاة بعد أن أهملوها كل هذه المدة الطويلة عادوا يسألون عنها، أما أنا فبعد أن عانيت في تربيتها حتى أصبحت ثمرة يانعة لا أود أن أردها إليهم. - تودين أن تبيعي هذه الثمرة؟ - نعم، ولا أبيعها بخسة؛ ولهذا أقدمها لك، فلم أرب لغيري بل لنفسي، وأود أن أنال جزاء تعبي. - إذن كنت منذ الصغر تربينها لهذه الغاية؟ - نعم؛ ولهذا جاءت آية في الجمال، هل تنكر جمالها؟ - الحق أنها نادرة الجمال، وإلا لمللت علاقتي معك؛ فالفضل لك في جمالها إذن؟ - نعم نعم؛ لأن تربية الجمال فن، فلما رأيت أن جمالي زائل وأدركت أن نهايتي قد تكون تعسة جعلت أعنى بهذه الفتاة حتى أنفق ثمن جمالها في سبيل الاحتفاظ بسعادتي، فلا أظن أحدا يلومني على ذلك. - لا تلامين يا فيلسوفة، ولكن لماذا أهملها أهلها كل هذه المدة؟ - لأنهم لم يريدوا أن يتحملوا مشقة تربيتها بعد وفاة أبويها، فتركوها لي حتى أربيها، ولما كبرت وصارت نافعة لهم راموا أن يأخذوها. - فكيف استطعت منعهم من أخذها؟ - لم أستطعه إلا بالهرب بها إلى هنا. - لعلهم يبحثون عنها هنا. - لا يدرون أين نحن ولن يدروا، وقد احتطت لكل شيء، وأصبحت في مأمن تام منهم. - يلوح لي أنك أبدلت اسمك واسمها.
فضحكت نديمة وبقيت ساكتة، فقال: هل تعرف الفتاة أهلها؟ - لو كانت تعرفهم ما كنت أستطيع الاحتفاظ بها. - من هم يا ترى ومن أي بلد هم؟ - أرجو ألا تطلب أن تعلم أكثر مما علمت، ولنعد إلى المشروع الآن. - المشروع؟ سأفتكر به وأجاوبك قريبا.
تاريخ قديم
في تلك الأثناء جاء إلى مصر قسيس يدعى الأب أمبروسيوس، وقصد إلى بطركخانة طائفته، وقال للبطريرك: إنه جاء بمهمة كبيرة فيها خدمة للإنسانية وفائدة للكنيسة، فسأله البطريرك عن هذه المهمة.
فأجاب: جئت لأبحث عن فتاة أوصى لها جدها بميراث كبير، وقد كلفني بأن أبحث عنها بعد موته حتى إذا وجدتها وتولت ميراثها كان لي ألف جنيه جزاء بحثي، وبالطبع تئول الألف جنيه للكنيسة؛ فأرجو من غبطتكم أن تساعدوني في البحث عنها. - حسن، لا ندخر جهدا بذلك، ولكن لا بد من الاطلاع على معلوماتك حتى نستطيع البحث، فمن هي الفتاة ومن هو جدها؟ - جدها هو المرحوم الأمير صادق الخزامي المثري الكبير في دمشق. - سمعت باسم هذا الأمير، فمن أين كانت له الإمارة؟ - إمارته موروثة عن أجداده الخزاميين الذين كانوا أمراء قبيلة نصرانية في حوران، وقد هاجر الأمير نعيم الخزامي إلى دمشق، واستقر فيها، وحول ثروته إليها وأنماها، فأورث ابنه الأمير صادق ثروة طائلة جدا. - كيف فقدت هذه الفتاة؟ - لذلك قصة طويلة، روى لي الأمير صادق نفسه تفاصيلها، ولا بد من سردها لغبطتكم، ترمل الأمير صادق في أوائل عهد زواجه، وتركت له امرأته غلاما يدعى الأمير خليل، ثم تزوج بعد ذلك ريمة ابنة الشيخ ضامر من مشايخ نصارى حوران، الذين كانوا مقدمين بعد الأمراء الخزاميين، وكانوا يتمنون الانتساب إليهم، فولدت للأمير غلاما هو الأمير إبرهيم، ولا يخفى أن المرأة قلما تحب ابن زوجها من امرأته الأولى، ولا سيما إذا كان لها بنون، أما ريمة فلم تكن لا تحب الأمير خليلا فقط، بل كانت تكرهه وكانت شريرة وداهية جدا، وتريد أن تحصر إرث زوجها الطائل بولديها كما ظهر بعدئذ. - يا لله من شرها! - وقد شب البنون الثلاثة وكان الأمير خليل ذليلا جدا لسوء معاملة امرأة أبيه له. - وهل كان أبوه الأمير صادق راضيا عن ذلك؟ - لم تكن معاملتها السيئة لابنه ظاهرة، وكانت فائقة الدهاء، حتى أعمت زوجها عن الحقائق، فكانت تحول دون زواج الأمير خليل كلما سنحت فرصة لزواجه، كما أنها كانت تحول دون تربيته التربية الصالحة، فشب قليل العلم سيئ السلوك، ثم زوجت ابنتها وبقي ابن زوجها الأمير خليل بلا زواج إلى أن صادف فتاة في قضاء البترون، فتزوجها من غير أن يستشير أباه؛ لأنه كان يعلم أن ريمة تحول دون زواجه، فلما علمت ريمة بزواجه استشاطت وأعلنت نقمتها عليه بدعوى أنه تزوج فتاة من نسب دنيء، فاضطرت أباه أن يطرده هو وزوجته من المنزل، وأن يعيش وحده، وعين له راتبا صغيرا ليعيش به مع زوجته، فسكن الأمير خليل مع زوجته في منزل بعيد مضطرا، ولم يعد يتردد على دار أبيه إلا نادرا، ثم رزق الأمير خليل غلاما سماه يوسف فاشتعلت ريمة غيظا، مع أن ابنها رزق غلامين اسم الأول: فضل، واسم الآخر: سليمان، ولكنها كانت تروم أن لا يكون لنسلها شريك في الميراث.
وفي ذات ليلة وافى الأمير خليل إلى دار أبيه مرتعبا، ولما سئل عن أمره قال: إنه أحرج إلى مشاجرة بعض الناس بدعوى أنه سب السلطان وكادوا يقتلونه، ولكنه أفلت من بين أيديهم بعد أن طعن أحدهم بخنجر ولا يدري إن كان حيا.
وبعد مفاوضة قصيرة قر رأيهم على أن يهرب الأمير خليل من سوريا، وإلا كانت حياته تحت خطر لا يدرأ، وأعطاه أبوه مبلغا من المال وجوادا فهرب. - إلى أين؟ - قيل: إنه هرب إلى بيروت، وركب باخرة مسافرة إلى بلاد اليونان. - وهناك؟ - قال لي المرحوم الأمير صادق: إن ابنه الأمير خليل تجند بعد حين في الحرب اليونانية العثمانية، وقتل فيها، وحين هرب كان ابنه يوسف في التاسعة من عمره، وكان الغلام وأمه كقذى في عيني ريمة، فكانت تسيء معاملتهما جدا، حتى إن حنة البترونية أم الغلام يوسف لم تعد تطيق البقاء في دمشق تحت رعاية الأمير، فرأت العودة إلى أهلها في البترون، فأبى الأمير صادق أن تأخذ الغلام معها، فذهبت وحدها بعد أن زودها الأمير بالمال القليل؛ إشفاقا عليها؛ لأنها كانت في بدء حمل حينذاك، ثم علم الأمير صادق أنها ولدت ابنة فأرسل إليها بعض المال، وبعد ذلك لم يعد يقف لها على خبر؛ لأن ريمة كانت تحول دون ذلك. - يا لله من هذه اللئيمة! - ما اكتفت بذلك يا مولاي بل كانت متغيظة من وجود الغلام يوسف، فكان جده يبعده عنها دائما إلى المدارس، ولكن لما بلغ الغلام نحو الخامسة عشرة من عمره كان في الصيف في منزل جده، فجاء إلى الأمير ذات ليلة إنذار بأن الحكومة علمت أن للفتى صلة بجمعية تركيا الفتاة، وأنها ستقبض عليه؛ لأنها وجدت مع آخرين أوراقا تثبت عليه هذه التهمة، فأسرع الأمير وأرسله إلى بيروت، ومن هناك سافر الغلام إلى أوروبا، ومعه بعض المال، وبالفعل باغتت الحكومة منزل الأمير ووجدت فيه بعض الأوراق المشتبه بها، ولو لم يدفع الأمير الأموال الطائلة، ويثبت إخلاصه للدولة وعبوديته لجلالة السلطان ما نجا من هذه الحادثة. - لكن لماذا لم يتلف الفتى الأوراق قبل هربه؛ لكيلا يقع جده تحت الشبهة؟ - هذا ما لم أستطع أن أفهمه ولا فهمه الأمير، والذي لاح لي حين سمعت القصة أن في الأمر دسيسة من ريمة زوجة الأمير؛ لأنها كانت تود أن تدهور الغلام، ولما ذكرت هذه الملاحظة للأمير امتعض وتنهد كأن ضميره قد خالجه بذلك، والذي أظنه أن ريمة نفسها دست الورق ووشت بالغلام. - أولا تظن أن مسألة الأمير خليل بدسيسة أيضا؟ - ليس ببعيد أن تكون ريمة الشريرة قد دست أناسا يحرضون بعض المسلمين؛ لكي يتحرشوا بالأمير خليل حتى حدثت له تلك الحادثة المشئومة التي أدت إلى فراره. - ثم ماذا جرى بالغلام؟ - كاتب جده برهة ثم انقطعت رسائله عنه، أو أن ريمة وابنها كانا يمسكان رسائله عن جده، وهكذا انقطعت أخباره. - والآن أنت تبحث عن الفتاة ابنة حنة البترونية، التي ولدت في البترون. - نعم؛ لأن جدها كلفني بالبحث عنها، وتحرير الأمر أنه منذ بضع سنين استدعاني الأمير إليه سرا، وقال لي: إنه يشعر أن منيته قد دنت، وأنه يود أن ينقي ضميره قبل موته، وشكا لي سوء سلوك ابنه الأمير إبراهيم وسلوك حفيديه فضل وسليمان، فإنهما شبا على سيرة رديئة، وأبوهما لم يحسن تربيتهما؛ لأنه هو نفسه سيئ الأخلاق وكثير الموبقات، ومن أفعاله الشريرة أنه كان في منزله فتاة تعلم ولديه فضلا وسليمان وهما صغيران، فاستغواها، ولما قاربت تلد زودها ببعض المال، وردها إلى أهلها في بيروت، وكان لها ابن عم فجاء يطالبه بتعويض فأخذ منه مبلغا كبيرا، وقس على هذه القصة قصصا كثيرة، وابناه ينتهجان الآن منهجه، ومنذ أربعة أعوام هرب أحدهما «سليمان» إلى أميركا؛ لأنه كاد يؤخذ بخيانة للدولة، ولم يعد أحد يعرف مصيره، وفي أيام الأمير صادق الأخيرة كان إبراهيم وابنه فضل يبذرقان ثروة أبيهما، ويستدينان والأمير صادق يتألم من سوء تصرفهما، حتى كره ابنه وحفيديه؛ ولهذا استدعاني سرا وكتب وصيته موصيا بثروته لابنة خليل، ولأخيها يوسف إذا أمكن الاهتداء إليهما. - وريمة؟ - من حسن الحظ أنها كانت قد ماتت، وإلا ما استطاع الأمير استدعائي؛ لأنها كانت تحول دون كل أمنية له، وتضع إصبعها في كل أمر، وكان يخافها جدا؛ لأنها كانت سليطة. - والوصية؟ - معي، هاكها.
فتناولها البطريرك، وبعد أن قرأها مليا قال: إنها ناطقة بإرادة الأمير. - وهي بخطه والشهود أحياء. - متى مات الأمير؟ - منذ بضعة أشهر. - هل بحثت عن الفتاة وأمها في البترون؟ - نعم ذهبت إلى البلدة التي أرشدني إليها الأمير، واتفق أن أول من سألته عن حنة كانت ندرة الزعفران أخت حنة، أي: خالة الفتاة، وبعد مباحثة قصيرة قالت لي ندرة هذه: إن أختها كانت تقيم في بلدة أخرى منذ عهد طويل، وهي وطنها الأصلي، فذهبت إلى البلدة الأخرى التي أرشدتني إليها ندرة، فما وجدت حنة ولا ابنتها، بل قيل لي هناك: إن حنة ماتت منذ زمان طويل، وإن ابنتها مع خالتها ندرة الزعفران، وهذه هي التي ربتها، ولما عدت إلى ندرة لأفهم مكرها علي وجدت أنها رحلت بالفتاة خلسة، وبعد التحري علمت أنها سافرت بها إلى القطر المصري؛ لأن ندرة هذه كانت في هذا القطر في أوائل صباها، وما عادت إلا على أثر موت أختها، فتولت أمر الفتاة وربتها كابنتها. - عجب لماذا مكرت هذا المكر؟ ولماذا رحلت بالفتاة؟ - ما زلت أستغرب ذلك. - ماذا كلمتها بشأن الفتاة؟ - قلت لها: إن أهلها يطلبونها، ولكني لم أخبرها شيئا عن الوصية وميراث الفتاة من جدها؛ لئلا يبلغ الأمر الأمير إبرهيم وابنه فيعجلان بمحق التركة، وقد يسعيان إلى دهورة الفتاة، بيد أني احتطت لكل ذلك؛ إذ اتفقت مع الشهود الذين شهدوا على صحة الوصية أن نكتم أمرها إلى أن نعثر بالفتاة.
فلعب البطريرك بلحيته وهو يفكر، ثم قال: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ولعلك لو أسررت الأمر لخالة الفتاة ما كانت تنكرها عليك، وقد لا تكون ملوما في الكتمان، ولكن لماذا هربت هذه الشقية بها؟ - لم أدر لعلها أبت ردها إلى أهلها بعد أن ربتها، والله أعلم.
ففكر البطريرك هنيهة، ثم قال: لا بد لنا من مساعد في البحث عن الفتاة، وهو المسيو بولس المراني؛ فإنه من رجال الطائفة الذين يعتمد عليهم، وله معرفة واسعة بأحوال مصر.
ثم تناول البطريرك التلفون وخاطب به المسيو بولس المراني.
فقال الأب أمبروسيوس: وإنما أرجو يا سيدي أن لا تروي الحكاية برمتها للمسيو بولس المراني، وإن رويتها له بالاختصار فلا تذكر له الأسماء؛ لأن كتمان الحكاية ضروري لحماية الثروة من مبدديها، كما لا يخفى على غبطتكم.
فوعده البطريرك بالكتمان على قدر الإمكان.
سفر التكوين
في تلك الأثناء كانت ليلة ساهرة في منزل الخواجه بطرس المراني أبي نجيب وليلى، فكانت ردهة الاستقبال حافلة بجماعة من الأصدقاء، نخص بالذكر منهم الدكتور صديق أفندي هيزلي ابن خال ليلى، وسليم أفندي هيزلي ابن عم الدكتور صديق المذكور، وقد ورد ذكره قبل الآن، وعرف القارئ أنه موظف في مصلحة التنظيم، وهو الذي توسط ليوسف براق في توظيفه بتلك المصلحة بناء على توصية من بولس المراني، وبالطبع كان أيضا هناك بولس أفندي المراني أخي الخواجة بطرس صاحب المنزل، هذا عدا أفراد آخرين من رجال ونساء.
وقد اعتاد الساهرون في منزل المراني أن يجدوا السهرة كحفلة أدبية، إذ يتخللها بعض الوقت تلاوة قصائد، أو نتف أدبية جديدة، أو أحاديث في مواضيع علمية أو سياسية؛ لأن نجيب وأخته كانا عشاق الأدب؛ ولهذا كان معارفهما ممن يميلون إلى الأدب كثيرا أو قليلا.
ولا نطيل الحديث على القارئ، فإن مسامرة الساهرين في تلك السهرة أدت إلى بعض القصائد الجديدة، التي نشرت في بعض مجلات ذلك الشهر، فتلا بعضهم بعضها على الحضور، فكانت تروق للكثيرين منهم، وفي أثناء ذلك قال نجيب المراني: عندي شيء جديد، جديد بكل معنى الكلمة، أريد أن أتلوه عليكم، فعسى أن يروق لكم.
فقال صديق هيزلي: هل عكفت على صناعة القلم يا نجيب، أخاف أن يكون حظك أخيرا حظ حملة الأقلام. - ما أنا إلا دخيل في فن القلم يا صديق، فلا أتخذه صناعة بل حلية لصناعتي، وأنت تعلم أن القلم دفة لسفينة المحاماة.
فقالت ليلى: دعنا نسمع لنحكم إن كنت تحسن إدارة هذه الدفة.
فتناول نجيب ورقة من جيبه، واعتدل في مكانه، وجعل يلقي المقال التالي خير إلقاء كأنه يعظ في معبد، قال:
سفر التكوين
في البدء تزوجت القوة المادة، فولدتا سدما، وكانت الجاذبية ذكورة والدافعية أنوثة، ثم نضجت السدم فكانت إجراما، وكان دورانها في أفلاكها مداعبة.
تلك قوة القوى وتلك مادة المواد.
تفرقت القوة في نسلها كتفرق المادة في ذريتها.
لكل نظام شمسي قوته القصوى، ولكل أرض قوتها، ولكل ذرة قوتها.
كل أرض تحوم حول شمس هي أمها، حتى إذا أعرضت عنها جلبتها بجلباب من غمام، وإذا مالت إليها كستها بثوب من ربيع، بيد أنها لا تخرج عن دائرة قوتها، بل كلما فقدت قوة تقترب منها لتستمد منها قوة جديدة، والأم تدخر القوة القصوى.
ثم تزوجت القوة الثالوث الهيدرو-كربو-نيتروجيني، فولدا المبدأ الحيوي «البروتو بلاسم»، وتزوجت القوة مجموع المبادئ الحيوية فولدا «القلب».
بذلك التفرق تفرقت القوة القصوى، وبهذا التجمع تجمعت «في القلب». •••
كل قلب مركز لقوة قصوى، وهو يفرقها على المبادئ الحيوية، التي تدور حوله في البدن دوران الأقمار حول سيارها.
كل قلب عالم قائم بذاته، وعوالم القلوب أجرام تدور في أفلاكها متجاذبة متدافعة قوة القوى، تلعب بالكل متجمعة متفرقة. •••
القوة منفصلة: العدم.
القوة متحدة: الحياة.
القوة متمددة: العقل.
القوة متقلصة: الشعور.
ما بين التمدد والتقلص - التناقص - السر الذي لا يدرك: «الحب». •••
أين الفهم لإدراك نظام الاتحاد والانفصال، أو نظام التمدد والتقلص؟
وأين القدرة للسيطرة على هذا النظام؟
لو أمكن الفهم لصح الاختيار.
ولو وجدت القدرة لصحت الحرية.
لا فهم ولا قدرة فلا اختيار ولا حرية.
لقوة القوى الأمر والنهي. •••
ماذا يشمل هذه الكواكب السوابح؟ فضاء.
وما وراء هذا الفضاء؟ اللانهاية.
وما الذي يحتوي هذه اللانهاية؟ قلب. •••
ماذا كان من قبل؟ أزل.
وماذا يكون من بعد؟ أبد.
وماذا يشمل الأزل والأبد؟ سرمد.
وماذا يشمل السرمد؟ دائرة حب. •••
ما الحب؟ قوة تمدد القلب حتى يحتوي اللانهاية والسرمد، أو تقلصه إلى ذرة، أو تنفصل عنه فيعود عدما. •••
رامت القوة القصوى أن ترقي الطبيعة، فاستخرجت من السديم أرضا، ومن الأرض حياة ومن الحياة شعورا، ومن الشعور قلبا ومن القلب حبا، فإذا بها تجد نفسها فيه، وهنا وقفت. •••
واغترت الطبيعة بارتقائها فحاولت أن تتجبر على القوة، فاستخرجت من الحياة نفسا، ومن النفس روحا ومن الروح ملاكا، فوجدته كتلة من حب. •••
ورامت الحياة أن تتفوق على القوة والطبيعة معا، فحولت نفسها إلى عقل والعقل إلى ذكاء، ولما رام الذكاء أن يطوف بين الأفلاك، ويخترق أعماق المادة ليتفهم نواميس الطبيعة، ويستخدمها لإسعاد الحياة وجد نفسه لا يفهم إلا ناموس الحب. •••
ورامت النفس أن تنافس الجميع، فكست نفسها بالضمير، ثم حلته بالفضيلة فوجدت أنها تحليه بالحب. •••
ومتى بلغ الرقي حيث ابتدأ استتم دائرته، والدائرة لا تقبل مزيدا. •••
الحب وقوة القوى سر واحد. •••
القلب آلة الحب وبه يفعل الحب ما يشاء.
يخترق قلوب الجبال ويطير بأجنحة من بخار، ويمشي على اللجج ويسرع مع البرق، ويسبح في الأثير، ويقيم العروش ويدحرج التيجان، ويثير الحروب ويبسط السلام على الخليقة. •••
إذا استطعت أن تستنزل ملاكا إلى الأرض، أو أن يستصعدك ملاك إلى السماء، فاعلم أنك تحب.
إذا استطعت أن تعصي فؤادك فلست تحب. •••
القلوب جواذب دوافع، وبينها ما بين العناصر من الألفة والتنافر.
القلب الأقوى حبا أغلب جذبا.
أكثف الحجب أشف من الأثير للقلوب.
للقلوب لغة واحدة: الخفوق.
نبضات القلب كلماته، وأمواج الأثير تنقلها إلى القلب الذي يفهمها.
قلب في الشمال وقلب في الجنوب، فإذا تخافقا تفاهما.
فما أسماك أيتها القلوب وأعظمك! •••
يا قوة القوى أنت المعبود الأسمى، إن القلوب خاضعة لنظامك المجهول، فاشغليها بقوتك؛ لكي تتجاذب وتأتلف إذا كان مجدك بائتلافها .
ولما انتهى نجيب من التلاوة طوى الورقة، وأجال نظره في الحضور، فإذا كلهم سكوت كأن على رءوسهم الطير، فقال: أظنها لم تعجبكم؛ لأنكم لم تصفقوا لها.
فقالت ليلى مبتسمة: وهل يصفقون بعد قراءة الكتاب المقدس؟
وقال الدكتور صديق هيزلي: أقسم بالله إنه ليس لقلمك قطرة في هذه المقالة. - إن الذي كتبها إنسان مثلي أيضا. - من هو هذا الكاتب الفيلسوف الذي تلد قريحته هذه الحقائق الشعرية؟
فضحكت ليلى، وقالت: الحقيقة والشعر لا يجتمعان.
فقال الدكتور صديق هيزلي: في هذه المقالة اجتمعا وهنا العجب، فبالله من كتب هذه النبذة يا نجيب؟ - كتبها كاتب لا يعرفه أحد كاتبا وهو يوسف براق.
فقال سليم هيزلي: لا أستغرب أن تكون هذه النبذة من قلم يوسف؛ لأني توسمت من أحاديثه سعة العلم وحدة الذكاء، فلماذا لا ينشرها في إحدى المجلات؟ - يلوح لي أنه لا يهتم بنشرها، ولو لم أجدها بالصدفة عنده حين زرته أمس ما اطلعت عليها، ولما قرأتها أعجبت بها جدا، ورغبت إليه أن يأذن لي بنسخها فنسختها.
عند ذلك استأذنت ليلى من أخيها أن يريها الورقة، فتناولتها منه وجعلت تتلوها وحدها.
واسترسل القوم بالأحاديث المختلفة، وليلى لاهية بمطالعة المقالة، فقرأتها أولا وثانيا وثالثا، وهي تنعم النظر في كل جملة، ولم تكف عن القراءة، حتى جاء عمها بولس المراني وجلس إلى جانبها قائلا: هل تأذنين لي ببعض أسئلة يا عزيزتي ليلى؟
فاختلجت ليلى قليلا ظانة أنه سيباحثها بأمر لا تريده، فقالت له: بأي موضوع؟ - أود أن أسألك عن حقيقة الفتاة هيفاء التي كانت خادمة عندك، فقد سمعتك مرة تقولين: إنها فارة من منزل أمها؛ لأنها تريد أن تزوجها من رجل غني لا تريده، ثم إن الفتاة خرجت ذات صباح ولم تعد، فهل عرفت أين ذهبت؟ - كلا، وإنما رجحت أنها عادت إلى أمها، أو أن أمها عثرت عليها فأخذتها قسرا. - هل تعرفين أين تسكن أمها؟ - نعم كانت تسكن في منزل قريب منا في الشارع العباسي، وقد أرسلت من يسأل عن الفتاة هناك فوجد المنزل فارغا، لماذا تسأل عن هذه الفتاة؟ - لأمر يهم بعض الناس، هل أنت واثقة أن المرأة التي تصطحبها أمها؟ - لم تقل الفتاة: إنها ليست أمها، ولكن معاملتها لها تريب. - بماذا تريب؟ - فهمت من الفتاة أنها كانت ترغمها على معاشرة الرجل، وكان الرجل يتطاول على الفتاة؛ ولهذا نفرت منه، واضطرت أن تهرب من عند أمها. - هل تعرفين من هو هذا الرجل؟ - أتذكر أن الفتاة ذكرت اسمه فهيم بك رامح، ولكنها لا تعرف عنه شيئا سوى أنه غني جدا، وإنما نفرت منه لأنها أساءت الظن بمقصده.
شيء من التاريخ أيضا
بعد ارفضاض الساهرين من السهرة ذهب الدكتور صديق هيزلي وابن عمه سليم معا.
فقال صديق: هل لاحظت الليلة أمرا يا سليم؟ - ماذا؟ - في ليلى. - كانت صامتة مفكرة خلافا لعادتها، هل أعدت عليها الكرة؟ - في هذا الأسبوع خاطبها عمها بشأني كثيرا، فأصرت على الرفض مع أنها كانت فيما مضى لينة بعض اللين، فلا أدري ما الذي غير فكرها. - هل أنت واثق أن أباها وأخاها راضيان تمام الرضا؟ - لا ريب عندي بذلك، وقد صرح لي أبوها أنه يتمنى أن لا تعرف ليلى أحدا غيري ولا تحب سواي، وأكد لي أنه كل حين بعد آخر ينصح لها بالزواج مني، وكذلك أخوها نجيب لا يكل عن نصحها وهي لا تزال مكابرة؛ ولهذا كلفت عمها بولس أن يبحث معها ليكشف سر ما بها. - فماذا فهم بولس منها؟ - لم يستطع أن يفهم شيئا سوى أنها ترفض، ولما ألح عليها بتبيان السبب قالت: إنها لا تريد أن تتزوج، ولما جعل يعظها بأن الزواج لازم للفتاة نفرت منه، وقالت: إنها لا تقبل نصح أحد في أمر يهمها وحدها. - هل تظن يا صديق أن الفتاة تحب شخصا آخر؟ - لم يبق إلا هذا الظن؛ ولهذا سألتك إن كنت قد لاحظت أمرا الليلة. - لم ألاحظ إلا انقباضها خلافا لعادتها. - ومقالة يوسف براق؟ - نعم لاحظت أنها قرأتها طويلا، وهل هي تعرفه؟ - زار المنزل مرة واحدة فقط لأوائل قدومه على ما فهمت، وبعد ذلك كنت قد سمعت من نجيب أنه لم يزره بعدها قط مع أن نجيب كان يلح عليه بالزيارة فيعتذر. - وهل تظن أن هذه الزيارة كافية لإنشاء حب يشغل ليلى عن خاطب مثلك؟ - لا أدري إن كانت قد رأته بعد ذلك، والآن صرت أظن أن الذي وقاها من حادثة المركبة هو يوسف؛ لأنها لما سئلت عن الذي أنقذها كنت حاضرا فأنكرت معرفته، ولكني شعرت بلعثمة في كلامها واكفهرار في وجهها، وتلاوتها للنبذة الليلة شغلت بالي، ورجحت لي أنها تحب يوسف هذا، أفلا تقدر أن تستخرج شيئا من صدر يوسف أثناء حديثك معه؟ - سأفعل، ولكني لا أدري إن كنت أستطيع علم شيء منه؛ لأنه متحفظ جدا في كلامه، وليس عندي إلا طريقة واحدة للبحث معه. - ما هي؟ - هي أن أسأله صريحا في الأمر، وأرجح أنه يضطر أن يجيب ولو تلميحا؛ لأني أعرفه لا يكذب فأنا أستعين بصدقه على كشف سره. - حسن، أود منك يا سليم أن تبذل جهدك في كشف سره، ولا أظنك تبخل على ابن عمك بخدمة. - ما نحن أبناء عم يا صديق بل أخوان متعاونان، فثق أني لا أدخر جهدا، ولكن هب أن الظن صحيح وأن ليلى مولعة بيوسف وهو مولع بها، فماذا تفعل؟ - آه يا سليم لا أدري ماذا أفعل، ولكني أبذل جهدي في التفريق بينهما بأي وسيلة، وستكون بيني وبين يوسف براق حرب. - لا بأس من الحرب يا صديق وأنا عونك فيها، ولكن الحب ظافر. - ولكن الخصم الذي يحتفظ بمصلحته لا يسلم لخصمه إلا بحرب، وإلا فهو جبان وضعيف. - ولكن المصلحة شيء والحق شيء آخر، فإذا كانت ليلى تحب يوسف براق كان صاحب الحق، وكنت أنت مغتصبا. - صدقت ولكن الحق للقوة، فإذا استقويت عليه صرت صاحب الحق. - لا تقدر أن تستقوي عليه إلا بالحب، أفما تعلمت درسا من مقالته الليلة أن القلب الأقوى حبا أكثر جذبا؟ فإذا كان أقدر منك على استمالتها كان فائزا عليك، فبماذا تحاربه بغير الحب؟ - أنا لا أكترث بالنظريات بل بالعمل. - ليس الأمر نظريا، بل هو عملي محض، فإذا كانت ليلى مولعة بيوسف براق ولا تحب سواه، فماذا تفعل أنت؟ - أبذل جهدي في إسقاطه إلى الحضيض بل إلى العدم؛ حتى لا يبقى في الوجود لا يوسف ولا براق، فتضطر ليلى أن تقبل بي زوجا إذ لا يبقى لها حبيب. - وهل تتزوجها على غير حب؟ - أفعل. - أستغرب ذلك منك يا صديق وأنت رجل عصري متعلم، وتعلم أن الزواج بلا حب كالبيت بلا أساس، فلماذا تقدم على زواج كهذا لا تأمن مغبته؟ - لي فيه مصلحة كبيرة. - أهم من مصلحة الحب الزوجي؟ - قد تكون عندي أهم، على أني أؤمل أن تعود ليلى تحبني كما كانت تحبني قبلا، ولا سيما إذا خلا ذهنها ممن تحبه الآن.
ففكر سليم هنيهة وقال: لا أفهم هذه المصلحة التي تمكنك من ركوب هذا المركب الخشن فما هي؟ قلها لي فما أنا غريب عنك.
فتردد صديق هنيهة، وقال: إنك تطلب مني أن أبوح بسري. - لا بأس، أفما أنا مستودع كل أسرارك؟ - أقسم لي إنك لا تبوح بسري. - أقسمت لا تخف، قل. - لا يخفى عليك أن ليلى ابنة عمتي و... - نعم ما هي ابنة بطرس المراني، بل ابنة زوجته الثانية وما هي أخت نجيب لا من أبيه ولا من أمه، بل من كونها ربيت معه في منزل واحد كالأخت مع الأخ. - نعم، وهل تعرف أباها؟ - أعرف ما تعرفه أنت وهو أن أمها سارة عمتك كانت زوجة رجل يدعى حنا فرزدق، فترملت وليلى طفلة ثم تزوجت بطرس المراني، ولم تعد تلد وكان ابنه نجيب طفلا فربى الزوجان الجديدان الولدين كأخوين. - هذا ما تعرفه أنت ويعرفه كل واحد حتى بطرس المراني وابنه نجيب وليلى، ولكن الحقيقة غير ذلك. - ما هي؟ - هي أن عمتي سارة - رحمة الله عليها - لم تكن أرملة كما نظن، وحكايتها أنها كانت قبلا معلمة لأولاد الأمير إبراهيم الخزامي في دمشق فاستغواها هذا الزنيم، ولما كاد يشتهر حملها أعطاها ثلاثمائة جنيه وردها، فلما عادت إلى أخيها أبي وعلم بمصيبتها لم يقنع بالثلاثمائة جنيه كتعويض لها من رجل غني كذلك الأمير، فذهب إلى دمشق وناقش الأمير بالأمر، فأخذ منه ألف جنيه أخرى، واستكتبه وصية سرية من مقتضاها أن المولود الذي تلده سارة يرث حصة كأولاد الأمير على شرط ألا يظهر الوصية إلا بعد وفاة الأمير، وهكذا حفظ أبي الوصية معه ولم يطلع عليها أحدا حتى ولا عمتي المسكينة؛ لئلا يذاع سرها فيغضب إبراهيم الخزامي وتفسد الوصية، ثم انتقل حينذاك أبي بعائلته وعمتي إلى مصر وادعى أن أخته أرملة وألبسها ثوب حداد، واستعان بالفلوس التي حصلها من الأمير إبراهيم على تزويجها من بطرس المراني، فتزوجها هذا وهو يعتقد أنها أرملة واستعان بفلوسها في أشغاله التجارية، وصادف نجاحا؛ ولهذا تراه يحب ابنتها حتى الآن كحبه لابنه، وبقي هذا السر مكتوما حتى توفي أبي - رحمة الله عليه - ففتحت وصيته فوجدت فيها نص هذه الحكاية، والوصية التي أخذها من الأمير إبراهيم الخزامي، وهو ينصح لي بوصيته أن أتزوج ليلى لأكون شريكها بميراثها، وهو ميراث طائل؛ لأن للأمير إبراهيم ابنين فليلى ترث خمس الثروة والخمس يقدر بنحو مائة ألف جنيه، فهل ألام إذا سعيت إلى الزواج من ليلى بأي الوسائل؟
فبهت سليم لهذه الحكاية الغريبة وقال: لا والله لا تلام، إن مائة ألف جنيه ثروة طائلة وهي في يدك الآن. - وفي يدي وحدي؛ لأن ليلى لا تدري حتى الآن بشيء من ذلك، ولن تدري ولا أحد يدري غيرك. - وهبها درت فلا تصل يدها إلى الوصية. - لا أدعها تدري إلا بعد أن أعدم الحيل بإقناعها، فحينذاك أخبرها بالحقيقة بيني وبينها، وأقول لها: إن المائة ألف جنيه لا تكون لها إلا وهي زوجتي. - حسن. - ولكني قبل ذلك أود أن أستخدم كل الوسائل الأخرى لإقناعها، وأود أن أستعين بك يا سليم ولك مني الجزاء الذي تريده، ولا تظنني كاذبا إذا وعدتك بعشر ذلك المال جزاء. - إني صديقك على كل حال يا ابن العم.
إحياء الموتى
وفي ذات مساء كان يوسف ماشيا في جهات الأزبكية، فشعر بيد وقعت على كتفه فالتفت ورأى الشيخ الملتحي يقول له: لا أظنني غلطانا ، صديق السجن؟ - المسيو جورجي آجيوس؟ - أنا هو يا مسيو براق، توقعت لقاءك مرارا في قهوة الشيشة فلم تأت. - أتيت مرارا فلم أجدك. - لأننا لم نتفق على ميعاد، فأين تريد أن نجلس الآن إذا لم تكن مشغولا؛ لأني مشتاق إليك. - وأنا مشتاق إليك، نجلس في قهوة الشيشة. - ما أكرم خلقك يا مسيو يوسف، لا تريد أن تحرمني بقية لذاتي. - إنها لبشارة حسنة إذا كانت الشيشة بقية لذاتك، ومن بقي يسكر ويقامر. - تركت السكر والقمار للشبان الأغرار، وبقيت أحرص على ما بقي في هذه الشيبة من القوة؛ لأني صرت أحسب للآخرة حسابا. - نعم الحساب، بقي عليك واجب يا مسيو جورجي. - وهو؟ - هو أن تدل هؤلاء الشبان الأغرار على «الآخرة». - دعهم في غيهم يعمهون، لا يتعظ المرء إلا بنفسه، وإذا نصحتهم حولوا النصح إلى مسبة والصداقة إلى عداوة، وأنا لا أزال في حاجة إليهم، وفي صداقتهم نفع لي. - وأي حاجة لك معهم ولا شغل لهم إلا السكر والقمار؟ - لولا سكرهم وقمارهم لكنت في غنى عنهم؛ لأنهم وهم يبذرقون يضطرون إلى الاستدانة تارة والبيع من أملاكهم أخرى، وفي كلتا الحالتين يحتاجون إلى سمسار يتوسط بينهم وبين الدائن أو الشاري، فأنا هو ذلك السمسار.
فاختلج يوسف وقال ممتعضا: لا أريد لك هذه الوظيفة يا مسيو جورجي.
فاستغرب جورجي آجيوس وقال: عجبا لماذا؟ أعظم الدول إذا رامت أن تعقد قرضا أجنبيا وسطت سماسرة في الأمر، فالسمسرة ليست حرفة حقيرة أو دنيئة.
وهنا كانا قد وصلا إلى قهوة الشيشة، فجلسا وقال يوسف: ولكن سمسرتك لأولئك الأغرار غير شريفة، فكأنك تتوسط لهم في خرابهم، فلا أريدك وسيلة إلا للخير.
فضحك جورجي آجيوس وقال: إذا لم أتوسط أنا لهم فيتوسط غيري، وامتناعي أنا وغيري عن الوساطة بينهم لا يقيهم من الدمار؛ لأنهم قد تدمروا من قبل ونحن نساوم الآن على الأنقاض. - عجبا ألا يخطر لهؤلاء أن ثروتهم قد تفرغ قبل أن تفرغ أعمارهم. - كلا؛ لأن أعمارهم فرغت قبل أن فرغت ثرواتهم فهم الآن موتى، وما حاجة الميت إلى الثروة ؟
فأعجب يوسف من أجوبة جورجي أي إعجاب، وقال: وهل يعلم هؤلاء المساكين أنهم موتى؟ - ومتى كان الموتى يحسون حتى يعلموا؟ - إذا كانوا يحيون يعلمون، أفليس في وسعك إحياؤهم؟ - لم أوت قوة عمل المعجزات. - لا أنكر أن الأمر صعب يا مسيو جورجي ولكنه ممكن جدا، ألا تعتقد أنك أنت كنت ميتا فحييت؟
فابتسم جورجي وقال: نعم، وقد فعلت أنت المعجزة بإحيائي يا يوسف، ولك علي ... - لا تقل شيئا؛ إذ لم أفعل أمرا سوى أني كنت واسطة لتنبيه القوة الحية الكامنة فيك، فهي كالماء المحبوس في الحوض وأنا قد فتحت «الحنفية» فتدفق الماء، وأنت تستطيع أن تفعل هذه المعجزة لأصحابك إذا كنت تشاء أن يحيوا. - أشاء ولكن ما قولك إذا كان حوض حياتهم قد نضب، وقد فتح «الحنفية» قبلي كثيرون فلم تقطر قطرة حياة. - جرب فتحها أنت فلعل غيرك لم يهتد إلى أسلوب فتحها الصائب، وإذا مهدت لي السبيل فأساعدك في ذلك.
