والرقة هنا ليست هي الرقة الحقيقية، ولكنها الخضوع الأنثوي، والاستسلام الأبدي، والطاعة العمياء، والقدرة الدائمة على إخفاء الغضب تحت ابتسامة رقيقة.
لكن الخضوع قد لا يكون أبديا كما نتصور، وقد يحدث شيء صغير كالقشة، لكن البعير يسقط على الأرض، وتقصم القشة ظهره، كالوعاء فوق النار بدون ثقب يخرج منه البخار، وبعد قليل أو كثير نسمع صوت الانفجار.
وتعترف الأم منهم أنها قتلت طفلها؛ لأنها أحبته، ولأنها أرادت أن تحميه من الألم أو العذاب أو الموت. إنها تخشى عليه الموت، لكنها تعالجه بالموت، هذا هو التناقض الذي لا تستطيع أن تدركه هذه الأم، فهو تناقض عاش معها في اللاوعي، منذ الطفولة أو المراهقة، حين خشي عليها أبوها الموت الاجتماعي أو الأخلاقي إذا لم تتزوج بسرعة، وحكم عليها بالموت الفكري والنفسي حين أخرجها من المدرسة، وفرض عليها زوجا لا تريده.
كثير من الناس يقتلون بناتهم فكريا ونفسيا باسم الحماية الأخلاقية والاجتماعية، وباسم الحب تموت كثير من الزوجات والأمهات فكريا ونفسيا.
لكن القتل عندنا ما زال نوعا واحدا، وهو القتل الجسدي الإكلينيكي، وهو القتل الذي يحاكم عليه الإنسان. أما القتل الفكري والنفسي، فنحن لا نعرفه بعد، ولا يحاكم بسببه أحد.
إن وراء كل حالة قتل جسدي حالة قتل أخرى لا ينتبه إليها أحد، ويواصل الجاني جرائمه دون أن يكتشف البوليس أو الطبيب الشرعي. وقد ينتبه إليه أحد أطباء النفس، لكنه لا يحاكم ولا يحاسب، فنحن لا نرى إلا المرأة القاتلة، أما المرأة المقتولة فلا يراها أحد.
القاهرة، سبتمبر 1984
قصة فتحية المصرية
كنت في مكتبي جالسة، حين دخلت علي فتاة في السادسة عشرة من عمرها، واسمها «فتحية» تحمل على كتفها طفلا رضيعا، وفي يدها طفل آخر في الثالثة من العمر، يمشي بصعوبة، على وجهها كدمات حمراء وزرقاء، عيناها سوداوان متسعتان في نظره أشبه بالجنون، ترتدي جلبابا واسعا قديما، وتلف رأسها بطرحة سوداء. أخرجت من جيب جلبابها سكينا يشبه مطواة «قرن الغزال»، وقالت بصوت مرعب: سأقتل أبي وأدخل السجن، وجئت لأترك طفلي هنا في جمعية تضامن المرأة، فليس لي أحد في هذه الدنيا، وقادني بعض أهل الخير إليكم، وقالوا إنكم تدافعون عن النساء المقهورات، وأنكم دافعتم عن «رابعة» التي قتلت زوجها الذي أراد أن يطردها إلى الشارع هي وأطفالها الخمسة ليتزوج بفتاة صغيرة، وقد تطوعت محامية من عندكم للدفاع عنها، لكني عشت حياة أبشع من حياة «رابعة» التي أعلنت أنها لم تقتل زوجها إلا بعد أن قتلها ألف مرة من قبل.
أما أنا فقد صنع بي أبي ما هو أبشع من القتل، والمشكلة أن القانون أو الشرع لا يعاقب أبي، ولا يعاقب زوج رابعة، ولا يعاقب الآباء، ولا الأزواج الذين يبيعون ويشترون فينا باسم عقد الزواج الشرعي أو الطلاق الشرعي أو تعدد الزوجات الشرعي.
صفحة غير معروفة