ولذلك أيضا نجد أن الأدب القديم كان على الدوام أسلوبيا تقليديا، ولم يك ابتكاريا مستقبليا، وعبارة «قال فلان» ثم عبارة «السلف الصالح» كلتاهما تدل على أن الأديب العربي القديم كان ينشد الحكمة خلفه وليس أمامه، وكان يكتب للخاصة، بل أخص الخاصة، التي تعلمت مثله ودرست ثقافته ونزعت نزعته.
وأخص الخاصة هذه كانت تلتفت إلى الماضي؛ لأن حقوقها التاريخية كانت تستند إلى هذا الماضي وإلى احترام عاداته ولغته، فجذبت إليها الأدباء الذين يؤيدون سلطانها.
وعندما نقرأ «البيان والتبيين» للجاحظ، أو أشعار المتنبي، أو «الكامل» للمبرد، نحس أننا إزاء أدباء، إما يعيشون في بلاط أحد الأمراء، وإما يستندون في حياتهم الذهنية إلى تقاليد لغوية وأدبية ودينية وسياسية تمت إلى بلاط أحد الأمراء.
أما الشعب فلا يحسون أي وجدان له.
ولكن هذا القول لا يمكن أن يذهب على إطلاقه؛ ففي فترات من تاريخ الأمم العربية انتشرت التجارة، بل انتشر شيء من الصناعة، وخاصة في مصر والعراق، فظهر كتاب «ألف ليلة وليلة» وهو كتاب للشعب يكبر من شأن التاجر «السندباد» ويزود قراءه الفقراء بأحلام الجائع، أي وصف حياة الأثرياء والملوك والأمراء، ولكن هذه النزعة لم ترتق إلى النضج؛ لأن عوامل القوة لم تتوافر للشعب. •••
ولكن الشعوب العربية في أيامنا عرفت أعظم كلمة من كلمات القرن العشرين، كلمة «الديمقراطية»، ومع أن بعض الساسة في مصر قد عبثوا بها، فإن عبثهم سيذهب زبدا وجفاء وتمكث هي في الأرض، وقد مكروا بها، والتاريخ مكر بهم، والعاقبة للشعب.
الديمقراطية، الشعب، المساواة، والتعليم العام ... كلمات ميمونة، وإلى هذه الكلمات الميمونة عاد التاجر إلى الظهور، وأوشكنا أن نعرف مقام الصناعة، وظهرت الصحف فأخصبت حياة الشعب، وصار النجار، والكمساري، والبقال، والتلميذ، بل أحيانا الزارع، هذا الرجعي العريق في رجعيته ووخامته، أصبح كل هؤلاء يقرءون، وتنفسح أذهانهم في آفاق متراحبة من السياسة والأدب والاجتماع، وزودتهم الصحف بكل ذلك، ولكن على مستوى منخفض.
وتعلم الصحفيون لغة جديدة يكتبون بها ليست هي لغة أردشير: «الذي أوصى ابنه فقال ...».
وإنما هي لغة الشعب. •••
يقول الفرنسيون، ويحسنون عندما يقولون: «ما ليس واضحا ليس فرنسيا»؛ لأن الوضوح هو المنطق، والكاتب الواضح هو الكاتب الفاهم، وعندما يفهم الكاتب يفهم القارئ، وعندئذ يكون التجاوب ويكون الاختمار الذهني.
صفحة غير معروفة