فنهل جورجي نهلة عميقة من «الشيشة» ونفخ غيمة من دخانها ثم قال: عبثا يا صديق عبثا تهتم في الأمر، ولا أدري لماذا تهتم بإحياء الموتى والدنيا تكاد تضيق بالأحياء، أما كفانا ما حولنا من الأحياء الذين يكافحوننا ونكافحهم حتى نحيي أمواتا لنزيد عدد المتكافحين في الدنيا؟! فدع الموتى في قبورهم. - لو كانوا موتى الجسد لتركناهم في قبورهم طبعا، ولكنهم موتى النفس فلنحي أنفسهم لنزيد جيش الخير قوة وإلا بقوا من جنود الشر، والقوة المالية التي لهم تقدرهم على التخريب والتدمير في بناء الهيئة الاجتماعية. ألا تراهم يبذلون هذه القوة على إحياء محال القمار والحانات والملاهي، وأماكن الفجور، فكأنهم ينفقون مالهم في صنع الأسلحة لتسليح الشيطان الرجيم، فإذا استطعنا أن نستميلهم إلى جانب جنود الخير قوينا عوامل البناء في الهيئة الاجتماعية. - إنهم موتى يا يوسف، موتى ولا جرثومة حياة فيهم، فلا تتعب نفسك في إحيائهم، بل دعهم يتمادون في فنائهم لكي تتحول هذه القوة المالية التي عندهم لغيرهم من العامة، الذين هم أحق بها منهم، فإذا أحيينا أنفسهم وتابوا عن الملاهي والحانات وأندية القمار، بقيت فلوسهم محبوسة في خزائنهم، فدعهم في غيهم يعمهون، دعهم يسكرون ويقامرون لكي تتدفق تلك الأموال إلى السوق فيذهب هذا السلاح من أيدي الأشرار إلى أيدي الأخيار.
فتنهد يوسف وقال: آه لو صح ما تقول، ولكن هذا السلاح يتحول من أشرار إلى من هم أشر، يتحول من السكيرين إلى بائعي المسكرات، ومن الفاسقين إلى تجار الأعراض، ومن المقامرين إلى ناصبي أحابيل القمار.
عند ذلك دخل رجل حسن البزة، وأومأ إلى جورجي أن يتبعه، فخرج جورجي من القهوة إليه وتهامسا قليلا أمام الباب، ثم تركه ذاك ومضى، وكان يوسف متشوفا إلى الخارج فرأى ذلك الرجل يعود إلى مركبة تنتظره في الشارع، ثم لمح في المركبة سيدتين وفي الحال عرف هيفاء إحداهما، ووقعت عينه على عينها، أما أمها فكان نظرها يتبع ذلك الرجل حتى ركب معهما.
بين المال والعمل
فلما عاد جورجي سأله يوسف: من هذا الرجل؟ - يدعى جميل مرمور، وهو وكيل رجل غني جدا يدعى فهيم بك رماح. - هل تعرف رماح بك؟ - أعرفه قليلا؛ لأني سمسرت له، هذا رجل قدير فقد جمع ثروة طائلة في بضع سنين، وساعده الحظ إذ اغتنم فرصة المضاربات بالأراضي. - هل هو مصري؟ - كلا، لا أظن، وأظنه سوريا ولكنه عاد من أميركا على ما فهمت من وكيله، وكان معه بعض المال فجعل يضارب بالأطيان فكان من الرابحين، وهو يتنعم الآن فعنده مركبات وخيل وأتوموبيلات وخليلات و... - خليلات؟ أليس متزوجا؟ - ولماذا يتزوج مثل هذا والنساء كلهن له؟ - إذن توافق على سلوكه هذا؟ - وافقت أو لم أوافق، هذا هو شأن الكثيرين من الأغنياء يستطيعون أن يتمتعوا فيتمتعون. - كم خليلة لهذا الشرير؟ - قيل لي: إن له ثلاث خليلات. - إنه لدنيء. - دنيء؟ هو الشريف الفاضل، وإذا كلمته لا تقول إلا: «يا حضرة الفاضل.» وإذا كتبت له قلت: «يا صاحب السعادة.» والفقير يمضي له: «عبد سعادتكم.» وإذا سافر كتبت عنه الجرائد: «سافر سعادة الوجيه السري النبيل فهيم بك رماح.» وإذا اكتتب بعشرة جنيهات لجمعية خيرية كتبت الجرائد: «تفضل سعادة الأريحي الكريم المفضال فهيم بك رماح بعشرة جنيهات.» فهل هذا دنيء؟ أنا وأنت دنيئان؛ لأننا لا نملك قرشا، وأنت إذا سكنت في منزل فيه امرأة قالوا: «إنك ساقط.» وأما هو فيستطيع أن يأتي بخليلته إلى الأوبرا على مرأى من الجمهور، وإذا زرته في مقصورته في الأوبرا وجب عليك أن تنحني احتراما لخليلته. - والله لا أفعل، وإذا دخل مثل هذا الفاسق إلى مجلس أنا فيه لا أقف له، وإذا تكلم بصقت في وجهه؛ لأن مثل هذا يجب أن يخبئ وجهه في كمه إذا ظهر في مجلس.
فضحك جورجي قائلا: إذا دخل فهيم رماح إلى مجلس أدار الجلاس وجوههم عنك، ولو كنت تلقي عليهم حكمة سليمان ووجهوا أنظارهم إليه ولو كان يهذي، وإذا تكلمت في حضرته قالوا لك: «صه، الكلام لمن هو أوجه منك.» - لا أحضر مجلسا كهذا. - المجلس الذي لا يتشرف بحضور مثل فهيم لا يعد مجلسا معتبرا. - أكتفي بهذا المجلس الذي أعده أشرف من مجلسه. - لا تجد فيه إلا موتا، وأما المجلس الذي يكون فيه مثل فهيم فهو مجلس الأحياء؛ لأن هؤلاء السراة مصدر الحركة الحيوية في الهيئة الاجتماعية، وفي يدهم «زنبلكها»، فإذا راموا أوقفوا حركة العالم. - إنك متطرف يا جورجي، العالم بالعامة لا بالأغنياء. - العالم بالأغنياء لا بالعامة. - من بنى هذه البناية؟ الفعلة والبناءون وهم من العامة، ومن يجر مركبات النقل هذه التي تنقل البضائع؟ العامة، ومن صنع هذه المصنوعات؟ العامة، ومن اشتغل الخبز الذي نأكله وربى الخراف التي نطبخها؟ العامة. - نعم، ولكنهم فعلوا ذلك بأموال المتمولين، يحبس هؤلاء أموالهم فلا يعود الصانع يستطيع أن يصنع ولا الزارع أن يزرع. - ولكن من أين هذا المال الذي في أيدي المتمولين؟ هل هم خلقوه أم صنعوه؟ وما معنى المال؟ أليس هو نتيجة عمل؟ ألا تعلم أن كل قرش هو بدل عمل يساوي قرشا، ولولا العمل ما حصل القرش؛ فالقروش تمثل أتعاب العمال؟ ولم يكن من قرش في الدنيا إلا وقد بذل بدله تعب في عمل، فإذن الأموال نتيجة عمل العمال فالعالم بالعامة. - نعم، الأموال نتيجة عمل العمال، ولكن هذه الأموال في أيدي الأغنياء، وهم المتصرفون بها، فإذا أمسكوها وقفت حركة العمل، ولم يعد العامل يجد مسترزقا. - وإذا أضرب العمال عن العمل لم تعد أموال الأغنياء ذات قيمة؛ لأنهم لا يقدرون أن يأكلوا ذهبا وفضة ونيكلا ولا يلبسون بنك نوت «ورق عملة». - ولكن العامة لا يقدرون أن يضربوا عن العمل؛ لأنهم يحتاجون إلى نتيجة عملهم؛ لكي يأكلوا ويلبسوا. - والأغنياء لا يقدرون أن يحبسوا أموالهم؛ لئلا تصبح بلا قيمة. - نعم، لا يوافقهم أن يحبسوها، ولكنهم أقدر على حبسها من العمال على الإضراب عن العمل؛ لأن الغني إذا اضطر إلى التوقف عن تثمير ماله يبقى ماله لسد حاجته، فيستخدم عاملا لزرع قمحه وصانعا لنسج ثوبه وصنع حذائه، فماله قوته وهو يستخدم هذه القوة لأوده ومعيشته، وأما العامل فإذا أضرب عن العمل كان ملغيا قوته، فبماذا يعيش؟
فسكت يوسف هنيهة ثم قال: كأنك تقول: إن قوة العامل لا تستغني عن قوة المال، ولا تستطيع أن تبرز إلا بها؛ لأن الناسج لا يقدر أن ينسج إلا إذا كان بين يديه قطن ينسجه، والقطن بمال فإذا لم يكن مال ليشتري قطنا فالناسج لا ينسج ... - نعم، وأقول أيضا: إن المال لا غنى عن العمل؛ لأنه إذا وجد المال لشراء القطن فالقطن لا ينسج لنفسه، بل لا بد له من عامل ينسجه، فالمال بلا عمل صفر كما قلت أنت، ولكنه أقدر من العمل، فهو يستطيع أن يشتري القطن وناسجه معا؛ ولهذا قلت لك: إن «زنبلك» الحركة في أيدي الأغنياء. - إنك فيلسوف في الأمور الاقتصادية فسر معي إلى العمق فيها، ألا تسلم معي أن المال نتيجة العمل، ولولا العمل لم يكن من مال؟ - أسلم. - إذن هب أن المتمولين انقطعوا عن العمال، أو أن المال انفصل عن العمل، فالعمال يعملون من جديد لينشئوا مالا جديدا يكون سبب الحركة بينهم.
فضحك جورجي وقال: إنها لنظرية صحيحة ولكنها لا تخرج إلى حيز الفعل إلا إذا محقت هذا العالم كله، وخلقت آدم وحواء جديدين وأنشأت عالما جديدا، ولكن ما دام العالم يشتمل على 1500 مليون نسمة، فما هو حاصل الآن لا بد من حصوله، والعالم لا يستطيع أن يغير مجراه إلا بويل عظيم على الإنسانية أشد جدا من ويل تحكم المتمولين بالعمل. - إذن تسلم بتحكم المتمولين بالعمل. - نعم، ولكن لا مناص منه. - ألا تعتقد أن الاشتراكية هي الدواء الوحيد للشفاء من هذا التحكم. - نعم قد تكون الاشتراكية هي الدواء، ولكن العلاج بها إذا لم يكن تدريجيا كان قاتلا، كالدواء الذي تعطيه للعليل دفعة واحدة، وهو مقسم إلى جرعات متتابعة في مواعيد متباعدة. - إنك فيلسوف اقتصادي كبير. - كما أنك فيلسوف اجتماعي أدبي كبير. - كيف أدركت هذه الحقائق؟ - بالاختبار الطويل. - ولكن ألا تعتقد أن في هذا النظام الاجتماعي ظلما وويلا على الإنسانية. - أعتقد، ولكن لا مناص منه. - نعود إلى فهيم رماح ونتخذه مثلا ولا نقصده بالذات، هل يجوز لمثل هذا أن يجمع الأموال من أتعاب العمال. - جمعها بذكائه ومهارته. - بل ابتزها بذكائه ومهارته؛ لأنها لم تحصل إلا لقاء تعب عمال، فكل قرش في يده يمثل تعبا في عمل قرش، وهو لو رام أن يتعب في عمل ليحصل ثروته الطائلة ما جمع منها عشر معشارها في حياته، ولو عاش ألف عام. - نعم، إنه لم يتعب في مقابلها، ولكنه جمعها أو ابتزها كما تقول، وقد أصبحت ملكه. - أصبحت ملكه؛ لأن هذا النظام فاسد وهذا ما يؤيد مبادئ الاشتراكية، التي تقضي بتوزيع الريع على قدر العمل. - أوافقك على ذلك، والعالم سائر في مبادئ الاشتراكية هذه بحرب عوان بين المتمولين والعمال، والحرب لمن غلب. - يسرني جدا أننا وصلنا إلى حقيقة واحدة اتفقنا عليها، وما دامت هذه الحرب سجالا، فلا بدع أن يغلب العمال على أمرهم حينا بعد آخر، ولكن الغلبة الأخيرة لهم. - عسى أن يصح هذا الحلم. - نعود إلى رماح هذا، هل يجوز له أن يبذر ثروته هذه على الزواني وعلى الخلاعة والفساد؟ - لا يجوز له، ولكن ليس من قوة تمنعه. - ما قولك لو أنفق هذه الأموال في عمل نافع للعمران ، فينتفع هو ويسترزق معه عمال عديدون؟ - حسن جدا، ولكنه لا يفعل وليس من يستطيع إرغامه على أن يفعل، فهو لا يهتم بالعمران ولا بأهله، بل يدع العمران يهتم بنفسه وهو يهتم بلذته، هل تستطيع أن تنفي الأنانية من البشر؟
فتنهد يوسف وقال: آه ... الأنانية ... الأنانية هي سبب هذا الويل على الهيئة الاجتماعية، لا أطيق تصورها. - أنصح لك يا أخي أن تعبدها، وإلا فلا تستطيع أن تعيش ساعة في هذا العالم. - حماني الله من شرور الأنانية والطمع. - إني أشفق عليك يا أخي. - أشفق عليك من كره الأنانية والطمع؛ لأنك سائر في تيارهما حتما، إذ لا تستطيع أن تعيش في المريخ أو في زحل بل على هذه البسيطة، وأينما ذهبت كنت بين الأنانيين والطامعين والنمامين والماكرين والمنافسين والمزاحمين، فإذا لم تزاحم طامعا مخادعا ماكرا كنت مطموعا بك مخدوعا مدفوعا إلى الوراء، في حين اندفاع سواك إلى الأمام، فتقع بين أرجل من هم وراءك.
في هذه اللحظة خطرت ليوسف حادثته في البنك الأميركاني، وقال: صدقت صدقت، ولكن أنى لي تغيير مبادئي وقد غرست في نفسي؟! - إني أنذرك بويلات متتابعة، فأنت محتاج إلى اختباري، فتعلم مني دروسا.
عند ذلك كشف جورجي ساعته، فقال له يوسف: أظنني شغلتك عن شغل. - إني أنتظر جميل مرمور هذا؛ لأنه وعدني أن يأتيني إلى هنا لشغل بيننا. - أظنه شغل سمسرة. - لا، لا أظن، بل قال لي: إنه سيباحثني بمشروع خطير لي منه فائدة كبرى؛ ولهذا أنتظره هنا، صه، ها هو.
فلما دخل جميل نهض يوسف وودع جورجي وخرج.
الاتفاق على مكيدة
قال جميل لجورجي: هيا بنا إلى السفنكس بار يا جورجي. - تبت عن الشرب. - أظنها توبة إفلاس فهلم؛ فإن معي من الأصفر الرنان ما يسكر عشرين. - كلا، لو شئت أشرب لأسكرت ألفا، فدعنا هنا وهات ما عندك. - لا أعرف أن أتكلم إلا شاربا فهلم. - قلت لك: لا أذهب، هل تريد أن تلقي علي خطابا ولا تستطيع أن تجود بالخطابة إلا شاربا؟
فضحك جميل وقال: إن الموضوع الذي سأكلمك به يليق به الشرب. - هات قل فإني أفهم صاحيا أكثر مني سكرانا.
فسكت جميل هنيهة، ثم قال: هل تريد أن تملأ جيبك من الأصفر الرنان بأضحوكة؟ - ليس غريبا في هذا البلد أن تجني الأضاحيك أموالا، فما هي أضحوكتك؟ - تمثيل دور صغير في مرسح صغير وعلى حضور قلائل. - ما هو هذا الدور؟ - هو أن تلبس ثوب كاهن وتكلل زوجين.
فأحجم جورجي قائلا: إنك تنصب لي فخا. - لا والله، بل أريد أن أكسبك مائة جنيه، فما قولك أن تكسبها وأنت تقف وقفة كاهن نحو ربع ساعة؟ - لا والله، لا أقف وقفة كهذه ولو دفعت لي ألفي جنيه. - إنك مجنون. - لماذا لا تمثل هذا الدور أنت؟ - لأني بلا لحية وتعرفني العروس. - إذن الدهاء على أهل العروس. - بل على العروس وحدها. - وأهلها؟ - ليس لها في الدنيا إلا أم، وأمها تريد ذلك. - ولكن لماذا هذا الزواج المزور؟ - لأن العريس لا يريد زواجا، والعروس لا تريد إلا زواجا. - أظن العريس فهيم بك. - نعم.
فضحك جورجي قائلا: ألم تكفه الخليلات الثلاث؟ - لو عرف الرابعة قبلهن لاكتفى بها؛ لأنها آية في الجمال ولم تزل صغيرة. - وأمها تريد أن تجعلها رابعة الخليلات؟ - نعم؛ لأنها ربتها لهذا الغرض وقد صادفت الرفيق الثمين. - تبا لها من أم! - ما نحن هنا في موقف وعظ يا جورجي، بل في موقف شغل، وقد وددت أن أخدمك هذه الخدمة. - أن تغريني على ارتكاب جناية؟ - جناية صغيرة ولكنها لا تظهر، والأجرة وافرة. - هل تعد المائة جنيه أجرة وافرة؟ هب أني حوكمت. - إن حوكمت تحبس شهرا، أفلا تحبس شهرا بمائة جنيه؟ - قد أحبس عاما؛ ولهذا لا أقبل أقل من ألفي جنيه.
وبعد جدال طويل تم الاتفاق بينهما على ألف جنيه، ثم قال جورجي: متى أكون كاهنا؟ - بعد غد الساعة العاشرة مساء في منزل العباسية، بيد أننا نلتقي هنا نحو الساعة التاسعة، فأصطحبك إلى المنزل حيث تجد كل شيء مدبرا. - والدفع؟ - نقدا بين لبس بدلة الكهنوت والإكليل. - إذن إلى الملتقى. - بقي أمر جوهري جدا يا جورجي. - ما هو؟ - يجب أن تتلقن بعض الصلوات بالعربية؛ لكي تفهم العروس الصلاة، ولا يخالجها ريب بصحة الإكليل كما لو كانت الصلاة كلها باليونانية فقط.
ففكر جورجي هنيهة، ثم قال: الحق أني لم أفطن للصلاة، فلا بد من إعداد كتاب صلاة الإكليل. - الكتاب موجود ولكنه باليونانية، ونحن نود أن يكون بعض الصلاة بالعربية؛ ولهذا يجب أن نجتمع غدا؛ لكي ألقنك صلاتين أو ثلاثا بالعربية.
ففكر جورجي وقال: لقد شاخت ذاكرتي وتصلبت، فلا تستطيع أن تطبع فيها صلاة ولا ترنيمة. - إذن ما العمل؟ لا مناص من تلاوة بعض جمل بالعربية، فيجب أن تطرق ذاكرتك؛ لكي تلين ويمكن أن نطبع عليها صلاة، وإلا فالمشروع فاسد والاتفاق منقوض. - أنت قلت: إنك تملأ جيبي دراهم بلا تعب، فما بالك تريد أن تتعبني بحفظ صلوات غيبا وتطرق ذاكرتي؟ - أنت طلبت أجرة كثيرة، أفلا يحق لي أن أطلب عملا قليلا؟
ففكر جورجي هنيهة، وقال: إذن هات كتاب الصلاة بالعربية وأرحني من التلقين. - وما الفائدة من الكتاب ولا قارئ؟ - أقرؤه. - لسنا في مزاح. - قلت لك: إني أقرؤه فلا أمزح.
فدهش جميل وقال: إنك يوناني فمتى تعلمت العربية؟ - تعلمتها هنا وأقرؤها. - لا أصدق.
ثم ناوله جميل جريدة، وقال له: اقرأ لأرى.
فقرأ جورجي بكل فصاحة، فازدادت دهشة جميل، وقال: عجيب أمرك يا هذا، كيف تعلمت العربية وأنت يوناني؟ - ليس هذا شغلك. - حسن إذن أنت الكاهن الوحيد الذي يقوم بعقد الإكليل، لقد تيسر كل أمر والحمد لله، بالله قم معي فإني أود أن أشرب كاسا، وإذا شئت ألا تشرب فلا تفعل.
التاريخ يثبت بعضه بعضا
في هنيهة كانا في السفنكس بار جالسين في زاوية يشربان معا؛ لأن جورجي لم يستطع الصبر عن الشرب وهو يرى نديما يشرب، وبعد حديث قصير كانت الخمرة تلعب في رأسيهما، فقال جميل باسما: والله لا أقدر أن أعتقد أنك يوناني يا جورجي ولا أصدق أنك تعلمت القراءة العربية هنا، ولفظك للعربية ينم عليك فبالله قل لي: أما أنت سوري؟
فضحك جورجي، وقال: كيف تظن أني سوري لا مصري ؟ - لأن في كلامك كلمات تدل على سوريتك. - ذلك لأني سكنت مدة في سوريا. - لا يقنعني هذا البرهان، فبالله اصدقني أما أنت سوري؟ - لماذا تبحث معي بهذا الموضوع؟ - من قبيل العلم بالشيء فقط، وماذا يضرك أن تقول لي الحقيقة وأنا صديقك الحميم؟ - وهب أني سوري. - إذن لا تنكر ذلك. - لم أعترف به إلا الآن. - وما الداعي لإنكارك جنسيتك بتاتا؟ - لأني أصبحت يونانيا بكل معنى الكلمة. - ولكن هذا لا يستوجب أن تنكر أصلك. - لا يستوجبه، ولكني أقول لك الحق: إني أكره سوريا وأهلها. - وهل تفضل اليونان على السوريين؟ - ألف ضعف. - بالطبع أنت تحكم حسب رأيك وحدك، ولا بد أن تكون قد صادفت سوء بخت في سوريا حتى كرهت أهلها. - بل قد صادفت شقاء.
وكاد جورجي يجهش بالبكاء، فقال له جميل: لقد صدق ظني، أراك متألما ولا بد أن تكون قد بليت بكيد عدو. - لا والله بل قل: بكيد أهل. - يا لله! مهما كان كيد الأهل فلا يبلغ حدا يؤلمك هذا الألم. - إنك لغبي، فما قولك بالمرأة التي تريد أن تزوج ابنتها زواجا كاذبا، أي كيد للفتاة أعظم من كيد أمها لها؟! - صدقت، فهل كادك أهلك بزواج لم ترده؟
فضحك جورجي قائلا: لا أعد هذا كيدا. - ماذا يفعل الأهل أعظم من ذلك. - يضطهدون حتى الموت. - لا أصدق ذلك. - كم مرة تزوج أبوك؟ - مرة واحدة. - لو تزوج بعد أمك زوجة أخرى لكنت تفهم وتصدق. - فهمت ... فهمت الآن يا جورجي، وقد صدق ظني؛ فقد بليت بكيد عدو، وألد الأعداء المرأة إذا عادت، إذن مصيبتك من زوجة أبيك. - نعم، والويل لمن يتزوج أبوه امرأة بعد أمه. - بالله ماذا استطاعت هذه الزوجة أن تفعل من الشر لك بوجود أبيك؟ - دهورتني ودهورت عائلتي. - عائلتك؟ - نعم، زوجتي وابني وجنين في بطن زوجتي. - بالله كيف تستطيع امرأة أن تفعل ذلك؟ - متى رامت المرأة شرا تخدمها الأقدار. - ماذا فعلت تلك الملعونة؟ - دست أناسا يختصمون معي، فادعوا زورا أني شتمت السلطان، وراموا أن يقتلوني، وما نجوت من بين أيديهم إلا بعد أن طعنت أحدهم طعنة بخنجر وهربت إلى منزل أبي، فأعطاني جوادا ومائة ليرة وقال: «اهرب.» فهربت إلى بلاد اليونان، وبعد ذلك صرت أكاتب أبي، فكان أخي يجاوبني عنه، ففي جوابه الأول قال لي: إن الذي طعنته مات، وإني إذا رجعت لا أسلم من القصاص، وفي جوابه الثاني قال لي: إن امرأتي ماتت مجهضة، وفي جوابه الثالث قال لي: إن ابني مريض مرضا خطرا، كل ذلك كان في بحر عامين، وبعد ذلك كنت أكتب فلا أنال جوابا، فتأكدت أن زوجة أبي دهورت كل عائلتي؛ لكي يخلو الجو لابنها، فقلت: أكون ملعونا إذا ذكرت وطني وأهلي بعد، وقد ضاق بي العيش في بلاد اليونان، فلما شبت الحرب بين تركيا واليونان تطوعت في جيش اليونان؛ بغية أن أقتل، ولكن الله أبى إلا أن يبقيني لأستتم شقائي.
وفي أثناء الحرب أبدلت نمرتي بنمرة جندي قتل جنبي اسمه جورجي آجيوس، فأعلنت نظارة الحربية اسمي بين القتلى، ولعل الخبر بلغ إلى أهلي واعتقدوا أني قتلت، فأنا الآن لست ذاك السوري الذي هرب مضطهدا، بل أنا جورجي آجيوس اليوناني، فهل تنسى منذ الآن هذه الحكاية؟ - أتعهد لك أني لا أذكرها لأحد. - تأكد أنك إذا ذكرتها لأحد حتى لفهيم ذكرت أسرارك التي أعرفها، وأصغرها سر هذا الزواج الكاذب، فحاذر يا جميل حاذر.
فضحك جميل، وقال: إذن لا تخف، إني أتعهد لك بألا أفوه بكلمة لأحد، إن قصتك يا جورجي مؤثرة جدا، أولا تعلم شيئا عن أهلك الآن؟ - لم أعد أسأل عنهم أبدا، ولا أريد أن أتقرب إلى من يعرفهم؛ لأن كرهي لهم شديد جدا. - إنك مظلوم يا جورجي. - ولهذا تعلمت أن أكون شريرا، وإلا ما كنت أوافقك على تمثيل دور الزواج. - ولكن لماذا تصر على كتمان أمرك. - هذا شأن من شئوني فلا تتداخل به.
وهنا انتهى الحديث وافترق المؤتمران على وفاق ولقاء.
ولا بد أن يكون القارئ قد فهم الآن أن جورجي آجيوس هذا هو نفسه الأمير خليل الخزامي، الذي اضطهدته ريمة زوجة أبيه، فهرب إلى بلاد اليونان، وهو أبو يوسف وأبو هيفاء أيضا.
حيلة كأنها صدفة
في اليوم التالي كانت هيفاء منهمكة بعض الانهماك بالاستعداد لزواجها، نقول: بعض الانهماك؛ لأن أمها كانت تهيئ كل شيء وتدبر كل أمر، فاشترت لها الحلي والملابس، ولكن بقي لهيفاء بعض أمور فانشغلت بها في ذلك النهار.
ولما كانت الساعة الثالثة سمعت قرب المنزل تطبيلا وتزميرا، فخرجت إلى الشرفة لترى ما الخبر، وخرجت أمها معها؛ لأنها لم تكن تفتر عن مراقبتها، فرأتا زمرة من الغوغاء يلاعبون قرودا في عرض الشارع.
فقالت نديمة: ألا تزالين ناقصة العقل تستفزك هذه الأضاحيك السخيفة، تعالي. - لقد مللت الشغل اليوم وأود أن أتنشق الهواء النقي وأستريح قليلا، فدعيني وبعد هنيهة أعود.
فعادت نديمة إلى الغرفة، وبقيت هيفاء مطلة، وما هي إلا هنيهة حتى نظرت يوسف براق يمر على اللاعبين، ووقعت عينها على عينه وكادت تفهم من نظرته أمرا، فتتبعته بنظرها حتى رأته توارى وراء الجدار الذي يسور الحديقة المجاورة، وقبل أن ترد نظرها رأت شيئا ارتمى من فوق الجدار إلى الحديقة، ولكنها لم تقدر أن تفهم ما هو، ثم ما لبثت أن رأت يوسف قد ظهر من وراء الجدار، وعاد من وراء اللاعبين وهي تتبعه بنظرها، وتومئ إلى جهة الجدار لتفهمه أنها رأت الشيء الذي ارتمى، ثم رأته توارى.
عند ذلك دخلت وأعطت الخادم قرشا ليرميه للاعبين، وبعد بضعة من الساعة نزلت هيفاء إلى الحديقة، ومشت إلى حيث ارتمى ذلك الشيء، فلم تجد إلا علبة قديمة وسخة من علب «البويا» التي يستعملها ماسحو الأحذية، فلم تعبأ بها في أول الأمر، ولكنها لما لم تجد غيرها انحنت وتناولتها، وفتحتها فوجدت فيها ورقة صغيرة، ففتحت الورقة وقرأت فيها ما يأتي:
أود أن أراك فكيف أستطيع؟ ومتى؟ وأين؟ أنتظر جوابك في هذه العلبة، فضعيها على زاوية الجدار، وفي أول الليل آتي وآخذها.
في أول الليل تناول يوسف براق العلبة عن الجدار، وفتحها فوجد فيها ورقة، فقرأها على نور مصباح الشارع هكذا:
المراقبة شديدة، فسأحاول أن أراك الليلة نحو الساعة الثالثة صباحا وراء المنزل عند جدار الحديقة.
في الوقت المعين كان يوسف عند ذلك الجدار فرآه يعلو نحو قامة، فنقل إليه حجرا كبيرا من حجارة كانت هناك، ووقف على الحجر حتى صار رأسه مشرفا على الحديقة.
بقي دقائق مطلا حتى رأى شبحا ينسل، فلما اقترب الشبح قال همسا: هيفاء؟ - من هذا؟ - أنا يوسف، تقدمي، لا تخافي.
فتقدمت الفتاة حتى صار رأسها تحت رأسه، وقالت: كيف اهتديت إلى منزلنا؟ - إذا كان أحد الناس يأتي إلى منزلكم ويئوب منه، فليس عسيرا أن أهتدي إليه. - من هو هذا الذي تعنيه؟ - الذي كان معكم في المركبة أمس أرشدني إلى منزلكم. - يستحيل ذلك. - طبعا يستحيل أن يفعل لو توقف الأمر على إرادته. - فهمت، تعني أنك تتبعته إلى هنا من حيث لا يدري، ولكن كيف اهتديت إليه بعد أن ركب معنا؟ - عاد لمقابلة الرومي الذي كنت أجالسه في القهوة، فعقدت النية على أن أتتبعه إلى حيث يذهب ففعلت. - ولكن كيف عرفت أن هذا المنزل الذي دخل إليه منزلنا لا منزله؟ - لم أعرف ذلك حتى رأيتك في الشرفة تتفرجين على لعب القردة. - إن مرورك في ذلك الحين لصدفة غريبة. - ليست صدفة. - إذن ماذا؟ - أنا دفعت لقادة القردة نصف ريال جزاء أن يأتوا ويلعبوا تحت شرفة هذا المنزل حتى إذا كنت فيه أشرفت من الشرفة، فصحت حيلتي كلها. - يا لها من حيلة جميلة! والآن تود أن تسألني عن رسالتك لليلى، فقد وقعت في يد أمي فظنت أنها لي. - لا، لا وقت لمثل هذه الأسئلة الآن، فأخبريني عن حالك وعلاقتك بفهيم رماح. - غدا أكون زوجة شرعية له إذ لم أعد أستطيع غير ذلك. - حاذري أن تفعلي. - ويلاه! لماذا؟ - لأنه خليل ثلاث ساقطات. - ماذا تقول؟ - كذا علمت، وكذا تأكدت فحاذري يا هيفاء، إن أمك تسوقك إلى هاوية من الويل عميقة. - رحماك! ماذا أفعل؟ - ارفضي الزواج. - لا أستطيع ما دمت تحت سيطرة أمي، فبربك أنقذني. - ارفضي ولا تخافي. - والاضطهاد؟ لا أستطيع احتماله. - هل تريدين أن تتركي أمك؟ - أين أحتمي؟ - إذا شئت فأنا أدبر أمرك. - متى تدبره وغدا الساعة العاشرة مساء يكون الإكليل؟ - هل تستطيعين أن تنسلي غدا في الليل من المنزل، وأنا أكون على استعداد لاختطافك والطيران بك؟ - إلى أين؟ - إلى حيث تكونين في مأمن من كل شر، فهل تثقين بي؟ - أثق، ولكني أخاف ألا أستطيع الخروج من المنزل ولا لحظة؛ لأن المراقبة شديدة. - حاسني الكل منذ الآن، وأظهري سرورك ورضاءك عن الزواج؛ حتى يثقوا بك ويخففوا من المراقبة عليك، وفي السهرة اغتنمي فرصة واخرجي، ومتى صرت خارج المنزل تفلتين من أيديهم. - حسن، إذن انتظرني غدا بين التاسعة والعاشرة وراء الحديقة، فإني أخرج من الباب الخلفي إلى الحديقة، فهل تستطيع أن تصعدني على الجدار؟ - أستطيع، فلا تترددي في الهرب إذن، لا تخافي، عودي إلى مخدعك الآن.
فرار العصفور من القفص
في مساء اليوم التالي كان جميل مرمور وجورجي آجيوس في مركبة تنطلق بهما إلى العباسية، وكان جورجي في ثوب قسيس، وكانت الساعة التاسعة حين دخلا، فرأى جورجي العروس في ثوب الإكليل والعريس فهيم بك رماح في ثوب رسمي.
وكان أول ما فعله جورجي أن هنأ العروس قائلا: إني أهنئك بهذا الزواج السعيد يا ابنتي؛ فإن مثل عريسك نادر جدا، فعسى أن تحبيه وتحرصي على قلبه فتعيشين سعيدة إن شاء الله.
فقالت هيفاء: إن لدعائك تأثيرا في سعادتي يا أبانا.
ثم نظر جورجي إلى فهيم فابتسم هذا له، أما جميل مرمور فكاد يفلت من فكيه عنان ضحكه، فنظر فيه جورجي عابسا ثم قال: أين الأشبين والأشبينة؟
فقال فهيم: أما الأشبين فهو المسيو جميل، والأشبينة أم العروس. - لا أرى أم العروس.
فقالت هيفاء: لا تزال تلبس ثوبها، إني ذاهبة لأستعجلها يا أبانا.
ونهضت هيفاء وخرجت، فقال جورجي: سبحان من أعطى ومن سوى؛ أين حظيت بهذه العروس الجديدة يا رماح بك؟ - التقادير ساقتها إلي يا أبانا. - بارك الله عليكما، أين الضريبة المقدسة يا جميل؟ - ها هي في كتاب الصلاة، ومتى انتهى الإكليل تأخذ الكتاب بما فيه. - لا، أريده تحويلا على بنك. - وإذا كان البنك مصادقا عليه ، فما قولك؟
وتناول جورجي الكتاب وفتحه، فرأى التحويل عند فصل صلاة الإكليل، فأبرقت أسرته وقال: ماذا تنتظرون؟ - ننتظر أم العروس.
عند ذلك وقف جميل وأطل من الباب، وقال: يا ست نديمة أعجلي.
وما هي إلا هنيهة حتى دخلت نديمة تتجلى بثوبها الأنيق، فقالت: أين هيفاء؟
فقال فهيم: ذهبت إلى حجرتك لتعجلك.
فبغتت نديمة وقالت: لم أرها.
فوقف الكل قائلين: إذن إلى أين ذهبت؟
وتراكضوا في غرف المنزل، وسألوا الخادمة والخدام فقالا: لم نرها.
فقالت نديمة: لقد هربت الشقية، كيف هربت ولم نعلم؟
فقال الخادم: أظن أوتوموبيلا أخذها؛ لأني سمعت دويه منذ دقيقة.
فصفقت نديمة كفا على كف قائلة: لقد خدعتني هذه الشقية.
فقال جورجي: إذا كنتم لا تستوثقون من رضا العروس، فلماذا تستدعون كاهنا للإكليل؟
وكان فهيم قد قبض على الكتاب، وأخذ التحويل منه ووضعه في جيبه، وقال لجورجي: خذ هذه عشرة جنيهات الآن جزاء تشريفك، ومتى استوثقنا من الفتاة نستدعيك ثانيا.
فتناول جورجي الجنيهات العشرة، وقال: إني مستعد لكل خدمة من هذا القبيل يا رماح بك، أين تظنون ذهبت الفتاة؛ فأنا أستردها؟ - لا ندري الآن شيئا، ولكننا لا بد أن ندري، فهل تود أن تتولى البحث عنها ولك الجزاء الذي تريده؟ - أفعل بكل سرور، ولي أمل عظيم بالفلاح.
وبعد مناقشة في الأمر افترق المجتمعون متفقين على أن جورجي يبحث عن الفتاة.
استطلاع أسرار
في إحدى الليالي كان جورجي آجيوس يطوف في جهات الأزبكية، فمال إلى دكان بائع تبغ ليبتاع، فما وقع نظره على البائع حتى صاح: يوسف! ماذا تفعل هنا؟
أما يوسف؛ فاكفهر وجهه قليلا وقال: أبيع سكاير. - هل اشتريت هذا الحانوت؟ - كلا، وإنما أخدم بالأجرة. - يا لله! أمثلك يحترف هذه الحرفة؟ - هل هي حرفة دنيئة؟ - قد لا تكون دنيئة، ولكنها زهيدة الأجر. - العمل بالأجر الزهيد خير من البطالة. - عهدي بك موظفا. - نعم، ولكني عزلت من وظيفتي. - لماذا؟ - عزلت بتهمة الاختلاس. - لا أصدق. - ولا أنا أصدق. - إذن كيف ذلك؟ - كنت موظفا في مصلحة التنظيم، وكنت موكلا بالدفع لبعض العمال وبالقبض منهم، واتفق ذات يوم أن جاءني شخص ودفع 40 غرشا، وعليه أن يدفع خمسين، وطلب إلي أن أقيد الخمسين مدفوعة، وأنه لا يبطئ بدفع العشرة الباقية بعد ساعة، وعلى سلامة نيتي طاوعته، ولكن قبل أن تأتي الساعة جاء المفتش واطلع على الحساب، فوجد الفلوس ناقصة عشرة، طبعا فأخبرته الحقيقة، فقال: في الصندوق عجز ولا بد من عمل محضر، فقلت: ها الغروش العشرة من جيبي وأنا آخذها من العامل، فلم يشأ أن يسمع لقولي، بل كتب المحضر ورام أن يسلمه إلى النيابة، فرأيت أني ذاهب إلى السجن حتما، فرجوت المفتش أن يتمهل حتى يأتي العامل، وبعد الرجاء الطويل رضي، أما العامل فلم يأت إلا بعد ميعاده بساعة، وليس معه نصف ريال فاستحلفته بالله وبرسله فأقر بالحقيقة تماما، فعدت أتوسل إلى المفتش أن يمزق المحضر بدعوى أني سليم النية، ففكر المفتش طويلا وقال: لا أشك بصدق نيتك، ولكن لم يعد في وسعي استبقاؤك في وظيفتك، فأكتفي بعزلك منها.
فأسفت جدا وجئت أبرهن له أني مظلوم، فأقنعني بأن القانون لا يسوغ بقائي في الوظيفة، فرجوت منه أن يعطيني كتاب توصية؛ لكي أطلب وظيفة في دائرة أخرى من دوائر الحكومة فضحك، وقال: «أصبحت محروما من الوظايف في كل دوائر الحكومة؛ لأن القانون ينص على ذلك.» فانظر كيف يخضع الناس للقوانين المدنية الصماء، ويدوسون بكل جسارة القوانين الأدبية. - ذلك لأن القوانين المدنية مكتوبة على الورق، والحكام موقعون عليها ومكلفون بتنفيذها، فهي كسلاح بأيديهم بعضهم ضد بعض، ولولا هذا السلاح ما قامت قائمة لحكومة، وأما القوانين الأدبية فأي صاحب نفوذ أو سلطة سنها، ومن هو مكلف بتنفيذها؟ - كل الهيئة الاجتماعية سنتها. - ماذا تعني بالهيئة الاجتماعية؟ - عامة الشعب. - فالعامة الذين سنوها هم مكلفون بتنفيذها، وهم ينفذونها بالفعل ولكن فيما بينهم فقط، أما الخاصة فهم فوق هذه القوانين؛ ولهذا لا يخضعون لها ولا يخضعون إلا للقوانين المدنية المكتوبة التي وقع عليها الحكام؟ - الحكام الذين من طبقتهم، صدقت صدقت فهم يسنون القوانين حسب رغبتهم، فإذا غلط مستخدم صغير مثلي غلطة زهيدة على سلامة نية عوقب بالطرد، ولكن الموظف الكبير قد يغلط الأغلاط الفظيعة الكبرى، ويبقى راسخا في وظيفته. - نعم؛ لأنه يفعل ما يروم متحايدا مخالفة القانون، فلماذا لا تفعل أنت كذلك؟ - لا أريد أن أفعل أبدا. - إذن لا تسخط إذا عزلت من وظيفتك. - كيف لا أسخط وأنا لم أذنب؟ - أذنبت بأنك قيدت ما لم تقبض، أو لم يخطر لك أن المفتش قد يباغتك؟ - لم أر وجه المفتش إلا في تلك اللحظة.
