معنى الأستاذ والأستاذية
جرى العرف في الحياة الجامعية على المقابلة بين كلمة «أستاذ» المعربة، وكلمة «بروفيسور» التي شاعت في اللغات الأوروبية الحية اليوم؛ لتعني أعلى منصب علمي في الجامعة - أي المنصب الذي يتيح لصاحبه أن يرشد الطامحين من الطلاب إلى سبل البحث العلمي والدراسة المتعمقة؛ أي إن الكلمة قد اكتسبت معنى جديدا يختلف عن معناها القديم الذي ساد حتى القرن الخامس عشر الميلادي والذي ذكره ابن تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة» قائلا: «الأستاذون هم المعروفون بالخدام والطواشية، وكان لهم في دولتهم المكانة الجليلة، ومنهم من كان من أرباب الوظائف الخاصة بالخليفة، وأجلهم المحنكون، وهم الذين يدورون عمائمهم على أحناكهم كما تفعل العرب والمغاربة.» بل إن الكلمة قد أصبحت بديلا للكلمات التي ألفناها في كتب التراث العربي مثل: «العالم العلامة والحبر الفهامة»، أو «الفقيه» أو «الشيخ» وكلها ذات أصل ديني تماما مثل كلمة «بروفيسور» الإنجليزية، بل وكلمة «دكتور» بمعنى معلم التي كانت ترتبط بالدين والقانون أول الأمر، ثم تحولت إلى معناها الحالي.
وقد حاكت الجامعة المصرية - منذ نشأتها - نظم الجامعات الأوروبية، فوضعت سلما لوظائف هيئة التدريس، وعلى قمته «أستاذ الكرسي»؛ أي «أستاذ المادة» الذي يرجع إليه علميا وإداريا في كل ما يتصل بها.
ولدينا في جامعة الأزهر النظام القديم؛ أي نظام الشيخ وتلاميذه، الذي يختلف بطبيعة الحال عن النظام الغربي، ولكن النظامين يشتركان في أن الأستاذ عادة ما يكون له أسلوب خاص في البحث، يمكن اعتباره منهجا فكريا متميزا، يقترن باسمه، ويكون علما عليه.
ولما كان تطور العلم يسير في حلقات متشابكة متداخلة يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها برقاب بعض، أصبح عمل كل أستاذ بمنزلة امتداد لعمل من سبقه، حتى وإن اختلف معه بعض الشيء في مذهبه؛ إما بالتعديل الصريح، أو بالتطوير غير المباشر، أو بمجرد التشذيب والتهذيب. بل إن التلميذ قد يأخذ عن أستاذه مذهبه فيستخدمه في الإتيان بالجديد الذي يحسب له لا لأستاذه.
ولكن ما جوهر عمل الأستاذ؟ وما طبيعة علاقته مع طلابه؟ إجابة السؤال الأول يسيرة؛ فجوهر عمله هو البحث العلمي بأشكاله المختلفة، وأهمها القراءة - بطبيعة الحال - بغية متابعة النتائج التي تنتهي إليها بحوث الآخرين والاستفادة منها في بحوثه الخاصة، ويعني هذا أن الجانب الأكبر من وقته ينبغي أن يخصص للدراسة، سواء كان مكانها مكتبه في الجامعة (كما هو الحال في أوروبا) أم كان مقرها منزله؛ لعدم وجود مكان للقراءة في الجامعة، أو لعدم وجود «مكتب» له أصلا في جامعات اكتظت بالطلاب حتى طفحت. وإلى جانب هذا يطلب منه إلقاء عدد محدود من المحاضرات على الطلبة، سواء في مرحلة الليسانس أو البكالوريوس، أو في مرحلة الدراسات العليا. وعادة ما تكون هذه المحاضرات نابعة من طبيعة البحث الذي يقوم به، وتابعة له ربما أضافت إليه وزادته ثراء؛ نتيجة المناقشة مع الطلاب .
