وأحس عبد الشكور كأن حملا ثقيلا قد انزاح عن كاهله. لم يعد في حاجة أن يحذر أباه من المجيء مرة أخرى إلى البنك، كما أنه ليس في حاجة أن يخرج مع أبيه إلى الباب الخارجي ويعرف موظفو البنك جميعا مقدار أبيه الواضح في ملابسه. ليس في حاجة إلى أي شيء من جميعه. ووجد نفسه ينحط على كرسيه وهو يجتذب نفسا عميقا من أسفل مكان في رئتيه. ودق الجرس وأمر بسيوني الساعي أن يحضر له فنجان قهوة سكر زيادة.
الفصل التاسع
تحسبا منه أنه ربما يحتاج إلى صديقيه الألمانيين حرص عبد الشكور أن يوثق صلته بمارك وهوفمان؛ اللذين داوما على مكاتبته منذ وصولهما إلى ألمانيا، وعرف منهما أن كليهما يقيم في برلين الغربية، فكان هذا أقوى سبب أن يجيب رسائلهما، وقد عرف عنهما أنهما يعملان كلاهما في عملين مرموقين؛ مما يفتح المستقبل أمامهما، كما أنهى إليهما هو ما بلغه في البنك من قفزات. •••
وكان عبد الشكور أحرص ما يكون أن يمر في كل يوم بصبحي حسان ويلقي عليه تحية الصباح، وكثيرا ما كان يستدعيه صبحي لينادمه؛ فقد أنس إليه ووجد في حديثه متعة لا يجدها مع غيره.
وكان عبد الشكور حريصا في زياراته الصباحية على أن يمازح نبيل ويعرض خدماته، فإذا كان لدى صبحي ما يشغله جلس إليه نبيل. وفي واحدة من هذه الجلسات قال نبيل: الليلة ستذهب إلى السينما. - هاك المفتاح. إنما قل لي. - أقول لك. - أهي واحدة. - يا نهارك أسود! كيف تتصور هذا؟ - إذن فهن كثيرات. - بطبيعة الحال. - وما الخطر في أن تكون واحدة. - وهل مثلي يستطيع أن يتحمل تكاليف الصديقة الواحدة. - أتكلفك أكثر من الفتيات العديدات؟ - لكل واحدة من الكثيرات أجرها المعلوم لا تتعداه؛ أما الواحدة فإنها تفرض نفسها عليك، وتصبح في الإنفاق عليها ألعن من الزوجة ومصاريف العيال. هي مرة أو اثنتين ثم أبحث عن غيرها. - ودائما تجد غيرها؟ - أكثر من الهم على القلب. - فلماذا يا أخي لا تكرمني معك ببعض الهم؟ - ماذا تقصد؟ - أنت من الساعة التاسعة إلى الثانية عشرة لا بد أن تذهب إلى البيت. فما ضر لو ذهبت أنا الآخر إلى بيتي ووجدت فيه ...
ولم يكمل عبد الشكور بل قاطعه نبيل: فهمت، لا تكمل. - يا أخي هل كان لا بد لي أن أعرض أنا. - والله غاب عن ذهني. أنا آسف. - لا، العفو. - الليلة ستجد ما تريد. - حفظت. شكرا. - لا شكر على واجب. - الآن أدخل إلى صبحي بك. •••
منذ ذلك اليوم تعرف عبد الشكور على الكثيرات من الفتيات، وحرص أن يسجل أرقام التليفونات لكل منهن. •••
طرق عبد الشكور باب صبحي بك ولم ينتظر الإذن بالدخول؛ فقد كان يعلم أنه وحده: صباح الخير. - وهو كذلك. - إجابة لم أسمعها قبل ذلك في حياتي كلها. - إنها التي عندي. - ولماذا لا يكون عندك صباح الخير. - لأنه ليس خيرا. - لماذا؟ - والسلام يا عبد الشكور، خل الطابق مستورا. - ولماذا يكون مستورا؟! وإن أردت أن تستره على الجميع فلماذا تستره علي وأنا أحس أنك أصبحت تأنس إلي وتطلعني على دخائلك لا تستثني من ذلك الأسرار المنزلية. - هذا صحيح. - فما الجديد؟ - يا سيدي جماعة من الذين كانوا على ثراء فاحش قبل الثورة يريدون أن يبيعوا بعض الأثاث في بيوتهم ليستعينوا بثمنه على الحياة. - عظيم. وما شأننا نحن. - صافيناز عرفت الخبر. - هنا المصيبة. - ستجن وتجنني إن لم تشتر طاقم الاستقبال وإحدى السجاجيد. - فعلا لك حق؛ ليس صباح الخير. هل الثمن كبير؟ - طاقم الاستقبال من الأبيسون الحرير. - ماذا؟ ماذا قلت؟ - لك حق. الأبيسون قماش فرنسي لم يعد أحد يصنعه الآن، وهو من خيوط الحرير، وإن كانت بعضهن تصنعه من الصوف، والفرق شاسع في الثمن بين النوعين. - فهمت. - فكل أبيسون حرير الآن ثمنه خيالي لأنه تاريخي. - بمعنى؟ - بمعنى أن الطاقم الذي تريد صافيناز شراءه ثمنه ثمانية آلاف جنيه.
واتنتر عبد الشكور من كرسيه صائحا: بكم؟ - بما سمعته. اقعد. - ومتى أقف إذن؟! إن مبلغا كهذا لا بد أن يسمعه مثلي واقفا إن كان قاعدا، وقاعدا إن كان واقفا.
وضحك صبحي وقال: احتراما؟ - احتراما وتوقيرا ودهشة وذهولا وكل ما يرد على ذهنك من هذه المعاني وأمثالها والقريبة منها. - لك حق. والسجادة ألف وخمسمائة جنيه. - وهذا أيضا يستحق الوقوف. - أرأيت أنه ليس صباح خير. - فعلا سعادتك محق. إنما قل لي سعادتك هل هناك مهلة لهذه الصفقة. - أسبوع. - صباح الخير. - هل جد جديد؟ - قل صباح الخير وأمل في تلميذك خيرا. - هل عندك وسيلة؟ - أمهلني ثلاثة أيام. - أهذا معقول؟! - الفأر أنقذ الأسد. - على كل حال ليس لي أمل إلا في الفأر. - قل صباح الخير. - ليكن صباح الخير. - سلام عليكم. - وعليكم السلام.
صفحة غير معروفة