ففكر جورجي هنيهة، وقال: ألم تغلط هذه الغلطة قبلا؟ - هي الأولى والأخيرة. - عجيبة هذه المصادفة، هل علم أحد بغلطتك هذه قبل أن يعلم بها المفتش؟ - لا أدري ولا أظن أحدا علمها إلا ذلك العامل. - هل كنت وحدك في مكتبك؟ - كلا، بل كان معي سليم هيزلي الذي يشتغل على مكتب آخر في نفس الغرفة. - ألا تظن أنه هو الذي وشى بك سرا؟ - لا أظن؛ لأن سليما رجل طيب القلب جدا، وكلانا صديقان حميمان، وهو يتقرب مني جدا. - أقول لك يا يوسف: إنك مخدوع بهذا الصديق، وغلطك أنك تركن إلى الناس. - يستحيل أن يكون سليم واشيا بي. - لا يستحيل يا يوسف، وهل تقول لي ما هي معارف سليم؟ - معارفه ليست قليلة. - وأنت تضاهيه؟ - لا أكون متبجحا إذا قلت: إني أفوقه، ولكنه يشغل وظيفته جيدا. - أقول لك: إن سليما هذا هو الذي انتهز الفرصة للوشاية بك، ولا يبعد أن يكون قد تواطأ مع العامل نفسه؛ لكي يوقعاك في الشرك؛ ذلك لأن سليما يخاف أن تتفوق عليه فود أن يبعدك، ولم يجد غير هذه الوسيلة لإبعادك. - ولكنه هو الذي توسط لي. - ليس هذا ببرهان فقد يشي بك وإن توسط لك قبلا؛ لأنه حين توسط لك قبلا لم يخطر له أنك تكون خطرا عليه؟
فبهت يوسف لهذا التعليل، وقال: إذن سليم مثل دور المسيو سرار في البنك. - ما هو دور البنك؟
فروى له يوسف ما جرى له في البنك، ولما انتهى من الرواية قال له جورجي: أوما تعلمت من دور البنك درسا نافعا ؟ فلماذا تركن إلى الناس؟ ولماذا لا تحتاط منهم؟ الناس عقارب صغيرة لاسعة؛ فلا تركن إلى أحد حتى ولا لي.
فاشتدت بهتة يوسف، وقال: ما كان يخطر في بالي أن الناس يفعلون الشر العظيم لأجل النفع القليل، هل تطاوع سليما ذمته أنه يقتل مستقبلي لمجرد أنه يخاف أن أتفوق عليه في مكتبه، وأنا لا أنوي شيئا من ذلك.
فضحك جورجي وقال: سامحني إذا قلت لك: إنك ساذج يا أخي ولم تدرس حرفا واحدا في مدرسة العالم فادرس واستفد، أفما وجدت خدمة غير الخدمة في هذا الحانوت الحقير؟ - قلت لك: إني أصبحت محروما من وظائف الحكومة، وأما الدوائر المالية ونحوها فما طرقت بابا منها إلا رأيته مسدودا في وجهي. - لأنك لا تعرف كيف تزاحم، فما الأبواب مقفلة في وجهك، ولكن المزاحمين سدوها، كان يجب أن تستمر في السعي، وتزاحم ولا تحط نفسك إلى حرفة كهذه. - قضيت أسبوعا وأنا أسعى فمللت البطالة، وأخيرا علمت أن صاحب هذا المحل يحتاج إلى مستخدم فخدمت عنده. - حسن أن تشغل بعض وقتك هنا، والوقت الآخر في السعي إلى خدمة أخرى. - الوقت الآخر؟ وهل عندي وقت آخر؟ إني هنا من الصباح حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ فمتى أسعى؟ - يا لله! كيف ترضى بذلك؟ - ماذا أفعل وهي شروط صاحب المحل؟ - كم يدفع لك أجرة؟ - أربعة جنيهات في الشهر. - أربعة جنيهات؟ بالله كيف تطيق ذلك؟ - ماذا أفعل؟ - الأفضل أن تبقى بلا عمل حتى تجد خدمة أفضل. - لا أستطيع البطالة طويلا. - إذا كنت في حاجة إلى بعض الدريهمات فأسلفك ولا تقنط، هذه ورقة بعشرة جنيهات ولا أطالبك بها، فردها متى تيسرت.
فرد له يوسف الورقة باسما وقال: إني ممتن لك يا جورجي عظيم الامتنان فما أنا في حاجة الآن. - إذن يجب أن تترك هذا المحل. - لا أستطيع تركه؛ لأن علي واجبات. - تقول: إنك عازب؛ فأي الواجبات عليك؟ هل عندك خليلة؟
فضحك يوسف مزمهرا، وقال: نعم ولكنها ليست كالخليلات. - كيف ذلك؟ - دعنا من هذا الموضوع.
ففكر جورجي هنيهة، وقال: لماذا لا تخبرني عن واجباتك؛ فإني صديق لك وأريد أن أكون عونك، فمن هي هذه الخليلة؟ - لا تقل: خليلة، بل صديقة، بل أرجو ألا تطلب مني أن أخبرك عن شئوني الخاصة. - لا أطلب ذلك إلا لأكون معوانا لك، فأخبرني يا يوسف وثق بي. - تضطرني أن أبوح لك بسر. - لا بأس؛ فليس قصدي أن أفشي أسرارك، فأود أن تقول هل هذه الصديقة في محنة وأنت تساعدها؟ - شيء كذلك. - إذن أود أن أشاركك في مساعدتها. - بارك الله فيك، إن ما معي وما أكسبه يكفيني ويكفيها الآن. - كأنك تريد أن تحرمني الأجر، وأنا أود أن أفعله، فبالله لا تردني عن عمل خير، وهو أول ما أفعله في حياتي.
فتردد يوسف في الجواب، فقال له جورجي: بالله تقول ما حكاية هذه الصديقة؟ - هي فتاة قاصرة كانت أمها تهتم أن تزوجها من رجل لا تريده، وأخيرا كادت تتغلب عليها، وقد علمت أن الرجل لا يليق أن يكون زوجا للفتاة؛ لأنه سيئ السيرة جدا، فسعيت وأنقذت الفتاة وخبأتها في مكان أمين وأنا أعولها. - حسن جدا، خذ العشرة جنيهات للفتاة. - أكثر الله خيرك، قد لا نحتاج إليها فإن أعوزتنا أخذتها منك.
وألح عليه جورجي جدا أن يأخذ الورقة فلم يأخذها، فقال: ليس من الحكمة أن تكابر وأن تبقى سجينا هنا، بل الأفضل أن تستعين بها الآن؛ لكي تكون حرا وتسعى إلى خدمة أخرى. - أسعى بالمكاتبة. - لا تنجح. - لا بأس. - إنك لعنيد. - لا تؤاخذني. - إذن أنا أسعى لك بخدمة أخرى، ولكن أين أودعت الفتاة؟ - لا تسألني فلا أقول، دع هذا سرا من أسراري التي لا تقال.
وبقي جورجي يحتال عليه حتى يعلم مقر الفتاة فلم يستطع، وفي أثناء المناقشة تقدم شار فبغت يوسف؛ إذ رأى أنه هو صديق الهيزلي، ولما اشترى صديق علبة سكاير عاد إلى مركبة كانت تنتظره في الشارع، فلمح يوسف فيها ليلى وأخاها نجيب، فرام أن تنشق الأرض وتبتلعه، ولا سيما إذ وقعت عينها على عينه.
مصير الفيلسوف
في ذلك المساء كان الدكتور صديق هيزلي مجتمعا بليلى في منزلها منفردين، إذ كان أبوها لاهيا بأموره وأخوها غائبا.
فقال لها صديق: هل رأيت الذي يبيع السكاير في تلك الدكانة الصغيرة؟ وهل عرفته؟
فامتعضت ليلى قائلة: رأيته وعرفته فماذا؟ - وددت أن تري هذا الفيلسوف الذي تعجبين بعمله وفلسفته، وتعلمي ماذا يكون مصيره. - إذن أنت تعمدت المرور بنا من هناك لكي تريني ... - نعم؛ لكي أريك يوسف براق خادما في دكان سكاير، وربما رأيته غدا في حانوت بدال، وبعد غد يمسح الأحذية. - لا أدري لماذا تود أن تريني كل ذلك. - لكي تعلمي مصير الفلسفة والفلاسفة. - ولكن هذا مصير لا يحط من قدر العلم والمعرفة، فهل تنكر أن هذا الفتى نابغة في ذكائه ومعرفته؟ - قد يكون كما تقولين، ولكن هل تعلمين ماذا يقول الناس عنه؟ - كلا، لا أود أن أعلم. - يقولون: إنه مجنون. - قد يكون الناس صادقين؛ لأن بعض ضروب الجنون إغراق في الذكاء، وهو خير من الإغراق في البله.
فضحك صديق، وقال: فليأكل علما ويشرب معرفة، ويلبس ذكاء، ويسكن مستشفى المجانين.
فابتسمت ليلى قائلة: لو كان كما تقول ما كان يشتغل ليعيش من تعبه. - وهل يليق بالفيلسوف أن يكون خادما في حانوت سكاير حقير؟ - ليست الخدمة مهما كان نوعها لتشين الفيلسوف، وما نشأ النوابغ إلا من الطبقات الوضيعة. - نعم، ولكنهم كانوا يصعدون، وأما فيلسوفك فينزل تدريجا، كان أولا كاتبا في بنك فما لبث أن طرد منه طردا لسخافة عقله، وانتفاخ أوهامه، ثم تعين في مصلحة التنظيم في وظيفة حسنة، فما لبث أن عزل لهفوة نجمت عن جهله أحوال العالم، وحرم بسببها التوظف في دوائر الحكومة، ثم طاف بجميع الدوائر المالية وغيرها فلم تشفع فيه فلسفته، بل كانت الأبواب مفتوحة لغيره تقفل في وجهه؛ لأن كل ملمحة من ملامحه تعرب عن جنونه، وبعد قليل يكتشف صاحب دكانة السكاير جنونه فيطرده، ومتى أقفلت في وجهه أبواب الرزق يلجأ إلى مستشفى المجانين، الذي هو نهاية مصيره لا محالة، ولو كان نابغة كما تزعمين ما نبذته أوروبا، التي هي أرحب مضمار لتسابق النوابغ.
فهزت ليلى كتفيها قائلة: يعرف شأنه. - بالطبع يعرف شأنه؛ ولكني وددت أن أعلمك حقيقة فيلسوفك الذي تطنبين بمقالته، وما هي إلا كلام لا وزن له كوزن أثيره.
فضحكت ليلى، وقالت: وتريد أيضا أن تمحق علمه وفضائله كما تمحق مستقبله. - وتقولين: فضائله أيضا؟ - نعم؛ فإن مبادئه العلمية والفلسفية هي أم الفضيلة.
فقهقه صديق، وقال: إنك مغرورة جدا، بل مخدوعة بعلمه ومعارفه؛ فهي لم تثمر إلا الرذائل.
فعبست ليلى قائلة: لا تنم بالرجل وهو غائب. - ليته حاضر الآن فأستجوبه عن سيرته أمامك، ومهما بالغ في الإنكار تنفضح منكراته. - يا لله! تعزو للرجل منكرات أيضا! - إذا كان قد اختطف الفتاة هيفاء التي كانت خادمة عندك، واحتظاها في مكان مجهول، وأهلها يبحثون عنها، وهو ينكر علاقته بها، أفلا تعدين هذا منكرا؟
فانتفضت ليلى وامتقع وجهها، وبقيت صامتة هنيهة ثم قالت: إنك تمين الآن يا صديق.
فضحك صديق وقال: إن كنت أمين فسينفضح ميني، وإذا شئت أن تتحققي صحة قولي فابحثي عن الفتاة، فإذا وجدتها كان لك من أهلها الجزاء. - إذا كانت الفتاة مختفية من وجه أهلها؛ فلأن أمها تريد أن تزوجها ممن لا تريده زوجا؛ ولهذا فرت من عند أمها وخدمت عندي، وهي - والحق يقال - أنبل من أن تكون خادمة. - لماذا لم تبق خادمة عندك؟ - لعلها علمت أن أمها أوشكت أن تهتدي إليها ففرت إلى مكان آخر؛ حيث تبالغ بالتخفي. - نعم، تبالغ بالتخفي؛ لأنها تستحي أن تقول لك: إنها خليلة يوسف براق.
فانتفضت ليلى، وقالت: متى عرفته وعرفها حتى يكونا خليلين؟ - عرفته وعرفها قبل أن تعرفيها، والحب بينهما ليس جديدا؛ فقد كانا جارين يتغازلان من شباكيهما.
فازداد وجه ليلى امتقاعا، وبعد هنيهة قالت: كيف عرفت كل ذلك؟ - عرفته من كثيرين، وأخصهم صديقه جورجي آجيوس الرومي، هل اقتنعت أن فلسفة فيلسوفك لا تثمر فضيلة؟ - ماذا يهمني وماذا يهمك؟ - أود أن لا يهمك أمر هذا المجنون السافل، ولكن يسوءني أن تصرفي قلبك عني إليه إذا لم يكن لأجل نفسك فلأجل نفسي. - لأجل نفسك؟ - نعم، وهل تجهلين حبي لك يا ليلى؟
فبقيت صامتة إلى أن قال: أود أن تفكري يا ليلى عسى أن تري خطأك، واغترارك بما تتوهمينه من محاسن هذا الفتى، تصوري ماذا يقول عنك الناس إذا ... - إذا ماذا؟ - لا أود أن أمدح نفسي؛ ولا سيما لأنك تعرفينني معرفة القريبة للقريب، فماذا تريدين أن يكون من تبتغينه زوجا؟ أعالما؟ فلا أظن أن علم الطب وما يتصل به من العلوم أمر يخلو من الفخر، أديبا فاضلا؟ أنت تعرفين سيرتي ومكانتي بين الناس، غنيا؟ إني أغنى مما تتصورين فإذا صرت ربة بيتي كنت ملكة في مملكة واسعة، تحف بك بطانة كبطانة الملكات، تسكنين قصرا، ترفلين بالدمقس، تتحلين بأثمن الجواهر، تتزاورين مع الأميرات، فبماذا تطمعين بعد؟ - لا أطمع بشيء من ذلك. - إذن ما هي أمنيتك؟ - أمنيتي أن أكون سعيدة النفس. - أجعلك سعيدة النفس كما ترومين.
فبقيت ليلى صامتة إلى أن قال: هل حاسبت ضميرك؟ - حاسبته من زمان. - وماذا تقولين الآن بعد اطلاعك على هذه الحقائق؟ - اعتبرني غير موجودة وافعل ما يروق لك.
فجحظت عينا صديق وقال: يا للعناد! إنك لغبية لا تعرفين مصلحتك، ولا ترين خطأك حتى تتألمين من ويله. - لا تشفق علي. - لا أستطيع أن أقسو يا ليلى؛ لأني أحبك فوق كل حب. - أتأسف أن هذا الحب ضائع بي، فليتك تحوله إلى فتاة تكون أكثر ألفة بك مني. - إذن لا ألفة إلا بينك وبين الفيلسوف. - دعني وشأني ولا تزعج نفسي.
وبعد سكوت هنيهة قال صديق: إني أتركك الآن؛ لئلا تتمادي في عنادك، فلعلك متى فكرت تعودين إلى صوابك.
فقالت وهي في ملء الكآبة: اتركني اتركني.
فنهض صديق وتناول يدها وهم أن يقبلها فاختطفت يدها من يده مكتفية بالمصافحة، فخرج بين يأس وأمل.
ما أسهل الغدر على الصديق!
في ذات مساء جاء جورجي آجيوس إلى يوسف براق، وقال له: أريد أن تستأذن صاحب هذا المحل بالتغيب الليلة. - لماذا؟ - لأني أود أن تذهب معي لزيارة رجل كبير والتعرف به؛ لأنه يهتم الآن بمشروع عظيم ويحتاج فيه إلى مثلك، فإذا قابلته فلا بد أن تعجبه، ويكون لك معه حظ كبير، وقد مهدت لك السبيل فاستأذن بالتغيب صاحب الدكانة متى عاد. - ولكن صاحب المحل لا يأذن. - استعف وامض ولا تسأل عنه؛ فهل تبقى رهينا في هذه الدكانة الحقيرة؟ - من هو هذا الرجل الكبير؟ - سأخبرك عنه حين نذهب معا، وسأنتظرك الساعة العاشرة في قهوة الشيشة، فلا تتردد في مطاوعتي، لا أقدر أن أتأخر دقيقة الآن، إلى الملتقى.
ولما كانت الساعة العاشرة التقى يوسف بجورجي في قهوة الشيشة، فقال هذا له: «هيا بنا لئلا يفوت الوقت.» فمشى الاثنان معا إلى جهة الحديقة، وكان هناك أوتوموبيل ينتظرهما، وفيه رجل وحوذي، فصعدا إلى الأوتوموبيل وفي الحال درج بهما، فقال يوسف: إلى الآن لا أدري إلى أين أنا ذاهب.
فقال جورجي: إلى المستر هنري ميس الأميركي، وقد جاء هذا الرجل حديثا إلى مصر لكي يؤلف شركة زراعية كبرى والمسيو فوتيوس هنا (مشيرا إلى الرجل الآخر) يقدمك إليه؛ لأنه يتكلم الإنكليزية.
وكان يوسف بين الاثنين فشكر للمسيو فوتيوس خدمته.
وما هي إلا دقيقة حتى رأى يوسف أن الأوتوموبيل يدرج في شارع عباس، وما أوغل الأوتوموبيل في هذا الشارع حتى شعر يوسف أن كفين من حديد قبضتا على ذراعيه من ورائه، فعلم أنهما كفا المسيو فوتيوس، فدهش ورام أن يصرخ فشعر أن كف جورجي قبضت على عنقه أيضا، وأن إسفنجة مبتلة وضعت على أنفه ولم يعد يستطيع حراكا، وفي نصف دقيقة فقد وجدانه. •••
لم يع يوسف من سباته إلا بعد حين، وأول ما شعر به أن يديه لم تزالا مقبوضتين، فحاول الإفلات فخانته قوته؛ لأن فعل الكلوروفورم لم ينقض تماما، وكان يفتح عينيه ويغمضهما فلا يرى إلا ظلاما في الحالتين، ثم ما لبث أن فهم أنه موثق اليدين والرجلين، ولم يشعر بوجود أحد غيره في ذلك المكان، فقال في نفسه: إذا لم أكن موءودا حيا وكان قضاتي عادلين يبقى لي أمل بالخلاص؛ لأني لم أرتكب وزرا ولم أسئ إلى أحد.
ثم ما لبث أن سمع حركة وصليل مفتاح في باب، ورأى ومضات نور ضئيلة، فتنهد الصعداء، وعند ذلك انفتح الباب فرأى يوسف شخصا مقنعا بقناع لا يشف عن وجهه، وفي يده الواحدة مصباح ضئيل النور جدا، وفي يده الأخرى كرسي صغير، فأجال يوسف نظره في المكان، فإذا هو غرفة فارغة ليس فيها شيء غيره.
ثم أوصد الرجل المقنع الباب، وجلس على كرسيه أمام يوسف وبقي صامتا والهلع يأخذ من فؤاد يوسف، فقال هذا بصوت خافت: هل أنت عزرائيل؟
فأجابه المقنع: كلا، بل أنا نائبه. - من أنت؟ - أنا من لا تعرفه ولم تره قط ولن تراه بعد الآن. - إذن لماذا أنت مقنع؟ - إني مقنع حتى إذا رأيت وجهي في المستقبل لا تعرفني. - إذن لم يزل لي مستقبل! - نعم، ولكن مستقبلك في يدك، فإذا أجبتني على ما أسألك بالصدق تعود من حيث أتيت. - وإلا؟ - فتهلك حيث أنت ولا يعلم بك إلا أسماك النيل.
فخفق فؤاد يوسف جزعا، وقال: سل. - أين أودعت هيفاء؟ قل الحقيقة؛ لأنه لا يطلق سراحك إلا متى عادت هيفاء إلى أهلها.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: وهل ترغم هيفاء على زواج من لا تريده؟ - ليس هذا شأنك. - ذلك شأني؛ لأن لي شرطا كما لك شرط، فهل يطلق سراحي حالما تهتدون إلى محل هيفاء. - لا أقدر أن أعدك بذلك، وإنما أنا مكلف بالاستعلام منك عن مقر هيفاء الحقيقي، وغيري مكلف باستردادها. - وبتزويجها من ذلك الزنيم؟ - لا أدري. - إذن لا أدلكم عليها. - إذن تموت الليلة، وستموت معذبا.
ثم نهض الرجل المقنع وهم بالخروج كأنه أنجز مهمته، فصاح به يوسف: دمي على رءوسكم يا لئام. - لا تصخب ولا تصرخ فليس من يسمع. - إلى أين يا لئيم؟ - سأعود مستعدا لإهلاكك؛ لأن مهمتي لم تنته. - والحكومة والبوليس والقضاء؟ - احتطنا لكل شيء؛ فما نحن أغبياء. - أين جورجي آجيوس؟ - لا أعرفه. - من تعرف؟ - لا أعرف إنسانا ولا إلها. - أفما أنت إنسان ذو قلب؟ - صرت عزرائيلا بلا قلب.
فاشتد جزع يوسف وقال: رحماك يا هذا لا أطلب منك كثيرا، أطلب أمرا صغيرا جدا وهو أن ترسل لي يهوذا الذي سلمني، فإذا كنت لا تعرفه فالذين تعرفهم يعرفونه. - لا تنتظر أن ترى هنا غيري، فاستعد للقاء ربك.
وخرج الرجل موصدا الباب وراءه، وعادت الظلماء تتكاثف على صدر يوسف.
تطريق فؤاد صلد
بعد ساعة من الزمان حسبها يوسف عاما انفتح الباب، ودخل منه جورجي آجيوس وفي يده المصباح والكرسي ثم جلس، فلما تبينه يوسف جحظت عيناه، وقال محرقا الأرم: رح اشنق نفسك. - لماذا؟ - كذا فعل يهوذا قبلك. - أنا أرقى من يهوذا. - لم يجسر يهوذا أن يرى سيده بعد تسليمه. - لذلك أنا أرقى منه؛ فهو ابتدأ ولم يكمل، أما أنا فأكمل ما ابتدأت. - ماذا عساك أن تفعل بعد تسليمي؟ - ماذا بعد التسليم غير الصلب؟ - إذن نحن عدوان. - بل نحن صديقان كما كان يهوذا والمسيح قبلنا. - ولكن الفرق بين يهوذا والمسيح كان عظيما جدا. - والفرق بيني وبينك أعظم. - كيف ذلك؟ - كان المسيح ويهوذا إنسانين. - ونحن؟ - أحدنا حيوان. - إذن تعترف أنك حيوان! - لو كنت حيوانا لشنقت نفسي كما فعل يهوذا بعد تسليم سيده. - إذن أنا الحيوان؟ - نعم، وأنا الإنسان. - كيف ذلك؟ - لأن الإنسان شرير والحيوان صالح، الإنسان يكذب والحيوان يصدق، الإنسان يظلم والحيوان يرحم، الإنسان ينتقم والحيوان يسامح، الإنسان غادر والحيوان أمين، فأنت سيئ الحظ؛ لأن صديقك إنسان فليتك إنسان، فما كنت تركن إلي، أو ليتني حيوان فما كنت أغدر بك. - أود أن أصوغ منك حيوانا. - يستحيل عليك أن تحول النحاس إلى ذهب. - بكم بعتني يا جورجي؟ - بقدر ما أخسرتني. - ماذا أخسرتك؟ - أخسرتني ألفا وخمسمائة جنيه. - بعتني بأغلى من المسيح. - لأني أذكى من يهوذا، فأعرف كيف أساوم. - هل قبضت الثمن؟ - متى أنجزت مهمتي أقبض ثلاثة آلاف جنيه. - تغدر بي لأجل ثلاثة آلاف جنيه؟ - بل لأجل حياتي. - هل حياتك في خطر؟ - كلا، وإنما قوتي في خطر من ضعف الهرم، فبثلاثة آلاف جنيه أكسب آخرتي، أما نصحت لي أن أستعد لآخرتي؟ فها أنا أستعد لها. - أبهذا الغدر تستعد لها؟ - لم أجد أسهل من هذه الوسيلة. - تقول: متى أنجزت مهمتك تقبض الثمن، فمتى تنجزها؟ - متى عادت الفتاة إلى أمها. - إذن كسبك يتوقف على تسليمي الفتاة. - وحياتك أيضا تتوقف على هذا التسليم. - تعني: إما حياة الفتاة لها أو حياتي لي وآلاف الجنيهات لك. - بل الكل معا أو لا شيء. - تعني أن نضحي بحياة الفتاة؛ لكي أخلص أنا وتكسب أنت. - لا خطر على حياة الفتاة ولا نضحي بها. - نعم، نضحي بحياتها الأدبية. - ستتزوج الفتاة رجلا وفير الثروة، وتكون في نعيم لم تحلم به. - إن ما تعده أنت نعيما تعده هي جحيما، وإلا ما نفرت من هذا الزواج. - لم تنفر إلا لأنك أريتها الوجه المظلم في هذا الزواج، فلو أريتها الوجه المنير ما نفرت، بل كانت تتمتع بأحلام النعيم الذي ستصل إليه. - لم أرها إلا الحقيقة ناصعة، فرأت الوجهين وأدركت أن الظلمة أبدية ثابتة، وأن النور ومضة زائلة؛ ولهذا نفرت من تلقاء نفسها. - أنت ظلمت هذه الفتاة. - بماذا ظلمتها؟ - هي تمثال من شمع وأنت طبعت عليه مبادئك. - أبهذا ظلمتها؟ - نعم؛ لأن مبادئك تؤدي إلى الشقاء، راجع تاريخ حياتك القصير في مصر، وقل إلى أي سعادة أدت بك هذه المبادئ، فلو تركت الفتاة بين يدي أمها تطبع في خلقها مبادئها، لكانت الفتاة وهي زوجة ذلك الغني تشعر أنها في نعيم تحسدها عليه ألوف الفتيات. - ظلت أمها تطبع مبادئها فيها خمسة عشر عاما، وأنا لم أطبع فيها من مبادئي إلا مدة ساعة، فلو لم تكن مبادئي أصح ما ... - ما زالت الفتاة طينة لينة يسهل نسخ القديم منها وطبع الجديد فيها، ردها لأمها فتنسخ منها ما طبعته أنت وتطبع ثانية ما نسخته. - لم تستطع أمها طبع شيء، بل كانت تحسن التمويه على عين بصيرتها، فلما أزلت أنا هذا التمويه رأت الفتاة الحقيقة من نفسها، فنفرت من نصائح أمها. - ما هذا التمويه الذي أزلته أنت؟ - أخبرتها أن للرجل ثلاث خليلات، فإذا تزوجته كانت رابعتهن. - بهذا ظلمتها؛ لأنك لو تركتها في عماها لكان في وسع الرجل أن يضع على بصيرتها غشاء فوق غشاء من عيشة الرخاء، فتشعر أنها في نعيم دائم أنت تحرمها منه الآن؛ ولذلك أقول: إنك ظلمتها. - أتعد عيشة الفجور نعيما؟ - نعم، سل الرفيقات الثلاث يخبرنك عن نعيمهن، فلو خيرت إحداهن بين مرافقة الرجل والسماء لاختارت مرافقته. - نعم؛ لأنها لا تعلم ما هي سماء الحياة الأدبية، فهي معذورة إذا فضلت المعلوم على المجهول، فلو خيرت فتاة انطبعت فيها مبادئ الحياة الروحية بين هذه الحياة مع القلة، وبين حياة الفساد مع الثروة لفضلت تلك. - كأنك تقول لي:
لكل امرئ من دهره ما تعودا - نعم. - إذن لماذا لم تترك هيفاء تتعود الحياة الأخرى الجسدية؟ - لأنها تعودت الحياة الروحية أولا، فإذا جربت الأخرى، وجعلت أخيرا تقابل بينهما شعرت أنها سقطت في شقاء هائل لا تعود تستطيع الخلاص منه، فأنا أريد أن أنجيها من هذا السقوط. - أتعد عيشة الغنى والسعة شقاء وسقوطا؟ - نعم، سل أي واحدة من أولئك الرفيقات: هل تريدين أن تعيشي عيشة زوجية طاهرة ليس فيها استعباد للسعة، ولفضل الرفيق الذي لا يرضيه شيء؟ تتنهد وتقل لك: «آه لو يمكن ذلك!» فهل تنكر أنه يستحيل؟ نعم يستحيل؛ لأنها سقطت إلى هاوية عميقة ولا يمكن أن تصل إليها يد لتنتشلها، أفلا تعد ذلك سقوطا هائلا؟
ففكر جورجي هنيهة، وقال: ولكن هذه القاعدة ليست مطردة، أفلم تر امرأة تركت الحياة الزوجية الطاهرة، واتخذت الحياة الجسدية الفاسدة؟ - نعم، ولكن سلها ذلك السؤال بعد ذلك تجبك نفس الجواب. - قد تجيب نفس الجواب وقد تجيب عكسه. - إن أجابت عكسه كان لها بعض العذر، وكان لذلك سبب، ولكن ليس جوابها سنة ما دامت هناك ساقطات يتحسرن على النهوض. - كأنك تقول لي: إن النساء صنفان صنف يندم وصنف لا يندم. - نعم، والصنف الأول أغلب، وهيفاء منه، وأنا أريد أن أقيها الندم على زلة القدم. - ما أنت مسئول عن الفتاة. - بل أنا مسئول؛ لأني تعهدت لها بالخلاص والإخلاص فلا أنقض عهدي. - هل تريد أن تتزوجها. - لا لا. - إذن أنصح لك أن تسلمها. - لن أسلمها. - إذن أتأسف أنك لم تقبل نصائحي والأخير منها أثمنها.
ونهض جورجي وحمل فانوسه وكرسيه، وهم أن يخرج، فصاح به يوسف قائلا: جورجي. - نعم. - تعال اجلس.
فجلس جورجي قائلا: جلست، ماذا تريد؟ - أليس لك قلب؟ - كان لي، وأما الآن فأنا بلا قلب. - أنا أرد قلبك إليك. - لا أريد استرداده؛ لأني بلا قلب أسعد حالا مني به. - لقد نسيت لذة القلب يا جورجي. - لم أنس لوعته. - إذن لم يزل لك أثر قلب، فبالله قل لي: كيف فقدت قلبك؟ - فقدته مع بني وزوجتي. - هل تريد أن يكون لك بنون؟ - لا. - لا تجاوب بلا تعليل. - لماذا أريد أن يكون لي بنون؟ - لكي تعيش بقية العمر أسعد منك الآن. - كيف أعيش أسعد مني الآن؟ - بحب البنين. - أبعد هذه الشيخوخة أستطيع أن أحب. - تحب حبا أعظم من حب الشبيبة. - وهل بقي من العمر ما يكفي للزوجة والبنين؟ إنك تدفعني إلى تعاسة. - أي تعاسة هذه؟ - تعاسة أن أرى زوجة وأطفالا لا أستطيع أن أعولهم مع نفسي، فأموت منغصا وتعيش عائلتي بعدي شقية، لا لا، إن نصحك معكوس النتيجة. - وما قولك إذا كنت أبا لأولاد كبار لا ينغصك تركهم، ولا يشقون بعدك؟
فضحك جورجي قائلا: وهل تظن أني أحب أولادا ليسوا من دمي؟ - لماذا كنت تحب بنيك؟ - لأني ربيتهم وبذلت روحي لأجلهم فأحبوني. - وإذا كنت الآن تبصق على الثلاثة آلاف جنيه؛ لتخلص حياة فتى جسدية وحياة فتاة روحية، فكم تظن يكون حبهما لك؟
ففكر جورجي مطرقا وبقي صامتا، فقال له يوسف: أود أن تتصور كم يكون حب يوسف وهيفاء لك، لا تستطيع أن تتصور ذلك طبعا.
فرفع جورجي نظره إلى يوسف وقال متنهدا: الحق أني لا أدري. - أنا أصور لك ذلك، هل تعرف حكاية الأسد؟ - ما هي حكاية الأسد؟ - قيل: إن أميرا كان يحب فتاة، وكانت الفتاة تحب سواه ففرت من أمام وجهه وتاهت في البراري، فأرسل عصابة وراءها، فلجأت الفتاة إلى كهف وباتت فيه، فلما طلع الصباح استيقظت على أنين مخيف، فرأت في جانب من الكهف أسدا مضجعا يتألم كأنه يموت، فجزعت في أول الأمر ورامت أن تنسل من الكهف، ولكنها رأت العصابة التي تطاردها ، فخافت أن تقع في أيديها وفضلت أن تقع فريسة للأسد على أن تكون فريسة للأمير، فتقدمت إليه ورأت في رجله شوكة كبيرة، فأدركت سر أنينه، فشددت قلبها وتقدمت إلى رجله واستخرجت الشوكة منها، وهو ينظر إليها، ولما استراح الأسد خرج من الكهف فطاردته العصابة، وتغلبت عليه وأسرته، وبعد ذلك لم تستطع الفتاة فرارا من وجه العصابة، فوقعت في يد الأمير، ولما عجز الأمير عن استمالتها إليه أمر أن تربط إلى عمود في رحبة مسورة بالحديد وأن يطلق الأسد عليها، وكان ما أمر، فهل تعلم ماذا حل بالفتاة؟ - هل أعرض الأسد عنها؟ - بل حل وثاقها، أليس ذلك عجيبا؟
فقال جورجي مكفهرا: ليس عجيبا؛ لأن الأسد حيوان يذكر الجميل والأمير إنسان مفترس. - حسن، فما قولك بحيوانين أرق من الأسد قلبا، وكم يكون حبهما لك إذا أنقذت حياتيهما؟! - يكون شديدا طبعا. - فما قولك إذن أن تنقذني، وكلانا ننقذ هيفاء ونعيش أنا وهيفاء معك كولدين لك، ونعنى بك كأب حتى آخر نسمة من حياتك؟
فكاد جورجي يجهش بالبكاء، ثم تجلد وقال: ما زلت يا يوسف خياليا، وتريد أن تمثل تمثيلا، إذا كنا أنت وأنا حرين لنمثل هذا الدور، فهيفاء ليست حرة بل هي مقيدة بأم لا تزال حية. - لقد صدقت، إنها حية تلسع، فما هي أم هيفاء. - صفها ما شئت، وأما هي فتعتقد أنها تخدم ابنتها. - قلت لك: ليست هيفاء ابنتها ولا تلك المرأة الفاجرة أمها، بل هي خالتها وقد لا تكون خالتها أيضا. - ماذا تقول؟ - أقول: إن هيفاء قالت لي: إنها تعرفها خالتها، وإنما تلك المرأة السليطة تدعي الآن أنها أمها. - ألا تعرف هيفاء أمها الحقيقية؟ - كلا، لا تعرف أمها ولا أباها، ولم تع على هذا العالم وشقائه إلا وهي في حوزة تلك الفاجرة، وهي ادعت لها أنها خالتها لا أمها، فلا يبعد ألا تكون خالتها أيضا؛ ولهذا أقول لك: إن هيفاء تقدر أن تتحرر من رق تلك الفاجرة بمجرد إرادتها.
فسكت الاثنان هنيهة، ثم قال جورجي: قد أصبحت رجلا شريرا يا يوسف ، فلماذا تحاول عبثا أن تشتق مني رجلا طيبا، لا طيب من الخبيث. - لا بد أنك كنت قبلا رجلا طيبا، فليس مستحيلا أن تعود إلى أصلك، فأصل الشوكة بزرة في وردة ثم نضجت فأزهرت وردة أيضا.
فبقي جورجي ساكتا هنيهة، ثم وقف يريد الخروج، فقال له يوسف: إذا قررتم تنفيذ قضائكم علي فلي عليكم شرط واحد. - ما هو؟ - هو أن تنفذ القضاء أنت وحدك. - تعني أنك تريد أن تجمع كل الجمر على رأسي. - لا، بل أريد ألا تمتد إلي يد دنسة، فهل عندكم فرق إذا كان الموت واحدا؟
ففتح جورجي الباب، فقال له يوسف: أرجو منك معروفا واحدا. - ما هو؟ - هو ألا تدعني أرى غيرك.
فأقفل جورجي الباب وهو يكفكف دموعه.
الضمير المستتر
بعد حين كان جورجي وجميل مرمور في حانة سفنكس بار، فقال جورجي: لقد أنجزت مهمتي يا جميل، وخدمتكم خدمة لا يخدمها سواي، فأين بقية الألف وخمسمائة جنيه؟ - ولكن الفتاة لم تعد بعد. - ليس هذا شأني، علام اتفقنا؟ - على تسليم الفتى، فلا أنكر. - لقد سلمته فأود أن تبروا بوعدكم.
فضحك جميل قائلا: لك حق، هذا تحويل بقيمة السبعمائة والخمسين جنيها الباقية، ولكن لم نزل في حاجة إليك. - إني مستعد لكل خدمة، ولكل خدمة ثمن. - لا يبخل فهيم بك بثمن. - إذن نشرب كأسين على حسابي.
وبعد أن تساقيا هنيهة قال جورجي: إني أستغرب بذل فهيم بك الجزيل لأجل هذه الفتاة، ويظهر أنها نافرة والفتى الذي يخفيها عنيد لا يود أن ينم عن مقرها. - أما هي فلا بد أن تلين، أما الفتى فمتى أحس بالتعذيب يقر. - ولكني لا أفهم لماذا لا يكل فهيم عن طلبها والحسان كثيرات؟ - لا يكل عن طلب هيفاء مهما بذل حتى ولو تزوجها فعلا زواجا شرعيا. - إذن يحبها حبا مفرطا؟
فقهقه جميل وقال: وهل مثل فهيم بك يحب كما تعني؟ - إذن لماذا هذا الحرص عليها؟ - له مصلحة كبيرة.