أما علاقته مع الدارسين فهي باختصار علاقة توجيه لا علاقة تلقين؛ أي إن الأستاذ لا يقدم «معلومات» للطالب، بل يوجهه إلى مصادر المعلومات، فإذا أحاط بها الطالب ناقشه الأستاذ فيها على ضوء مذهبه الفكري الخاص. وقد يختلف الطالب مع أستاذه هنا، وقد يظهر من الاستقلال الفكري والأصالة ما يجعله يثور على أفكار أستاذه؛ إما بالرفض أو بالتعديل، وهنا يكون من حق الطالب اختيار أستاذ آخر يقبل مذهبه الفكري الخاص، ما دام علميا موضوعيا يستند إلى ثوابت المنهج العلمي العام الذي لا يختلف من أستاذ إلى أستاذ. وهذا هو مربط الفرس كما يقولون! إذ إن كل هذا الكلام يفترض الجدية من الطالب والأستاذ جميعا، والسعي لتحقيق غاية البحث العلمي، وهي إضافة الجديد إلى عالم المعرفة الإنسانية؛ وهذا هو ما نفتقده في جامعاتنا، باستثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها.
فلنتجاوز أسباب هذه الظاهرة وهي الأسباب التي لا ينكرها أحد (مثل تحول مفهوم الجامعة تحولا جذريا بسبب الأعداد الهائلة للطلاب، وضيق المكان، وقلة الموارد المالية، وما إلى ذلك)، ولنتأمل النتيجة التي ربما غفل عنها الكثيرون، وهي تدهور وضع الأستاذ في الجامعة بصفة خاصة، ثم تدهور صورته في المجتمع بصفة عامة؛ فهو مضطر إلى بذل جهده الأساسي في التلقين، لا في البحث العلمي، وفي الإشراف على رسائل لا يصل الكثير منها إلى مستوى البحث العلمي الناضج، أو إلى ممارسة أعمال خارج نطاق العمل الأكاديمي المحض؛ إما ابتغاء الرزق أو لأن المجتمع في حاجة ماسة إلى هذه الأعمال. والسبب - في رأيي - في هذا كله هو فقدان الأستاذ نفسه معنى الأستاذية؛ فهو يترقى في السلم الوظيفي إلى درجة أستاذ، دون أن تكون له مقومات الأستاذ التي ذكرتها آنفا؛ مثل المذهب الفكري المحدد الذي يطرحه في كتبه ودراساته ومقالاته، ودون أن يكون قد جعل من حياة الجامعة حياة كاملة تتصل فيها قاعة الدرس بغرفة المكتب في المنزل؛ بحيث يكون نشاطه هنا وهناك «عملا» متواصلا بالقراءة والبحث والكتابة.
ويكفي أن نسأل هذا السؤال: كم من الأساتذة الذين تحفل بهم جامعاتنا كتب كتابا «جديدا» أو قام ببحث «جديد» بعد حصوله على الأستاذية؟ إن النسبة ضئيلة ومحزنة، بل لقد اعتدنا في مجتمع الجامعة حديث «الإعارة» إلى البلدان العربية الشقيقة؛ حيث يتحدد الهدف في جمع المال ، وقد تطول الإقامة وتمتد، وقد يعود الأستاذ أو لا يعود، وقد يتحول إلى مسافر دائم التنقل والتجوال مدفوعا بضيق ذات اليد أو بالرغبة في بناء رصيد مالي يقيه وأسرته غائلة الزمن. ولست أملك لهذه الحال حلولا، ولا أعرف منها مخرجا، ولكنني أنظر فحسب إلى النماذج المشرقة من جيل الأساتذة الذين سبقونا وأتطلع إلى يوم يعود فيه معنى الأستاذ إلى ما كان عليه في الجيل الماضي، وفي ظني أن هذا ليس محالا ولا متعذرا، بل لن يكون عسيرا إذا ذكر كل أستاذ معنى الأستاذية، وأصر على التمسك بقيمها ومثلها في زمن اشتدت فيه الحاجات إلى القيم والمثل.
النقد الأدبي ... والأوهام!
صفحة غير معروفة