فإذا التفتنا إلى الجانب الآخر للنسبية النقدية وجدنا عددا من العوامل لا يمكن إغفالها في هذا العصر الذي تتحكم فيه أجهزة الإعلام، وتتحكم في أجهزة الإعلام فيه قوى اقتصادية وسياسية لا سبيل إلى إنكارها. وأجهزة الإعلام في أبسط صورها تتمثل في القدرة على إشاعة أنماط وموضوعات فنية بحيث تصبح معيارية؛ أي إنها تتحول إلى مثل يحاكيها الناشئة وتشكل أذواقهم الفنية، أو تعدلها على الأقل، بحيث تخلق الجو المناسب لترويج أعمال فنية بعينها، حتى إن سوق الأدب قد أصبح - شأنه شأن كل سوق - يخضع للعرض والطلب، وما على الأجهزة الأدبية - كما ذكر «الدوس هكسلي» في مقاله «كتاب وقراء» - إلا أن تعمل على إيجاد الطلب الذي يضمن رواج المعروض! ولا شك أن النقاد على المستوى الإعلامي أحيانا يصبحون - دون أن يدروا - مروجين لبضاعة قد تكون وقد لا تكون أنموذج الأدب الرفيع. فإذا أخذنا في اعتبارنا التوسع الهائل والتشعب والتنوع الذي طرأ على أجهزة الإعلام أدركنا مدى خطورة الدور الذي تلعبه في تحديد المعايير الأدبية. وهذه الأجهزة في مجموعها تشكل ما يسمى بالمؤسسة الأدبية التي تمتد من الجامعات وما يقوله الأساتذة في قاعة الدرس وفي الكتب، إلى الصحف وما ينشر فيها، وأخيرا إلى الإذاعة والتليفزيون.
وتصب كل العوامل آخر الأمر في صورة المؤسسة الأدبية العالمية؛ أي إن ما ينطبق على بلد بعينه يمكن أن ينطبق على أشكال الأدب وفنونه في العالم الذي يفقد اتساعه كل يوم، ويضيق باطراد، حتى لربما قرأت رواية صدرت في بلد بعيد قبل أن يقرأها أبناء ذلك البلد! والمؤسسة الأدبية العالمية جهاز معقد في تركيبه وأدائه، بسيط في مفهومه وجوهره؛ فهو يعني باختصار أن هناك جهازا غير مرئي يتكون من المعايير التي نحكم بها على الأدب، ويعتمد على الأعمال الأدبية التي ورثها العالم الحديث من أوروبا. وهذا الجهاز لا يتكون من معايير فحسب، بل هو يتضمن قيما معينة ليست في حقيقة لأمر قيما إنسانية خالصة، ولكنها قيم اجتماعية وسياسية واقتصادية. ولذلك فربما فرضت المؤسسة عملا أدبيا أو رفضته بسبب المقاييس الفنية الدقيقة أو المادة الإنسانية التي تحدثت عنها أولا. وربما كان خير مثال على وجود هذه المؤسسة هو لجنة ترشيح المؤلفين لجائزة نوبل. فهو مثل ملموس واضح؛ إذ لا يمكن للجنة أن تختار إلا الأعمال التي تجسد القيم التي فرضها عالم القوة في أوروبا على الدنيا. ولكن الأمثلة الأخرى كثيرة، وهي لا تعنينا بقدر ما يعنينا وجود الجهاز غير المرئي. فكيف يعمل هذا الجهاز وما سبيل الأدب العربي إليه؟
البطولة والتميز العنصري
عندما كان الشعراء العرب في الماضي يجتمعون لدى الحاكم ليتطارحوا الشعر، كانوا ينصبون أحدهم حكما، وربما كان شاعرا أقل شأنا، بل ربما لم يكن شاعرا بالمعنى المفهوم، بل مجرد عالم باللغة وتاريخ الأدب، ولكن أهم صفة ينبغي أن يتصف بها هو علمه بالمعايير الفنية التي يقاس بها الشعر الصادق ووعيه واستيعابه التام لقيم العرب أو للقيم والمفاهيم التي يحب العرب أن تسود؛ أي إنه كان ممثلا للمؤسسة الأدبية العربية. وعندما تجتمع «لجنة القراءة» - أي اللجنة التي تختص بفحص النصوص الأدبية إما للتمثيل أو للإذاعة أو للنشر - فإنها تمثل أيضا المؤسسة الأدبية في مكان محدد وزمان محدد، وعندما «يقرر» الأستاذ في الجامعة «تدريس» رواية بعينها للطلبة فإنه أيضا - في غالب الأحيان - يمثل المؤسسة الأدبية التي ينتمي إليها في زمانه، وذكر القارئ في هذا المجال هو المفتاح الوحيد لإدراك مدى سلطة هذه المؤسسة التي نعيش جميعا في ظلها دون وعي كامل.