ففتح جورجي عيني بصيرته، وقال: لا بد أن تكون المصلحة مالية؛ لأني أعرف أن فهيم بك لا يهمه قبل شهواته إلا المال. - لقد حزرت يا شقي. - إذن الفتاة غنية. - جدا. - ليتني طلبت جزاء أكثر بدل تسليم يوسف براق. - يكون لك جزاء مضاعف إذا استطعت أن تضع الفتاة وفهيم تحت يدي الكاهن. - قد أستطيع، ولكني لا أفهم كيف أن الفتاة غنية، وهي وأمها تعيشان على حساب فهيم بك كالحلم على الشجر، أفلا تدري الفتاة أنها غنية؟ - ولا أمها تدري بذلك أيضا. - كيف درى به فهيم بك؟ - أراك تتمادى في اكتشاف الأسرار يا جورجي فأقصر. - يا لله! وهل بيني وبينك أسرار؟ أما أطلعتك على أسراري؟ ... ولكن حاذر يا مرمور أن تبوح بأسراري لأحد؛ لئلا تكون نقمتي منك لا تطاق، وأنا أعدك أني لا أبوح بسر من أسرارك. - اتفقنا على الكتمان، ولكن هذا السر لا يهمك. - الحق أنه لا يهمني، ولكني لا أود أن أقف عند لغز ولا أحله. - وماذا يفيدك حله؟ - قد يفيدني في البحث عن الفتاة، يمكن أن أتوسم منه ما يرشدني إلى وسيلة لمعرفة مقرها، فقل لي كيف عرف فهيم بك أن للفتاة ثروة طائلة وهي وأمها لا تعرفان؟ - لاحظت أن أخاه أو بعض ذويه في سوريا كتب إليه في ذلك، وفهمت من خلال حديث فهيم أن كاهنا جاء إلى القاهرة ليبحث عن الفتاة؛ لأنه ظهر لها ميراث كان مجهولا. - إذن فهيم ومن كتب له يعرفان نسب الفتاة المجهول ويعلمان أنها غنية؟ - أراك تحاول أن تسرقني يا شيطان. - لا والله، وأي مأرب لي من سرقة أسرارك، بيد أني أود الاطلاع على كل الحقائق المتعلقة بالفتاة حتى يسهل علي البحث عنها، ففهيم إذن يعرف أصلها وفصلها أكثر منها ومن أمها؛ لأن الميراث يتوقف على النسب، فإذا كان ذاك مجهولا؛ فلأن هذا مجهول أيضا. - الحق لا أدري؛ لأني لا أعرف كل أسرار فهيم، وهو على ما يلوح لي جعبة أسرار، وإنما لاحظت أنه يعرف عن خصائص الفتاة ما لا تعرفه هي ولا أمها، والأرجح أن أمها لا تعلم شيئا عن هذا الميراث.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: ألا تعلم ماذا يعرف فهيم بك عن نسب الفتاة؟ - لا، ولكن يخالج ظني أنه اكتشف علاقة نسب بينه وبين الفتاة، وهي وأمها تجهلان هذه العلاقة. - تقول: إن كاهنا يبحث عن الفتاة؟ - نعم. - ونحن نبحث عنها؟ - نعم. - فهل تعرف هذا الكاهن؟ - أعرفه. - قل لي من هو وأنا أبحث معه عن الفتاة، ومتى اهتديت إليها أجرها إليكم قبل أن يدري بها. - فكرة حسنة جدا ... تستعين بمعلومات الكاهن. - نعم نعم. - إذن اذهب الليلة إلى البطركخانة، واسأل عن الأب أمبروسيوس ولكن إياك ... - لا تخف لا يفهم شيئا، ولكن الجزاء؟ - اطلب. - ألفي جنيه. - خذها مني مضاعفة إذا تزوجت الفتاة من فهيم ... - آخذ ألفين حال رد الفتاة. - وألفين بعد الإكليل. - هات يدك. (تصافحا)
ذهب جورجي إلى البطركخانة قبل الغروب، وطلب مقابلة البطريرك فاستقبله غبطته، فقال جورجي: علمت يا سيدنا أنكم تبحثون عن فتاة، فهل تقولون لي ما اسمها؟ - لماذا؟ - لأني أقدر أن أفيدكم عنها شيئا. - اسمها هيفاء على ما نظن. - واسم أمها؟ - يقال: إن اسمها نديمة الصارم، فهل تعرفها؟ - لا، وإنما أعرف من يعرف الفتاة، وربما كان يعرف أين هي؟ - حسنا، ولكن من قال لك: إننا نبحث عن هذه الفتاة؟ - علمت بالصدفة أن الفتاة مخبأة؛ لكيلا تقع في يد غبطتكم؛ ولهذا جئت لكي أتفق معكم على البحث عنها إذا كان لي أجرة.
فوجم البطريرك قليلا ثم قال: لا بأس، إذا كنت تستطيع أن ترشدنا إلى الفتاة نكافئك، ولك أن تذهب إلى المسيو لويس المراني وتتفق معه بهذا الشأن؛ لأنه مفوض به.
ثم أعطاه عنوان بولس المراني، ولما خرج جورجي تناول البطريرك بوق التلفون؛ ليخاطب بولس المراني ...
المفاجأة
قضى يوسف براق في ذلك السجن المظلم مدة لم يعرف قياسها؛ إذ لم يكن عنده قياس للوقت، فما عرف الليل من النهار، ولا ميز بين اليقظة والكرى؛ لأنه كان متصل الأحلام والأوهام فيهما، وقد زاره ذلك الرجل المقنع مرة واحدة فقط؛ إذ أطعمه وجبة واحدة وأعاد استنطاقه مكررا الوعيد والتهديد، ويوسف مصر على الإنكار.
وأخيرا جاء الرجل المقنع ثالثة، وقال: هذه هي المرة الثالثة والأخيرة، فإذا لم تقر قضيت على نفسك بنفسك، فماذا تقول الآن؟ - أقول كما قلت أولا. - إذن تريد أن تموت؟ - لست أول من مات مظلوما. - عجيب عنادك، ألا تحب نفسك؟ - أحبها جدا، ولكني أفتدي بها حياة روحية. - إذن مت هنا محترقا والمنزل يحترق معك فلا يعلم بك أحد.
ثم أدخل الرجل حزما من القش إلى الغرفة الضيقة، ودق وتدا حديديا في وسط الغرفة، وربط يوسف فيه وهو موثق، ثم وضع كيسا صغيرا في جانب الغرفة، وأثبت عليه شمعة وأنارها ثم قال ليوسف: لم يبق لك من العمر إلا بقدر عمر هذه الشمعة؛ فمتى ذابت ولم تبق إلا ذبالتها أحرقت ما في هذا الكيس، وهو مادة قابلة للاشتعال ولكن بلا انفجار، ومتى احترقت هذه المادة ألهبت هذه الحزم واحترقت أنت معها، وأخيرا يحترق البيت كله، ولا تستخرج أنت منه إلا رمادا، ولا يشعر أحد باحتراقه إلا بعد أن يفوت الوقت الذي يمكن فيه إطفاؤه؛ لأنه في غيضة بعيدة عن المنازل. - رمادي ينم عن جنايتكم.
فضحك الرجل المقنع، وقال: إن المنزل مستأجر باسم يوسف براق، فإذا نم رمادك عن الاحتراق ثبت أنك احترقت قضاء وقدرا أو منتحرا. - لله من شركم! ويوم الدينونة؟ - لا نعرفه.
ويبقى الرجل المقنع واقفا كأنه ينتظر توسلا من يوسف، ولكن يوسف قال له: هل انتهت مهمتك؟ - نعم. - إذن اخرج يا لئيم.
فخرج الرجل وأوصد الباب، وكان يوسف ينظر إلى الشمعة وهي تذوب تدريجا حتى صارت نصفها فانفتح الباب ودخل الرجل المقنع، وقال: هل حاسبت ضميرك؟ - حاسبته فماذا تريد؟ - أريد أن أعلم إن كنت قد ارعويت. - اخرج يا لئيم ولا تقف أمامي.
فخرج الرجل المقنع قائلا: إذن مت، لن أعود إليك بعد.
لم يبق من الشمعة إلا قيراطان ويوسف يشجع نفسه، وهو يقول في نفسه: إني رجل طيب القلب، فإن لم يكن لطيبتي فائدة في هذا العالم فلأمت، وخير لي أن أنتقل إلى عالم آخر من أن أبقى فيه.
ولكن الشمعة ما زالت تذوب وفؤاد يوسف ينهلع، وكان أحيانا يقول في نفسه: «ليت هذا الشرير يعود.» ثم يتشجع ويقول: لا، لا أتنازل عن مبدئي، فلتعش روح هيفاء وليمت جسدي، وأخيرا قال ملء صوته: أيهذا المقنع تعال لعلنا نتفاهم.
فلم يسمع جوابا ولا انفتح الباب فقال: إذن هؤلاء اللئام لا يمزحون، بل يعنون ما يقولون وما يفعلون.
فحاول النهوض من مصرعه مع أنه موثق اليدين والرجلين، ولكن الخوف إذا امتزج بالأمل ولد القوة، فانتفض يوسف من مكانه انتفاض النمر وهو يثب، فانقلع الوتد من مكانه، ودحرج يوسف نفسه حتى قرب من الكيس، وأدار ظهره إليه وجعل يرفع يديه من وراء ظهره حتى يصبح الحبل المتوتر حول ساعديه فوق اللهيب، كان يفعل ذلك المرة بعد الأخرى؛ لكيلا يلسع اللهيب ذراعيه المكتوفتين حتى احترق وتر من الحبل قليلا، فانتفض ثانية وثالثة فانقطع وتر من الحبل، وما زال ينتفض حتى انحل وثاق يديه، ثم حل وثاق رجليه ورفع الشمعة عن الكيس، ووضعها على الأرض بكل هدوء وتناول الكيس وفتحه، فإذا هو مملوء رملا، فقال باسما متنهدا: لا يجسر هؤلاء الطغام أن يحرقوني فهم متهددون فقط، لا بد أن يأتي هذا المقنع أيضا، وسيكون بيني وبينه صراع، فإلى متى أدخر هذه القوة العضلية؟! إني مصارعه لا محالة.
وتناول يوسف الحبل وجعل يقلبه بين يديه، ثم تقدم إلى الباب فوجده موصدا بقفل منيع، فحاول أن يفتحه فلم يستطع.
ثم سمع حركة فكمن وراء الباب والحبل في يديه، ثم سمع صليل المفتاح في الباب، فتحفز للوثوب على من يدخل، وما إن انفتح الباب حتى انقض يوسف على الداخل، وطوقه بذراعيه يريد أن يصرعه لكي يوثقه، ولكنه دهش؛ إذ وجد نفسه يضم امرأة؛ ليلى!
فما لبث أن حل ذراعيه عن صدرها، وتراجع إلى الوراء وهو ينظر إليها وهي تنظر إليه، وصدرها يرتفع لحظة وينخفض أخرى فوق فؤادها الخافق.
مشاجرة الكبرياء والأنفة
وكان أول من تكلم يوسف، فقال: أيصدق ظني أني أسيرك هنا؟ - أنى لي ذلك؟ - لو أردت! - لو قدرت!
وبعد سكوت هنيهة قال يوسف: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ - الطيش. - ماذا تقصدين؟ - إياك أقصد. - ماذا تريدين؟ - لا أدري. - من أرشدك إلي؟ - الخفقان. - كيف قدرت أن تصلي إلى هنا؟ - قوة القوي قدرتني. - ألك صلة بهؤلاء الطغام؟ - صلة حديثة. - والآن ماذا تريدين؟ - أريد أن نخرج من هنا. - إلى أين؟ - إلى حيث لا يدري بنا أحد.
ومشت أمامه فتبعها وأقفلت الباب وأوصدته، ثم صعدا في سلم، ولما انتهت السلم رأى يوسف نفسه في رحبة منزل، فعلقت ليلى المفتاح في مسمار في الحائط، وفتحت بابا فرأى يوسف منه نجوم السماء، ثم خرجا من هذا الباب فأوصدته ليلى، وحينئذ رأى يوسف نفسه في حقل رحيب والمنزل في وسطه، والمنازل الأخرى بعيدة عنه جدا، ثم مشيا في الحقل إلى أن بلغا شارعا ندرت الأبنية على جانبيه، وكان هناك أوتوموبيل ينتظرهما فصعدت ليلى إليه، وصعد يوسف بعدها وهما صامتان، وفي الحال أطلق الحوذي العنان للأوتوموبيل، فسار بسرعة البرق هنيهة قصيرة، ثم استوقفت ليلى الأوتوموبيل، ووضعت في يد الحوذي قطعتين من فضة، وقالت للحوذي: استمر في سبيلك.
فاستأنف الحوذي سيره ومشت ليلى في شارع آخر ويوسف يتبعها كما يتبع الكلب الأمين سيده إلى أن بلغا قهوة، فدخلا إلى الغرفة القصوى منها وجلسا في زاوية فيها، ولم يكن في تلك الغرفة أحد.
بقيا صامتين نحو دقيقتين، ثم قال يوسف: لم أفهم شيئا، فقالت: ولا أنا أفهم. - لماذا استخرجتني من سجني؟ - لماذا كنت سجينا؟ - عوقبت؛ لأني كنت أفتدي روحا طاهرة. - أين تلك الروح؟ - إذا كنت تصرين على الاستعلام فرديني إلى سجني. - تعني أنك لن تقول؟ - نعم لن أقول. - لا بأس، أنت حر، فهل تأذن لي بسؤال آخر؟ - اسألي. - لماذا أخبأتها؟ - لكي أصونها. - من ماذا؟ - من السقوط الهائل. - أي سقوط هذا؟ - سقوط النعجة الوديعة بين مخالب الذئب الدنس. - ليتك تفصح؛ لأن الفهم محدود. - إن الذي يبتغي الزواج من هيفاء خليل ثلاث نساء، وهو يطمع أن يجعلها رابعتهن.
فارتجفت ليلى وقالت: إذن لست محتفظا بها؟ - بل أحتفظ بها احتفاظ الأخ بأخته. - وهي؟ - تحتمي بي احتماء الأخت بأخيها. - كيف عرفتها؟ - أنت عرفتني بها.
فسكتت ليلى هنيهة ثم قالت: لا أدري إن كان يحق لي هذا السؤال. - متى عرفت السؤال أرى إن كان يحق لك أن تسأليه. - هل الفتاة عزلاء في منزل وحدها؟ - كلا، بل هي بين طاهرات مثلها. - وكنت تزورها طبعا؟ - لا، لم أرها إلا ساعة أودعتها في حصنها المنيع.
فتنهدت ليلى الصعداء، وقالت: اصفح عن جسارتي.
ثم نهضت وهي تقول: «بونسوار.»
فقال وعيناه تجحظان: يا للكبرياء! - من ترمي بهذا السهم؟ - أرمي من ترتد عنها السهام متكسرة. - ولكنه سهم سام مؤلم. - الكبرياء لا تتألم. - تتألم إذا كان رامي السهم الأنفة. - الأنفة تقلص والكبرياء تمدد، الأنفة مفعول والكبرياء فاعل، فلو لم تكن كبرياء لم تكن أنفة.
فسكتت ليلى مفحمة ثم قالت: ولكن الشعور شاهد صادق. - بماذا يشهد؟ - يشهد بأن الكبرياء متألمة؛ فهي إذن أضعف من الأنفة. - إذا كان الشعور شاهدا صادقا فما هو قاض عادل حتى يحكم بين متنازعين، بل هو يشهد مع جانب على آخر، فهل تسمعين الشاهد الذي يشهد من جانب الأنفة؟ - ماذا يشهد؟ - يشهد بأن الأنفة متروكة والكبرياء تاركة، الأنفة قاعدة والكبرياء واقفة.
فلاحت بين شفتي ليلى ابتسامة خفيفة كانت تحت توردها كبقية شعاع من شفق، ثم قالت بعد سكوت قصير: تريد أن أقعد؟ قعدت.
وجلست على كرسيها كما كانت أولا، فقال لها: لا قوة لإرادتي فيما هو وراء دائرة ذاتيتي، فإذا لم تريدي أنت فلا أستطيع أن أقعدك. - ولكنك أردت أنت فقعدت أنا. - المجاملة تؤلم أحيانا يا ليلى، فإذا كنت تؤثرين الذهاب فأرتاح لما تؤثرين. - إذن لا يروق لك بقائي. - الكبرياء تراوغ الآن. - أنت تقول: إنك ترتاح إلى ذهابي. - ما زالت الكبرياء تراوغ، قلت: أرتاح إلى ذهابك إذا كنت تؤثرينه وترتاحين إليه، وما ترتاحين إليه يروق لي أكثر مما لا ترتاحين إليه. - من قال لك: إني لا أرتاح إلى البقاء؟ - لأنك لم تريديه. - من قال لك: إني لا أريده؟ - أنت قلت: إني أردت أنا فقعدت أنت. - معنى ذلك أن إرادتينا اتفقتا. - ليتك قلت ذلك أولا فكنت تنقذينني من ألم المجاملة. - لا أفهم، كيف تؤلم المجاملة؟ - لأنها تمويه على الحقيقة. - ليست كذلك دائما؛ فقد تكون مبالغة في الحقيقة. - إذا كانت المجاملة الحقيقية مكبرة كانت الكبرياء متشامخة والتشامخ يقتل.
ففكرت ليلى هنيهة ثم قالت: نعم، الكبرياء قاتلة، هل نسيت يوم زرتنا؟ - لن أنسى. - ماذا تسمي رفضك دعوة أخي للغداء معنا؟
فتراجع يوسف إلى الوراء مرتبكا، وأعمل ذهنه في الرد، ولكن ذهنه خانه فسبقته ليلى قائلة: كبرياء قاتلة.
فقال لها: لم أنس أيضا أني تتبعتك إلى منزلك مصادفة. - ودخلت إلى المنزل؟ - مصادفة أيضا؛ لأن أخاك صادفني فاضطررت أن أدخل معه. - ولا تسمي هذا كبرياء؟ - لم أنس أيضا ما كان في الترام. - ولا أنا نسيته. - إذن هل كنت تودين أن أتحول إلى صنم لا يحس؟ - إذن هل كنت تبغي أن تجمع جمر نار على رأسي؟ - لماذا؟ - لأنك لم تصفح عني. - بعد أن خاشنتك؟ - أستحق؛ لأني تجاسرت عليك. - إذن أنت نادمة على هذه الجسارة؟ - نعم. - ما زلت تنكرين كبرياءك. - بل أنت لا تزال تنكر كبرياءك، وإلا لبقيت حتى بعد الغداء. - لو بقيت؟ - ما كنت أندم على جسارتي؛ لأني أفهم أنك صفحت عني.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: إذن أنا كنت أرفض سعادتي، أعترف أني أخطأت يا ليلى، ولكني لم أدر أني مخطئ إلا الآن. - لأنك متكبر وبقيت متكبرا. - كيف؟ - هل نسيت حادث سبلنددبار؟ - لم أنسه. - ماذا تسمي رجوعك منه حال وصولنا إليه؟ - عدت وجلست وراء زجاج الباب. - توهمتك هناك، فماذا تسمي ذلك؟ كبرياء طبعا.
فسكت يوسف مفحما، ثم قال: تحاشيت أن يسوءك وجودي. - وهذا ضرب من ضروب الكبرياء، ثم ما قولك بتركك إياي بعد حادث المركبة؟ - لم أنم ليلئذ يا ليلى فلا تذكريني بذلك الليل. - ذلك عقاب الكبرياء، وما قولك بعدم زيارتك إيانا وأخي كان يتوسل إليك لأجل زيارة؟
فسكت يوسف، فقالت ليلى: يا للكبرياء!
وبقي يوسف صامتا؛ لأنه لا يحسن التمحك، ثم قال بعد هنيهة: أتتذكرين الآن رسالتك؟ - أتذكرها جيدا حرفا حرفا. - ألا تسمينها كبرياء؟ - لا بل أنفة، أما قلت أنت: إنه حيث لا كبرياء فلا أنفة؟ وأنا أقول متى ظهرت الكبرياء تظهر الأنفة، فأين جواب رسالتي؟ - بقي مع هيفاء ووقع في يد أمها، فظنت أنه مني لهيفاء وأني أغازل الفتاة. - هل عدمت وسيلة أخرى لإرسال جواب سواه؟ - أرسلت. - مع من؟ - مع أخيك.
فاختلجت ليلى؛ إذ بدر إلى ذهنها في الحال أن قصده من «سفر التكوين» أن يكون كرسالة خاصة إليها بأسلوب ضمني، فقالت: قرأته ولكن ما أدراني أن يكون لهيفاء لا لي؟
فنظر يوسف إليها جاحظ العينين، وقال: إذا كنت لم تعلمي أنه لك فما هو لك. - كيف أعلم وهو خطاب مطلق لضمير مطلق؟ - إذن ليس لك، ليس لك يا ليلى. - إذن لهيفاء. - لا لا، ولا لهيفاء. - إذن لمن؟ - إذا لم يكن لك فما هو لأحد. - هل يمكن أن يكون لي؟ - نعم. - كيف؟ - ماذا شعرت حين تلوته؟ - شعرت بخفقان لم أشعر بمثله في حياتي.
فتنهد يوسف الصعداء، وقال: إذن هو لك وقد فهمت ولكنك تنكرين، فماذا تسمين هذا الإنكار؟ كبرياء طبعا ... فيا للكبرياء!
فسكتت ليلى هنيهة ثم قالت: إذن الأمر بين كبريائي وكبريائك، فدعنا نرى أي الكبرياءين أشمخ وأقتل، هل تذكرني بفعل فعلته يماثل فعلك في سبلندد بار؟ - لو كان في وسعك أن تفعلي مثله لعلك لم تترددي. - من قال لك: إنه ليس في وسعي؟ - أنت مقيدة بجماعة دائما، فلا تخرجين وحدك. - كلا، لست مقيدة بل لي الحرية أن أفعل ما أروم وأبي وأخي يوافقان على كل ما أفعل؛ لأنهما يعلمان سر من ربياها. - حسن، ولكن لم يتفق أن تكوني وحدك حتى إذا صادفتني تنفرين أو تقربين. - من كان معي يوم حادث الترام؟ - خادمتك هيفاء. - فما هي رقيبة. - فماذا؟ - أما التقينا؟ - الصدفة جمعتنا.
فضحكت ليلى فقال لها: لماذا تضحكين؟ - أضحك لأني لو لم أنهر الحوذي حتى يسرع مرافقا الترام، الذي كنت أنت فيه ما تعرضت لذلك الخطر الهائل بانقلاب مركبتي.
فنظر يوسف فيها قائلا: ليلى، سامحي كبريائي.
فقالت: وما قولك بوجودي هنا الآن؟
فبهت يوسف وبقي صامتا.
بعد هنيهة قال يوسف: ليلى. - نعم. - هل من قياس لرحمتك؟
فابتسمت قائلة: لا. - ولا قياس لإثمي، ومهما كانت رحمتك عظيمة، فإثمي أعظم وأود أن أكفر عما يزيد من إثمي على رحمتك، فهل أستطيع؟ - نعم تستطيع بأن تتم «سفر التكوين». - لا شيء بعد اللانهاية يا ليلى. - نعم لا يزال ما قبلها وما بعدها فارغين فاملأهما. - لقد فرغت معرفتي فعلميني: بماذا أملؤهما؟ - بأن تعنون «سفر التكوين» وتوقع عليه الآن.
فابتسم يوسف قائلا: الآن؟ - نعم الآن، ها السفر.
ثم تناولت من صدرها كيسا من حرير بديع الصنع، وفتحته فظهرت فيه ورقة فتناولها يوسف وفتحها، فإذا هي نسخة من «سفر التكوين» بخط ليلى، فسطع محياه نورا ونظر إليها، فإذا بها تقدم له قلما سيالا فتناوله وكتب في رأس الورقة:
إلى القوة الفاعلة: ليلى
ثم وقع عليها هكذا:
الذرة المنفعلة
يوسف
فتناولت ليلى الورقة منه، ونظرت فيها وهي تزمهر ثم قالت له: هذا سفر التكوين يا يوسف، فأين سفر الرؤيا الذي يتم به الكتاب المقدس؟ - لقد مر زمان الرؤيا ونحن في ساعة الدينونة يا ليلى، فكيف أعلم أنك غفرت إثمي؟
فمدت له يدها مرتجفة فتناولها وقلبه ينتفض ووضعها على فمه، وكأن القوة فارقتهما حينذاك فكانا كتمثالين صاغتهما الطبيعة مرة في عمر الأبدية، ولم تعد تعرف كيف تصوغ مثلهما ثانيا، ولولا حركة في الغرفة المجاورة ما استطاعت يده أن تفلت يدها ولا يدها يده.
وبعد هنيهة قال يوسف: وماذا بعد هذا يا ليلى؟ - ماذا بعد تجاذب الجرمين؟ - الألفة. - إذن كلانا واحد. - وليس في العالم ما يزيدنا ألفة، فنحن في لغة الطبيعة زوجان. - بلا إكليل؟ - الإكليل للأجساد لا للأرواح، للمواد لا للقوات. - إذن نحن زوجان بالروح. - نعم، لا بالمادة. - لا تهمني المادة يا يوسف. - إذن نحن في غبطة لا يدركها سوانا.
كيف اهتدت ليلى إلى يوسف؟
انتهت المناجاة الروحية بين ليلى ويوسف، فهمت ليلى أن تنهض لتنطلق فقال لها: إلى أين؟ - تعود المادة إلى حيزها. - للمواد نصيب من التفاهم أيضا، فقبل أن تفارقيني أود أن أعلم من أرشدك إلي . - الذي أعطاني مفتاح سجنك. - إذن تعرفينه! فمن هو؟ - أنت تعرفه، وهو صديقك اليوناني. - كيف عرفت أنه صديقي؟ - لأني رأيته معك غير مرة.
فاحمر يوسف خجلا؛ لأنه تذكر حين لمحها في المركبة مع أخيها من حانوت اللفائف، إذ كان جورجي آجيوس يكلمه، فأحجم عن التمادي في هذا الموضوع، وقال: كيف اتصل اليوناني بك؟ - جاء في هذا المساء إلى منزلنا يسأل عن عمي؛ لأنه يعتقد أن منزلنا منزله، وعمي يسكن في الطبقة التي فوقنا، ولم يكن في المنزل أحد غيري، وحالما رأيته عرفته اليوناني الذي يعرفك، فوددت أن أتسقط منه أخبارك؛ لأني قصدت مرة إلى حانوت اللفائف فلم أرك فيه، فسألت صاحبه فقال: إنك خرجت ولم تعد، فقلقت عليك وصرت أود أن أرى من يعرفك لكي أسأل عنك، فلما رأيت ذلك اليوناني استبشرت، ولما دخل رحبت به فقال: «أود أن أرى المسيو بولس.» فقلت له: «لم يأت بعد فماذا تريد؟»
قال: «أود أن أخاطبه بأمر.»
فقلت: «ما هو الأمر لعلي أستطيع أن أفيدك شيئا.»
فقال: «علمت أنه يبحث عن فتاة.»
فقلت: «نعم، فهل تعرف عنها شيئا؟»
قال: «أعرف.»
فقلت: «وتريد أن تقول لعمي ما تعرف؟»
فقال: «نعم، بل إذا شاء أشاركه بالبحث عنها.»
فقال يوسف: ولماذا يبحث عمك عن الفتاة؟
فقالت ليلى: لأن قسيسا جاء من الشام لهذا الغرض، ومعه وصية تنطق بميراث عظيم لها. - يا للعجب!
واستمرت ليلى تروي قصتها، فقالت: فسألت اليوناني: «هل تريد أن تقول لي ماذا تعرف عن الفتاة؟»
فقال: «أعرف شخصا يعرفها.» - والحق أقول لك يا يوسف: إنه أول ما خطر لي أن هذا الشخص الذي يعنيه هو أنت.
فقال يوسف: لماذا خطر لك هذا الخاطر؟ - لأنه بعد أن ذهبت الفتاة من عندي لم أعد أسمع بخبرها فأسأت الظن بك، لا تنقم فالحق عليك. - لقد تفاهمنا يا ليلى؛ فلم يبق من داع للنقمة، ثم ماذا؟ - فقلت لليوناني: «وأنا أعرف من يعرفها، فمن هو الذي تقول: إنه يعرفها؟»
فتردد في الجواب قائلا: «أود أن أقول هذا لعمك وحده .»
فقلت: «لا بأس من أن تقول لي أيضا؛ لأني أعرف كل شيء وعمي يقول لي كل شيء.»
قال: «إذن أنت تبحثين مع الباحثين.»
فقلت: «نعم؛ لأن الفتاة كانت عندي بضعة أيام قبل اختفائها.»
ففكر الرجل هنيهة ثم قال: «أظن أنك تعنين بالذي يعرف الفتاة يوسف براق.»
قلت: «نعم، وهل هو من تعنيه أنت؟»
قال: «نعم.»
قلت: «وبالطبع سألت يوسف براق عنها.»
قال: «سألته فأبى أن يجيب.»
فقلت: «هل أنكر أنه يعرف أين هي؟»
فقال: «بل أقر أنه هو الذي خبأها، ولكنه لا يريد أن يدل عليها.»
فقلت: «إذن هو محتظيها.»
فقال: «كلا، بل هو ينكر ذلك.»
فقلت: «إذن لماذا يخفيها؟»
فقال: «لا أدري قصده.»
فقلت: «لو كنت أجتمع بيوسف لحظة واحدة لكنت أكشف أسراره؛ فهل تدلني أين أجده؟»
فسكت الرجل وبعد هنيهة قال: «لا أدري.»
ولكن سكوته رابني، فقلت: «لا تنكر علي، تعرف أين يوجد، فإذا كنت تقول لي أعدك أني أستخرج منه الحقيقة بسؤال واحد.»
فقال: «لا أدري على ماذا تتكلين في استجوابه، فقد جربت كل طريقة فلم أنجح.»
فقلت: «أما أنا فواثقة بالنجاح كل الوثوق؛ لأن لي طريقة ليست لغيري، فأين أجده؟»
ففكر الرجل هنيهة ثم قال: «أود أن أعرف أمرا، هل أنتم واثقون أن الفتاة، التي تبحثون عنها هي نفس الفتاة التي خبأها يوسف؟»
فقلت: «نعم، هي نفسها، وتدعى هيفاء، وأمها تدعى نديمة الصارم، وقد عرفنا أنها مختفية عن أمها، ولم يبق علينا إلا أن نكتشف مقرها.»
فقال: «وهل عرفتم أن يوسف براق خبأها؟»
فقلت: «نعم؛ ولهذا نبحث عن يوسف براق، وإذا لم نجده فنبحث عنك لأنك تعرفه.»
فقال يوسف: هل كنتم تعلمون كل ذلك حقيقة؟
فقالت ليلى: كلا، وإنما أنا استخرجت هذه الحقائق من اليوناني بدعوى أني عارفة أكثر مما يعرف، والحقيقة أننا لم نؤكد حتى الآن إن كانت هي نفسها الفتاة المقصودة، وإنما رجحنا ترجيحا يقارب التأكيد، ومتى اجتمعنا بالفتاة أمكننا أن نستجوبها لنعلم شيئا عن حقيقة أمها، وما إذا كانت أمها فعلا أو خالتها ؛ لأن تلك المرأة نديمة لم تزل سرا؛ ولهذا لما عرفت من قول جورجي أنك أنت خبأتها صرت أود الاجتماع بك بدعوى البحث عن الفتاة، ولما أكدت لليوناني أني أستطيع استخراج الحقيقة منك إذا دلني عليك، فكر هنيهة طويلة ثم قال: «أقدر أن أدلك عليه ولكن لي شروطا.»
فقلت: «ما هي شروطك؟»
فقال: «لا أدري إذا كنت تستطيعين القيام بها.»
فقلت: «أستطيع أن أنفذها حرفا حرفا مهما كانت.»
قال: «هل تقسمين أنك تبرين بوعدك؟»
قلت: «أبر وأقسم.»
قال: «لا أقدر أن أقول لك شروطي هنا.»
فقلت: «أين إذن؟»
فقال: «في أي مكان غير هذا، فهل تستطيعين أن تخرجي من هذا المنزل، وبعد ذلك نذهب إلى حيث تشائين؟»
قلت: «أخرج إذا كان الخيار لي.»
وفي الحال نهضت وارتديت ثوبي بسرعة، وخرجت مع الرجل وأنا بين الخوف والأمل، والشك واليقين، ومشينا إلى شارع عباس وهو يمشي إلى جنبي، فقلت: «قل شروطك.»
قال: «قبل كل شيء أقسمي لي أنك لا تقولين كلمة مما أقول لك.»
قلت: «أقسم لك أني لا أقول.»
قال: «إن أهل الفتاة - أعني أمها وخطيبها - يبحثان عنها كما تبحثون أنتم، وقد اعتقدوا أن يوسف اختطفها واحتظاها؛ ولهذا سوغوا لأنفسهم أمرا قد لا يسوغ، وكلفوني بهذا الأمر لقاء مبلغ كبير فاغتررت بالمبلغ وأنفذت الأمر؛ ولا سيما لأنه لا أذى فيه لأحد، ولكن فيه مصلحة لهم ...»
فخفق فؤادي لهذا الخبر، ولكني لم أبد جزعا وقلت: «إذا كان الأمر كما تقول، فيحق لهم أن يفعلوا كل وسيلة للاهتداء إلى الفتاة، فما هذا الأمر؟»
قال: «طلبوا إلي أن أتملق يوسف؛ لأنهم علموا أني صديقه وأن أقوده إليهم بأي حيلة، فاحتلت عليه وأخذته إليهم موثقا، فجعلوا يستجوبونه متوعدين تارة، وواعدين أخرى فلم يفلحوا باستجوابه.»
فقلت: «ولماذا لم يعرضوا الأمر على دائرة البوليس؟»
فقال: «لأنهم اعتقدوا أن يوسف ينكر كل شيء فلا تفيدهم دائرة البوليس أمرا، ولعل عندهم أسبابا أخرى لا أعلمها، ففضلوا أن يأسروه ويتهددوه، وهكذا كان.»
فقلت: «ويوسف لا يزال أسيرا؟»
فقال: «نعم، وأنا الذي سلمته، ولو لم أكن قد قبضت المبلغ الوافر لندمت.»
فقلت: «والآن ماذا تشترط علي إذا أرشدتني إلى سجنه؟»
قال: «أشترط عليك أولا أن تشترطي على يوسف أن يغتفر لي؛ ولا سيما لأننا لم نقصد أذاه بل مجرد استجوابه، وما كان التهديد إلا تهويلا فقط.»
فقلت: «حسن، أعدك بذلك.»
فقال: «وله بعض المبلغ الذي قبضته إذا أراد، بقي لي شرط آخر وهو أنه متى أقر بمكان الفتاة تخبرينني عنه، حتى أدل أهلها عليها وآخذ المبلغ الآخر الموعود به، وبعد ذلك لكم أن تفعلوا ما شئتم.»
قلت: «وأعدك بذلك، فأين يوسف الآن؟»
فتناول مفتاحا من جيبه، وقال: «هذا مفتاح ثان للمنزل قد اختلسته لمثل هذه الحاجة، فخذيه الآن واذهبي إلى المنزل وهناك لا تجدين أحدا الآن غير يوسف، فافعلي ما تستطيعين.»
قلت: «هذا هو المفتاح، فأين المنزل؟»
فضحك وقال: «ما هو القسم الذي تقسمينه أنك تبرين بالوعد؟»
فأقسمت له يمينا مغلظة حتى وثق بي تمام الثقة، فدلني على المنزل ووصفه لي وصفا دقيقا وقال: «اذهبي الآن إذا كنت تريدين إذ لا تجدين هناك غير السجين.»
فقلت: «أين أراك بعد الآن؟»
قال: «لا ترينني بعد الآن إلا في غرفتي في فندق «كذا»، فإن كنت تبرين بوعدك تجدينني هناك.»
ولما افترقنا استأجرت أوتوموبيلا وجئت إليك.
فتنهد يوسف الصعداء، وقال: والآن هل تبرين بوعدك لجورجي؟ - لقد انتهت مهمتي يا يوسف؛ لأني لست باحثة عن هيفاء، فدع الباحثين عنها يبحثون حتى يجدوها. - إذن لا تذهبين إلى جورجي؟ - بل أذهب إليه وأقول له: إن يوسف لم يقل لي أين الفتاة، ولا أكون كاذبة إذا قلت له كذلك، فهل قلت لي يا يوسف؟ - وهل تريدين أن تعرفي أين هيفاء؟ - لا. - الآن أعجب بكبريائك يا ليلى.
ثم افترقا جسدين لا روحين.
هي تعد وهو يفي
في ذلك الحين كان جورجي آجيوس في غرفته، وهو يفكر في ماذا تكون نتيجة ثقته بليلى، فخطر له الظن السيئ أولا، وقال بنفسه: «هب أن البوليس درى بالحادثة، فأنا أنكر ولا شاهد علي إلا ليلى وحدها وشهادة واحد لا تكفي، وفي وسعي نفيها بدعوى أن ما تدعيه من ثقتي بها غير معقول، أما جميل مرمور وحوذي فهيم، فلا يجسران أن يشهدا؛ لأنهما شريكان في الجريمة، وهب أنهما أمسكا وأقرا فألجأ إلى قنصليتي، وهناك أسعى بتخفيف عقابي، وجل ما تفعله القنصلية أنها تنفيني، وأنا مشتاق إلى أثينا، فإذا ذهبت إليها بألف وخمسمائة جنيه أعيش أميرا، ثم يحتمل أن هذه الفتاة تبر بوعدها؛ لأنها عاشقة ليوسف على ما أرى والعشق أساس الفضيلة أحيانا، فإذا صدق ظني وصدقت ثقتها وصدق وعدها، عرفت أين هيفاء فأدل عليها وآخذ ألفا وخمسمائة جنيه أخرى، وإن خاب فألي هذا فما أنا خاسر؛ ولذلك لا أندم على كل ما فعلت، وماذا يهمني أن يتهمني جميل مرمور بالخيانة، وهو لم يقيدني بقيد؟ حسبي ما نلت من الجزاء على أسر ذلك الفتى الساذج وحسب ذلك الفتى وجلا، وما الفائدة من التهويل عليه وهو مصر على الإنكار، وقد يعرف مقر الفتاة عن غير يدي؛ لأنه يبحث عنها غير واحد، إذن أنا فعلت حسنا بتسليم المفتاح للفتاة ليلى، فما أنا نادم، لست نادما، كفى هذا الفتى المسكين خوفا.»
وفيما هو مستغرق في هذا التفكير قرع بابه فقال: لقد صدق ظني، هذه ليلى لا محالة.
فنهض وفتح الباب وبغت إذ رأى يوسف داخلا، فابتسم له قائلا: أهلا بيوسف الصديق الحميم إني منتظرك. - تنتظرني أم تنتظر ليلى؟ - بل أنتظرك أنت. - ولكن الميعاد ليس بيني وبينك، بل بينك وبين ليلى وأنت تعلم أنك سجنتني. - وهل تظنني غبيا لا أعلم ماذا تكون نتيجة تسليم المفتاح لليلى؟ لهذا قلت: إني أنتظرك أنت لا ليلى. - ولكن كيف وثقت هذه الثقة بليلى؟ - لأني وددت إطلاق سراحك. - لماذا لم تطلق سراحي أنت ليكون كل الفضل لك؟ - لأن لي شروطا لم أقدر أن أقنعك بالتعهد بها، ولكني استطعت إقناع ليلى فتعهدت بها. - وكيف تثق أن ليلى تبر بوعدها؟ - وثقت لأني علمت أنها تحبك، والتي تحبك لا تستطيع أن تحنث بيمينها، ولا سيما إذا أقسمت بك . - وهب أنها حنثت بيمينها. - لا أصدق. - ولكن هب أنها لم تستطع أن تعلم مني شيئا عن هيفاء. - يستحيل عليك أن تكتم الأمر عنها إذا سألتك. - ولكني لم أقل لها؛ لأني لست مقيدا معها بشرط، بل هي مقيدة معك والشرط الذي بينكما لا يطلق علي. - إذن لا تطلق ليلى سراحك ولا تبوح بأمرك؛ لأنها تعهدت لي بذلك، فإذا كانت قد أطلقت سراحك من غير أن تستعلم منك عن هيفاء فهي خائنة.
فامتعض يوسف لهذا الجواب المؤلم، وقال: ليلى لا توصف بهذا الوصف. - إذن علمت منك عن مقر هيفاء وستقول لي لا محالة. - ولكنها لم تسألني ولم تشأ أن أقول لها. - عجيب أمرها كان يجب أن تسألك وأن تقول لها، أو أن لا تطلق سراحك وإلا فهي خائنة.
فأفحم يوسف هذا الجواب وفكر هنيهة وقال: ألا تريد أن تتنازل عن شرطك هذا؟ - كلا كلا. - إذن أنا أبر بوعد ليلى حتى لا تكون خائنة. - حسن جدا فأين هيفاء؟ - ماذا تفعل متى علمت؟ - أدل عليها أمها فتذهب وتأخذها إليها، ثم أقبض الألف والخمسمائة الجنيه الأخرى. - وهل تتعهد لي بعد ذلك ألا يرغم أحد هيفاء على الزواج من ذلك الزنيم؟ - لست ملزما أن أتعهد بشرط.
