لم أكن أتصور حين دخلت قاعة المحاضرات الفسيحة في مبنى كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر أن أجد هذا الحشد الحاشد، أو أن أجدهم من أبناء الريف! كنت أتوقع أن يحضر عدد محدود من أسرة الطالب الذي وقف ليجتاز امتحان درجة الماجستير (التخصص)، ولكنني لم أتصور أن تخرج بلدة عن بكرة أبيها لتحيته والشد على يده يوم الامتحان! وعلمت فيما بعد أن طالب الدراسات العليا ذاك هو خطيب مسجد البلدة، وأن له صوتا مسموعا بين أفرادها، كما علمت أن رئيس لجنة الامتحان وهو الدكتور محمد الطيب النجار - العالم الفاضل ورئيس جامعة الأزهر السابق - كان قد تدخل ليفض خلافا وقع في البلدة وراح ضحيته كثيرون، وأنهم ممتنون له وجاءوا ليعربوا عن شكرهم وعرفانهم!
كان المشهد حيا وساخنا، وكانت الملامح تنبئ عن متابعة دقيقة للمناقشة، وعن استيعاب كل ما يقوله الممتحنون، رغم أن الموضوع علمي شائك وعسير المأخذ؛ ألا وهو الدراما الدينية في التليفزيون! وكنت أوقن أن البحث الذي اضطلع به مدرس شاب في الأزهر وهو «عبد ربه أحمد الشحوت» سوف تكون له أهميته، وسوف يحتفي به كل مسئول عن الدراما في التليفزيون، وشاركني هذا اليقين الدكتور محيي الدين عبد الحليم الذي اشترك معي في الإشراف على الرسالة؛ إذ إنه بحث ميداني استطلع آراء مئات المشاهدين في الحضر والريف، من المتعلمين وغير المتعلمين، وانتهى إلى أن الدراما الدينية التي يقدمها التليفزيون المصري حاليا تفتقر إلى الكثير، وأنها بحاجة إلى تعديل كبير في المسار.
وأول عقبة تقف في طريق التذوق الواسع النطاق لهذا اللون من الفن الدرامي هي اللغة؛ فاللغة الفصحى المستخدمة تستعصي في كثير من الأحيان على الفهم، وتقف حائلا دون وصول المعاني والمشاعر بيسر إلى جمهور المشاهدين، وأغلبهم كما يقول الباحث من غير المتعلمين ومن الأميين. ولذلك فقد أوصى الباحث بمراعاة المستويات اللغوية المختلفة للمشاهدين عند تقديم هذا اللون من الدراما، ومعنى هذا ببساطة استخدام لغة فصحى هي أقرب ما تكون إلى العامية المصرية حتى لا تنسد قنوات الاتصال، وحتى لا تتعثر «الرسالة الإعلامية» في الطريق.
أما ما لم يقله الباحث - وهو ما نبهت إليه الدكتورة فوزية فهيم أثناء مناقشتها للطالب - فهو اقتصار الدراما الدينية على التاريخ الإسلامي. والإسلام ليس تاريخا فحسب، ولكنه أيضا واقع حي؛ أي إن الاقتصار في الدراما الدينية على عرض التاريخ يوحي للمشاهد بأننا أمام تاريخ باد وانقضى، لا أمام حاضر زاهر زاخر بكل المعاني والقيم التي أتى بها الدين الحنيف، وإذا كنا بحاجة إلى التذكير بهذه المعاني التي لا تخلو منها فترة من فترات تاريخنا الإسلامي الطويل. فينبغي أن نذكر أيضا أننا لم نتخذه وراءنا ظهريا، ولم نجعله نسيا منسيا، وكان أكبر دليل على هذا - أثناء المناقشة - وجود أهل بلدة الطالب أمامنا بأصالتهم العميقة الجذور، وما تتضمنه هذه الأصالة من معان لم تعبر عنها تمثيلية واحدة من التمثيليات التاريخية التي يقدمها التليفزيون.