إن الطفل الذي يفتح عينيه على كتاب من قصص البطولة - سواء كانت هذه القصص خيالية أم واقعية - يتشرب إلى جانب المتعة الفنية قيم البطولة ومفهوم البطولة. وإذا كانت هذه القصص بوجه عام تنزع إلى المبالغة أحيانا في تصوير قدرة الإنسان على تخطي الصعاب، وتحقق في الخيال ما يصبو إليه الإنسان في دنيا الواقع؛ فهي تتفاوت في تصويرها وتحديدها لما يكمن خلف البطولات الفردية أو الجماعية من قيم. فكل شعب له القصص التي تمجد تاريخه، وهذه القصص شائعة على المستوى الشعبي، بل إن بعضها مكتوب شعرا وتحول إلى ملاحم تروى وتتناقلها الأجيال، ولكن المجد باعتباره قيمة مطلقة يرتبط بقيم أخرى من حق أجيالنا الجديد أن تعيد النظر فيها. خذ مثلا قيمة الانتصار على الأعداء باعتباره قيمة في ذاته؛ إنه يرتبط بمفهومنا للأعداء. من هو العدو؟ إن العدو في التاريخ الأدبي ليس دائما الطاغي الباغي أو المعتدي الآثم! إنه أحيانا شعب آمن مسالم يتعرض للغزو والسلب والنهب، وكم من قصص البطولة ما يصور الغزاة الفاتحين أروع تصوير ويسبغ عليهم من هالات المجد ما يعجز اللسان عن وصفه! حقيقة إن الناشئة في بلد ما يحتاجون إلى ما يذكي فيهم حب الوطن والإعجاب والإكبار لأبناء وطنهم من الأسلاف الميامين، ولكنهم في غمرة ذلك الإعجاب وفي انتشائهم بما يدف في جوانح قصص البطولة من مشاعر، يتشربون قيما أخرى مثل الإيمان بتميز الجنس الذي ينتمون إليه على سائر الأجناس، وحقه في السيطرة على سائر أمم الأرض؛ مثلما حدث في تاريخ أوروبا الحديث! وربما لم يكن الامتياز العنصري هو القيمة الصريحة، ولكن امتياز الأمة (الذي يرجع في جذوره إلى امتياز القبيلة أو حتى العشيرة) يوصى به ويعمل على غرسه. وإذا كان الأدب الأوروبي يحفل بمثل هذا اللون من القصص، الشعري منه والنثري، فالأدب العربي لا يخلو منه، وحسبنا أن ننظر في أيام العرب (في الجاهلية مثلا) حتى نرى نماذج ساطعة منه. قد يقول قائل إن القهر والبطش الذي تصوره هذه القصص التي حفظها لنا تراثنا الشعري كان انتقاما لضيم وقع، أو ثأرا لهزيمة سابقة حلت بالقبيلة، ولكن قيم الثأر والانتقام في ذاتها ليست بالقيم الإنسانية العليا؛ أي إنها لا تبرر المذابح والسلب والنهب والسبي والاستذلال الذي يتلو النصر أيا كانت الذرائع التي يقدمها المدافعون عنها. (انظر قصة الصراع بين قبيلتي طسم وجديس في اليمامة، كتاب أيام العرب في الجاهلية لجاد المولى) بل إن ملحمة الإلياذة نفسها تقوم على قيمة قد يشك الباحث المحدث في صدقها، وهي الثأر من مختطفي امرأة. إن الملحمة تروي لنا حربا ضروسا امتدت عشرة أعوام وقتل فيها الآلاف من أجل استعادة هيلين اليونانية من «باريس» الطروادي الذي اختطفها من بلادها وعاد بها إلى بلاده. والأسطورة التي تساندها أسطورة التحكيم بين جمال الربات الثلاث الذي قبله باريس ورشوتهن له؛ تتضمن قيما لا يسع الباحث الحديث إلا أن يعيد النظر فيها!