ففكر يوسف هنيهة، فقاطع جورجي تفكيره قائلا: ما بالك غبيا هكذا؟ ماذا يضرك أن أكسب ألفا وخمسمائة جنيه من غير أن يصاب أحد بأذى؟ - لا يضرني، ولكن كيف ذلك؟ - أقول لك كيف ذلك إذا تعهدت لي بأمر بسيط، وهو ألا تخبر أحدا غيري عن مقر الفتاة. - هب أني تعهدت، فماذا تفعل؟ - متى عرفت مقر الفتاة أخبر أمها فتأخذها إليها، وفي الحال أقبض الألف والخمسمائة الجنيه، وعلى الأثر أخبر فريقا آخر يبحث عن الفتاة لا بد أن تكون ليلى قد أخبرتك عنه، وهذا الفريق يخلص الفتاة. - لا أضمن أن هذا الفريق يستطيع أن يأخذ الفتاة من تلك المرأة، التي تدعي أنها أمها؛ لأن الفتاة لا تزال قاصرة ولا وصي عليها إلا التي ربتها، وقبل استخراجها من تحت وصايتها تكون هذه المرأة الداهية قد زوجتها من ذلك الوغد الزنيم بالحيلة أو التهديد. - ولكن مسألة الفتاة في يد البطركخانة الآن، والبطركخانة تستطيع أن تمنع أي قسيس من أن يكللها. - وهذا الأمر غير مضمون أيضا؛ لأن البطركخانة قد لا تستطيع أن تجد سببا لمنع الإكليل إذا تراضى العروسان، أو قد يلجأ العروسان إلى بطركخانة أخرى. ولهذا لا آمن على الفتاة إذا وقعت في يد تلك الشيطانة ثانية. - بقيت وسيلة أخرى، وهي أن تخطف الفتاة ثانية. - قد لا أنجح في المرة الثانية كما نجحت في المرة الأولى. - أنا أتعهد لك بخطفها. - فابتسم يوسف قائلا: لقد علمتني ألا أركن إليك. - لك حق، فما قولك إذا أعطيتك تحويلا على البنك الذي فيه دراهمي بقيمة ألف وخمسمائة جنيه كضمانة. - حسن، ولكن كيف أعلم أن لك هذه القيمة في البنك؟ - هذا تحويل بيدي على البنك بالقيمة والبنك مصادق على التحويل كما ترى، فالمال لي حتما وليس من يستطيع أن ينازعني فيه. - حسن هات تحويلا باسمي.
فكتب جورجي التحويل وقال: خذ، فأين الفتاة؟
فتناول يوسف التحويل، وقال: الفتاة في دير الراهبات ... - حسن بقي أن تعدني ألا تخبر الفريق الآخر عن مقر الفتاة، وأنا أعدك أني أحفظها قبل أن يعقد زواجها، وأسلمها إليك. - وتخبر الفريق الآخر عن الفتاة على أثر تسلم أمها لها. - أعدك أني أفعل؛ لأني سأقبض التحويل الآخر حالا.
ولما خرج يوسف من عند جورجي آجيوس قال: لم يزل هذا الفتى ساذجا، وإلا لطلب مني مصادقة البنك على التحويل الذي أعطيته إياه؛ لأني غدا أقبض المال قبل أن يضطر يوسف أن يقدم تحويلي إلى البنك.
الفصل الرابع والثلاثون
في صباح اليوم التالي كان جورجي آجيوس أول من قبض المال من البنك، ثم ذهب توا إلى جميل مرمور، فلما استقبله هذا بادره قائلا: لست أستغرب خيانتك يا جورجي والحق علي أني لم آخذ منك ميثاقا أو ضمانة. - لماذا ترميني بالخيانة يا جميل وبيننا علائق شغل دائمة؟ فمتى خنتك؟ - أما أنت الذي أطلق سراح يوسف براق؟ - نعم؛ لأني نلت وطري. - هل أقر؟ - نعم فاستدع أم الفتاة إلى هنا حالا. - أين الفتاة؟ - متى أتت نديمة إلى هنا أقول.
بعد هنيهة من الزمان كانت نديمة هناك، فقال لها جورجي: الفتاة في دير الراهبات فهل تستطيعين استخراجها من هناك؟ - يا لله ألا أستطيع استخراج ابنتي من بين أيدي أناس لا حق لهم بإمساكها؟ - لعل الرئيسة تعللت ببعض حجج، وأبت أن تجمعك بالفتاة. - أبلغ دائرة البوليس في الحال. - حسن، وهبي أن الفتاة أبت أن تعود معك؟ - متى اجتمعت بها أسحرها، فهي طوع بناني. - هبي أنها كابرت. - لا تزال قاصرة فأقدر أن آخذها بالقوة. - حسن، أين الجزاء؟ - متى صارت الفتاة في البيت يدفع لك جميل التحويل. - إذن أنتظرك هنا. - لماذا؟ أنا أرسل خبرا إلى جميل أني تسلمت الفتاة. - بل أود أن أراك هنا لأمر لا أقوله إلا بعد أن تستردي الفتاة. - حسن، انتظرني في العصر هنا.
ولما كانت الساعة الثالثة بعد الظهر كان جورجي في منزل جميل مرمور، ينتظر نديمة بفروغ صبر فما أخلفت ميعادها.
وفي منتصف الساعة الرابعة كانت هناك متهللة، فقال جورجي: ماذا فعلت؟ - استخرجت الفتاة من الدير بعد مشاجرة مع الرئيسة، حتى إني هددتها بأن أقيم القيامة على رأسها.
فالتفت جورجي إلى جميل قائلا: التحويل.
فدفع جميل إليه تحويلا بألف وخمسمائة جنيه عليه مصادقة البنك، فطواه جورجي ووضعه في جيبه ثم قال لنديمة: أما تحتاجون إلى خدمة أخرى مني؟ - لا نستغني عن خدمتك يا مسيو جورجي، فمتى احتجنا إليك أبلغك جميل. - ألستم عازمين على تزويج الفتاة؟ - نعم الليلة إن شاء الله. - فأنا القسيس الذي يكلل إذن.
فابتسمت نديمة، وقالت: هل تقدر أن تأخذ إذنا من بطركك؟ - أنا البطرك والقس. - نريد أن يكون الزواج شرعيا، فندخرك إلى خدمة أخرى يا مسيو آجيوس. - إذن لا حاجة لكم بي في مسألة الزواج؟ - كلا. - حسن، إلى الملتقى إذن.
ملتقى الأسرار
خرج جورجي وهو يقول في نفسه: إذا لم تكن لهؤلاء الأشرار حاجة بي بعد، فلعل للبطركخانة حاجة بي، وما دمت مستودع أسرار، فلماذا لا أبيع أسراري بثمن ؟
وما مالت الشمس إلى المغيب حتى كان جورجي في حضرة الأب أمبروسيوس في البطركخانة، فقال له الأب: قال لي غبطة البطريرك إنك تعرف شيئا عن الفتاة التي نبحث عنها. - بل أعرف أشياء. - إني أمتن لك كثيرا إذا قلت لي ما تعرف. - لا تؤاخذني يا أبانا إذا قلت لك: إن لكل شيء ثمنا.
فأحجم الأب أمبروسيوس قائلا: نعم لخدمة الإنسانية ثمن عظيم يا ابني وهو ملكوت السماوات. - ولكننا لا نستطيع يا أبانا أن نبلغ ملكوت السماء قبل أن نمر في ملكوت الأرض، ولا نقدر أن نمر فيه بلا أكل وشرب وملبس ومأوى.
ففكر الكاهن هنيهة ثم قال: لا أقدر أن أدفع لك شيئا يا ابني؛ لأن الخدمة ليست لي بل للفتاة، فمتى قضيت الخدمة لها تدفع هي لك وأنا أتعهد لك أني أقنعها بالدفع. - كم تدفع؟ - لا أدري ولكنها قد تدفع كثيرا. - ولكني لا أستطيع أن أقبل وعدا مبهما. - إذن دع معرفتك لك يا ابني؛ لأنه ليس في وسعي أن أفعل أكثر مما أقول.
ففكر جورجي هنيهة وقال: لا بأس، إني أثق بوعدك يا أبانا، فماذا تريد أن تعرف عن الفتاة؟ - أين هي؟ - كانت مختفية، ومنذ ظهر اليوم أصبحت في منزل أمها. - من هي أمها؟ - نديمة الصارم، ألا تعلم ذلك؟ - نديمة الصارم؟ وهل أنت واثق أنها أمها؟ - يقال: إنها أمها ويقال أيضا: إنها خالتها. - وهل تعرف شيئا من تاريخ هذه المرأة؟ - لا، ولكن لماذا هذه الأسئلة وهي خارجة عن الموضوع؟ - لأني أود أن أعلم إن كانت هذه الفتاة هي نفس الفتاة التي نبحث عنها. - إذا قلت لي شيئا عن الفتاة التي تبحث عنها، فقد أقدر أن أفيدك إن كانت إياها. - الفتاة التي أبحث عنها بلا أم وقد ماتت أمها وهي طفلة، فربتها خالتها ولكن خالتها لا تدعى نديمة الصارم. - إذن ماذا تدعى؟ - تدعى ندرة الزعفران.
فاختلج جورجي قليلا وقال: واسم أم الفتاة؟ - حنة الزعفران. - فانتفض جورجي وخفق فؤاده وتلهب وجهه، فقال له الأب أمبروسيوس: أراك تتغير لونا، فماذا؟
فأمسك جورجي عواطفه وقال: أظنني أعرف تاريخ هذه المرأة، هل كانت أم الفتاة هنا في مصر؟ - لا ولا تعرف مصر بل كانت في سوريا وماتت فيها، ولكن أختها ندرة كانت في مصر، ثم عادت إلى سوريا وربت الفتاة هناك، وأخيرا جاءت بها إلى مصر. - وأظنها كانت قبلا هنا تسير سيرة سيئة. - نعم، هل كنت تعرفها في ذلك الحين؟ - لا وإنما كنت أعرف عنها أنها كانت خليلة رجل هنا على ما قيل لي. - ولكن نود أن نتحقق إن كانت هي ندرة الزعفران نفسها. - أما هي أخت حنة؟ - نعم، فهل تعرف حنة؟ - أظن أني أعرفها، وأتأكد إذا قلت لي زوجة من كانت حنة؟
فتردد القسيس، وقال: أراك أنت تستعلم مني لا أنا أستعلم منك. - الغرض أننا نتعاون في التحقيق يا أبانا، هل كان اسم زوجها خليلا؟ - نعم خليل، أراك تعرف شيئا، فهل تعرف زوجها خليلا؟ - إذن لم أكن غلطانا فهو ذو لقب أمير، أليس هو الأمير خليل الخزامي؟ - هو هو بعينه يا ابني، فكيف تبرهن أن نديمة هذه هي ندرة نفسها؟ - أؤكد أنها هي؛ لأني أعرف أختها حنة في سوريا نفسها، إذ قضيت مدة هناك، وكنت أسمع أن لها أختا في مصر سيئة السلوك. - ولكن هذا لا يكفي برهانا على أنها هي، فقد تكون امرأة أخرى والفتاة فتاة أخرى، وهذا ما نود أن نتحققه ونتأكده، فهل كنت تسمع أن لأخت حنة أي لندرة اسما آخر في مصر غير اسمها؟ - لم أعلم شيئا من ذلك، ولكن دعنا نتوسع في التفاهم، هل تعرف إن كانت للفتاة قريب غني هنا؟ - لا، لماذا تسأل هذا السؤال؟ - لأني فهمت أن الذي تبتغي خالتها أن تزوجها إياه هو قريبها، فهل تعرف أقرباء الفتاة كلهم؟ - أعرفهم كلهم، وكلهم في دمشق إلا أحد ابني عمها فهو في أميركا.
فاختلج جورجي وقال: وهل أنت واثق أنه لا يزال في أميركا؟ - كلا، لا أدري. - أما سمعت أنه جاء إلى مصر؟ - كلا البتة ولعله جاء إلى مصر سرا. - هل من داع لإتيانه سرا؟ - نعم هناك داع كبير فهو قد هرب من سوريا هربا إلى أميركا، ولا يحسن العمل في أميركا كسائر المهاجرين السوريين، فلا يبعد أن يكون قد جاء إلى مصر، فما هو اسم الرجل الذي يريد أن يتزوج الفتاة؟ - يسمي نفسه فهيم بك رماح، ولكن لا عبرة بالاسم، فقد يكون الرجل متنكرا باسم آخر إذا صح ظننا. - كيف تصفه؟ - ولا عبرة بالوصف؛ لأنه يقدر أن يغير شكله، فهو الآن ذو لحية صغيرة مستدقة إلى أسفل، ويلبس قبعة سوداء ونظارة، ويدعي أنه جاء ببعض الثروة من أميركا، واشتغل هنا بمضاربات الأطيان فربح ربحا جزيلا، ولكن قد يكون كاذبا بدعاويه حتى بلحيته وقبعته ونظارته، فلماذا هرب هربا؟ - كان يشتغل في سياسة البلاد ويطلب بعض المناصب، ولا يخفى عليك أن الذي يشتغل في السياسة في سوريا يكون أعداؤه أكثر من أصدقائه، أما صاحبنا فكان أعداؤه من ذوي النفوذ في الآستانة، فنصبوا له مكيدة هائلة كادت تؤدي به إلى البوسفور لولا أن هرب، فقد وشوا به أنه من رجال تركيا الفتاة. والذي تقع عليه هذه الشبهة في تركيا لا يكون نصيبه إلا الهلاك، إذا وقع في يد الحكومة. - ولكن لنفرض أن المسمى هنا فهيم رماح هو ذلك الرجل ... لم تقل لي ما اسمه يا أبانا؟ - اسمه الأمير سليمان الخزامي. - لنفرض أن الأمير سليمان هو فهيم رماح، فلماذا يتنكر في مصر وهو في مأمن من الحكومة العثمانية؟ - هذا ما أعترض به على افتراضك. - ألا تظن أن هناك داعيا آخر لتنكره؟ - لا يخطر لي داع آخر إلا أنه لا يريد أن يتظاهر قريبا لأهله؛ لئلا تضايقهم الحكومة بسببه؛ لأنهم قاسوا بسببه في أول الأمر اضطهادا لا يطاق، فكان أخوه وأبوه يتبرآن منه، ويدعيان أنهما قاطعاه تمام المقاطعة، ولكني أرجح أنهما كانا يرسلان إليه الأموال بالآلاف سرا، وقد باعا قسما كبيرا من الثروة الطائلة. - إن هذا السبب الذي تظنه ظنا يا أبانا لهو سبب وجيه، ولا يبعد أن يكون الأمير سليمان قد جاء إلى مصر رأسا متنكرا، أو جاءها بعد أن قضى مدة قصيرة في أميركا، وأخوه وأبوه يحولان الثروة إلى مصر تدريجا؛ لأن فهيم رماح هذا الذي نفرض أنه هو الأمير سليمان الخزامي قد جمع ثروة طائلة في مدة قصيرة هنا، فلا يعقل أنه يستطيع جمعها في هذه المدة، وهو رجل غريب البلاد. - إن تعليلك في محله يا ابني، ولكن لا بد من البحث والتحقيق حتى إذا ثبت أن هذا هو الأمير سليمان، وثبت أن الفتاة قريبته، فلا يبقى شك بأن الفتاة هي من نبحث عنها. - أما إنها قريبته فأمر أرجحه؛ لأني علمت أنه يبتغي الزواج منها مهما تكلف لأجله؛ لأنه علم سرا أن للفتاة ميراثا كبيرا لم تدر هي به بعد.
فاختلج الكاهن وحملق بجورجي قائلا: لم يبق عندي شك بأنه هو الأمير سليمان، ولكن كيف عرف بأمر ميراث الفتاة؟ - يقال: إنه وردت له كتابة سرية بذلك من أخيه أو أحد معارفه. - عجيب كيف عرف أخوه بذلك؟ لعل الشهود على الوصية أفشوا سرها. - إذن في الأمر وصية من أبي الفتاة؟ - كلا؛ لأن أباها مات قبل أن يدري هل له ابنة. - كيف ذلك؟ - لأبيها قصة طويلة لا محل لسردها الآن. - قل لي بالاختصار يا أبانا؛ لأن معرفة هذه الأمور ضرورية للتحقيق. - مسكين أبوها فقد قاسى اضطهادا لا يطاق من مكايد زوجة أبيه وأخيه ابنها، وآخر المكايد اضطرته أن يهرب إلى بلاد اليونان، وهناك تطوع في الجيش اليوناني، وقتل في حرب الدولة العلية مع اليونان، وكانت زوجته حاملا حين هرب، ولما كانت زوجة أبيه تضطهدها رحلت حاملا إلى بيت أهلها في قضاء البترون، وهناك ولدت الفتاة ولم يعد يعلم أحد ماذا حل بها بعد ذلك.
وكان جورجي يبالغ في كتمان عواطفه ليخفي حقيقته، فقال: أولم يكن لها أولاد آخرون؟ - كان لها صبي وكان جده يبعده في المدارس؛ لينجو من اضطهاد زوجته، ولكنه لم ينج من كيدها، فنصبت له مكيدة هرب بسببها إلى أوروبا، وبعد ذلك أهمله عمه بالرغم من تساؤل جده عنه فاختفى خبره، رحمة الله على الأمير خليل فقد قاسى هو وذريته من جور تلك الداهية ما لم يقاسه أيوب الصديق.
وكان جورجي يزمهر والعرق ينضح من جبينه وهو يمسحه، فقال له الكاهن: ما رويت هذه القصة لأحد إلا تأثر منها، فلا أستغرب تأثرك يا ابني. - إذن الوصية التي ذكرتها لي من ... - من جد الفتاة، فإن ما قاساه من سوء سلوك ابنه الأمير إبراهيم وحفيديه فضل وسليمان، حمله على أن يوصي بثروته لحفيدته التي نبحث عنها الآن ولأخيها إن ظهر في الوجود، وقد كلفني أن أنفذ الوصية بعد موته؛ لأنه كتمها خوفا من اضطهاد ابنه له، وأوصاني ألا أظهر الوصية حتى أجد الفتاة، وقد مات الأمير منذ مدة؛ ولهذا تراني الآن أبحث عن الفتاة، وقد سقتني في الحديث إلى إفشاء هذا السر لك؛ لأني توسمت فيك معينا قديرا في البحث، فأرجو منك ... - كتمان السر، إني أكتمه يا أبانا، أكتمه حتى بعد ظهور الحقيقة؛ لأني تأثرت جدا لهذه القصة الغريبة فاتكل علي في تحقيق أمر الفتاة، كن مطمئنا، لقد اهتدينا إليها وسنخلصها من مخالب الذئاب. - هل علمت لماذا هربت بها خالتها إلى هنا؟ - علمت علمت، علمت أنها ربتها لتقدمها ضحية لصنم الرذائل والشهوات، وقد وجدت هذا الصنم وهي تنوي أن تزوجها منه. - إذا كان الأمر كذلك ف ... - فماذا؟ - من يستطيع منع هذا الزواج؟ - أنا. - لماذا؟ - لأن الفتاة لا تريد رجلا يجعلها رابعة خليلاته. - نعوذ بالله. - اعذرني الآن يا أبتاه، فإني مضطر أن أفارقك في الحال، ولا تتعب نفسك بعد الآن، فإن الفتاة ستكون بين يديك محمية من الغادرين.
إفلات العصفور ثانية
كانت الساعة الثامنة مساء حين قرع الباب على يوسف براق في غرفته، وهو يكتب على مكتبه.
فنهض يستقبل القادم وفتح الباب، فدخل منه جورجي آجيوس كالمجنون، وقال: خفت ألا أجدك هنا. - أراك مضطربا فماذا؟ - هيفاء تحت خطر. - ماذا تقول؟ - ستتزوج الليلة. - لذلك الزنيم؟ - له.
فقال يوسف متهددا: حياتها الروحية أو حياتك الجسدية. - وعدتك يا يوسف وها أنا أبر بوعدي، ولكني أريد يدك. - ها يدي فماذا أفعل؟ - اذهب واستأجر أوتوموبيلا، ها عشرة جنيهات ولا تبخل بعشرين أو مائة أو ألف إذا لزم الأمر. - ثم ماذا؟ - خذ الأوتوموبيل، وانتظر قرب منزل نديمة، ومتى خرجت الفتاة ضعها فيه وخذها إلى منزل في شبرا، هذا وصفه مدون على الورقة بكل وضوح حتى لا تضل عنه، وهذا مفتاح باب المنزل، ليس فيه أحد، فامكثا فيه ريثما أعود إذا لم أستطع أن أرافقكما، اتركا الأوتوموبيل عند محطة كبري الليمون، وبعد أن يبرح الحوذي اركبا مركبة إلى شبرا. - حسن، هل أنت واثق بالنجاح؟ - إني واثق، فلا تخف. •••
في الساعة التاسعة دخل جورجي إلى منزل نديمة، فوجد هناك نديمة وابنتها وجميل مرمور وفهيم رماح، فلما دخل رحبوا به، وأما هيفاء فحملقت فيه وكانت دلائل الكآبة بادية عليها، وكل لمحة من ملامحها كلمة تدل على نفورها وعلى تململها من الضغط الواقع عليها، أما نديمة فتقدمت وأسرت إليه قائلة: ما الذي جاء بك الآن؟ - إذا لم تدعوني فأدعو نفسي لأكون شاهدا. - أخاف أن توجس هيفاء منك؛ لأني أراها تحملق فيك كأنها عرفتك. - الناس يتشابهون يا سيدتي وأنا أتجاهل فلا تخافي، أما جاء القسيس بعد؟ - سيجيء بعد ساعة على الكثير.
بعد هنيهة خرج جورجي إلى غرفة الحمام لقضاء حاجة، وعاد وما هي إلا بضع دقائق حتى صاح الخادم: «حريقة حريقة.» فهرع الكل إلى المطبخ، فوجدوا اللهيب يندلع من بعض الحطام، فاشتغلوا بالإطفاء.
عند ذلك اغتنم جورجي الفرصة، وقال لهيفاء في إبان اضطرابها: إن يوسف ينتظرك خارج الدار؛ ليخلصك من الجحيم الذي تذهبين إليه، إن القسيس الذي سيكللك ليس قسيسا بل هو عامي مثلي، وزواجك لا يكون شرعيا بل حيلة، فأسرعي واخرجي ولا تخافي.
فما ترددت هيفاء أن خرجت، ودخل جورجي في الحال يساعد البقية على إطفاء الحريق، وما هي إلا بضع دقائق حتى تغلبوا على الإطفاء، وعلموا أن سره انقلاب مصباح البترول، فجعلت نديمة تحرق الأرم على الخادم والخادمة؛ لأن إهمالهما كان السبب، وأما هما فكانا يتبرآن ويقسمان وكل منهما يلقي التبعة على الآخر.
ولما عادوا إلى البهو لم يجدوا هيفاء، فبحثوا عنها في المنزل فلم يجدوها فصاحت نديمة: إن هذه الفعلة فعلة تلك الشقية إذن، وقد رامت أن تحرق المنزل بنا لكي تهرب؛ إذا وقعت في يدي فأمزقها تمزيقا.
فقال جورجي: إنكم لمغفلون، أما درستم المسألة أول مرة؟ فلماذا لم تحتاطوا؟
فقالت نديمة: إننا في حاجة إليك الآن يا جورجي. - إذن مجيئي كان في حينه. - نعم هل تستطيع أن تهتدي إليها؟ - إن اهتديت إلى يوسف براق اهتديت إليها طبعا. - إذن بربك، هل تعجل بالأمر؟ - في بضعة أيام أردها إليكم. - أخاف أن يتزوجها هذا الجاهل. - أحول بينهما لا تخافي، دعوني الآن أمضي لعلي أعلم أمرا الليلة، ثم ودعهم ومضى.
ضمير يدمع
كانت الساعة العاشرة حين دخل جورجي إلى المنزل الذي أوى إليه يوسف وهيفاء، فاستقبلاه باسمين متهللين، أما هو فكانت عيناه تتقدان كأن في نفسه ثورة، فلما جلس قال له يوسف: أراك مضطربا فهل حدث أمر؟ - لم يحدث إلا كل خير، وإنما أود أن أعلم أمرا. - ماذا؟
فقال جورجي موجها الخطاب إلى هيفاء: هل أنت نادمة على هربك يا هيفاء؟ - بل أنا ممتنة لك وليوسف؛ لأنكما خلصتماني من الويل الهائل. - لقد كذبت عليك يا هيفاء كذبتين، وضميري يعنفني بشدة عليهما.
فأبرقت أسرة يوسف وقال: الحمد لله لقد بعث ضميرك من قبره.
وقالت هيفاء: ما هاتان الكذبتان؟ - الكذبة الأولى حين كنت في ثوب قسيس ينوي أن يكللك إكليلا كاذبا، وقد أنجاك من شر هذه الكذبة هذا الفتى.
فجحظت عينا هيفاء، وقالت: إذن لم يكذب ظني؟ - لا، لم يكذب، أنا هو ذلك القسيس الشرير، وأما الكذبة الثانية فكانت هذه الليلة إذ قلت لك: إن الذي سيكللك ليس قسيسا بل هو مثلي، والحقيقة أنه قسيس. - إني أشكر لك الكذبة الثانية التي محت شر الكذبة الأولى؛ لأني لم أكن راضية عن الزواج من ذلك الشرير، وقد آليت على نفسي أن أنتحر قبل أن أدخل معه إلى غرفته؛ لأني تصورته شيطانا رجيما، وتصورت أمي الحية التي أغوت حواء، وقد أدركت قصدها الشرير. ولكني لم أستطع النجاة من يدها؛ لأنها كانت تذعرني بتهديداتها، وتوهمني أن الحكومة تضعني تحت سلطتها بالرغم مني؛ لأني لم أزل قاصرة ولم أبلغ بعد السن التي أكون فيها حرة التصرف بنفسي. - ولكن يوسف لا يصدق أنها أمك؛ لأن الأم مهما كانت شريرة لا تضحي بابنتها هكذا، فهل هي أمك حقيقة؟ - كلا بل هي خالتي، وصرت أشك الآن بأنها كذلك؛ لأن الخالة لا تقل حنانا عن الأم ولا سيما إذا ربت. - من هي أمك يا هيفاء؟ - آه، لا أعرف لي أما؛ لأني لم أفتح عيني بصيرتي في هذا العالم إلا وأنا في حضن هذه الشريرة، ولكن قيل لي: إنها ليست أمي، وهي أقرت لي بأني ابنة أختها، وأنها لا تعرف أبي وأنها كانت في مصر، وحين رجعت إلى سوريا كانت أمي تحتضر، فأخذتني وربتني، وفي هذا العام جاءت بي إلى هنا بغتة من غير أن أدري شيئا. - ولكن ما اسم أمك؟ - قيل لي: إن اسمها حنة. - وهل تعرفين شيئا عن أبيك؟ - قيل لي: إن اسمه خليل وأنه مات، هذا جل ما أعرفه؛ لأن خالتي كانت تتنقل بي من بلد إلى بلد، وحيث نكون أرى أني غريبة، وليس من ينبئني عن أبوي وأهلي. - وماذا تعرفين عن خالتك. - لا أعرف شيئا؛ لأنها سر لا يدرك ففي أول وعيي كانت تسمى ندرة الزعفران، ثم لما انتقلنا إلى بلد آخر قالت: إنها تود أن تنتسب إلى زوجها المصري الذي مات، وأوصتني ألا أذكرها إلا باسم نديمة الصارم، كما كانت تسمى في مصر، وتهددتني بشدة إذا كنت أذكر غير هذا الاسم. - إذن أنت لست آسفة على فراق هذه المرأة؟ - بل إني مسرورة بالابتعاد عنها، ولكني لا أزال أخاف شرها، وأنا وحيدة لا أم لي ولا أب ولا قريب.
فذرفت دمعتان من عيني جورجي، فقال له يوسف: إني أستغرب أن تدمع عيناك. - ليست عيناي تدمعان يا يوسف، ولكن ضميري يدمع. - أين كان ضميرك قبل الآن؟ - أما قلت لك: إنه ذهب مع عائلتي؟! - عجيب أن يرجع. - بل عجيب أن تتعجب، وأنت قلت : إنك سترد لي ضميري، فهل نسيت؟ أما أنا فلن أنسى.
فتنهد يوسف وقال: الحمد لله.
ثم قال جورجي: تقولين يا هيفاء إنه ليس لك أب ولا أم ولا قريب تحتمين به ... فهل تريدين أن تسري نفسي بأن تقبليني أبا وأما وقريبا؟
فأطرقت هيفاء، فقال لها: إني فاقد كل سعادة وهناء في هذه الحياة، فهل تريدين أن تخلقي لي سعادة؟ - لو أستطيع. - تستطيعين إذا أردت أن أكون لك كل شيء تتمنينه. - إني أحتاج إلى أب يا سيدي، ولم أر حنو الأب في حياتي إلا الآن، فأنا ابنتك.
فهم جورجي أن يعانقها، ولكنها نفرت منه مزمهرة فامتنع والدمع يذرف من عينيه، وقال ليوسف: هل تريد أن تكون أخا لهيفاء يا يوسف؟ - أما أنا اقترحت ذلك عليك؟ إني ابنك منذ الآن، ولا أظنك تغدر بابنك يا أبتاه.
فلم يتمالك جورجي نفسه؛ لأن الدمع تفجر من عينيه تفجر الماء من صخرة، وفي الحال نهض بدعوى أنه خارج لقضاء حاجة، ودخل غرفة الحمام وأطلق لدموعه العنان، وما هي إلا هنيهة حتى سمع وقع أقدام، فنهض مسرعا وكفكف دموعه وعاد فوجد يوسف يتمشى في وسط الغرفة كأنه قلق، فقال له: تعال اجلس.
فقال يوسف: يكاد ينقضي الهزيع الثاني من الليل، ونود أن نبت أمرا. - أي أمر؟ - أمر هيفاء، أين تبيت الليلة؟ - تبيت الليلة هنا. - يستحيل. - لماذا؟ - لأنها لا تبيت إلا مع سيدة. - بل تبيت مع أبيها وأخيها، وأي سيدة أعطف عليها منهما؟!
فتردد يوسف بالجواب، وقال: ولكن هذا لا يليق. - ما زلت جبانا، لماذا لا يليق؟ - لأن الناس لا يعرفون أنها ابنتك وأختي. - كفى أن نعرف نحن، ومتى حان الوقت يعرف الناس ذلك، أليست لك ثقة بنفسك؟! لا تبيت هيفاء إلا حيث نبيت نحن وأنا المسئول.
فسكت يوسف مفحما، ثم قال: وهذا المنزل؟ - هو منزلي الليلة؛ لأن صاحبته عجوز يونانية، وهي صديقتي، وابنتها في سفر، وقد طلبت منها أن تخليه الليلة، وغدا ندبر أمر كل منا، فاطمئن. - ولكني أخاف مغبة هذا التدبير. - إذن أنت جبان القلب سيئ الضمير ضعيف الثقة فلا تصلح لي ابنا، دعنا من هذا الموضوع ولنبحث في أمر أهم. - ما هو؟ - ماذا تنوي أن تعمل أنت؟ - سأبحث عن خدمة. - بل تشتغل بتجارة. - ورأس المال؟ - هذا هو.
وتناول جورجي من جيبه ورقا ماليا بقيمة ألف وخمسمائة جنيه، والتحويل الذي أخذه من جميل مرمور، ودفع الكل إلى يوسف.
فلما اطلع يوسف على التحويل رمى به وبالأوراق إلى الأرض، وقال: لا أمس مال السحت.
فعبس جورجي به قائلا: ما زلت حيوانا. - إني لكذلك. - إذن لا تعش بين الناس؛ لأنك لا تقدر أن تعيش بينهم إلا إذا كنت إنسانا، فخذ الأوراق كلها واسمع نصح أبيك، وغدا نبحث بتفاصيل التجارة.
فامتثل يوسف صاغرا كأنه يشعر بقوة تتسلط على عقله، ثم التفت جورجي إلى هيفاء، وقال: إنك تعبة يا ابنتي فقومي إلى سريرك في الغرفة الثانية، ولكني أود أن تنهضي غدا وما أنت هيفاء.
فنظرت فيه مستغربة وقالت: ماذا أكون إذن؟ - تكونين وطفاء ولا يعرفك أحد إلا بهذا الاسم، قومي يا ابنتي إلى سريرك.
فنهضت هيفاء ودخلت إلى الحجرة، فوجدت سريرين واضطجعت في أحدهما.
ثم قال جورجي ليوسف: وأنت تنام في السرير الآخر يا يوسف. - يستحيل أن أنام في غرفة هيفاء. - بل تنام حارسا لأختك، وأنا أنام في هذه الغرفة على المقعد حارسا لكما. - إنك تطلب مني أمرا ينفر منه ضميري. - متى كنت سيئ النية هكذا؟ لا تبرهن لي على أنك أخ هيفاء إلا إذا نمت في غرفتها.
فأفحم يوسف ودخل إلى الغرفة مقدما رجلا ومؤخرا أخرى.
أما هيفاء ففي نصف ساعة كانت تغط في نومها، وأما يوسف فلم يستطع أن ينام؛ لأن الهواجس كانت تلعب في رأسه، ولكنه كان يتحاشى أقل حركة؛ لئلا تصحو هيفاء أو تذعر.
ولما كانت الساعة نحو الثالثة شعر يوسف بحركة خفيفة في الباب، ثم انفتح فرأى شبحا يدخل منه متسرقا، فبقي كامنا في سريره ليرى ماذا يكون من أمره، فرآه يتقدم بكل هدوء حتى صار عند سرير هيفاء، ثم رآه انحنى فوق السرير عند قدميها، فجزع وما رأى نفسه إلا واقفا على الأرض، وأسرع في الحال وقبض على الشبح ودفعه إلى الوراء، فاندفع الشبح معه بكل هدوء إلى أن صار كلاهما خارج الغرفة، حيث تبينه يوسف في الرحبة التي لا يزال المصباح الضئيل مضيئا فيها، فإذا هو جورجي، فقال له: هل من غدر آخر؟ - لماذا تقول هكذا؟ - ماذا كنت فاعلا؟ - كنت أقبل ابنتي؛ لأنها لا تنفر مني وهي نائمة، ألا يحق لي ذلك؟ - ولكنك انحنيت عند قدميها. - نعم؛ لأني لا أستحق أن أقبل وجنتيها، وأخاف أن تلهبها أنفاسي فتصحو مذعورة.
وكان يوسف يرى الدمع ينسكب بغزارة من عيني جورجي فسكت معتبرا، ثم أقعده على المقعد قائلا: إني مدهوش من أمرك. - ما الذي يدهشك؟ - أرى فيك شعور الأب الحقيقي، فمن أين لك هذا؟ - منك، أما قلت لي: إنك ترد سعادتي، فقد رددتها وأنا الآن أتمتع بها. - وهذه الدموع؟ - دموع السرور واللذة، فلماذا تحرمني سعادتي؟ هل ندمت على ما نفحتني؟ - فلم يتمالك يوسف دموعه أيضا، وقال: هل تحبني كما تحب هيفاء؟ - إذا كنت تأذن لي بقبلة تعلم.
وأمسك جورجي بيدي يوسف، وهو لا يزال واقفا واجتذبه إليه وعانقه، وهو يقبل خده قبلة لا نهاية لها، والدمع يتدحرج من عينيه ونفسه يتصعد ويتصوب حتى شعر يوسف بمثل حرارة بخار، ثم ما لبث أن تراخت ذراعا جورجي عن صدر يوسف، واستلقى على ظهره ويوسف يتأثر شديد التأثر من هذا الخفقان الذي لم يفهمه.
ثم جلس يوسف إلى جانبه وهو يقبض على كفه، وقال: أحمدك يا قوة القوى؛ لأنك استجبت صلاتي إذ أنبت نبتة حب في أرض مجدبة، واستخرجت ماء من صخرة.
ابن الطبيعة
عند ذلك تنهد جورجي، وقال: من لقنك هذا اللاهوت يا يوسف؟ - مدرسي لقنني. - وماذا تلقنت من أبويك؟ - ليس لي أبوان. - إذن من ولدك؟ - الطبيعة، فأنا ابن القوة والمادة. - أين ربيت؟ - في العالم العقلي. - أين قطنت؟ - في دار الخيال. - أرجو أن تخرج إلى عالم المادة وتخاطبني، فقل متى جئت إلى مصر؟ - منذ بضعة أسابيع. - أين كنت قبلا؟ - في أوروبا. - وقبل أوروبا؟ - في القارة الغارقة في الأوقيانوس. - أي أوقيانوس؟ - أوقيانوس الجهل. - في أي قطر من أقطار تلك القارة؟ - في قطر العبيد والإماء. - العبيد والإماء؟ - نعم، عبيد السلطة المطلقة المستبدة. - تعددت السلطات المطلقة في تلك القارة، فأيها تعني؟ - أعني السلطة التي صبغ شعارها بالدم، السلطة التي تفرق العناصر ضاربة بعضها ببعض. - في أي عنصر كنت؟ - في العنصر الذي لم تكن المعرفة إلا سلاحا ينتحر به، في عنصر الدسائس، في عنصر معكوس التركيب يقوى مشتتا ويضعف متجمعا. - لماذا تركته؟ - لم أتركه بل نبذني؛ لأني غريب عن مادته. - إنك تزيد بيانك إبهاما بهذه الكنايات، فلماذا لا تسميه باسمه؟ - لأني أرتعد غضبا إذا سميته. - هل العنصر كله نبذك؟ - كلا. - إذن أتنقم على العنصر بجريرة ذرة من مادته؟ - نعم؛ لأن العنصر الذي تتنافر أجزاؤه، وتتقاتل كريات دمائه وتتهالك حتى جواهره الفردة لا أستطيع الالتئام به. - منذ متى انتبذت منه؟ - منذ صحوت من سبات الصبا. - ألم يعد يجتذبك إليه؟ - بل أنكرني. - أود مزيد إفصاح يا يوسف، هل لك أقارب في سوريا؟
فانتفض يوسف قائلا: لا تروعني بهذا الاسم. - لا ترتع فنحن بعيدان عنه الآن، فقل لي أين أهلك الماديون؟ - هناك. - من هم؟ - جد وزوجة جد وعم وأبناء عم. - تقول: زوجة جد؟ أما هي جدة؟ - كلا، بل هي جدة أولاد عمي فقط. - وأبوك؟ - لم يبق لي أب. - وأمك؟ - ولم يبق لي أم. - إخوة ... أخوات؟ - لا إخوة ولا أخوات. - ألم يزل أقاربك الذين ذكرتهم أحياء؟ - لا أدري، ولا أريد أن أدري. - عجيب هذا النفور ودمك من دمهم. - ليس عجيبا؛ ففي الطبيعة كثير من ذلك، الزيت والماء تكونا في حبة الزيتون، فمتى ولدتهما تنافرا؛ لأنهما يختلفان طبيعة مع أنهما توأمان.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: من أي طبيعة أبوك وأمك؟ - من طبيعتي المنبوذة. - لو بقيا حيين. - لكنت وإياهما ثالوثا متحدا.
فتدفق الدمع من عيني جورجي قائلا: لا أدري يا يوسف ما هي طبيعة أبيك الجديد من طبيعة أبيك القديم. - أشعر بألفة بينهما. - يا لله هل نسيت السجن؟ - لن أنساه.
فأجهش جورجي في البكاء قائلا: هل فعل بك أقاربك أشر مما فعلت أنا بك؟ - لا يهمني ماذا يفعل غيري بي؛ لأن الفعل بي مهما كان نوعه لا يتجاوز المادة المتغيرة، ولا يبلغ إلى القوة الخالدة. - إذن ماذا يهمك؟ - يهمني ماذا أفعل بغيري. - ماذا فعلت بأقاربك؟ - لم أستطع أن أفعل شيئا، فإذا وعظتهم كنت كناطح صخرة يكسر قرنيه والصخرة ثابتة. - وماذا فعلت بي؟ - جعلت منك أبا حنونا. - وسعيدا يا يوسف، فدعني أقبلك ثانية.
