ولم تكن هي تقف في النافذة إلا يوم الإجازة، وهو يوم واحد في الأسبوع، لا تذهب فيه إلى الشركة، وكانت النافذة صغيرة زجاجها مكسور وخشبها مسدود، والجدران من حولها تمنع الشمس إلا شعاعا رفيعا يتسلل قبل الغروب، يسقط على الجدار قرب حافة النافذة، ويداها حين تمدهما يلسعها الشعاع قبل أن يختفي، وفي الشتاء يصبح الشعاع دافئا برتقاليا. وينعكس الضوء في عينيها كاللمعة، وحين يرى اللمعة في عينيها يتلفت حوله متوجسا، ولا يرى الشمس ولا الشعاع، ولا يرى إلا تلك النافذة النصف مفتوحة أو النصف مغلقة، ولا يتصور أنها تظل بهذا الشكل إلا لتسمح لصاحبها بالرؤية دون أن يراه أحد.
وكان صوته كصوت أبيه، يرتفع عاليا حين يغضب لأقل شيء، ولم يكن يغضبه منها شيء، فهي كأمه لا تكف عن العمل خارج البيت وداخل البيت، وحركتها كأمه بغير صوت، وصوتها كالهمس لا يعلو، وإذا ارتفع صوته حين يغضب تظل صامتة لا ترد. ولم يكن يغضبه سوى أن يراها واقفة في النافذة، وفي أعماقه يعرف أنها مثل أمه ولا تعرف من الرجال إلا هو، لكنه كأبيه لم يعرف الحب بغير شك، ولا يتصور امرأة تقف في النافذة فلا ترى إلا الشمس.
وضربها مرة لتغلق النافذة فأغلقتها، ودار الأسبوع وجاء يوم الإجازة ورآها تفتحها، فعاد وضربها أشد من المرة السابقة، وكان يظن أن شدة الضرب من شدة الغيرة، وشدة الغيرة من شدة الحب، وعليها أن تغتبط كأمه حين كان يضربها أبوه، لكنها لم تكن تغتبط.
ولم تغتبط حين اشترى لها الثوب النايلون اللامع، وظلت تفضل ثوبها القطني القديم، وحين انتقل إلى شقة المعادي الواسعة لم يرها مغتبطة، وحين تضاعف مرتبه وأبقاها في البيت لم تغتبط، وحين جاء عم عثمان ولم تعد تطبخ ولا تغسل ولا تمسح، لم تظهر عليها علامات الاغتباط أو الراحة.
فتح عينيه واكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وجهه نحيل طويل كوجه أبيه، وانحناءة الظهر ذاتها، وبدلة الحفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص مستدير يلمع كالوسام، لكنه ليس معدنيا، وإنما من القطيفة الخضراء، تلمع عليها حروف بيضاء من النايلون: ترانزناشيونال.
بدت الحروف غريبة، مكتوبة بلغة أجنبية، كأنما لم يرها من قبل، وكأنما يكتشف «البادچ» لأول مرة فوق صدره، وأنه يحمل اسم الشركة التي تعمل بها، وأنه يذهب إليها كل يوم منذ عشر سنين، وأنه منذ عشر سنين لم ير نفسه في المرآة. فالوقت أصبح ضيقا، وكل دقيقة لها ثمن يسجله الكومبيوتر، ومرتبه يقبضه بالدولار، ومكتبه أصبحت له بنورة، وتليفون فوق المكتب له ذاكرة تحفظ الأرقام، والأزرار تكاد تنضغط وحدها قبل اللمس، وزجاج النافذة من النوع المستورد «الفيميه» يكشف من بالداخل، والضوء عشرات اللمبات النيون القوية.
وهي جالسة في الضوء، وثوبها النايلون الأحمر يلمع، ويتسع عند صدرها في كشكشة دقيقة كعش النمل، ويضيق عند خصرها تحت حزام عريض من القطيفة، ثم يدور حول ردفيها عدة دورات كأوراق زهرة اللوتس.
بيوتيفول!
وترن الكلمة في أذنيه بصوت الأجنبي، وكأنما يسمعها لأول مرة، ولأول مرة يكتشف معناها، ويدرك أنها تعني «جميلة»، وأن من يقولها رجل، ليس زوجها وليس أخاها ولا أباها ولا أي رجل من الأسرة أو الحي أو البلد، وإنما رجل أجنبي تماما، وجهه أحمر، وأنفه كبير مقوس، وفوق عينيه نظارات عدساتها «فيميه» يرى من خلالها كل شيء دون أن يرى عينيه أحد.
وهي جالسة أمامه ترتدي ثوبها النايلون الأحمر، يكتشف لأول مرة أنه شفاف، وأنه جالس أمامها ينظر إليها ويراها. وأخطر من الرؤية أنه يكتشف جمالها، وأخطر من الاكتشاف أنه يعبر عنه بصوت عال، وهي جالسة أمامه تسمعه لا تغضب ولا تثور ولا يظهر على وجهها الضيق، بل تظل جالسة، وتهز رأسها كأنما مغتبطة، وتقول بصوت مسموع : «سانك يوه.»
صفحة غير معروفة