إن قيم الأدب، مثل سائر القيم، تتغير كلما تغيرت الظروف، وإذا كان الجمال يتسلط على الأديب، ويشغل ذهنه، حتى ليتوهم أنه خالد، فإن هناك ما هو «أخلد» منه، وهو الإنسانية.
وصحيح أنه ليس هناك أديب يستطيع أن يقول إنه لا يحب الجمال أو لا ينشده في جميع ما صغر وما كبر من نشاطه، ولكن الأديب الذي يحس وجدان عصره، ويدرس مشكلاته الإنسانية والاجتماعية، لا يتمالك الإحساس بأن الأدب تعبير عن الضمير الإنساني، وإذن موضوعه، أو موضوعاته، هي مشكلات هذا الضمير: كيف يميز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والإنسانية والبهيمية؟ وكيف يكافح الشر والظلم والبهيمية؟
وهو يسترشد في كل ذلك بما تكون له من فلسفة بشأن الإنسان ومجتمعه، ولا يمكن أن يكون هناك أديب ناضج بلا فلسفة.
والأديب الحق في أيامنا هو ذلك الذي ينغمس في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم، ونظم الحكم ونظم العدل، ووسائل الثراء الذي يحقق للشعب رفاهية، وليس ترفا، وأسباب الفقر التي تحدث الجريمة والفضيحة والمذلة، بل كذلك يدرس شئون التعليم وحرية الدراسة، ويضع الحقائق فوق العقائد.
إن جميع هذه الشئون إنسانية، ولا يمكن أديبا أن يؤثر المجلة المرصعة أو البيت الرقيق على شأن إنساني يتصل بالحقوق الأصيلة عن الحرية أو المساواة أو العدل، ولو فعل لوجب أن نعرض عنه، أو نأخذ منه ونحن على يقين، بلا خداع، بأننا نأكل الحلوى الوقتية المرفهة وليس الطعام الذي يغذو الحياة وينميها ويكبرها.
وفي ظروف الاستقرار أو الركود أو الطمأنينة، يفشو أدب الترف واللذة، وكثيرا - بل ربما على الدوام - يكون مؤلفو هذا الأدب أنفسهم من المترفين الذين استقروا وارتضوا حالهم الاجتماعية السائدة، فكرهوا التغيير، وقنعوا بلذة مستقرهم ونسوا الإنسانية.
ولا عبرة بأن يقال إنهم عاشوا في عصر مضطرب وكان يجب أن ينعكس اضطراب عصرهم في أدبهم؛ ذلك أنهم في الأغلب نشئوا على نية الكفاح، فكافحوا فترة من شبابهم، ثم سئموا، أو تعبوا، أو وجدوا أن المكافأة عن الكفاح لا تغري، فتركوا معسكر الشعب إلى معسكر السادة، وأصبحوا يقولون إن غاية الأدب هي الجمال ... كلام المترفين ... كما كان مترفو عصر النهضة في أوروبا يطلبون من الرسام صورة امرأة جميلة لها صدر ناهد وعينان ناطقتان.
ومع هذا يجب أن نسلم بأن هناك أدباء نشئوا على نية الكفاح وثبتوا عليها، ثم لما سعدوا لم يتغيروا، ولم ينقلهم هذا الثراء - نفسيا وفنيا - إلى «الترف الذهني»، وهناك من لم يسعدوا بالثراء أو الهناء، فثبتوا أيضا راضين بالاضطهاد والسجن إيثارا لصفوف الشعب الجائع على صفوف السادة المترفين.
وليس العالم في فترة تاريخه الحاضرة في استقرار، فإنا نعيش في وسط يحوي من الحضارات والثقافات والأهداف الاجتماعية، بل يحوي من ألوان الاستعمار والاستغلال والرجعية في الشرق والغرب، ما يحمل كل إنسان إنساني على أن يتعرف مكانه من هذا الاضطراب أو هذه الفوضى ويعينه، وعلى أن «يجتهد» حتى يميز بين الحسن والسيئ، ثم عليه بعد ذلك أن يعرف جبهته وهدفه ومعسكره، فيدافع عن موقفه، ويجهد للوصول إلى هدفه.
على كل إنسان أن يفعل ذلك إذا استطاع، والأديب أولى الناس بأن يفعل ذلك؛ إذ هو يرى أكثر ويفهم أكثر.
صفحة غير معروفة