وتعانق الأب والابن عناقا قد يفهمه القارئ، ولا يقدر أن يصوره الكاتب.
لسان الثعلب
في اليوم التالي كانت وطفاء (هيفاء) تسكن مع تلك العجوز اليونانية، كوديعة عندها تحرص عليها حرصها على الأجر الذي كانت تتقاضاه من جورجي، وقد أوصى جورجي وطفاء ألا تخرج من المنزل إلا معه، وأن تطلب منه كل ما تشاء متى زارها، وأوصى اليونانية ألا تعترف بوطفاء لأحد وإلا ضاع عليها الأجر الجزيل، وكان بعد ذلك يزور ذلك المنزل ليلة بعد ليلة ويقدم لوطفاء حاجاتها، أما يوسف فندر أن زارها دفعا لشبهة المشتبهين أن تكون حيث يتردد.
وعاد جورجي يسكن في الفنادق كعادته، ويوسف يسكن في منزل طريقه سلسلة أزقة.
وما هي إلا بعض الأيام حتى كان يوسف يتاجر بالأجواخ، وكان له جار في السوق يتاجر بالأنسجة الحريرية والأقمشة القطنية وغيرها، فما مضت مدة إلا صارا صديقين، فكانا يجتمعان بعض الأحيان ويتحدثان، ففي ذات يوم قال ذلك الجار - واسمه فهد المهند: بلغني أنك خطبت وستتزوج قريبا يا مسيو يوسف، فيا لك من جار! ألا تخبر جارك لكي يهنئك؟ - لا علم لي بما تقول. - عجيب أن تنكر والخبر مالئ الفضاء. - أقول لك: لا علم لي بما تقول. - يا أخي يقولون: إنك تحب ليلى ابنة المراني وأنها تحبك، فهل تنكر ذلك أيضا؟
فوجم يوسف وازمهر فقال له فهد: دلائل الحب لا تخفى على أحد كحامل المسك لا يخلو من العبق، فها إني أرى على وجهك هذه الدلائل، والناس يعلمون أنك تجتمع بها أحيانا ، فهل تنكر هذا أيضا؟ - لا أنكر؛ لأننا لا نجتمع في السر بل في العلانية. - إذن لا دخان بلا نار، ولا يجمع الفتى والفتاة إلا الحب. - ولكن الحب غير الخطبة والزواج. - ولكن الخطبة والزواج ثمرة الحب بحكم الطبع، وإلا فالحب فاسد وفي عرف الجمهور إثم. - أما نحن فلسنا نجري على رأي الجمهور. - تعني أنكما لن تتزوجا بل تتعاشقان؟
فامتقع وجه يوسف، وقال: لا حكم لي على المستقبل. - أما أنا فأحكم بأن المستقبل زواج إذا كان الحاضر حبا. - لا أدري لماذا يهمك هذا الموضوع. - يهمني لأنك صديقي وأود أن أقوم بواجب الصديق. - لا أفهم ما هو الواجب الذي عليك. - النصح. - ما هي نصيحتك؛ فأشكرها لك؟ - لا أقدر أن أقول ما لم أعلم إن كنت تنوي أن تتزوج هذه الفتاة، فإن كنت لا تنوي فلا داعي للنصح. - هب أني سأخطبها.
فتردد فهد في الجواب، وقال: لا أقدر أن أقول إلا إذا علمت عزيمتك الأكيدة، فلا أود أن أبني على فرض.
فسكت يوسف، وبعد هنيهة قال فهد: هل أنت مصمم على الزواج من هذه الفتاة؟ - ذلك في النية، ولكني لا أدري إن كانت الأحوال تسوق إلى إبراز النية إلى حيز الفعل. - إذن لم تكذب الإشاعات ويحق لي أن أتكلم. - تكلم.
فتوقف فهد هنيهة، وقال: أخاف أن أتكلم.
فاضطرب يوسف قائلا: إنك تحملني على التطير من هذه المقدمة، فماذا تريد أن تقول؟ - إن ما أقوله سر قد لا يعرفه إلا واحد غيري، فأخاف مغبة إفشائه عن يدي. - لا تعرفني جيدا يا فهد؛ فإن ما يقال لي سرا فكأنه لم يقل، فقل وتوهم أنك لم تقل. - أقسم لي بأعز عزيز عندك أنك لا تقول. - لست أقسم بشيء؛ لأن وعدي أعظم من قسمي. - إني أثق بك، ولكن اعلم أني سأنكر تمام الإنكار أني قلت لك ما سأقول، وإذا شاع السر أتهمك باختلاقه. - ليكن ما تقول. - حسن، هل تعرف ابنة من هي ليلى؟ - أعلم أنها ابنة بطرس المراني. - كلا البتة.
فوجم يوسف، وقال: إذن ابنة من هي؟ - لا أحد يدري. - ماذا تقول؟ - أقول: إنه ليس لليلى أب.
فسكت يوسف وقال: لا أفهم ماذا تعني. - أعني أن ليلى ابنة عاهرة، وقد انخدع بطرس المراني بالزواج من أمها، فكان يظن أنه يتزوج أرملة، والحقيقة أنه تزوج زانية لا تعرف أبا ابنتها. - وهل عرف بطرس هذا الأمر بعد ذلك؟ - لو عرفه لطلق المرأة حالا. - وكيف عرفت هذا السر؟ - لا تسألني كيف عرفته. - بل أود أن أتحقق صحة هذا الخبر. - لا أقدر أن أقول لك شيئا الآن، ولكنك ستعلم في المستقبل حين تعرف عشاق أمها الواحد بعد الآخر، فما أنا واش الآن بل أنا ناصح وأنت حر في قبول النصح أو رفضه، هذا واجب الصداقة وقد قضيته.
ففكر يوسف هنيهة، ثم قال: وهب أن أم ليلى كانت زانية، فما هو عيب ليلى؟ - عيبها أنها ابنة زنا لا تعرف لها أبا، وإذا تزوجتها فلا تعرف من هو حموك.
فأطرق يوسف قائلا: لا أرى ليلى ملومة إذا كانت لا تعلم لها أبا شرعيا حقيقيا. - يا لله! أما كفى هذا عارا لها ولكل من يتصل بها؟ - لا عار عليها؛ لأنها لو كانت حرة في ميلادها ما رأت أن تكون ابنة زانية، ونحن لو كنا أحرارا ما كنا نود أن نكون أبناء آدم الذي أورثنا الخطيئة كما يقولون.
فضحك يوسف وقال: ولكن الذين يزعمون أننا ورثنا الخطيئة من آدم يزعمون أيضا أن المسيح افتدى العالم، فهب أن ليلى بنت زنا، فأنا افتديتها وأطهرها من عار الزنا. - إذن تصر على الزواج منها. - إذا قدر لنا هذا الزواج، فلا أرفضه لأجل هذا السبب. - إني أستغرب مبادئك يا يوسف. - لا بدع أن تستغربها؛ لأنها تخالف مبادئ السواد الأعظم من الناس، فاعلم يا أخي أن أفكاري غير أفكار هذا السواد من الناس، وما دامت ليلى طاهرة الشخصية، فعار أمها لا يلتصق بها مهما لصقه الناس بها. - لك رأيك يا أخي والذي علي قد فعلته، ولكن هل تظن العوسج يثمر تبنا، والشوك عنبا؟ - إن لم يثمر الشوك عنبا فيزهر ورودا، ثم إن جوهر ليلى الروحاني لم يتكون في حجر أمها، بل في بيت بطرس المراني، ولم أسمع عن هذا البيت إلا الثناء على محامده وفضائله، وإذا كانت أم ليلى قد استطاعت أن تخفي زلتها حتى عن زوجها؛ فلأنها كانت ذات عفاف، وما زلتها إلا هفوة غواية، وقد هفا الملاك قبلها، والله غفر لأمثالها.
مؤامرة رجيمين
في ذلك المساء كان فهد المهند في منزل الدكتور صديق هيزلي، وهما يتحدثان فقال صديق: أظنك نجحت يا فهد. - إن صاحبنا فيلسوف لا يتكلم إلا بالروحانيات.
فضحك الدكتور صديق قائلا: لقد عرفته كذلك فماذا جرى من الحديث بينكما؟ - كانت النتيجة عكس ما رغبنا. - تعني؟ - أعني أنه عوضا من أن ينفر من ليلى بررها، وجعلها طاهرة من كل عيب، بل برر أمها أيضا. - يلوح لي أنه لم يقتنع بصحة الخبر. - بل اعتقد بصحته، ولكنه لا يحسب ذلك عارا، ولو شاع وملأ الأسماع. - إذن هو مصر على التزوج منها. - أنكر ذلك أولا ولكن كلامه الأخير أثبت أنه يحبها، ولا ينفره منها عار ولا شنار.
ففكر صديق هنيهة، ثم قال: لقد قلت حيلتي، فلا أدري كيف أفصل هذا الثقيل عن تلك العنيدة. - يجب أن تعرف كيف تؤكل الكتف. - فكرت كثيرا فلم أعرف، فهل تعرف كيف تؤكل الكتف؟ - أنت أعرف مني؛ لأنك درست أخلاق الفتاة. - إن ما درسته وعرفته يدلني على أن ذلك الثقيل لاعب في دماغ الفتاة بعلمه وفلسفته؛ لأنها تحب الفلسفة والعلم. - ولكن الفتاة لا تخرج عن كونها مرأة، فهي كسائر النساء تغتر بالمال والسعة. - نعم، وقد خطر لي ذلك؛ ولهذا صارت المسألة أصعب من قبل؛ لأن يوسف صار ذا مال وتجارة، فلم تبق من حاجة في نفس ليلى يعجز ذاك عن سدها، ولا أدري كيف حصل ذلك الشقي على رأس المال، وآخر عهدي به أنه كان خادما في حانوت دخاخني؛ لضيق ذات يده. - إن أمره محير، وأظن أن معظم رأس ماله ثقة، والمال الذي بين يديه ليس له بل لتجار أكبر منه، هذا إذا لم يكن المحل كله لشخص آخر يتاجر باسمه والله أعلم، أقيسه على نفسي، فإن معظم رأس مالي لمداينين فإذا كان هو كذلك فموقفه حرج دائما.
فبقي صديق صامتا مفكرا، وأخيرا قال له فهد: إننا صديقان يا صديق، والثقة متبادلة؛ ولهذا لا أجد أحدا غيرك أشكو له أزمتي لعل لك فيها رأيا. - ثقتك في محلها يا فهد فهل أنت في أزمة؟ - إني فيها وقد أصبحت على وشك الإفلاس، وإذا لم يكن في يدي الآن شيء من المال أسد به أفواه المداينين ضايقوني، وعرضوا تجارتي لخطر الإفلاس لا محالة، فهل في إمكانك أن تدبر لي دائنا آخر يقرضني قرضا لمدة ستة أشهر إلى أن يحين الموسم، وتتوافر الأموال فأجمع الديون التي لي وأنجو من الخطر؟
ففكر صديق هنيهة، ثم قال: لقد دبرت لك دائنا. - من هو؟ - جارك يوسف نفسه. - ولكنه تاجر مثلي لا يستغني عن جنيه واحد. - ليس ضروريا أن يدفع من صندوقه بارة واحدة. - إذن كيف؟ - أنتم التجار تتبادلون الصكوك. - نعم. - فأعطه صكا بقيمة ألف أو ألفي جنيه مثلا، وهو يعطيك صكا بمثل المبلغ «تقطعه» في أحد البنوك. - ولكن هناك عقبتين، الأولى: أن يوسف قد لا يعطيني صكا، والثانية: أن البنك قد لا يقطع الصك على يوسف. - هل يعلم يوسف بأزمتك؟ - لا يعلم بها أحد غيرك. - إذن، إذا احتلت عليه فلا يبخل عليك بصك منه إذا رأى بيده صكا مثله منك؛ لأنه رجل طيب القلب وسليم النية جدا، أما البنك فلا يتردد على ما أظن في قطع صك لتاجر جديد يعرف البنك أنه يحرص على سمعته والثقة به، جرب هذه الطريقة فقد تنجح، وإن لم تنجح فلا تخسر شيئا وبعدها نفكر بطريقة أخرى. - إنها لفكرة حسنة جدا، فإن نجحت أبشرك بنيل متمناك يا صديق.
فضحك صديق، وقال: إني أسر بذكائك يا فهد، لقد تفاهمنا بلا كلام، وإذا صح هذا الحلم فلك مني جائزة.
قصور في الهواء
في صباح اليوم التالي كان الدكتور صديق هيزلي مختليا بليلى في غرفة المقابلة، وقد ساقهما الحديث إلى الخطاب التالي ...
قال صديق: يلوح لي أنك تعتقدين أن السعادة قائمة باللذة النفسية وحدها، وأن لذة النفس مقصورة على إحراز المعرفة والعلم. - نعم، وهل تنكر أن هذه اللذة هي أعظم اللذات؟ - لا أنكر، ولكني أعتقد أيضا أن النفس وهي مقيمة في الجسد تتألم أيضا إذا تألم الجسد، فهل تسر نفسك وأنت جائعة أو عليلة؟ - لا، ولست أقول: إن لذة النفس تقضي بإهمال الجسد وتركه لآلام الجوع والبرد، بل يجب الاعتناء بالجسد ما دام غلافا للنفس. - إذن للجسد حق بنصيب من اللذة كحق النفس. - بلا شك. - ولا تنكرين الفرق بين العيشة القشفة وعيشة الرخاء. - متى كنت أنكر الفرق بينهما؟ ولكني أقول: إن لذة النفس أعظم وأهم وألزم من لذة الجسد. - وأنا أقول كذلك أيضا. - وإذا خيرت بينهما؟ - أختارهما معا. - وإذا لم يصح لك إلا إحداهما؟ - لا أدري أيهما أختار، ولكني ما دمت أستطيع الحصول عليهما معا فأختارهما معا. - طبعا. - حسن، أنت حاصلة على لذة النفس بالعلم والأدب والفضيلة. - أحمد الله على ذلك. - فإذا حصلت على لذة الجسد أيضا في العيشة الهنيئة، فهل تفقدين لذة النفس؟ - لماذا أفقدها؟ - وإذا تيسرت لك هذه اللذة الجسدية بلا عناء ولا تكلف مشقة، فهل ترفضينها؟ - ما أنا مجنونة حتى أرفضها. - ما قولك إذا وقعت في يدك مائة ألف جنيه بلا تعب ولا نصب، وكانت لك حلالا؟! - أستعين بها على لذة نفسي. - حسن جدا، أنا أضع في يدك الآن مائة ألف جنيه.
ثم تناول صديق من جيبه ورقة مطوية، وقال: في هذه الورقة مائة ألف جنيه لك. - لا أعني أنك تقدم لي مائة ألف جنيه، وما خطر لي أنك تفعل ذلك؛ لأننا كنا نفرض فروضا، ونضرب أمثالا للاتفاق على حقيقة، فدع ورقتك معك. - ليست ورقتي بل هي ورقتك، وما أنا أقدم لك من مالي بل أقدم لك مالك. - لا أفهم، ماذا تقول؟ - طبعا؛ لأنك لا تعلمين شيئا عن نسبك. - نسبي؟ - نعم نسبك، فهل تعلمين من هو أبوك الحقيقي؟ - لا أعرفه؛ لأني تيتمت طفلة، ولكن قيل لي: إنه كان يدعى حنا فرزدق. - لم يكن في الوجود هذا الشخص، وإنما اختلق اختلاقا للتمويه على حقيقة نسبك. - وماذا تعرف عن حقيقة نسبي؟ - أعرف ما لا يعرفه أحد غيري الآن، وكان يعرفه اثنان قبلي وهما أمك وأبي.
وكانت ليلى تمتقع لحظة ثم يشرق محياها لحظة أخرى، فقالت: ما الذي تعرفه؟ - أعرف أنك ابنة غير شرعية لرجل كبير.
فاقشعرت ليلى وقالت: من هو هذا؟ وكيف تثبت هذا الزعم؟ - إذا أحببت أن تقرئي هذه الورقة ثم هذه أيضا تفهمين كل شيء.
فتناولت ليلى الورقة من يده (وهي وصية خالها لابنه صديق)، وقرأت حكاية مولدها كما كتبها خالها أبو صديق؛ لكي يقرأها ابنه بعد موته، وكانت تقرأ مدهوشة متحيرة متلونة من شدة التأثرات المتضاربة.
ثم رفعت نظرها إلى صديق، وقالت: ما أدراني أن تكون هذه الورقة ملفقة؟ - لو كنت لا تعرفين خط أبي ولا تعتقدين أن أبي لا يكذب، ولا قصد له سوى الحرص على سعادتك لكان يحق لك أن توجسي وتسيئي الظن بهذه الورقة، وما قولك بهذه الوصية الناطقة (أي: وصية الأمير إبراهيم الخزامي لأمها)؟
فتناولت ليلى الورقة الثانية، وقرأتها مرتجفة اليد، وما انتهت منها حتى وقعت من يدها لشدة تأثرها، فتناولها صديق وطواها ووضعها مع الورقة الأخرى، ثم قال: هل وثقت الآن أنك وارثة ثروة لا تقدر بأقل من مائة ألف جنيه؟ - وأني ابنة أمير؟ - نعم، فما أنا متصدق عليك بمائة ألف جنيه بل أحفظها لك.
وكانت ليلى في بحران بل في ذهول برهة، ومن لا يكون كذلك إذا بوغت بما يقلب كيانه ويغير حسبانه؟! وبعد سكوت طويل والدكتور صديق جالس يتلاهى بسلسلة ساعته التفت إليها قائلا: لقد حلمت قبلك يا ليلى حين فتحت وصية أبي، وأنا خالي الذهن من أقل حقيقة فيها، فلا ألومك إذا سبحت في عالم الخيال، ولكني أهنئك. - بماذا تهنئني؟ - أهنئك بما تشعرين به من السعادة الآن. - هل تظن أني أفتكر بسعادة أو شقاء الآن؟ - لا أقدر أن أظن غير ذلك، فإذا خاب ظني، فبماذا تفكرين؟ - أفكر في كيف أنتمي إلى أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني، بل أنا غريبة عنهم. - لا يهمك إلا أن تحصلي على حقك من الميراث، وإذا رام من تنتسبين إليهم أن تكوني صديقة لهم فدعيهم يتقربون منك.
وعادت ليلى إلى بحرانها، وبعد هنيهة استوقف صديق فكرها في مسبح تخيلاته بقوله: ما زلت تحلمين، أظنك تفكرين الآن بالبون الشاسع بين ماضيك ومستقبلك، فلا بد أن تكون كل أفكارك قد تغيرت في هذه الساعة، وأصبحت تبنين قصورا وعلالي أخرى، ولكنك تبنينها على صخر لا في الهواء كما كنت تبنين قبلا. - إنك بعيد الظنون فما تغير في ضميري شيء.
فاختلج صديق لهذا الجواب، وشعر بنبل وقع في فؤاده، وبعد هنيهة قال: أظنك تريدين أن تبقي وحدك الآن يا ليلى فأتركك.
فنظرت إليه قائلة: أشكر شعورك، ولكنني لا أراك تترك هنا الورقة التي تخصني.
فتوقف صديق هنيهة ثم قال: سنعود ونتباحث بشأنها يا ليلى، ومتى تريدين أن أعود؟ - تعود متى شئت، ولكن الورقة تبقى هنا منذ الآن.
فضحك صديق، وقال: تبقى هنا منذ الآن إذا شئت، ولكن تحت شرط. - لا أخضع لشرط.
فتغيظ صديق وتردد في مكانه، ثم عاد وجلس، وقال: اسمعي يا ليلى، لا أحد يعلم بهذه الوصية غيري وغيرك الآن، ولن يعرف بها أحد غيرنا إلا متى صرنا زوجين، وإن ذكرتها أنت لأحد أنكرها أنا بتاتا.
فنظرت فيه ليلى غاضبة ثم قالت: خذها فكأنها لم تكن، كنت في غنى عنها وسأبقى كذلك. - إذن ظلي بانية قصورا في الهواء واستثمري السعادة من الفلسفة، وخرج لا يلتفت.
العملي غير النظري
ما هي إلا بعض الأيام حتى أعلن إفلاس فهد المهند، فأسرع البنك الأميركاني، وطلب من يوسف براق أن يدفع مبلغ ألفي جنيه عن فهد هذا؛ لأنه كان قد ضمنها وكفله بها، فوقع يوسف في حيص بيص؛ لأنه ليس عنده من المبلغ جنيه واحد، فأبلغ جورجي آجيوس في الأمر، فأسرع هذا وأخذ الدفاتر إلى غرفته، وجعل يفحصها بمساعدة يوسف، ثم «جرد» المحل فظهرت له هذه النتيجة:
جنيه
2000
بضاعة في المحل
2500
ديون للمحل بموجب الدفاتر يصعب جمعها
4500
الجملة
2000
ديون على المحل
2000
السند المكفول باسم يوسف
4000
4000
الجملة
500
فطار صواب جورجي، وقال: كيف فعلت هكذا يا بني، أفي هذه المدة القصيرة تبيع بضاعة دينا بقيمة ألفين وخمسمائة جنيه وتضمن ألفي جنيه، لقد ضاع رأس المال، قل لي لماذا ضمنت ذلك المنافق؟ - لأني لم أعلم أنه سيفلس. - بالطبع لا تعلم؛ لأنه لا يقول لك. - بل أخبرني أن ذلك القرض الذي يقترضه سيفرج أزمته لا محالة، وأنه سيفعل معي معروفا كمعروفي إذا احتجت إليه، وأن التجار لا يستغنون بعضهم عن بعض، وقد توسل إلي توسلا وقال لي أن أفعل هذا المعروف لأجل أطفاله إلى غير ذلك من ضروب التشفيق، فلم يسعني إلا أن أفعل معه المعروف وإلا فلا أكون إنسانا، هل يطاوعني ضميري أن أرى محله يهوي إلى هاوية الإفلاس، وعائلته تصبح بعد ذلك في فاقة ولا أساعده بكتابة كلمتين في ذيل سند، إني أرق من أن أتنكص عن هذه المساعدة.
فلطم جورجي خديه، وقال: يا للسذاجة! هل تهدم مستقبلك لكي تبني مستقبل أطفال ذلك المنافق؟ - إنه مسكين، ماذا كان في يده؟ ظن أنه بذلك القرض يسد عجزه، ويصلح حال تجارته، ولكن المداينين تألبوا عليه ولم يرحموه فأفلس. - إذا كان المداينون لا يرحمونه، فهل تفتديه أنت بنفسك؟ وهل تعلم أين ذهبت الألفا جنيه التي كفلتها أنت وستدفعها؟ - بالطبع ذهبت إلى خزائن المداينين القساة. - كلا كلا، بل ذهبت إلى جيب ذلك المنافق، فهو لم يف منها دينارا واحدا وإلا ما أفلس. - لا أصدق أنه يفعل ذلك؛ لأن عملا كهذا يعد نهبا واختلاسا، ولا أعتقد أن الإنسان مهما خلا من المروءة ومهما كان لئيما يؤذي غيره ليغنم هو. - لا تتفلسف، ذلك الخائن اختلسك لا محالة. - يا لله! هل يستحل اختلاسي وأنا أصنع له معروفا؟ - لا يستطيع أن يختلس إلا ممن يصنع له المعروف، وأما المداينون الذين لم يرحموه، فهم الذين يحصلون حقوقهم منه، رآك صادقا طيب القلب سليم النية أي: غبيا غرا فاغتنم الفرصة لاختلاسك، هل تعرف أي اللحوم التي يأكلها البشر؟ لا تسكت، قل. - يأكلون لحوم البقر والغنم. - لماذا لا يأكلون لحوم الأسود والذئاب؟ - لعلهم لا يستلذونها. - بل يستلذونها لو كانوا يستطيعون قيادتها كما يقودون الأغنام والأبقار، يسلم الذئب والأسد من يد الإنسان؛ لأنه أقوى منه، وأما النعجة فلأنها ضعيفة بين يديه يكون لحمها لذيذا له، فليتك كنت ذئبا أو أسدا فما استطاع ذلك الوحش افتراسك، أما قلت لك: إن الناس وحوش ضوار ينهش قويهم ضعيفهم؟ فليتك كنت وحشا، ثم قل لي على من هذا الدين الوفير الذي لك؟ - على خياطين متعددين. - لماذا لم تبع القماش نقدا؟ - لأنهم تعذروا على الدفع فذاك جاءني يقول: إنه إذا لم يشتغل لا يقدر أن يشتري، ولا يقدر أن يشتري لأنه ليس معه دراهم، ولا يكون معه دراهم ما لم يشتغل، فبعته بالدين لكي يشتغل ويفي. - فذهب واشتغل وقبض وأودع في جيبه، وماذا قال لك الآخر؟ - قال: إن له دينا وعما قليل يحصل على دينه ويدفع. - فحصل وأودع في جيبه، والآخر؟ - قال: إن عنده عائلة تعيش من تعبه وليس عنده بضاعة، فرق له قلبي وأعطيته.
فتنهد جورجي وقال: لا تصلح تاجرا يا بني بل محسنا، والمثل يقول: نصف الطريق ولا كله، فالأفضل أن يتصفى المحل وما يبقى منه من المال تحسن به على من تحسن، وإنما أود أن تتعلم من هذا الحادث درسا قد تستفيد منه في المستقبل، فاعلم أن الناس في مثل حرب والحرب تسوغ للمحارب أن يستعمل كل سلاح تصل إليه يده، وإلا تغلب عليه خصمه وقتله، فإذا كان الكذب ينجيك من غدر الغادرين فلا خير في الصدق، وإذا استطعت أن تهضم من غير أن تتعرض لخطر فاهضم، وإذا استطعت أن تدوس غيرك لكي ترقى إلى قمة فاطحنه تحت رجليك، وإلا فعل بك ما يجب أن تفعله به أنت، افعل كل ما تستطيع أن تفعله بشرط أن تحايد ما يسمونه قانونا؛ لئلا تسعى إلى حتفك بظلفك. - وقانون الضمير؟ كيف أستطيع أن أحايده؟ - الضمير؟ اقتله قبل أن يقتلك.
فصاح به يوسف: كفى يا هذا كفى، فما أنت أبي ولا أنا ابنك إذا كنت تود أن أتلقى منك هذا الدرس الشرير.
فنظر فيه جورجي غاضبا، وقال: إذن ابق نعجة يا بني، ابق نعجة، إني أبكيك حيا لأنك ميت يتحرك ليس إلا.
وبعد سكوت هنيهة قال يوسف: قضيت عهد الصبى وأنا أربي نفسي لكي أكون صالحا، فهل تريد أن تحولني في ساعة إلى إبليس رجيم؟ لا أطيق ذلك. - آه، ليت الناس كلهم مثلك فتسهل عليك معاملتهم، ولكن ما داموا كلهم أبالسة يجب أن تكون إبليسا مثلهم؛ لكي تستطيع أن تعاملهم.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: أقول لك يا أبي: إني لست مثل الناس، ولا أقدر أن أكون مثلهم فلا أعاملهم ولا يعاملونني، والحق معك ما أنا تاجر بل أنا عامل، فيجب أن أطلب خدمة حيث أجد.
فهز جورجي رأسه، وقال: إذن تكون أداة في معمل، والميكانيكي يصنع منك الآلة التي تعمل مسيرة وتعمل جهد قوتها، فإن صلحت عضاضة جعلك عضاضة تحمل الأثقال، ومتى انكسرت هذه العضاضة رمى بها بين الحطام المهملة وصنع غيرها، فهل تريد أن تكون كذلك؟
ففكر يوسف وقال: لا أرى وجه الشبه بيني وبين العضاضة. - أنا أريك، خذ مثلا، كان فتى مثلك يشتغل في معمل فكان عاملا ثم جعل يترقى حتى صار ناظرا، ولكن صاحب العمل لم يرقه إلا حين ثبت له أنه ينتفع من خدمته عشرة أضعاف أجرته، وفي ذات يوم حصل اختلال في الآلة، فانتثر بعض أدواتها، وأصابت هذا الناظر في وجهه ففقأت عينيه، وشوهت وجهه، ولم يعد يستطيع أن يقوم بواجباته، فاضطر صاحب المعمل أن يرقي غيره إلى وظيفته وأعطاه تعويضا حقيرا، فلزم الرجل بيته وكان فيه ميتا في شكل حي، وقد ظلمه الذين كانوا يطيلون عمره بإحسانهم؛ لأنهم كانوا يطيلون عمر شقائه، هل رأيت وجه الشبه الآن؟ - ولكن هذا نادر لا يقاس عليه. - لا بأس من أن نضرب عنه صفحا، ونعود إلى الذي خلفه في منصبه، فإنه بذل جهده في إرضاء صاحب المعمل، وبعد عام أصيب بمرض صدري من جراء إجهاد قواه، واضطر أن يستعفي ليستشفي فلم يجد من مكافأة صاحب المعمل ما يسد حاجات الاستشفاء شهرين، فكان نصيبه نصيب سلفه، وهكذا تبدل على تلك الوظيفة في ذلك المعمل خمسة، وصاحب المعمل يتنعم متمتعا بتعبهم. - إنك تريني من الدنيا الوجه المظلم يا أبي. - أريك الحقيقة، هذا مصير السواد الأعظم من العمال والمستخدمين. - وما قولك بالذين ترقوا حتى بلغوا المناصب العالية، وصاروا أصحاب أعمال؟ - معظم هؤلاء وحوش ضوار يحسنون الحرب فقد استوطأت أقدامهم أمثالك، فسحقوهم وصعدوا إلى تلك المناصب، فإن كنت تعدني أن تكون وحشا ضاريا أبشرك بنيل المناصب العالية، لقد خدمت في بنك وفي مصلحة حكومة، أما شعرت أن غيرك كان يسحقك تحت قدميه؛ لكي يرتقي عليك؟
فبقي يوسف صامتا مفكرا.
الاهتداء إلى الفخ
في ذات يوم في تلك الأثناء كان جورجي جالسا في قهوة الشيشة كعادته، فجاءه فتى في أول الشباب وسأله: هل حضرتك المسيو جورجي آجيوس؟ - أنا هو فهل من خدمة؟ - نعم إذا كنت تتفضل وتزور أختي بضع دقائق؟ فهي في حاجة إليك. - من هي أختك؟ - لا تعرفها أنت، ولكنها تعرفك وتريد مقابلتك لأمر. - ما اسمها؟ - ماري الجهوري، فهل تريد أن تتفضل الآن؟ - لا أفهم ما شغلها مع من لا يعرفها. - متى قابلتها تفهم. - أين تسكنون؟ - في شارع عابدين.
بعد قليل كان جورجي عند تلك المرأة، وهما مختليان في غرفة فقالت: سمعت يا سيدي أنك تبحث عن فتاة. - من قال لك: إني أفعل؟ - ما من سر يبقى مكتوما فقد بلغني أن فهيم بك رماح كلفك بالبحث عن فتاة، كان يبتغي أن يتزوجها فهربت؛ لأنها لا تريده، فهل وجدت الفتاة؟ - لا أفهم بغيتك من هذا التحقيق يا سيدتي، فهبي أن الأمر كما سمعت وعلمت فما شأنك؟ - أود أن أعلم هل لك مأرب خاص بتزويج الفتاة من فهيم بك؟ - ربما كان لي فأود أولا أن أعلم غرضك. - إذن لا بد من قول ما أقوله أولا. - نعم قولي يا سيدتي فإني أسمع، هل لك علاقة بالفتاة أو بفهيم بك؟
فقالت: نعم لي علاقة بفهيم بك وحده، ولا شأن لي مع الفتاة، كان فهيم بك صديقا حميما لنا منذ جاء إلى مصر، وكان يتردد علينا كثيرا على نية أن يخطب ابنتي، فكنا نرحب به ترحاب أهل الفتاة بعريس لائق بفتاتهم إلى أن صار كواحد منا، ولكنه كان يماطل بإعلان الخطبة، ونحن نحتمل مماطلته مصدقين أعذاره، وأما ابنتي فقد تعلقت به تعلق العاشقة بالمعشوق، وليس من يلومها إذ لا يخفى عليك مقام فهيم بك، ولا سيما إذ كان دائما يمنيها ويمهد السبيل لآمالها، وقد بلغ منها الحب حتى استسلمت له وهي واثقة بوعوده، وما صحت من سكرة الحب إلا وهي في مصيبة ... - يا لله، مسكينة.
وهنا استخرطت المرأة في البكاء، وهي تقول: هل شعرت بمصيبتنا؟ ومع ذلك بقينا نحاسن فهيم بك على أمل أن يفي بوعده، ولكنه ما زال يمني ويماطل إلى أن سمعنا بأنه نوى أن يتزوج تلك الفتاة، وهي تنفر منه كأن الله يوحي إليها بأن هذا الرجل يرتكب خيانتين مع فتاتين الأولى ذات حق بزواجه بحكم الضمير والثانية مغتصبة، ولما علمت أنك مكلف بالبحث عن تلك الفتاة رأيت أن أطلعك على حقيقة الأمر وأستفتيك، فهل يحق لفهيم بك أن يترك هذه الفتاة التي استغواها تسقط في هاوية رذيلته، ويبحث عن الفتاة التي تنفر منه لكي يتزوجها؟ - كلا، كلا. - كذا اعتقدت أنك تقول؛ لأنك كأفاضل الناس ذو ذمة وشرف نفس، فهل تستمر على مساعدته لبلوغ قصده بعد أن عرفت بفعلته هذه؟ - لا يطاوعني ضميري على ذلك، وإني لمستغرب عمل فهيم بك هذا، ولا أكاد أصدق أنه يهمل ابنتك. - لم يزل يا سيدي عندي أمل بأن يرعوي، ويعود إلى رشده ويخلص ابنتي المسكينة من العار الذي ألبسها إياه، وهل يجد فهيم بك عروسا كابنتي دعد تخضع له خضوع النعجة، وتكون في منزله خير زوجة أمينة وبين نساء أصدقائه كالملكة؛ لأنها مستوفية العلم والتهذيب وذكية الفؤاد، فهل تتفضل بأن تتوسط لدى فهيم بك في الأمر فلعلك تقنعه . - إني أبذل جهدي يا سيدتي ولي الأمل أن أنجح، ولكن كيف يمكن إثبات أن فهيم بك كان يحب ابنتك ويعدها بأن يتزوجها؟ - لا أود أن تناقشه في ذلك مناقشة، بل أن تستعطفه استعطافا؛ لأني أخاف أن تنفره المناقشة والمحاجة. - بالطبع أخاطبه بصيغة الاستعطاف، ولكن لا بد من التلميح إلى الواجب عليه بحكم الشريعة حتى يحسب حسابا للتهديد إذا كابر، فما هي بيناتك على أنه كان يعد الفتاة ويمنيها؟ - عندي ألف بينة فهو الذي فتح هذا البيت، واقتنى أثاثه وكان ينفق فيه عن سعة بشهادات الخدم، وكان يتردد إليه كثيرا وأحيانا كان ... كان يبقى هنا طويلا. - كان يبيت هنا؟ - نعم بعض الأحيان.
فضحك جورجي في قلبه، وقال: هل من بينات أخرى؟ - نعم كان إذا سافر يكتب إلى دعد رسائل غرامية، ولم تزل رسائله محفوظة. - هذه أفصح البينات فهل لك أن تطلعيني على بعضها؟
فنهضت المرأة وبحثت في بعض الأوراق، وعادت إليه ببعضها فاطلع عليها جورجي باسما، وقال أخيرا: إن هذه الرسائل كنز ثمين يا سيدتي فلا تفرطي بها، احفظيها عندك فقد تحتاجين إليها. - إني حافظة كل شيء يمكن أن يكون حجة، ولكني لا أريد أن أشاكسه في المسألة مشاكسة؛ لئلا يفلت من اليد فأرجو أن تبذل جهدك في استعطافه. - إني أفعل ما ترومين يا سيدتي، ولكن أسلوبك هذا لا ينفي أن تحتفظي بالأدلة التي عندك. - إني محتفظة بها، ولكن هل تؤمل أن تقنعه؟ - عندي شيء من الأمل، ولكني لا أضمن النجاح كل الضمانة، وسأخبرك ماذا تكون النتيجة. - إني شاكرة لفضلك، ولكن هب أنه أصر على الرفض فما رأيك؟ هل أنجح إذا شكوته؟ - قد تنجحين وقد لا تنجحين. - أخاف الإخفاق فنكون قد فضحنا أنفسنا بلا فائدة. - نعم وجل ما في الأمر أنك تأخذين منه تعويضا كبيرا لابنتك. - لهذا أفضل أن أبالغ في استعطافه، ولكن إذا أبى فلا أدري ماذا نفعل.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: إذا أبى ... إذا أبى فإني أسعى بتدبير عريس لابنتك يليق بها، وأقنع فهيما بأن يعطيها مبلغا كبيرا من المال يكون ذريعة لتزويجها. - فكرة حسنة، ولكن كيف يمكن تزويجها وهي كما لا يخفى عليك ... - لعلنا نستطيع تدبير الأمر.
فحملقت فيه المرأة، وقالت: يا لله كيف يمكن تدبيره؟ - سنبحث في كل شيء في حينه، فدعينا نسعى في المشروع الأول الآن. - إني ممتنة لك عظيم الامتنان، وإذا نجحنا في هذا المشروع فلا تعدم جزاء عظيما في هذه الدنيا وفي الآخرة، لا أظنك تشك بأن دعدا متى صارت زوجة فهيم بك تستطيع أن تبسط كفها، وإذا قدمت لك حلاها الخاصة بها لا تكون موفية بعض فضلك. - إني أنتظر الجزاء من ضميري يا سيدتي لا من دعد. - فليعش هذا الضمير الشريف.
خرج جورجي وهو يقول في نفسه: لقد ساقتني المقادير إلى أولى خليلات فهيم، فهل للثانية والثالثة مشاكل أخرى معه تسوقني المقادير إليها لحلها؟ إن هذا الإنسان أعظم من وحش ضار فبماذا ألقبه؟ اللغات قاصرة عن بيان خلقه؛ لأنه ليس في الطبيعة ما يمثل هذا الخلق، واللغة على قدر الطبيعة، فليكن اسمه عبارة عن معنى خلقه النادر.
الزلزال
وقد اعتاد جورجي أن يجتمع بيوسف في أماكن مختلفة، ففي ذلك النهار لم يصادفه، فقلق عليه وقصد إلى المنزل الذي يقطنه، فوجده مضجعا في سريره فاشتد قلقه، وقال: ظننت أنك مريض يا بني لأني لم أرك قط، فهل استدعيت طبيبا؟ - لا حيلة للطبيب يا أبتاه. - لا تروعني، مم تشكو؟ - أشكو من ألم لا يطاق. - في رأسك أو ... - لا بل في نفسي، ليته ألم في جسدي فلا أعبأ به. - ماذا ساءك؟ - هل قرأت جرائد الأمس؟ - يندر أن أقرأ الجرائد غير اليونانية، فماذا؟ - خذ اقرأ.
فتناول جورجي الصحيفة وقرأ:
عقدت أمس خطبة حضرة النطاسي البارع والشاب الأديب النشيط الدكتور صديق هيزلي، على حضرة الآنسة المهذبة ليلى كريمة حضرة الفاضل الخواجه بطرس المراني، وكانت الحفلة ... إلخ.
