ولذلك أصبحنا جميعا في حرب باردة، المجتمع في حرب بين موروث عاداته وعواطفه الشرقية، وبين مستجد عاداته وعواطفه الأوروبية، يتردد بين الحجاب والسفور للمرأة، وبين الحقائق العلمية والعقائد التاريخية، وبين الأخلاق الزراعية الاستبدادية والأخلاق الصناعية الديمقراطية.
وهذه الحرب الباردة تجري بتفاصيلها المتعددة في كل فرد حيث يجدها في نفسه وذهنه.
وهي أيضا تجري في صدر كل أديب أو كاتب؛ إذ يجد قيمتين وميزانين؛ فهو يتردد، ولا يعرف تلك الغلواء التي ينزع إليها المؤمن بعقيدة مفردة؛ لأن له عقيدتين تجعلانه فاترا متشككا.
ولذلك فهو لا يحسن التأليف؛ إذ لا يمكن الإحسان مع الفتور والتشكك.
ويجب ألا ننسى موقفنا هذا، وهو موقف الاعتذار عن الإحسان - أي الإجادة والإتقان - حين ننتقد الأدب، وسوف يتغير هذا الموقف حين تتفشى الصناعة بيننا وتأخذ مكان الزراعة، أو على الأقل تتكافأ معها في الانتهاج والارتزاق، وعندئذ تتفشى في مجتمعنا الأخلاق الديمقراطية التي تنشأ من الوسط الصناعي وما يلابسه من عادات وعواطف جديدة.
ولكن ليس معنى هذا أن ننتظر تفشي الأخلاق الجديدة في مجتمعنا حتى نجعل أدبنا عصريا له قيم وأوزان عصرية؛ إذ يجب أن ندخل - نحن الكتاب والأدباء - في هذا العصر الجديد، ونغير العادات الذهنية والعواطف الأدبية الشرقية الموروثة في مجتمعنا إلى عادات وعواطف عصرية؛ حتى يساير تطورنا الاجتماعي الأدبي تطورنا الاقتصادي الصناعي، بل لا بأس من أن يسبق إذا كان هذا ممكنا. •••
كيف أفهم الأدب؟
أفهمه على أنه معالجة الإنسان في جملته؛ أي في كليته.
فإن الهندسة فن يعالج المباني، والكيمياء فن يعالج المواد، والطب فن يعالج الأمراض.
ولكن الأدب فن يعالج الإنسان جملة لا تفصيلا؛ فهو يزن الموقف الفلسفي والموقف الجنسي والموقف الاجتماعي وسائر المواقف البشرية للفرد، بحيث أنتهي من هذه المعالجة إلى أن أعرف قيمة هذا الفرد في المجتمع وفي الدنيا وفي الكون، وأنتهي إلى أن أقارن موقفي - أنا القارئ - بموقف هذا الفرد سواء أكان هو موضوع قصة أو مقال أو ترجمة لحياة إنسان.
صفحة غير معروفة