والنتيجة المحتومة لنزوع كل شعب وكل لغة إلى تمجيد البطولة في الأسلاف في قصص وشعر ومسرح هي ترسيخ قيم معينة في وجدان كل أمة - مهما صغر شأنها في عالمنا الحديث - مثل تمجيد القوة والغلبة، وهي قوة عسكرية بالدرجة الأولى، سواء كان المحارب يمتشق حسامه وينزل حومة الوغى بنفسه، أم يضغط على زر آلي في جهاز بالغ التعقيد ليطلق صاروخا أو يلقي قنبلة! والأدب الذي ينطوي على مثل هذه القيم قد يتفاوت من شعب إلى شعب في دقة التصوير ورشاقة العبارة وإحكام البناء، وما إلى ذلك من ظواهر الصنعة الفنية، ولكنه في النهاية يتصل بالشعب نفسه؛ بتاريخه وثقافته التي تنتظم عددا من القيم لا يكاد أن يكون عليها خلاف، وفي وسطها عند المركز معنى البطل والبطولة!
إن تفسير الطاقة البطولية مرتبط بتراث الأمة الإنساني، وهو التراث الذي يستتبع مجموعة من التقاليد والأعراف والقيم تصبح علما على الأمة. فالتقاليد العربية المعروفة مثل المروءة والشجاعة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف والوفاء بالوعد، كلها ترتبط بصورة الإنسان المثالي - أو البطل - التي خلقها الأدب؛ استلهاما للحياة وإلهاما لها، وتقاليد الغلبة والمخاطرة وارتياد المجهول والاختراع والاستعمار - بالمعنى الحسن والمعنى السيئ جميعا - تمثل جزءا من صورة البطل في الأدب العربي. فالأدب الغربي يحفل بصور الأسفار البحرية واكتشاف الجديد وعمران الأرض وأمانة الكلمة، ويدين ما على نقيض ذلك.
وإذا كانت آداب الأمم تشترك في جوهر واحد؛ هو الاحتفال بالغالب المنتصر، فهي تتفاوت في تفسير سر النصر والغلبة. فبعضها يرجعه إلى عبقرية علمية، والبعض يرده إلى طاقات جسدية ونفسية، والبعض الآخر يعزوه إلى قوى غيبية مثل الآلهة أو الأقدار، والأدب يتفاوت هو الآخر في تصويره لهذه التفسيرات من عصر إلى عصر، وقد استطاعت دول أوروبا الحديثة أن تفرض على العالم تفسيرها الخاص لقوتها وغلبتها، وأن تقنع كثيرا من الشعوب حديثة العهد بالاستقلال والنهضة بوجهة نظرها الخاصة فيما يمثل مقومات الإنسان المثالي عبر العصور. وفي نطاق الدراسة الأدبية استطاع النقاد والمستشرقون أن يختاروا من آداب الأمم الأخرى ما يناقض مفهوماتهم تلك حتى يزداد وضوح الاختلاف بينهم وبين الآخرين، وحتى يؤمن الآخرون أنهم قد تخلفوا عن ركب الحضارة للأسباب التي قررها الغرب ثم رسخها. فماذا فعل العرب إزاء هذا الأدب؟ وماذا فعل المستشرقون بالأدب العربي؟
القيم وعالم اليوم
إذا كانت صورة البطولة وقيمها وما ارتبط بها من تفسيرات تمثل جانبا مهما من التراث الأدبي الإنساني، فإن ثمة صورا وقيما أخرى لا تقل عنها أهمية، تتضمنها علاقة الرجل بالمرأة وتفصح عنها شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة، وبخاصة ما ينبع فيها من النظام الاقتصادي والأوضاع السياسية ويصب فيها. وفي هذا جميعا ينزع الأدباء الذين يحظون باعتراف المؤسسة الأدبية إلى بلورة قيم ومثل تتصل بمفهومهم للإنسان المثالي سلبا أم إيجابا؛ فإدانة الجريمة موضوع عالمي لا خلاف عليه، ولكن ما يعتبر جريمة في مجتمع قد لا يعتبر جرما في مجتمع آخر، وما يتفق الجمهور عليه في زمن ما قد ينبذه الجمهور في زمن لاحق. ولهذا وجدنا من الأدباء الكبار من يطويهم النسيان بعد فترة أو من لا يحظون بأي اعتراف بهم في حياتهم على الإطلاق؛ لخلاف في المفاهيم والقيم مع المؤسسة الأدبية.
صفحة غير معروفة