ففكر جورجي هنيهة وقال: لا تكن ضعيفا يا بني ... لأن الأزمة التي من هذا النوع مهما كانت شديدة، فإنما هي كالزلزال الذي تستقر الأرض بعده على حال. - إنها لكذلك يا أبي ، ولكن هل سهوت عن أن الزلزال يقلب كيان الأرض، فلا تبقى كما كانت؟ - لم أسه عن ذلك بل أعلم أن المتداعي من شوامخ الأرض يتساقط والراسخ يثبت، ولا يبقى ثمت من خطر تساقط البواذخ؛ ولهذا قلت: إن الأرض تستقر على حال بعد الزلزال. - ولكن يلوح لي أنك لم تقدر معنى التزلزل، وتغير الكيان، ولم تدرك أن الشيء لا يبقى كما كان. - بل أقدره جيدا وأعلم أن هذه الكارثة قلبت كيانك، فقل لي ما الذي تغير فيك بعدها لأرى إن كان ظني في محله؟ - كنت شيئا فإذا أنا لست ذاك الشيء. - لا أفهم ألغازا فقل لي كيف كنت وكيف صرت؟ - لا أقدر أن أفهمك إلا بالأمثال، فها أنت تدخن وفي يدك سيكارة، فمتى احترقت فهل تبقى سيكارة؟ - لا. - ماذا تصير؟ - تتحول إلى دخان يتصاعد في الهواء ورماد يلقى إلى الأرض. - بل تتحول إلى غاز الحمض الكربوني والبخار المائي، وما الرماد إلا المادة الترابية التي لا تعد جوهرية للنبات، هكذا أنا وليلى كنا متحدين في أقنوم واحد كاتحاد الهيدروجن بالأوكسيجن والكربون في السيكارة، فلما انفصلت ليلى عني أصبحت كغاز الحمض الكربوني المتلاشي في الهواء، فهل فهمت معنى تغيري؟ - الآن فهمت يا ابني، وأتأسف أن كيانك لم ينقلب، كما كنت أتوقع أنا، بل كما تتفلسف أنت. - لا بدع أن يخيب ظنك يا أبي؛ لأنك أنت تعبأ بالأعراض وأما أنا فأعبأ بالجواهر، أنت تحسب التغير الصناعي كانحلال أي ملح في الماء تغيرا وانقلاب كيان، وأنا لا أحسبه شيئا؛ لأنه متى تبخر الماء كله بقي الملح وحده في الوعاء، وعاد متبلورا كما كان فكأنه لم يتغير تغيرا، بل امتزج مع الماء فلما انفصل هذا عنه عاد إلى حاله، وأما التغير الذي نكبت به أنا فهو أني كنت عودا فاحترق، وتحول إلى عناصر غازية تلاشت في الهواء، ولم يبق له أثر، ولا يمكن أن تجتمع هذه العناصر ثانية لتؤلف نفس العود، فتألم نفسي الآن كتألم المحترق. - فهمت قصدك يا بني ولا أزال أتأسف؛ لأنك لم تتغير التغير الذي كنت أتمناه لك بعد هذا الزلزال الذي زلزل كيانك. - ما هو التغير الذي كنت تنتظره في بعد هذا الزلزال؟ - كنت أنتظر أن تتحول إلى معدن صلب بعد أن تتمحص في النار، فإذا بك تتحول إلى غازات تتلاشى في الهواء، كنت أتوقع أن يكون تغيرك رسوخا في الكيان فإذا به تحول إلى الفناء، كنت أتمنى أن يكون تجديدا للحياة، فإذا هو اندفاع في الموت، فيا لضيعة الأمل.
فحرق يوسف الأرم وقال: لا أدري أي إله يستطيع أن يبقي الماء ماء بعد أن يفصل هيدروجينه عن أوكسيجينه، أو يستطيع أن يحفظ الكل كلا بعد أن يفصل عنه بعضه، أو يستطيع أن يحفظ الحياة للحي بعد أن يفصل روحه عن جسده، بيد أني لا ألومك على تأنيبك؛ لأنك لا تدري أن ليلى كانت العنصر الجوهري في كياني، حتى إذا انفصلت عني فني هذا الكيان، فكيف كنت تنتظر مني حياة، أو رسوخا في الوجود بعد هذا الزلزال الذي اشتق أقنومي شقتين.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: هل كنت أنت عنصرا جوهريا لكيان ليلى كما كانت لك؟ - كذا كنت أعتقد. - إذن كنت مخدوعا، وإلا فكيف طاقت هي أن تفصل عنها العنصر الجوهري لكيانها؟ - لا أدري، لا أدري يا أبتاه، إن الزلزال الذي زعزع كياني زعزع وجداني أيضا.
ورأى جورجي أن يوسف لو كان جبانا ضعيفا لتدفقت دموعه من شدة التأثر فرق، وسأله بلطف: هل كان بينك وبين ليلى عهد؟ - نعم كالعهد الذي بين الأوكسيجين والهيدروجين أي ألفة كيمية؟ - أنت أعلم مني بالحقائق الكيمية، أفليس في الطبيعة عنصر آخر أشد ألفة لأحد هذين العنصرين من ألفتهما المتبادلة؟ - تحلهما بعض القلويات. - إذن، صادفت ليلى من هو أشد ألفة بها، فاجتذبها إليه وانفصلت عنك، وانحل تركيبكما. - إن صح ما تقول كان هذا الانحلال أشد إيلاما، ولكني أعهد أن لا ألفة البتة بين ليلى والدكتور صديق هيزلي. - إذن لماذا تنفصل عنك لتقبله خطيبا؟ - لا أدري. - لا بد من ألفة أخرى بينهما تختلف نوعا عن ألفتكما، هل هو غني؟ - أظنه غنيا. - ومقامه في الهيئة الاجتماعية غرار وأنت فقير ومقامك ينزل رويدا، فلا عجب أن يستميلها الجاه والمال عنك.
فانتفض يوسف متألما، وقال: إني أجل ليلى عن الإعباء بهذه الأعراض.
فهز جورجي رأسه وقال: أتأسف ثالثة يا ابني أن هذا الزلزال لم يقلب كيانك كما أتمنى، أنت روحاني تصوري محض فليت هذا الزلزال قلب كيانك، ونفض عنك جانبا من روحانيتك حتى يستقر كيانك في العالم المادي، وترى البشر كما هم، إذا لم تكن ليلى قد اغترت بجاه صديق الهيزلي وماله، فما الذي استمالها عنك؟ وإذا كانت ليلى لم تنفر منك؛ لأنك بعد إفلاسك أصبحت بلا مقام في الهيئة الاجتماعية، وإلى الآن لم تجدد لنفسك مقاما، فما الذي نفرها منك؟ هل عندك تعليل آخر؟
فبقي يوسف صامتا مبهوتا مدة إلى أن قال له جورجي: هل تظن أن ليلى مرغمة على هذه الخطبة؟ - يستحيل أن يستطيع أحد إرغامها على أمر. - إذن؟ - إذا صح ما تقول: أن للمال والجاه جاذبية أشد من الألفة التي بين القلوب، فإني أبكي مشفقا على هذا العالم البشري الذي يحاول أن يتسفل في حين أن الطبيعة تبذل جهدها في ترقيته. - هنا فلسفتك فاسدة يا بني، ما دام العالم البشري قابلا للترقي كان المعنى أنه مؤلف من آحاد؛ لأنه لو كان وحدة قائمة بذاتها لكان في قمة الكمال، ولم يعد ترقيه يحتمل مزيدا، وما دام العالم مؤلفا من آحاد أو وحدات متنوعة كانت آحاده متنافسة متنازعة؛ لأنه بلا التنافس والتنازع لا يكون رقي، وستظل آحاده متنافسة إلى أن تتوافق وتتحد، وحينذاك تبلغ إلى قمة الارتقاء، وما تسميه أنت تسفلا إنما هو الصعود في سلم الارتقاء؛ لأنه تنازع وتنافس، والمبادئ التي تحاول تنفيذها أو تتمناه لا تنفذ إلا متى بلغ العالم إلى حد الكمال، فأنت جئت قبل أوانك يا ابني، فإما أن تستقل عن هذا العالم أو أن تجري في تياره، وأما وقوفك فيه لصد هذا التيار فكوقوف شجرة في النهر المتدفق، تظل الشجرة مقاسية صدمات المياه إلى أن يقتلعها التيار، فإذا كنت تنقح فلسفتك على هذا النمو تجد اطمئنانا بعد هذا الزلزال.
فتنهد يوسف وقال: مهما نقحت يا أبتاه فلا أجد اطمئنانا ومهما تقلبت نفسي في لا تجد إلا ألما. - لا مسكن لهذا الألم يا بني إلا بتنقيح فلسفتك، نقحها تجد العلاج الشافي لمرضك. - لا علاج لهذا المرض يا أبي، لا علاج له إلا انعطاف ليلى، آه ليلى، ليلى.
فنظر فيه جورجي، وقال: هل فقدت شممك يا يوسف؟ هل خلوت من الأنفة؟ إذا كانت ليلى تصد عنك وتجفوك، وترضى سواك بعلا، فإذا لم يتحول حبك إلى قلى كنت خسيسا، فلا ترني فيك خ ... - رفقا رفقا أبتاه، لا تطلب مني قلى، لا، لا أستطيع، حسبي أن أعتصم بأنفتي وشممي، لا تجر يا أبتاه، إن لي كبرياء شامخة فلا تحمسها؛ لئلا تسحق فؤادي تحت قدميها، حسبي ما تنشئه كبريائي من الصبر في.
وعند ذلك شعر جورجي أن جلد يوسف قد نفد، وأن زيادة مناقشته بهذا الموضوع تقطع أوصال فؤاده وتصهر دماغه، فتركه ومضى.
نصب الفخ
في تلك السهرة كان جورجي عند فهيم بك وهما مختليان في غرفة مستقلة، وقد دار بينهما الحديث التالي:
قال فهيم: لماذا لم تقابل جميل فهو مفوض عني بكل أمر؟ - وددت هذه المرة أن أقابل الأصيل دون الوكيل؛ لأن لي حديثا خاصا معه. - بالطبع فيما يتعلق بالفتاة هيفاء فما الذي عرفته بشأنها؟ - تحققت وتأكدت أنه ليس للفتى يوسف براق يد في فرارها هذه المرة، ولا يعرف عنها شيئا. - كيف تأكدت ذلك؟ - عرفت أن للبطركخانة يدا في الأمر، وأن البطريرك والكاهن أمبروسيوس يعلمان مقر الفتاة، ولكن لا أدري أين هي مودعة. - كيف تأكدت ذلك أيضا؟ - تأكدته من رفض الكاهن أمبروسيوس مساعدتي له في البحث عن الفتاة، كأنه أصبح في غنى عن البحث عنها. - ولكن ما غرض هذا الكاهن في البحث عن الفتاة؟ أما عرفت؟ - عرفت أن للفتاة أهلا غير أمها يبحثون عنها، وقد فوضوا هذا الكاهن بالبحث. - هل عرفت من هم أهلها؟ - لا، فماذا تقول أمها عنهم ؟ - أمها تعترف أن الفتاة ليست ابنتها بل ابنة أختها، وأنها تيتمت أبا وأما وهي طفلة فربتها، وتقول: إن أهلها خاملو الذكر. - ولكن إذا كان الكاهن قد عثر عليها فهل سلمها لأهلها؟ وإلا فلماذا يخفيها؟ وحتى متى يخفيها؟ - الحق أني إلى الآن لم أدر شيئا من ذلك، ولكني سأواصل البحث والسعي، ولا بد أن أكتشف مقرها في هذا الأسبوع. - هل تعتقد أنك تستطيع؟ - أثق كل الثقة بأني أستطيع ما دام للكاهن ثقة بي. - حسن وجزاؤك محفوظ يا جورجي، فهل تستطيع ذلك في برهة قصيرة؟ - قد أستطيع. - إذا لم تنجز الأمر سريعا يفوت يا جورجي، فابذل جهدك فيه. - إني باذل جهدي، ولكني ما جئت لأباحثك بهذا الأمر؛ لأني لم أبلغ فيه إلى النهاية والحديث فيه الآن بلا معنى. - هذا ما أراه؛ ولذلك أستغرب لماذا قصدت إلي رأسا، فما هو الأمر الآخر؟ - تقول جنابك: إن الفتاة من أصل خامل الذكر، فلماذا أنت مصر على البحث عنها والتزوج منها، فدعها، وهناك كثير من الفتيات أجمل وأفضل منها. - أستغرب أنك تتقلد وظيفة النصح لي، فهل اجتمعت بالفتاة وأنت تمكر علي؟ - كلا، وإنما هناك فتاة أخرى أود أن أوجه نظرك إليها. - من هي؟ - دعد.
فاختلج فهيم وقال: هل تعرف دعدا؟ - اليوم عرفتها. - لماذا تريد أن توجه نظري إليها؟ - لأنها في حاجة تستوجب انعطافك إذ لا بد أن تكون عالما بأمرها ...
فامتقع فهيم، وقال: علمت، وما شأني معها؟ - هل عندك شك بأنك أنت السبب في ذلك؟ - لم أخدعها والذنب ذنب أمها وذنبها هي أيضا. - ولكن لو لم تكثر من التردد عليها ... - نعم أكثرته ولكن بإغراء أمها بل بإغراء الفتاة نفسها، ولو لم تمهدا لي السبيل ما وقعت في أحبولتهما.
فقال جورجي باسما: إذن هما جنتا على عفافك.
فعبس فهيم وقال: تقرع بي؟ - لست أقرع بك ولكني أقول: إن الفتاة مسكينة، فإذا لم تستر عارها أخسرتها مستقبلها. - الحق عليها وعلى أمها، والذنب ذنبهما معا، فإذا خسرت كانت تنال عقاب ذنبها. - ولكن عند الفتاة أدلة على أنك أنت ألقيتها في الهاوية بعد أن منيتها بالوعود.
فانتفض فهيم وقال: وهل تريد هي وأمها أن تعلنا تلك الأدلة؟ فلتعلناها بل فلتقاضياني، والمحكمة لا تحكم علي بأكثر من تعويض. - لا تريدان أن تفعلا شيئا من ذلك، بل تبتغيان مقاضاتك عند نفسك، ففيك الخصام وأنت الخصم والحكم، فاحكم بما تروم، وهما تخضعان لحكمك. - إني مستعد لأي تعويض تطلبانه. - ولكن التعويض لا ينتشل الفتاة من سقطتها. - أعطيها خمسة آلاف جنيه، فتعيش بها كأشرف امرأة، والمال يستر عارها ويقرب الناس منها. - ولكن المال لا يضمن لها زوجا تستر به عارها، ولا سيما إذا قام وليدها شاهدا عدلا عليه. - إنها مجنونة إذا كانت تطلب زوجا، فلماذا لا تعيش حرة ويكون لها كل يوم الزوج الذي تريده؟ - المرأة غير الرجل يا فهيم بك، فلو كان عندها مال قارون كله، وبقي عارها كساء لها لبقيت في نظر أحقر الناس فضلا عن أشرافهم ساقطة، وهي تفضل الفقر مع الستر على الغنى مع العار، وليس أحد غيرك يخطئها في ذلك، الفتاة في ويل الآن لا يشعر به أحد غيرها، ولا يقدره قدره أحد سواها، وليس من ينقذها من هذا الويل إلا أنت.
ففكر فهيم وقال: ماذا أستطيع أن أفعل لها؟ - تتزوجها فتجدها خير زوجة، وهي جميلة الخلق والخلق، فهل تطمع بأجمل منها؟ - أرجو منك أن تضرب صفحا عن هذا الموضوع؛ لأني لا أستطيع أن أتزوج اثنتين. - هل لك زوجة أخرى؟ - نعم هيفاء لا بد أن تصير زوجتي على أي حال مهما تكلفت.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: ووليد دعد يبقى شاهدا على إثمك وعلى عارها. - أما أنا فلا يهمني؛ لأن مالي يطهرني من كل إثم. - ودعد المسكينة؟ - تحتمل عارها عقابا لها. - «حرام عليك.»
فقهقه فهيم وقال: الحرام لغة الساذجين الجهلاء، وماذا يضر دعد أن تعيش كأميرة بالمال الذي أعطيها إياه، فتترفع به على كل من يحتقرها؟ - قلت لك: ماذا يضرها، يضرها أن تكون في نظر الجمهور ساقطة، وأنت ملزم بانتشالها من سقوطها. - كيف أستطيع أن أنتشلها؟ - بزواج. - دعها تتزوج غيري . - لو لم تكن حاملا لسهل تزويجها من غيرك.
ففكر فهيم هنيهة وقال: هل تقدر أن تجد لها عريسا، وأنا أدفع المهر الذي يريده العريس؟ - أقدر ولكني لا أكفل تلافي الفضيحة متى ولدت زوجة العريس، الذي أدبره في الشهر الرابع أو الخامس، أو إذا اكتشف زوجها أمرها على أثر الزواج. - نرشيه بالمال. - لا أقدر أن أجد عريسا يأخذ الرشوة؛ ليقبل مثل هذا العار الذي لا يستتر، فإن رضي بها ثيبا فلا يرضى بها أما لطفل يولد في الشهر الخامس.
ففكر فهيم طويلا ثم قال: هل تقدر أن تجد لها عريسا يسكت على عارها المستتر، إذا لم يعلم به أحد غيره؟ - قد أقدر إذا رشوته بالمال الجزيل. - بكم؟ - بعشرة آلاف جنيه. - أدفعها. - وستر العار؟ - ستر العار؟ - نعم فإن دعد لا بد أن تلد.
ففكر فهيم طويلا، ثم قال متلعثما وهو يبتسم: وإذا كانت لا تلد؟ - كيف ذلك؟ - القابلات اللواتي يعبدن المال كثيرات. - فهمت، ولكن لا تثق بالقابلات؛ لئلا تكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى. - رأيك؟ - رأيي أن تتفق مع طبيب.
ففكر فهيم هنيهة ثم قال: هل تعرف طبيبا؟ - أعرف الدكتور صديق هيزلي. - هل يفعل؟ - يحب الفلوس حبا شديدا. - حسن، هل تباحثه في الأمر؟ - لا، لا تدخل ثالثا في الأمر، لا تستوسط أحدا، خاطبه رأسا وهو يدبر الأمر. - فكرة حسنة، إذن أتكل عليك في تدبير عريس لدعد. - أضمن لك ذلك إذا كنت ترضي الدكتور صديق هيزلي لكي يدبر الأمر.
فصافحه فهيم قائلا: نحن صديقان يا جورجي ولا أستغني عن آرائك الصائبة، ولكن لا تنس هيفاء. - خذها من يدي.
ثم خرج جورجي وهو يضحك في نفسه ويقول: الدور ناجح إن شاء الله.
سلسلة الفخ
في مساء اليوم التالي كان جورجي عند فهيم بك، فقال له فهيم: ما وراءك يا جورجي؟ خير إن شاء الله ...
فقال جورجي مبتسما: كل خير إن شاء الله، أود أن أعلم ماذا فعلت بالمسألة التي اتفقنا عليها؟ - أظنها ناجحة. - فاوضت الدكتور هيزلي بالأمر؟ - فاوضته فتمنع في أول الأمر، ولما أحس بالأصفر الرنان لم يعد يتردد. - هل علم من هي المرأة؟ - لم يعلم بعد. - لا تقل له من هي، بل دعه يدربك على تنفيذ العلاج، وأنت جرعها الدواء بنفسك. - لماذا هذا الرأي الأخرق؟ - بل هو الرأي الصائب، لا أود أن يعرف الدكتور عنها شيئا؛ لأني أقنعت ابن عمه سليم الهيزلي ليكون عريسا لها وهو طائر فرحا. - إنك لداهية يا جورجي، وتريد أن سليما هذا لا يعرف شيئا عن تاريخ الفتاة؟ - نعم، وهو إلى الآن لا يعرف شيئا. - وهبه عرف بعدئذ. - لا بأس في أن يعرف بعدئذ؛ لأنه متى استولى على عشرة آلاف جنيه يغض نظره ما دام الأمر مكتوما.
ففرك فهيم يديه، وهو يقول: يلوح لي أن المشروع ناجح من كل وجه يا جورجي. - نعم، كل المشروعات ناجحة إن شاء الله. - ماذا عندنا غير مشروع دعد؟ - مشروع هيفاء. - هل عثرت عليها؟ - كلا، وإنما دبرت تدبيرا آخر. - ما هو؟ - علمت أن الكاهن أمبروسيوس ولي أمرها بموجب وصية شرعية من أهلها، فهل تعرفه؟ - لا، لم أر وجهه. - وهل يعرفه جميل مرمور؟ - لا، لا أظن، فما هو تدبيرك الآخر؟ - فاوضت الكاهن أمبروسيوس بأمر زواجك من هيفاء، وأقنعته بأنك خير عريس لها. - فهل رضي؟ - قال أن لا مانع عنده إذا كان يستطيع إقناع الفتاة، فأخبرته أن الفتاة تقتنع إذا كنت أنا أخاطبها بالأمر، وتكفلت له بذلك. - حسن جدا، فهل أراك الفتاة؟ - لا، بل قال: إنه يود أن يجتمع بك كي يخاطبك بالأمر أولا، ويتفق معك عليه. - حسن، مرحبا به، ماذا يريد؟ - متى اجتمع بك يقول لك، ولكني فهمت منه أنه لا يريد أن تتداخل خالة الفتاة بالأمر، بل لا يريد أن يرى وجهها ولا أن ترى وجهه. - لن تدخل نديمة هذا المنزل قط إذا كان دخولها يعرقل المسألة. - نعم، الأفضل أن تبقى بعيدة؛ لأني علمت أن الفتاة نفسها تنفر منها جدا. - حسن، لا حاجة لنا بنديمة، متى يأتي الأب أمبروسيوس؟ - غدا مساء إذا شئت. - أنتظره هنا. - نعود إلى مسألة دعد، متى تنجزها؟ - غدا إن شاء الله، والدكتور وعدني أن يأتي الليلة، وسآخذ منه التعليمات اللازمة. - والدواء أيضا، دعه يأت به؛ لأنك أنت لا تقدر أن تحصل عليه. - طبعا هو يهيئ الدواء.
وتد الفخ
في مساء اليوم التالي كان الأب أمبروسيوس وجورجي آجيوس عند فهيم رماح، ودار بينهم الحديث التالي.
فقال الأب أمبروسيوس: فهمت من ولدنا جورجي يا فهيم بك أنك تريد هيفاء زوجة. - نعم، وستكون شريكتي في سعادتي إن شاء الله، فلماذا تمسكها عني يا أبانا؟ هل عندك لها عريس أفضل؟ - لا، وإنما أنا ولي أمرها بموجب وصية من جدها؛ إذ لا أب ولا أم لها؛ ولهذا أود أن أضمن راحتها وسعادتها قبل زواجها، وإلا فأكون مقصرا بحق الوصاية. - لك كل الحق يا أبانا، فهل عندك اعتراض على زواجي منها؟ - كلا، وإنما لي بعض الطلبات. - إني مستعد لتلبية كل طلب، فماذا تطلب؟ - حسن، أطلب مهرا للفتاة. - متى صارت زوجتي كان كل مالي لها بحكم الطبع. - الأمر مفهوم، ولكن الفتاة مع حداثتها تفهم مصلحتها جيدا، فهي تخاف أن تكون لها شريكات في سعادتها معك.
فاختلج فهيم بك، وقال: نحن النصارى لا نستطيع أن نتزوج إلا واحدة، فلماذا هذا الخوف؟
فضحك الأب أمبروسيوس، وقال: والزوجات غير الشرعيات؟
فامتقع لون فهيم بك، ونظر في جورجي فقال هذا: إن أبانا يعرف طيش الشباب ويعذر، فما هو مؤنب الآن وإنما هو يود أن يحفظ حقوق الفتاة، فلا تلمه. - ولكن لن يكون عندي زوجات شرعيات ولا غير شرعيات إلا هيفاء.
فقال الأب أمبروسيوس: لا نقدر أن نحصل على ضمانة لذلك، ولا نطلب ضمانة له، وإنما نطلب ضمانة لراحة الفتاة. - حسن، ماذا تريد؟ - نريد أن نعطي الفتاة مبلغا من المال تضمن به راحتها في المستقبل إن حدث ما يقلق راحتها ويحرمها هناءها. - هذا أمر سهل جدا، فإني أقدم لهيفاء كل ما تطلب؛ لأن كل ما هو لها وما هو لي سيكون لكلينا معا. - إذن تضع في البنك ثلاثين ألف جنيه باسمها.
ففكر فهيم بك وقال: إنه مبلغ كبير. - ليس كبيرا على من ستكون زوجتك، وما هو لها سيكون لك ولأولادكما. - ما قولك إذا كنت أهبها منزلين بهذه القيمة؟ - بل تضع لها القيمة في البنك، وهي تشتري بها منزلين، أو عزبة، أو ما تروم. ويبقى كل ذلك تحت وصايتي إلى أن تبلغ الفتاة سن الرشد، ويصير لها حق التصرف بمالها، فأسلمها ملكها تسليما شرعيا، وبعد ذلك يكون شأنها معك وشأنك معها.
ففكر فهيم هنيهة ودنا من الأب أمبروسيوس، وأسر له قائلا: لك مني خمسمائة جنيه، واترك هذا الموضوع.
فعبس الأب أمبروسيوس، وقال: لا تحمل ضميري ثقلا؛ فإني كاهن الله ورجل شيخ، ولا مطمع لي في هذه الدنيا، وإنما مطمعي في الآخرة، فاقفل هذا الباب ولا آخذ منك إلا ما تجود به نفسك بعد أن أكللك. - وإذا جعلنا الخمسمائة ألفا؟ - ولو جعلتها ثلاثين ألفا، فإني مكلف بواجب مقدس يجب أن أنفذه بالأمانة.
ففكر فهيم هنيهة ثم قال: إن المبلغ كبير وليس في وسعي تدبيره. - إذن لا تؤاخذني إذا أخذت الفتاة وحرصت عليها حتى تنتهي مدة وصايتي عليها، وبعد ذلك فلتفعل ما تروم.
وهم الكاهن أن يقف فغمز جورجي فهيما كأنه يقول له: لا تدعه يخرج، ثم قال جورجي: مهلا يا أبانا، إن الثلاثين ألفا ليست شيئا عند سعادة فهيم بك، تفضل اجلس إلى أن ننتهي عند نتيجة.
فالتفت الأب إلى فهيم بك، فقال هذا له: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. - لا بد من الثلاثين ألفا مهرا للفتاة يا بني، إني مسئول عن الفتاة أكثر منها عن نفسها. - ليكن ما تريد يا أبانا، فمتى يكون الإكليل؟ - حالما تضع في يدي تحويلا على البنك باسم هيفاء. - غدا إن شاء الله يكون التحويل في يدك. - وغدا أكللكما. - أين؟ - حيث تكون الفتاة، إني أصطحبك إليها، ويكون المسيو جورجي الشاهد الواحد ومرأة أخرى الشاهد الثاني. - أين نلتقي؟ - غدا يأتي المسيو جورجي ويصطحبك إلى حيث أكون. - حسن.
وفيما كان المجلس يرفض أسر جورجي إلى فهيم قائلا: ماذا جرى بدعد؟ - أظنها خلعت ثوب عارها ونفت من الوجود الشاهد العدل عليه. - الحمد لله، كل شيء مدبر كما نروم. - إني أذكر دائما فضلك يا جورجي، وغدا أراك. - أكثر الله خيرك يا بك.
فخ لذئبين
في صباح اليوم التالي كان جورجي في منزل ماري الجهوري، فقال لها: إن العريس يود أن يزوركم الليلة لكي يبت المسألة، فقد عقد النية على خطبة دعد. - إني شاكر لك اهتمامك يا مسيو جورجي، ولكني لا أقدر أن أستقبله الليلة. - لماذا؟ - لأن ... أما أخبرك فهيم بك؟ - لا، ماذا؟ - قضي الأمر. - حسن، كيف ذلك؟ - استحضر فهيم بك دواء عن يد طبيب وجرعها إياه. - من هذا الطبيب؟ - لم يقل عن اسمه. - و...؟ - في الحال، ولكني خائفة على سلامتها. - لماذا؟ - إنها محمومة الآن والعاقبة خطرة، إني قلقة جدا. - يجب أن تستدعي طبيبا. - رباه أخاف الافتضاح. - لا تخافي، استدعي الدكتور صديق الهيزلي، فهو بارع وطيب جدا. - صديق الهيزلي؟ أما هو قريب سليم؟ - ابن عمه. - يا لله! وإذا عرف سليم الأمر؟ - أن يعرف الآن أفضل من أن يعرف بعدئذ. - ولكن ... - لا تخافي، لا يحجم وأنا فوق رأسه ألعب بدماغه، وقد مهدت له سبيل العلم بالأمر، لا تخافي، افعلي كما أقول لك، العلاج عن يد ابن عمه أفضل منه عن يد طبيب غريب. - أخاف أن الدكتور ينفره. - لا تخافي؛ لأن الدكتور يحب المال جدا، وقد يتنازعان كلاهما دعدا، لا تخافي، العشرة آلاف جنيه تغر. - سأنتظر نهاية هذا اليوم، فإن اشتدت أزمتها استدعيته. - حسن، فإذا اضطررت إلى استدعاء طبيب لا تستدعي أحدا غير الدكتور صديق الهيزلي، ولكن لا تدعيه يفهم شيئا عن علاقة فهيم بك بالمسألة.
الفخ من نار
في مساء اليوم التالي نحو الساعة الحادية عشرة، كان فهيم بك رماح وجورجي آجيوس في مركبة تدرج بهما في شارع شبرا إلى أن استوقف جورجي الحوذي أمام منزل العجوز اليونانية التي أودع هيفاء عندها.
ولما دخلا في الباب قال فهيم: عجيب أن تكون هيفاء قريبة منا ولا نعلم بمقرها. - ألا تعلم يا فهيم بك أن الأسرار مغطاة بقشة كما يقال؟
ولما دخلوا إلى المنزل استقبلهما الأب أمبروسيوس مرحبا، وقال: التحويل بثلاثين ألفا يا فهيم بك. - يجب أن أرى هيفاء أولا وأعلم إن كانت راضية. - لا تقدر أن تراها قبل أن ترى هي التحويل.
فتردد فهيم، فقال له الأب أمبروسيوس: إذا كنت قليل الثقة يا ابني، فالأفضل أن تعود من حيث أتيت.
فتوقف فهيم بك هنيهة ثم قال: التحويل باسم هيفاء، فأسلمها إياه يدا بيد. - إذا كان التحويل باسمها فلا يستطيع أن يقبضه أحد غيرها. - يمكن أن يقبضه ولي أمرها. - لا يستطيع أن يقبضه إلا بإذن من البطرك، فإن كان يخالجك شك فعد من حيث أتيت.
فتناول فهيم التحويل ودفعه إلى الكاهن، فاطلع عليه الكاهن ووضعه في جيبه وقال: تفضل الآن وصافح هيفاء.
ودخل فهيم وراءه إلى الغرفة حيث كانت هيفاء واقفة فاستقبلته باسمة وصافحته، فانشرح صدره وقال: لماذا لم تقولي لي قبلا يا هيفاء أنك تريدين مهرا؟
فأطرقت هيفاء إلى الأرض باسمة، فقال لها: سترين يا هيفاء أن هذه الثلاثين ألف جنيه ليست شيئا من ثروتي التي ستكون تحت أمرك، فهل أنت راضية من كل قلبك؟
فازدادت الفتاة إطراقا، وعند ذلك قال الأب أمبروسيوس: اترك هذا السؤال للكاهن يا فهيم بك، فلنسرع بالإكليل الآن.
وفي الحال فتح الأب أمبروسيوس كتابه، ووقف العروسان وإلى جانبيهما جورجي والعجوز اليونانية، وفي هنيهة قصيرة انتهت صلاة الإكليل، وبعد بضع دقائق قال فهيم: تفضلوا الآن جميعا إلى منزلي حيث أعلن زواجي لخدمي، ونستتم فرحنا هناك.
عند ذلك قرع الباب، ففتحته العجوز ودخل منه يوسف براق، فلما رأى يوسف الكاهن وفهيم بك رماح عرته هزة غيظ زلزلت هيكل عظامه، وصاح: ماذا تفعلون هنا يا خونة؟
فابتسم جورجي، وقال: لا تسخط يا يوسف؛ لم يحدث ما يسوءك. - إذن كيف جاء هذا الدنس إلى هنا؟ ألكي يدنس هذا المقام الطاهر؟
وكان يشير إلى فهيم بك، فثارت سورة الغيظ في فهيم، وقال: بل من جاء بك أنت إلى هنا يا غلام؟ وكيف تسطو على مجلسي بهذه القحة؟ إن لم تخرج في الحال قذفت بك من هذا الشباك.
وعند ذلك اعترض جورجي بينهما، وقال: مهلا، دعونا نتفاهم، ما هو شأنك يا ابني يوسف؟ - أتتواطأ مع هذا الرجل على خيانة هيفاء ثم تدعوني ابنك؟ إنك أنذل منه، بل أنا مجنون لأني وثقت بك ولم أتعلم من الماضي. - ماذا علمت من خيانتي حتى تقول هذا القول يا بني؟ - ماذا يفعل هذا اللئيم هنا؟ وما شأن هذا القسيس؟ ألكي تزفوا هيفاء إلى فهيم اللئيم؟
فقهقه فهيم وقال: لقد قضي الأمر يا هذا، ولا شأن لك أولا وآخرا.
فزمجر يوسف كالنمر وقال: يا للخيانة! هل رضيت بهذا الزنيم بعلا يا هيفاء؟ إني أندب حظك التعس.
فضحك جورجي وأمسك بيد يوسف قائلا: خفف عنك وهون عليك، فما حصل شيء. - أما انعقد الإكليل بعد؟ إن ...
فقال فهيم: لقد جئت متأخرا يا طفيلي، وماذا كنت تفعل لو جئت قبل انعقاد الإكليل؟
فازداد يوسف حدة وقال لجورجي: إنك خائن وأشد لؤما من هذا النغل، ينعقد الإكليل ولا تزال تقول لي لم يحصل شيء؟ - كلا لم يحصل. - أما صارت هيفاء زوجة لهذا الساقط؟ - لن تصير.
فانتفض فهيم وقال: من هو هذا الغلام المجنون حتى أخاف منه، وأكتم زواجي عنه؟ اخرج يا هذا من مجلسي وإلا ...
فقاطعه جورجي وأخذه بيده إلى غرفة منفردة، وقال له همسا: لا تحتد يا فهيم بك، فما أنا موار الآن ولا مراوغ، إن زواجك هذا فاسد.
فحملق فيه فهيم مستشيطا، وقال: ماذا تقول والقسيس لم يزل حاضرا؟ - أقول: إنك خدعتنا جميعا، فأنت تزعم أنك فهيم رماح، والحقيقة أنك الأمير سليمان الخزامي.
فانتفض فهيم حتى تزلزل هيكل عظامه، وقال: من قال لك ذلك؟ - ليس خفي إلا ويعلن يا هذا، فإني أعرف تاريخ حياتك قبل أن تولد، فهل تريد أن أسرده لك الآن حرفا حرفا؟ فاسمع لأقص عليك رذائلك ورذائل أبيك.
فقاطعه فهيم قائلا: اصمت اصمت يا ماكر، وهب أني أبدلت اسمي فهيفاء زوجة شخصي لا زوجة اسمي. - ولكن متى صرت ثانية الأمير سليمان الخزامي تفتش هيفاء عن فهيم رماح، فلا تجده، فزوجة من تكون حينذاك؟ - تكون زوجة ابن عمها، سواء كان فهيم رماح أو سليمان الخزامي. - أي أسقف حلل لك أن تتزوج ابنة عمك؟
وعند ذلك دخل الأب أمبروسيوس وقال: لقد سمعت حديثكما.
فقال فهيم بك: هل تنكر أنك كللتني يا أبانا؟
فأجاب الكاهن: لا أنكر يا ابني، ولكن الإكليل فاسد، فلماذا لم تقل إن الفتاة ابنة عمك؟
فازداد فهيم بك تحيرا وقال: يا للخيانة! يا للخيانة! لعبتما علي دورا، إن هيفاء زوجتي وإذا لم يكن بد من «تحليلة»، فأعرف كيف أحصل عليها، أريد الآن أن تذهب زوجتي معي، هلمي يا هيفاء.
عند ذلك قرع الباب وذهبت العجوز لتفتحه فقال جورجي: إلى أين يا فهيم؟ - إلى منزلي. - بل لديك مهمة أخرى تمنعك عن الذهاب إلى منزلك الليلة، فأجل أخذ هيفاء إلى أجل غير مسمى.
فوقف فهيم كالأخبل لا يفهم قصد جورجي، ولكنه ما لبث أن رأى اثنين من الشرطة يدخلان، فانهلع فؤاده إذ قال أحدهما: من منكم هو فهيم بك رماح؟
فقال جورجي: هذا هو الواقف بيننا.
فاصطكت ركبتا فهيم وكاد يقع إلى الأرض وجلا، لو لم يقبض أحد الشرطيين على ذراعه وقال: ماذا تريد مني؟ - أن ترافقنا إلى دائرة البوليس.
وكان الشرطي الآخر يضع صفادة في يديه فصاح: يا لله! أي جناية ارتكبت؟ - لا ندري، نحن ننفذ أمرا بسيطا وهو القبض عليك، وفي دائرة البوليس تعرف كل شيء.
فنظر فهيم إلى جورجي ورآه يبتسم، فقال له: هل دفع لك غيري أكثر مني يا جورجي حتى خنتني كل هذه الخيانات؟ - لم أقبض من أحد فلسا يا سليمان، ولكن الجزاء الحق من نفس العمل، فاذهب مع البوليس الآن، فإن النائب العمومي ينتظرك.
فحرق فهيم الارم، وقال: لا أدري سر هذه الخيانة، فمن أنت يا هذا؟ - لسوف تعرفني إن لم تكن قد عرفتني بعد.
فحملق فيه فهيم وصاح: ويلاه! هل تقمصت روحك في هذا الجسد الشيطاني؟ - بل بعثت من قبري.
وكان الشرطيان قد استاقاه أمامهما، وهو يزمجر ويهذي ويقول: أين التحويل؟ هاتوا التحويل بثلاثين ألف جنيه. يا لصوص يا سرقة يا خونة.
ولا بد أن القارئ أدرك أن جورجي والأب أمبروسيوس وهيفاء تواطئوا على هذه الحيلة لتمهيد القبض على فهيم، أو بالأحرى الأمير سليمان الخزامي، ولأخذ تحويل بثلاثين ألف جنيه منه؛ لأنها من حقوق الفتاة.
يد من بعيد
وكان يوسف وهيفاء مبهوتين كأن على رءوسهم الطير لا يفهمون سر الحديث الأخير الذي جرى، وبعد هنيهة قال يوسف: لماذا قبض الشرطيان على هذا الشرير؟
فقال جورجي: لأنه ارتكب جناية. - أي جناية ارتكب؟ - جناية قتل جنين في بطن أمه.
فانتفض يوسف وقال: لماذا قتل الجنين وهو لم ير العالم ولم يسئ إلى أحد بعد؟ - قتله لكي يخفي إثمه هو وعار الفتاة التي رامها خليلته، وما شعرت بسقوطها إلا بعد أن أهملها. - يا للفظاعة! يا للشر! وكيف عرفت دائرة البوليس بالجناية؟ - عرفت بها كما عرفت أن الجاني هنا الآن.
فحملق يوسف في جورجي، وقال: أراك عارفا بكل شيء. - نعم، بكل شيء قبل حصوله.
فجحظت عينا يوسف وقال: أخاف أن تكون لك يد في الأمر يا جورجي. - نعم، كل اليد ولكن من بعيد. - إذن أنت الذي ساقه إلى الهاوية. - نعم، ولكن من غير أن أقع تحت طائلة عقاب؛ لأني لم أخالف قانونا.
فانتفض يوسف من شدة التأثر، وقال: خسئت يا شرير، فأنت الجاني لا هو، إن الجريمة واقعة على رأسك. - سنرى على من تحكم المحكمة. - لا يهمني حكم المحكمة بل حكم الضمير، فبأي ضمير دفعت ذلك المسكين إلى ارتكاب الجريمة؟ - بضمير موسى الذي قال: «عين بعين وسن بسن.»