ودفعني الموقف إلى تأمل هذا المشهد الحي من حياتنا المعاصرة: لقد نزغ الشيطان بين أهالي البلدة، فأوقع بينهم العداوة والبغضاء. ثم تدخل عالم جليل فأصلح ما بينهم، فإذا هم بنعمة الله إخوان، ولولا فضل الله ما ساد الوئام بينهم؛ ولو أنفق الناس ما في الأرض ما ألفوا بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم! أوليس هذا موضوعا دينيا جديرا بمعالجة درامية شائقة؟ كيف تحولت البغضاء إلى حب؟ وكيف انقلب العداء إلى وفاق وتضامن؟ لقد وقر الإيمان في القلب وصدقه العمل؛ وهذه هي أخلاق الإسلام التي نحتاج إليها اليوم أكثر من أي عصر مضى!
وذكرت كلاما مشابها قاله الممثل العبقري الراحل عبد الوارث عسر، في تعقيبه على تمثيلية إذاعية تناولت مثل هذا الموضوع، وأذيعت في أوائل الخمسينيات، وتركت أثرا لا ينمحي في نفسي؛ إذ قال إن الشيطان يعرف طريقه إلى قلوبنا بأن يغشي عيوننا عن معنى الحياة وامتدادها بعد الموت. فلا نرى بسببه إلا مغانم الدنيا الهزيلة، ولا نحس إلا بمتاعها القليل وعرضها الزائل؛ ومن ثم نتحول إلى وحوش يتربص بعضنا بالبعض، ناسين ذلك الامتداد الروحي العظيم خارج حدود المحسوسات.
لم يكن بين الموجودين في القاعة من أطلق لحيته، أو تزيا بزي يميزه عن سائر أهل الزمان، فالمدرسون الجالسون في الصف الأول يرتدون الحلل العادية، وأهل البلدة يرتدون ملابس أهل الريف. ولكنك كنت تحس أن روح الإسلام تغمر الجميع، وأن القيم والمثل العليا التي تنشدها في التاريخ ماثلة أمامك في الحاضر الحي النابض! وأحسست بالفوارق التي صنعتها الحضارة وأقامتها بين الريف والحضر تتهاوى. فالكل مؤمن يعرف أن الله لا ينظر إلى صورنا، ولكن إلى ما في قلوبنا.
وامتد بي سيال الفكر إلى موضوعات الدراما الدينية التليفزيونية المتكررة التي تدور حول أصول العقيدة، وتعجبت في نفسي؛ هل ثم من يحتاج في هذا الزمن إلى مناقشة وجود الله سبحانه وتعالى؟ إن الدراما التليفزيونية تخاطب المؤمنين، ولن يشاهدها من يخالجه شك في الدين، ولو شاهدها ما تغير وما اقتنع! لا بد من إعادة النظر إعادة شاملة في هذه الموضوعات أيضا، إلا إذا كنا ننتج هذه المسلسلات ابتغاء للربح من بيعها بالدولار لغيرنا، وهذا سبب واه لا يبرر كل شيء! والموضوع بعد شاسع، وربما عاد إليه الباحث في رسالة الدكتوراه.
عن الاغتراب والعودة
لا نختلف عن سائر بلدان الأرض في أن بيننا من الأدباء من يرحل عن وطنه فترة من الزمن ثم يعود إليه، ومن يرحل فلا يعود إلا لزيارة الأهل حينما يغلبه الحنين، وفي أن أدباءنا يحسبون لنا أو علينا سواء عاشوا بيننا أو بعيدا عنا، وقديما قال مؤرخ أدبي إنجليزي: «سوف تجد أدباء أيرلندة في كل مكان إلا في أيرلندة.» ومنذ شهور حصلت باحثة في جامعة القاهرة على الدكتوراه عن بحث تقدمت به عن الشعراء الإنجليز الذين عاشوا في مصر إبان الحرب العالمية الثانية، ومنهم «لورانس داريل» الشاعر والروائي الإنجليزي صاحب «رباعية الإسكندرية» الذي لا يزال يعيش خارج إنجلترا حتى اليوم، وقد أثبتت الدكتورة «هدى الصدة» في هذه الرسالة أن الغربة أثرت تأثيرا إيجابيا في شعرهم وعقدت مقارنات بين الثقافتين العربية والأوروبية كما تجلت كل واحدة في هذا الشعر.
صفحة غير معروفة