وكانت دراساته السيكلوجية قد غرست فيه الاقتناع بأن الكظم هو أساس التعب النفسي عامة، ثم الجنون والشذوذ، فقال: ولكن هذا الكظم الأدبي سيقتلني وسيقضي علي، لا أستطيع أن أكتب ما أريد، هذا هو السبب في أن كثيرين من المؤلفين يجنون، يريدون أن يقولوا ويبوحوا فلا يقدرون.
والواقع أنه كان منذ بداية الصيف، بحره وغباره وعرقه، يحس ضيقا لا يطيقه، وكانت الصعوبات الصغيرة تستحيل عنده في هذه الظروف إلى مشكلات كبيرة، حتى ضوضاء الشارع التي كان يحبها، ويجد في نداءات البياعين الجوالين ترانيم حلوة، قد أصبح لا يطيقها.
ومضت عليه مدة تقارب الشهر وهو عاجز عن التأليف، يكره رؤية مكتبته، أو تناول القلم، أو التفكير في كتابه.
لقد وقف عندما شرع يكتب عن علاقة الحب بالرقص، وكان الناشر ينتظر، ويسأل، ويلحف كل يوم لإتمام الكتاب.
ولكن بينه وبين إتمام الكتاب مدة كأنها غصة تخنقه.
وكان له صديق طبيب سيكلوجي يدعى الدكتور «ص» فاستعان به، ولم يمض ربع ساعة على طلبه بالتليفون حتى كان عنده.
وكان الأستاذ «س» في انهيار على سريره، وكانت توتراته واضحة، حتى إنه لم يحسن استقبال صديقه الدكتور «ص»، بل إنه أحس بعداء نحوه لم يفهم معناه، وقال له في خشونة: اسمع ، لا تقل لي «مركب أوديب»، ولا تذكر «شهوة الموت»، ولا تذكر «الكظم الجنسي»، ولا تسألني عن أحلامي؛ فإني لا أحلم، كل ما أشكوه أني عاجز عن الكتابة لا أعرف كيف أكتب.
وضحك الدكتور «ص»، وجعل يتجسس على طريقة فرويد، ويمازح، ويضاحك، وكانا صديقين قديمين، فلم يتمالك المؤلف المريض أن ضحك معه ... وقال الدكتور «ص» وهو يمزح: لعلك تحتاج إلى حب جديد ...
وبعد أن توالت زيارات الدكتور «ص» نصح له بأن يترك البيت إلى فندق بالإسكندرية، يقضي هناك نحو شهر لتأليف الكتاب.
فقال الأستاذ «س»: أي كتاب؟ أنا لا أستطيع أن أعود إلى التأليف، أنا مجمد! فقال الدكتور «ص»: أعتقد أنك تضع عنوانا لكتابك هذا «عقدتي» تشرح فيه موقفك من الثقافة العصرية في مصر؛ فأنت تعرف أنك لا تنساق فيها، وأنك تناقضها كما تناقض مجتمعك وتحاول أن تغيره، ومن حقك أن توضح الفروق التي تفصل بينك وبين المجتمع والثقافة السائدة فيه، فهنا بوح لك يفرج عنك كظومك، واعترافات ترتاح إليها نفسك، وشكاية تبثها، وأيضا هنا دفاع عن موقفك، وتنوير للقراء، فإن كل ما تعانيه أنك تكظم ولا تبوح، أنت في صراع بين أن تنطق وبين أن تصمت، وهو صراع قد شل قلمك وأوجد حبسة في ذهنك.
صفحة غير معروفة