فانبثق الدمع من عيني يوسف وغطى عينيه بكفه، وهو يقول: لا تدعني أرى الشر ماثلا أمامي، رباه! ما هذا العالم الشرير؟ لماذا لم تخلقني في المريخ لعل عالمه أنقى ضميرا وأطهر قلبا؟ لماذا غدرت بذلك الشقي يا جورجي؟ إن إثمه على رأسك. - إثمه على رأسه، وما ظلمه إلا شر نفسه.
وهنا استرسل يوسف بتأثره حتى إنه لم يعد يستطيع أن يكفكف دموعه، فقال له جورجي: لماذا تبكي يا جبان؟ - أبكي هذا العالم المنغمس بالآثام، كلما تيقنت أني في وسط صالح أجد نفسي في بحيرة من الشرور، ويلاه! رباه امحق هذا العالم لكي يمحق الشر معه، ثم اخلقه خلقة جديدة صالحة؛ لأنه لم يعد صالحا لتمجيدك. - ليت صلاتك تستجاب يا ابني، ولكن منذ ستة آلاف سنة كان بعض الغرباء عن طبيعة هذا العالم يصلون هذه الصلاة، ولكن الله - سبحانه وتعالى - لا يستجيب. - لأنه رحيم طويل الأناة، يضن بخليقته أن تذهب سدى، وبأتقيائه أن يهلكوا بجريرة الأشرار؛ ولهذا كان ولا يزال يرسل المعلمين عسى أن يصلحوا، فأين أنتم يا مصلحون لا تلبون دعوة الله لإصلاح الجنس البشري؟ - ليس في العالم إلا المراءون المنافقون يا بني، فلا تتعب نفسك في أن تغير هذا العالم، وإذا شئت أن تعيش فيه يجب أن تكون شريرا مثلهم، فتعيش سعيدا متنعما.
فوضع يوسف كفه على عينيه وصاح: تبا لك! لا تجربني يا شيطان؛ فما أنا من هذا العالم.
وكان سكوت عدة دقائق ويوسف مستغرق في تأثره، والكاهن يفكر وهيفاء مبهوتة لا تنبس بكلمة واحدة كأن في لسانها عقلة، وبعد ذلك رفع يوسف نظره في جورجي وقال: وأي ذنب جنى ذلك الجنين المسكين حتى يقتل قبل أن يعلم ما هو الإثم؟ - لم يجن ولم يعاقب بل رحم؛ لأنه أبعد عن هذا العالم الشرير؛ لكيلا يأتي إليه كما أتيت أنت. - وأمه المسكينة؟ ماذا يكون حظها بعد هذه الفضيحة؟ - إن سلمت من خطر الحمى، فقد يطهرها عقابها في هذه الدنيا حتى تدخل السماء أخيرا طاهرة. - إذن المرأة قد تموت أيضا. - نعم؛ لأنها في حالة النزاع، فقد تفارق هذا العالم الليلة.
فاستشاط يوسف وصاح: ويحك يا شقي! الجنين وأبواه جميعا؟ - وأم أمه والدكتور صديق الهيزلي أيضا.
فقبض يوسف على شعره بكلتا يديه، وجعل يصيح: الويل لك يا شرير! الويل لك! لو كنت قاضيا لعلقتك على الخشبة. - أشكر الله أنك لست قاضيا. - أي ثأر لك على الخمسة؟ - أما فهيم فكلنا هنا ذوو ثأر ضده، فهل نسيت أنت السجن؟ - لقد غفرت له من كل قلبي، والله غفر له. - وأما الجنين فقد رحمته إذ لم أدعه يعرف هذا العالم الشرير، وأما الفتاة فقد أخطأت لنفسها وللهيئة الاجتماعية، فدعها تنال عقابها هنا أو في الآخرة؛ وأما أمها فلأنها شريكة فهيم في آثامه وفي إسقاط تلك الفتاة. - والدكتور صديق الهيزلي؟ - لأنه عابد المال، وقد كانت له يد في تفليسك. - أغفر له وليغفر الله له. - لم تبرأ إلى الآن من الطعنة التي طعن بها فؤادك، هل نسيت أنه خطب ليلى؟ - لا تذكر ليلى، مسكينة ليلى، ماذا حل بها بعد أن أخذ خطيبها صديق من جنبها إلى ظلمات السجن؟ لقد ضربت يا شقي ستة لا خمسة. - عجيب هذا الإشفاق، كنت أظن حبك تحول إلى قلى. - لا أدري ما الذي يدعوك إلى هذا الظن. - لأني أعلم أن الحب كحلاوة العنب إذا خامرها الفساد تحولت إلى خل. - قل ذلك في الحب المركب من الشهوات النفسانية، وأما الحب الروحاني فعنصر بسيط لا يقبل حلا. - كل أمر من أمورك غريب يا بني، إذن أنت مشفق على ليلى؟ - نعم، مسكينة ليلى، ما ذنبها حتى يطعن قلبها هذه الطعنة؟ - إنك غبي، لقد نجت ليلى من شرور صديق.
زوبعة عواطف
وبعد هنيهة قال يوسف: سمعت ذلك الشقي فهيم يذكر تحويلا، فما قصة هذا التحويل؟ - هو تحويل بقيمة ثلاثين ألف جنيه حصلناها مهرا لهيفاء. - لهيفاء؟ يستحيل أن تمسها هيفاء؛ لأني أكفل لهيفاء معاشها، فإن لم يكفها تعبي أطعمها لحمي وأسقيها دمي.
فضحك جورجي وقال: وا أسفاه! إن مبادئك مضحية بتعبك ومعارفك لمصالح غيرك، وإذا اتكلت هيفاء عليك ماتت جوعا. - خير لها أن تموت فقيرة من أن تعيش منعمة من مال حرام محصل بحيلة، أو مكيدة غير شريفة. - نعم، إنه محصل بحيلة، ولكنه بعض ما لها، فهو حلال لها وحرام على ذلك الزنيم. - لا أفهم هذا التعليل المقلوب. - بالطبع لا تفهم ذلك؛ لأنك لا تعلم أن هيفاء ابنة عمه.
فحملق يوسف وقال: يا لله! سمعت شيئا بهذا المعنى إذ كنتما منفردين في الغرفة، فهل هو حقيقة؟ - هو الحقيقة بعينها، فإن هيفاء ابنة عم فهيم رماح الذي هو الأمير سليمان الخزامي.
فارتجف يوسف قائلا: أحقيقة أن ذلك الرجيم كان يتنكر باسم فهيم رماح؟ كيف تثبت ذلك؟ - ما أسهل إثبات ما أعرفه حق المعرفة، فهل تريد أن أقص عليك تاريخ حياته؟
فزمجر يوسف كالنمر وهو يصر أسنانه، ويقول مترددا: لا، لا، ليتني تحققت ذلك قبل أن يخرج من هنا فكنت أنشبت أظفاري في عنقه، آه وا غضباه! آه يا للعنة! يا نار الجحيم الحامية آه، وا غيظاه! وا حر قلباه!
وكان الكاهن وهيفاء يقشعران من زمجرة يوسف ويرتاعان من تلهب مقلتيه، أما جورجي فكان يبسم مطمئنا، فقال: أراك تحنق على ذلك الطاغية بعد أن كنت ترثي له، فما سر هذا الانقلاب؟
فعاد يوسف يزمجر كالمجنون وقال: ما زلت أرثي له، ولكني أحنق على طينته، يا للعنة على تلك الطينة القذرة التي لا تطهرها مياه السماء ولا نيران الجحيم! - ما ذنب تلك الطينة حتى تنال منك هذه اللعنة التي لا تجسر أن تسكبها إلا الآلهة؟ - إن تلك الطينة لهي غريمي الوحيد في هذه الدنيا، تلك الطينة مزقت كياني، هدمت أركاني، قوضت دعائمي، ضعضعت مقامي، أضاعت سعادتي، نغصت حياتي كلها. - عجيب يا يوسف أن ظواهر شبيبتك تدل على أنك غني بمعارفك قوي بمبادئك، والسعادة بنت الغنى والقوة، فإن كانت طينة سليمان الخزامي قد أضاعت سعادتك، ففي وسعك أن تستردها، وإلا فما أنت غني ولا قوي. - إني غني وقوي إلى حد ألا أستطيع إيجاد المعدوم، أو رد الماضي إلى الحاضر والمستقبل. - ليتنا نعلم هذا الذي قد مضى، فكنا نعلم كيف نجعله حاضرا أو مستقبلا. - إنك تدعي ما لا تستطيعه الآلهة. - لو كنت لا أستطيع ما أدعي.
فحملق فيه يوسف وقال: يا للغرور! أتستطيع أن تجعل الماضي حاضرا ومستقبلا؟ - نعم، وأستطيع إيجاد المعدوم أيضا. - إنك تدعي ما لا تستطيعه قوة القوى نفسها، فهل تقصد أن تذكي نار غيظي بهذا المزاح؟ - أقول لك: إني أستطيع أن أفعل ما أقول، فما أنا مازح . - إذن أنت مجنون؛ لأنه لا يدعي هذه الدعوى إلا المجنون. - بل أنا عاقل، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. - تكاد تجنني يا هذا، فهل تستطيع أن تحيي الميت وهو رميم؟ - أستطيع. - إذا لم تكن مجنونا فأنت إله. - ما أنا هذا ولا ذاك، ولكن لي قوة لا تعرفها أنت، فأي ميت تريد أن أريكه حيا فيخاطبك وتخاطبه؟
فقال يوسف هازئا: أريد أن تريني أبي. - حسن، أريكه الآن، فهلم معي إلى الغرفة التالية والأب أمبروسيوس وهيفاء ينتظراننا هنا إلى أن تعود مع أبيك.
وكان الأب أمبروسيوس وهيفاء كالأخبلين يسمعان ولا ينطقان، ولكن الأب أمبروسيوس قال وهما يخرجان: لا شك أن هذا الرجل ساحر من سحرة الهنود.
فأخذ جورجي يوسف بيده إلى الغرفة الأخرى وجلسا، فقال جورجي: من كان أبوك؟ - كان أبي الرجل الذي عوقب في حياته لحسن نيته وطهارة قلبه، وظلم بقسوة لرقة عواطفه، وتشتت عائلته بجريرة حبه لها، وقتل في الدفاع عن وطن غير وطنه، فهل تعرف رجلا هذه حاله؟ - أعرفه. - لا يبعد أنك تعرفه وأنت يوناني الأصل؛ لأنه قضى نحبه في حدود اليونان، فمن هو الذي تعرفه في هذه الأحوال؟ - هو الأمير خليل الخزامي، أعرفه كما أعرف نفسي.
فاقشعر يوسف وانتصب شعر رأسه، وقال: أبي خليل الخزامي، هل كنت تعرفه حين قتل؟ هل ترك كلمة لابنه؟ هل ترك وصيته؟ - عرفته في كل دقيقة من حياته، هل تتذكر سحنته؟ - لن أنساها؛ لأنها ماثلة في مخيلتي على الدوام.
فتناول جورجي صورة فوتوغرافية من جيبه، ودفعها إلى يوسف قائلا: هل هذه صورة أبيك؟
فما وقع نظر يوسف عليها حتى انتفض وهطل الدمع من عينيه، وصاح: هذه صورة أبي، هذه صورته كما فارقني.
وجعل يوسف يقبل الصورة، ويقول مخاطبا لها: لقد جوزيت يا أبتاه جزاء سنمار، ولكن الطبيعة لا تفهم حتى تعاقب ظالميك، وا أسفاه على شبابك! فماذا ترك لي أبي غير هذه الصورة؟ - هذه الصورة أيضا.
وناوله جورجي صورة أخرى، فلما رآها يوسف صاح: أماه أماه! لقد قاسمت أبي مصائبه، ولا ريب أنك تقاسمينه سعادته الأبدية.
وكان يوسف يقبل الصورة الأخرى، ويمسح دموعه عنها هنيهة إلى أن قال: أما زودك أبي بكلمة تقولها لابنه؟ - نعم، قال: إنه يود أن يراك. - في العالم الثاني؟ - بل في هذا العالم. - في هذا العالم؟ كيف يمكن ذلك؟ - أما قلت لك: إني أريكه؟ - إنك تجنني يا هذا، كيف تريني أبي وقد فنيت عظامه؟ - لم تفن عظامه ولا فني جسمه، بل لم يزل حيا يرزق.
فانتفض يوسف جزعا وصاح: إن كنت لا تمزح فقل لي أين أرى أبي؟ - هنا؟ - متى؟ - الآن في هذه اللحظة. - أين؟ أين هو؟ - أما قلت لك: إنه هنا؟ أنت تعرفه شابا، فهل تظن أنك تراه شابا بعد أن فارقته عهدا طويلا؟ ألا ترى أن الشيب كلل رأسه؟
فحملق يوسف في جورجي وهو يرتجف من شدة التأثر، ورأى الدموع تتدفق من عينيه فارتاع لأول وهلة وبقي مبهوتا هنيهة، ثم فتح فمه، ولكنه لم يستطع كلاما، وما شعر إلا بقوة تجتذبه نحو جورجي حتى طرح نفسه على حضنه، وهو يصرخ: أبتاه! أبتاه! حتام تتمالك عني؟
وفي تلك اللحظة كان الأب والابن متعانقين ودموعهما تمتزج معا.
في تلك الدقيقة كان إله الحنو يرفرف فوق ذينك الأقنومين، وهو يسكب في قلبيهما ماء حب قضت الملائكة عشرين عاما وهي تستقطره.
ولم ينفك ذلك العناق إلا والباب ينفتح والأب أمبروسيوس يدخل منه، وهو ممسك بيد هيفاء ويقول: ليكن اسم الله مباركا ومقدسا وممجدا.
ولما اقتربا منهما قال الأب أمبروسيوس: عانقي أباك يا هيفاء، هذا هو أبوك كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد.
وكان الأب أمبروسيوس قبيل ذلك منصتا وراء الباب يسمع الحديث الذي جرى بين الأب والابن.
فتناول جورجي يدها وجذبها إليه وعانقها طويلا، وهو لا يستطيع كلاما؛ لأن دمعه كان أفصح بيانا، أما هيفاء فكانت مبهوتة كأنها لا تفهم كل ذلك.
ولما انتهى جورجي من عناقها أجلسها إلى جانبه، وقال: عانقي أخاك يوسف يا ابنتي يا هيفاء، عانق أختك يا يوسف يا ابني.
فارتمى الأخوان كل منهما على الآخر وتعانقا ، وما زالت هيفاء مبهوتة، وحدث سكوت عدة دقائق بتره يوسف بقوله: أين كانت هذه الأخت يا أبتاه؟ لا عهد لي بأن لي أختا.
فقال جورجي، أو بالأحرى الأمير خليل الخزامي: إن الذين لم يروموا أن يبقى لك أب ولا أم يا بني لم يروموا أن تعرف لك أختا، الأب أمبروسيوس يقص لكما حكاية نسبكما يا ولدي إذا كان عندكما شك به.
وبعد أن هدأت ثورة العواطف التي لم تشهد ملائكة السماء ثورة مثلها، روى كل أقنوم من الثالوث المتجمع بعد تشتته حكاية حاله.
وظلوا يتحادثون ويتعانقون حتى طلع الصباح، وكانت في ذلك المنزل ليلة سرور حسدته عليها السماء.
ابنة الزانية
في عصر ذلك النهار جاء جورجي إلى الفندق الذي كان يقطن فيه، فوجد في غرفته رسالة بلا طابع بريد كأنها جاءت مع رسول ففضها، وقرأ هكذا:
إن كاتبة هذه السطور تود أن تراك الساعة الخامسة في القهوة «...» وترجو أن لا تخيب قصدها، تعرفها حالما تراها إذ لا ترى غيرها هناك.
فتحير جورجي إذ لم ير توقيعا على الرسالة، ولكنه لم يتردد، بل ذهب في الميعاد، واستغرب إذ رأى ليلى هناك، فصافحها وجلس معها حيث جلست مرة مع يوسف كما يذكر القارئ، وقال باسما: كان يوسف يود أن ينال هذا الشرف يا مدموازال.
فانتفضت ليلى واكفهرت، وقالت: هل يريد يوسف أن يضاعف نقمته؟ كنت أظنه أرق قلبا.
فاستغرب جورجي هذا الجواب، وقال: ما ذنب يوسف حتى تتهميه بحب الانتقام يا سيدتي؟ - لم يشأ أن يتمهل يوما في الشماتة، فهل يستحل أن يوالي السهام على فتاة في ساعة واحدة؟ - لا أفهم ماذا تقولين يا سيدتي، هل قابلك يوسف اليوم؟ - رام أن يقابلني فلم أستطع أن أستقبله؛ لأني واهية القوى على أني سأستهدف لنقمته ما شاء.
فضحك جورجي قائلا: لم أعلم أن يوسف قصد إليك يا سيدتي، ولا علمت ما قصده، ولكني أؤكد أنك ظلمته بسوء ظنك فيه. - إن زيارته في مثل هذه الحال لا تفسر إلا بقصد الانتقام. - لا أدري ما هي هذه الحال التي تشيرين إليها.
فانسجم الدمع من عيني ليلى وهي تقول: تتجاهل وأنت «زنبلك» المسألة كلها؟ - إني «زنبلك» مسائل عديدة يا سيدتي، فلا أدري أيها تعنين؟ - أعني آخرة المسائل التي سقت فيها ابن خالي الدكتور صديق الهيزلي إلى السجن. - ما أنا سقته يا سيدتي، بل ساق نفسه وغيره، من قال لك: إني سقته؟ - تلك المرأة الساقطة التي لعبت بعقلها وبعقل ابنتها التي استراحت من شقاء هذا العالم، تلك الفاجرة قالت كل شيء. - تقولين: إن ابنتها استراحت من شقاء العالم؟ - نعم، توفيت اليوم، وبوفاتها عظم الخطب. - مسكينة مسكينة دعد! رحمة الله عليها، إني بريء من كل ما تنسبينه إلي يا سيدتي. - نعم، أنت بريء في نظر القضاء العالمي؛ لأنك اشتغلت من بعيد، ولكنك مجرم في نظر القضاء الإلهي. - أعلم كيف أبرئ نفسي أمام القضاء الإلهي يا سيدتي، ولكن إذا كنت تريدين أن تنوبي عن الله في القضاء علي فحاكميني إذا شئت. - معاذ الله أن أتجاسر هذه الجسارة. - إذن ماذا تطلبين مني؟ - أطلب منك أمرا واحدا، وهو أن تشهد أن صديقا لم يعرف منزل تلك الساقطة قبل أن استدعته لمعالجة ابنتها. - لا تعبأ المحكمة بهذه الشهادة يا سيدتي، فهل من شاهد يشهد أن لصديق يدا في المسألة، وأنا أمنعه من الشهادة؟ - فهيم بك رماح يشهد. - شهادته غير مقبولة؛ لأنه متهم أول فلا تخافي، هل يستطيع أحد آخر أن يشهد أنه رأى الدكتور صديقا يسلم فهيما دواء؟ - لا أدري، ولكن لا أظن. - إذن لا تخافي إلا إذا اعترف صديق. - لا أعتقد أن صديقا جاهل حتى يسلم نفسه. - إذن اطمئني يا سيدتي ولا تخافي. - ويلاه! كيف أستطيع الاطمئنان وصديق بين يدي القضاء الآن؟ كيف يمكن خلاصه؟ - لا تجزعي يا سيدتي، يخرج صديق من سجنه بريئا قبل أن يحين ميعاد قرانكما.
فهزت ليلى رأسها، وقالت: لا يهمني قران. - وإنما يهمك أن ينجو خطيبك، وبالطبع متى نجا تيسر القران. - قلت لك: لا يهمني قران، بل لا يهمني خطيب، وإنما يهمني أن ينجو الدكتور صديق الهيزلي من هذه الورطة، فهل تصنع معي معروفا بأن تفعل شيئا لخلاصه؟ - إن أمرك عجيب يا سيدتي؛ إذا كان لا يهمك قران ولا خطيب، فلماذا هذا القلق وذاك الجزع؟ لا أرى داعيا لإنكارك الرغبة في تخليص خطيبك، إني مستعد لكل خدمة لك إذا كانت في وسعي. - تستطيع أن تكون شاهدا من جملة الشهود، وتنفي كل شهادة توجه ضد صديق، وبذلك تخدمني خدمة عظيمة لا أقدر أن أكافئك عليها الآن، ولكني بعد خلاصه أستطيع أن أكافئك بما تريد، هذه خمسون جنيها الآن فاقبلها مني ... - دعي هذه الجنيهات معك يا سيدتي؛ فلا أريد جزاء لا أولا ولا آخرا، وأنا أعدك أني أفعل ما أستطيعه.
فاسترسلت ليلى في البكاء، وقالت: تعني أنك لا تريد أن تصنع معي هذا المعروف، بل تريد أن تعاون يوسف براق على الانتقام مني؟ - إنك سيئة الظن جدا بي وبيوسف، لماذا تظنين أننا نبتغي الانتقام منك؟ - لأني قبلت صديقا خطيبي، وأنا أعلم أنني أذنبت ذنبا عظيما ليوسف لا يغتفر وسأكفر عن ذنبي هذا، وسيرى يوسف أني كفرت، فبربك يا مسيو جورجي اصنع معي هذا المعروف، وأنا أعدك أن صديقا لن يكون زوجي، وإن كان يوسف قد أبغضني واحتقرني. سأنتقم ليوسف من نفسي نقمة لا ينتظرها.
فضحك جورجي، وقال: يلوح لي أنك لم تفهمي يوسف تمام الفهم، على أني أستغرب أمرا واحدا منك، وهو لماذا تهتمين هذا الاهتمام بخصوص صديق إذا كنت قد عدلت عن الزواج منه؟ ولماذا هذا العدول إذا كان الرجل يخرج بريئا طاهر الذيل؟ - إذا خرج بريئا فلأنك تساعدني في خلاصه، بيد أنه يبقى أثيما في نظري ونظر الذين يظلون مشتبهين ببراءته، وأنا أعد نفسي أطهر من أن أنضم إلى زوج فاسد القلب ميت الضمير، إني أكره صديقا ولا أهتم بخلاصه لأجل نفسه بل لأجل نفسي.
ففكر جورجي هنيهة، وقال: لأجل نفسك يا مولاتي أفعل كل شيء حتى ما لا أستطيعه، ولكن على شرط أن تقولي لي سر هذه المفارقة، وهي سعيك إلى خلاص صديق مع كرهك له .
فوجمت ليلى وصمتت هنيهة، ثم قالت: ألا تريد أن تستبدل هذا الشرط؟ - إذا لم تكن الثقة التامة بي يا مدموازال فلا فائدة لك من ثقتك بوعدي، أنت لا تعرفينني فأنا أصف لك نفسي، إني رجل شرير جدا وصالح جدا، إني شخصان: رجيم من أهل الجحيم وملاك من أهل النعيم. - والآن أي الرجلين أنت؟ - الثاني؟ - كيف أتحقق ذلك؟ - ما دام يوسف يقبلني قبلة الابن للأب، فتأكدي أن شخصي الأول معدوم. - وهل عرف يوسف بكل ما فعلت؟ - بعد أن أنجزته. - ماذا قال؟ - نقم علي وأتابني عن كل إثم، فأصبحت الرجل الصالح الذي تستطيعين أن تثقي به تمام الثقة، فقولي لي السر الذي بينك وبين صديق، وأنا أعدك بأن أنيلك كل متمنى.
فترددت ليلى في الجواب، وقالت: إنك تغريني على أن أقول سرا لا يعلمه أحد غيري، ولا أرى مصلحة أو فائدة من قول هذا السر، فاعذرني. - لا أتوخى مصلحة لنفسي بل لك، إذا اطلعت على سرك أكون أقدر مني الآن على خدمتك، فثقي بي يا ليلى إذا كنت تحبين يوسف؛ لأن منزلة يوسف عندي أعز من منزلة نفسي.
وهنا ترقرق الدمع في عيني جورجي وليلى تدهش؛ إذ تراه يكفكف بمنديله وهي تقول في نفسها: يستحيل أن تكون هذه الدموع دموع مكر.
ثم قالت له: لم يبق عندي شك بإخلاصك، ولكني لا أرى أن سري يهمك. - ما دام يهمك أنت أود أن أعلمه؛ لأني مجرد نفسي لخدمتك، فقولي.
فسكتت ليلى هنيهة ثم قالت مترددة: مع صديق ورق يهمني جدا جدا، فأود أن أسعى بخلاص صديق عسى أن أنال منه ذلك الورق مكافأة على سعيي. - وتخافين من افتضاح هذا الورق؟ - لا لا، لقد شذ ظنك، بل أود أن يعلن هذا الورق. - أليس الورق رسائل منك إلى صديق؟ - لا لا، لم أكتب في حياتي شيئا أخجل منه. - إذن أفصحي وأخبريني ما هو هذا الورق، لعلي أستطيع أن أستخلصه بنفسي. - تستدرجني لقص حكاية لا أود أن تعرف قبل أوانها. - لا بأس، لا يعرف بها أحد سواي . - ولا يوسف؟ - ولا يوسف، ثقي أنه لن يعرفها إلا منك.
فتبرمت ليلى وقالت: إني أخجل أن أقول: إنه لم يكن لي أب شرعي، وإن أمي كانت ... - زانية؟
فاكفهرت ليلى أي اكفهرار، وقالت مغرورقة العينين: نعم، إني ابنة غير شرعية، فأنت الآن الثالث الذي يعرف ذلك.
فضحك جورجي، وقال: بل أنا الخامس الذي عرف ذلك يا سيدتي.
فانتفضت ليلى، وقالت: ويلاه! من عرف ذلك سواك؟ - يوسف براق و... - يوسف عرف ذلك أيضا؟ - نعم، أخبره إياه الواشي بينه وبينك. - هل عرف يوسف من هو أبي غير الشرعي؟ - لا، ولا أنا عرفته، ولا الواشي عرفه على ما أظن. - من كان ذلك الواشي؟ - فهد المهند صديق الدكتور خطيبك.
فانتفضت ليلى وقالت: ويلاه من خبث صديق! ويلاه من إثم هذا الشرير! ويلاه من عابد المال! هل صدق يوسف الوشاية؟ - صدقها. - ماذا قال؟ - قال: إن جسد ليلى ابن زنى، ولكن روحها بنت الطهارة، وهو كما تعلمين روحاني، ويحسب الجسد كربونا وأوكسيجينا وهيدروجينا ونيتروجينا، ولا فرق عنده بين جسد الكلب وجسد الإنسان.
فبهتت ليلى وقالت بعد هنيهة: متى عرف يوسف ذلك؟ - قبل أن يخطبك صديق. - وماذا قال بعد أن خطبت صديقا؟ - قال: إن كيانه زال بانفصال أحد عنصريه عنه، ولم يعد يحسب نفسه موجودا بغير الجسد.
فامتقع وجه ليلى ووضعت رأسها في كفيها وبكت بكاء مرا، وما زالت تشرق بدموعها حتى تناول جورجي يدها وقال: لماذا تنتحبين يا ليلى؟ - لأني أنا فقدت كياني أيضا، كنت مرتفعة باتحاد عنصري مع عنصر يوسف، فلما انفصل عنصري عن عنصره شعرت أني سقطت، إني يا سيدي أدنأ عنصرا من عنصر يوسف، إني ابنة زانية ويوسف ابن طاهرة، إني ترابية ويوسف روحاني، فما أنا مستحقة أن أكون متحدة مع يوسف، فعسى أن روح يوسف وهي ترفرف في هذا العالم تصادف الروح التي تليق بها.
عند ذلك ذعرت ليلى؛ إذ شعرت أن باب الغرفة التي يختليان فيها قد انفتح.
في حضرة إله الحب
بغتت ليلى؛ إذ رأت يوسف داخلا وهو يقول باسما: ما زالت روح يوسف ترفرف يا ليلى، ولكنها لم تقع إلا هنا.
فانتفضت ليلى ووهنت قوتها حتى كادت تقع عن كرسيها لو لم يسرع يوسف، ويمسك بيدها ويسندها إلى كرسيها، وعند ذلك لم يتمالك أن وضع يدها العاجية على ثغره، وطبع فيها قبلة لا تمحى، ثم جلس إلى جانبها وهي مستغرقة في تأثرها شارقة بدموعها، وبعد هنيهة قال لها: أين كبرياؤك يا ليلى، إنها تلذ لي؟ - الكبرياء للروح، وأنا ترابية فلا تتسفل إلي يا يوسف. - وهل يتأثر التراب يا ليلى؟ فلماذا تحاولين أن تبعدي روحك عني؟ - إن روحي أثيمة فلا تتدنس بها. - قولي هذا لمن يحسب الحب إثما، أما أنا فأقدس كل حب ولو كان فيه ألم لي، جئت إلى منزلك اليوم لكي أفتقدك، فلماذا أسأت الظن بي ورفضت مقابلتي؟ - أي حب تعني؟ - حبك لصديق خطيبك.
فارتجفت ليلى وقالت: قلت لك: إني أثيمة يا يوسف، وأنت تحاول أن تبررني. - إني أسمى مبدأ من أن أحسب تحول حبك عني إلى صديق إثما. - إني تعسة يا يوسف؛ لأنك لم تفهمني. - أفصحي فأفهم. - لم أحب صديقا، ولكني أحببت الكنز الذي لي، وهو مدفون معه، مائة ألف جنيه غرتني يا يوسف فحملتني على أن أنكر حبك، وأنكر أيضا بغضي لصديق، فهل صدقت أني ترابية، ولم يبق من روحانيتي إلا ما يشعرني بإثمي هذا؟ - ما هذا إثم يا ليلى؛ لأن الهيولى هي التي أحبت المائة ألف جنيه، فإذا كانت الروح لم تزل على عهدها، فحسبي أن أعلم أن روحي وروحك أليفان، ولو كنت في الثرى وأنت في الثريا.
فنظرت إليه ليلى نظرة لا يقدر أن يفهمها أحد غيره، وقالت: إذن ما زلت تحبني يا يوسف؟ - إذا بطلت أن أحبك يزول كياني بكليته، فما أنا سعيد إلا بهذا الحب، إن زواجك من صديق يفصل جسدك عني فصلا أبديا، قد لا أراك بعد الآن، قد لا أسمع بذكرك، قد أكون وراء الأوقيانوس، قد أكون في الرمس ... وأما روحي فتبقى تناجي روحك. - إن هذا الحب قد طهر روحي من إثمها يا يوسف، بل طهر جسدي أيضا، فما قيمة المائة ألف جنيه عندي بأكثر من قيمة دخان هذه السيكارة التي في يد المسيو جورجي، فهل قبلت توبتي يا يوسف؟
وارتمت عليه فتلقاها يوسف بين ذراعيه، وقبل ريشة قبعتها وهو لا ينبس ببنت شفة، وجورجي ينظر متأثرا من هذا المنظر وهو لا يستطيع أن يتكلم، ومن يجسر أن يتكلم في حضرة إله الحب؟!
أول قبلة
بعد سكوت مدة طويلة احتراما لإله الحب مسح جورجي ذوب عواطفه المتدفقة من مقلتيه، وقال بصوت متهدج: ما الذي ساقك إلى هنا يا يوسف؟ - ذهبت إلى غرفتك فوجدت رسالة على مكتبك علمت منها أنك جئت إلى هنا، فأسرعت عسى أن أرى ليلى، فصح فألي.
فالتفت جورجي إلى ليلى وقال: نعود إلى المائة ألف جنيه يا ليلى، كيف ...
فقاطعته ليلى قائلة: لقد تفلت على المائة ألف جنيه؛ لأني تطهرت من أقذار ترابيتي وأصبحت روحانية، وإذا بقيت روحانيتي تتشبث بالماديات فلا تليق للاتحاد بروحانية يوسف.
فضحك جورجي وقال: أما أنا فلا أفهم الروحانيات كثيرا، وما دمت في هذا العالم المادي أظل أهتم بالماديات، فأود أن أعلم حكاية المائة ألف جنيه الدفينة مع صديق الهيزلي؛ لكي أستخلصها منه إذا استطعت، ومن الحمق والجنون أن تتركيها بدعوى أنك روحانية؛ لأن المال لا يحط من مقام الروحانية. - إني غنية بسعادتي النفسانية عن كل مال، والمائة ألف لا تزيدني سعادة. - مهما كنت غنية بسعادتك يا ليلى فهذا المبلغ الكبير إذا كان حلالا لك، فهو لازم لصيانة سعادتك من صروف هذه الحياة الدنيا، فلا تدعي مبادئ يوسف تعديك إلى حد أن تتركي مائة ألف جنيه لشخص حيواني الطبع يتمتع بها.
فنظرت ليلى إلى يوسف كأنها تستفتيه، فهز يوسف كتفيه كأن الأمر لا يعنيه، فقال جورجي: أعوذ بالله من هذه المبادئ الخيالية، إذا كنتما تتفقان على ترك هذا المبلغ لمن ليس له فلا ريب أنكما أحمقان، فقولي لي يا ليلى ماقصة المائة ألف؟ - هي إرث لي من أبي غير الشرعي. - وكيف اتصلت بصديق الهيزلي ؟ - صديق الهيزلي ابن خالي، وقد وجد الوصية بالإرث الذي لي ضمن وصية أبيه له. - وكيف اتصلت الوصية بخالك ولم تكن مع أمك؟
وكانت ليلى تتكلم متلعثمة مزمهرة الوجه من الخجل، فقالت: لما زلت أمي الشقية زلتها سعى خالي لدى أبي غير الشرعي، واستكتبه تلك الوصية لوليد الفتاة التي أغواها واشترط ذلك في الوصية أن تبقى الوصية مكتومة إلى أن يموت، وإلا كانت باطلة، فكتمها خالي في وصيته لابنه، ولما مات خالي اطلع عليها صديق ابنه وحفظها معه، ولم يعلنها لأحد غيري، واشترط ألا يسلمني إياها إلا وأنا زوجته.
فقال يوسف: إذن صديق كان يطمع بالإرث لا بك؟ - نعم؛ ولهذا كنت أبغضه، وإنما طاوعته بالخطبة عسى أن أستحصل على الوصية قبل الزواج، لا تلمني يا يوسف أني أثمت بهذا الاحتيال؛ لأني أتذرع به لتحصيل حق لي لا لسلب حق غيري.
فقال جورجي: فعلت حسنا يا ليلى، فهل لك أن تقولي لي من كان أبوك غير الشرعي؟ - لا أستحي أن أعترف به؛ لأنه في نظر أهل هذا العالم رجل كبير. - من هو؟ - هو الأمير إبراهيم الخزامي.
فاختلج كل من جورجي ويوسف، وسطت عليهما بهتة عقلت لسانيهما، وكانا ينظران كل منهما إلى الآخر كأن أعينهما تتخاطب، فاستغربت ليلى بهتتهما، وبعد هنيهة قالت: أستغرب دهشتكما، فهل في الأمر سر أجهله وتعلمانه؟
فقال جورجي: نعم، هل كانت أمك تدعى سارة؟ - نعم هي سارة أخت حبيب الهيزلي، فهل تعرفها؟ - نعم أعرف فتاة بهذا الاسم معرفة سطحية كانت تربي ابن الأمير إبراهيم الخزامي، ولكني لم أعرف إلى من تنتسب. - إذن تعرف الأمير إبراهيم. - نعم، ولكن ... - ماذا؟ - أخاف أنه لم يبق لك من المائة ألف جنيه شيء يا ليلى. - لماذا؟ - لأن جدك غير الشرعي أوصى بثروته لاثنين. - من هما؟ - هما ابنا ابنه خليل الخزامي، وهذه هي الوصية.
ودفع جورجي الوصية التي كانت مع الكاهن أمبروسيوس إلى ليلى فقرأتها مبهوتة، وبعد أن انتهت منها قالت: وهل وجد الكاهن هذين الأخ والأخت؟ - نعم وجدهما هنا في ... - أين هما؟ - أحدهما هنا معنا.
فانتفضت ليلى ونظرت في يوسف مبهوتة كأنها لا تستطيع كلاما، فقال يوسف: يسرني جدا يا ليلى أن أكون ابن عمك لحما ودما.
فقالت ليلى: وهل كنت تعرف أنك الأمير يوسف الخزامي؟ - لقد أنكرت الإمارة يا ليلى؛ لكيلا تنحط روحي بالماديات العالمية المتسفلة. - أكنت وأنت أمير تحب ابنة زنى تتشبث بالماديات لتنكث العهد الروحاني؟ - إنك ابنة عمي يا ليلى في الجسد، وكلي بالروح.
وما تمالك يوسف أن طوقها بذراعه وقبلها أول قبلة كانت أطهر القبلات، التي أذنت السماء بها لأهل الأرض، وقال لها: قبلي عمك خليلا يا ليلى، قبليه.
فاستولت على ليلى دهشة كادت تذهب بلبها، وكانت عينا جورجي مغرورقتين، فلم يتمالك أن طوق ليلى بذراعيه قائلا: لا تضني على عمك بقبلة يطهرك بها من رجس أبيك.
وهنا ارتمت ليلى على جورجي وعانقته، فقبل خدها وقبلته وهما يمزجان الدمع بالدمع.
وبقي الثلاثة يتلاثمون بضع دقائق ودم القرابة فائر فيهم متدفقا، كأنه يريد أن يتمازج تمازج العواطف الثائرة فيهم، ثم جعلوا يروون تفاصيل الحوادث القديمة التي شتتت الشمل، ثم الحوادث الأخرى التي جمعته، وما ارفض ذلك الاجتماع النادر المثال حتى خيم الغسق، فودعتهما ليلى على أمل اللقاء القريب لتقرير الحياة المستقبلية.
تتمة التاريخ
لم تبق حاجة في نفس القارئ سوى أن يعلم ماذا انتهت إليه أحوال أشخاص هذا التاريخ، أما فهيم رماح الذي اكتشف القارئ أخيرا أنه هو سليمان الخزامي ابن الأمير إبراهيم الخزامي، فقد حوكم بتهمة تجريعه الدواء للفتاة دعد التي أغواها حتى أجهضت، وأسقطت جنينها وماتت على أثر الإجهاض، وحكم عليه بالسجن 15 عاما، وحكم على أمها ماري الجهوري بالسجن 7 سنين؛ لأنها وافقت فهيما على تجريع ابنتها الدواء، وأما الدكتور صديق الهيزلي فلما لم تجد النيابة شهودا تثبت عليه التهمة حفظت أوراق قضيته، وأما جميل مرمور ونديمة الصارم فلما علما بوقوع فهيم في المصيبة هجرا القاهرة إلى بلدة أخرى، كخليلين بعد أن كنزا من فضلات ثروة فهيم ما كنزا.
وحدث في تلك الأثناء أن السلطان أعلن الدستور في تركيا، فأعلن جورجي ويوسف أنفسهما الأول باسمه الأمير خليل الخزامي، والآخر باسمه الأمير يوسف الخزامي، وبرحا إلى دمشق لاستخلاص ما بقي من ثروة الخزامي، بعد أن بدد سليمان وفضل ابنا إبراهيم منها ما بددا، وبعد أن حولا منها ما حولا إلى مصر باسم فهيم رماح كما علم القارئ.
وبعد أن وضع الأمير خليل يده على الثروة، التي أوصى بها أبوه لحفيديه عاد إلى مصر، حيث احتفل بزفاف ليلى إلى يوسف.
أما هيفاء فكانت بعد حين نصيبا صالحا لنجيب المراني، الذي ربيت معه ليلى كأخته.
وهكذا شاءت الأقدار أن تجمع شمل جانب من أسرة الخزامي، بعد أن تشتت، وأن تشتت شمل الجانب الآخر بعد أن كان متجمعا ومتعاونا على الكيد والفجور.
صفحة غير معروفة