إلا أنها وهي سائرة ذات يوم، رفعت عينيها من خلال الثقبين فرأته يخرج من باب أحد البيوت، ويجتاز الشارع بخطوات هادئة، رغم صراخ الأبواق، رأته هو بعينه، لا يمكن لها أن تخطئه بعد كل هذه الأيام.
تسمرت قدماها في الأرض، وارتفعت يدها داخل القفاز الأسود فوق قلبها، كان واقفا وسط الشارع ومن حوله السيارات كالطوفان. تصورت أنه سيسقط ويغرق بين العجلات، لكنه لم يسقط، ظل يسير بخطواته الهادئة متجها إلى شارع النيل، واندفع جسمها يتبعه، كانت تدرك أنه خيال وليس حقيقة، لكنها تراه بعينيها، ولم يعد يهمها ما دامت تراه بعينيها أن يكون خيالا أو حقيقة. قدماها تسيران وراءه، في أذنيها تسمع وقع حذائه على الأرض، يسبقها بخطوات قليلة، يمكن لها إذا نادته أن يسمعها، لم تعرف بماذا تناديه، لم يكن له اسم، وانفرجت شفتاها المطبقتين من تحت القماش السميك عن صوت: يا أنت. رأته يستدير إليها، يواجهها وجها لوجه، أدركت أنه هو، وعيناه هما عيناه، ونظرته هي نظرته، وسمعته يقول: من أنت؟! أخرستها المفاجأة، فتسمرت في الأرض. كان يتكلم بلغة عربية، وليس هيروغليفية، وكانت تظن أنه يعرفها كما عرفته. كيف تعرفه كل هذه الأيام وهو يسألها من أنت؟! ظلت واقفة بلا حراك، تنظر إليه، ثم أطرقت إلى الأرض، أطرقت طويلا وهي تنكمش داخل نفسها من الخزي.
أبعد كل هذا يسألها من هي؟ عقلها لا يصدق، ورفعت عينيها مرة أخرى لتتأكد، لكنه كان قد استدار ومشى في طريقه، ثم اختفى بين الناس.
في اليوم التالي وهي في الطريق إلى مكتبها، ظل رأسها كما كان مطرقا، لكن عينيها تدوران كالنحلتين داخل الثقبين، تتفرسان وجوه الناس. عقلها الواعي يقول لها إنه لا يعيش اليوم بين الناس، وإنه عاش منذ سبعة آلاف عام. لكن عينيها لا تكفان عن البحث، تدرك بعقلها الواعي أنه موجود، فقد رأته، وما دام هو موجودا، فيمكن أن تراه مرة أخرى. واستولت عليها الرغبة في أن تراه بأي شكل، ولكن مصنوعا من لحم ودم، أو ليكن روحا بغير جسم، المهم أن تراه. وما الفرق أن يكون روحا أو جسما، ما دامت قادرة على رؤيته؟
وفي المكان نفسه حيث لقيته بالأمس انتظرت، وحين ظهر في الشارع اندفعت بجسمها نحوه وهي في كامل الوعي والإدراك. كان هو بوجهه وعينيه ونظرته الإنسانية، لم يتغير فيه شيء، إلا أن شاربا أسود نما فوق شفته العليا. انفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش السميك عن كلمة بلا صوت: «ذكر؟» الكلمة في حد ذاتها غير قابلة للنطق. لم تنطقها في حياتها من قبل، كانت تظن أنه إنسان، مجرد إنسان بلا جنس، لكن هذا الشارب يؤكد أنه ... وظلت قدماها مسمرتين في الأرض، ويدها داخل القفاز الأسود ارتفعت وحدها وأخفت الثقبين الصغيرين في القماش السميك
حين رفعت يدها عن عينيها كان الشارع لا زال مزدحما بالناس، وهو لم يعد واقفا أمامها، هي لا تزال واقفة بكامل الوعي والوقار، وتحت إبطها حقيبتها الجلدية، ترقد في التجويف بين الذراع والصدر، يلامس طرفها من خلال القماش السميك طرف الثدي الأيسر، تحس التلامس كمس من الكهرباء، عقلها يدرك عن وعي أنها ليست إلا حقيبة من الجلد، وليس بداخلها إلا كيس النقود وتمثال صغير من الحجر، ولكن التلامس ظل يسري من ثديها الأيسر إلى صدرها كتيار الكهرباء.
عادت إلى بيتها ذلك اليوم بغير الحقيبة، ألقت بها كما هي دون أن تفتحها في خرابة كبيرة، لم تأخذ منها شيئا، حتى كيس النقود تركته، تصورت أنها لو فتحته فسوف تراه، أصبحت راقدة في سريرها، كانت تدرك بعقلها الواعي أن الحقيبة لم تعد معها، وأنه من المفروض أن يغادرها الخوف.
لكن الخوف لم يغادرها حتى الصباح، وفي اليوم التالي ظل الخوف يلازمها في الشارع والمكتب وفي البيت وفي كل مكان. كان يلازمها كانتفاضات الحمى ... وسمعها أبوها ذات ليلة تئن أنينا خافتا، وفوق جسدها رعدة كرعدة الملاريا. أخذها أبوها إلى طبيب الحميات، تناولت الدواء ثلاثين يوما، وظلت الحمى كما كانت. وفي الليل سمعها أبوها تكلم أحدا وهي راكعة تصلي. تصور أنها تخاطب الله وتطلب منه المغفرة، لكن صوتها كان يعلو والكلمات أصبحت واضحة. لم تكن تناجي الله، كانت تلعن الشيطان بكلمات غريبة لا يمكن أن تخرج من بين شفتي طاهرة، وأدرك أنها اقترفت ذنبا تخفيه في طيات نفسها لا تبوح به. وأخذها إلى رجل طاهر يتوب الناس بين يديه عن ذنوبهم. بعد التوبة ظلت معها الحمى، وفشلت الأقراص التي كتبها طبيب الحميات مرة أخرى. وحين زارتها مديرة المتحف قالت إنها ليست الملاريا، ولكنها حالة نفسية. هكذا جاءت إلي.
القاهرة، مايو 1987
ماجي تفقد السلطة
صفحة غير معروفة