ولكن «جالزورثي» أعمق نظرا منه إذ هو يستطيع أن يرى من خلال النجاح المالي والاجتماعي خللا في البيئة ونقصا في الأخلاق. وهو من أبناء القرن العشرين ينزع نحو الاشتراكية وإن كان لا يصرح بها. وقد رفض لقب «سير» وعطف على المظلومين سواء أكان الظلم اجتماعيا أم اقتصاديا. وهو من حيث الفن يعد من أبرع الأدباء سواء كان هذا في القصة أم في الدراما.
جالزورثي.
وهو عندما يكتب يقنع بالتقرير والتصوير ولا يقترح علاجا، فقد وصف آلام المظلومين المسجونين في دراما «العدالة»، فكان وصفه من الدقة والفظاعة بحيث استجابت له الحكومة في إصلاح السجون، ولكنها لم تصلح القانون الذي يبعث بالمنكوبين إلى هذه السجون. ومن أعظم مشاهد هذه الدرامة مسجون قد ضاق بحبسه وانفراده في الخلية - أي الزنزانة - فأفرج عن ضيقه بثورة عصبية؛ إذ اندفع يخبط الحيطان ويضرب الباب بيده ورأسه وقدمه، ثم انتقلت عدواه إلى سائر المسجونين مثله، ففعلوا فعله وهاجوا كالمجانين. حتى إذا تعبوا سكتوا كاظمين مهزومين.
ثم هو يلزم الحقائق، فلا يزوق ولا يتخيل غير الواقع، فهذه «أيرين» مثلا، فتاة جميلة فقيرة قد تزوجت رجلا غنيا من تلك الطبقة التي تنتمي عادة إلى حزب المحافظين. وتؤمن بعبء الرجل الأبيض، وتعرف الدين في الكنسية فقط، ويوم الأحد فقط. أما سائر الأسبوع فلا تعرف غير التجارة الحرة والمزاحمة التي تجري على سنة الحرب، كل شيء جائز فيها. وهي تؤثث البيت بأفخر الأثاث، ولا تعرف من الفنون غير الصور الغالية في الثمن والكتب الضخمة المتقنة الطبع.
ولكن «أيرين» تسأم هذا الزوج، وتهجره، وتحب مهندسا فقيرا. ثم تضطرب الأحوال المالية لهذا المهندس فينتحر. ثم تعود «أيرين» الفقيرة إلى زوجها الغني وهي صاغرة.
ويسكت «جالزورثي» فلا يعظ القارئ ولا يلوم الزوج. ولا يعلق على هذه الحال أي تعليق؛ لأنه يقنع منك بهذا التنهد الذي يضيق به صدرك عن هذه الحال المؤلمة. وأنت عندما تقرأ مثل هذه القصة تحب «جالزورثي».
وقد مات «جالزورثي» كهلا في العام الماضي (1933) ولم يبلغ الخامسة والستين. ووفاته في هذه السن مأساة لآمال كانت معلقة به بعد أن استضاءت بصيرته بالحرب والأزمة الاقتصادية.
رجال الذهن في إنجلترا
ليس التجديد مقصورا على رجال الأدب من مؤلفي الدرامات وممارسي الفنون الجميلة. وإن كان هؤلاء أقرب إلى الجمهور وأعمق أثرا فيه من غيرهم؛ لأنهم يتصلون بعامته وخاصته بما يؤلفون من قصص أو يعرضون من درامات أو حتى بما ينحتون من تماثيل أو يرسمون من صور، فإن هناك هيئات أخرى تعمل للتجديد. وقد تكون هذه الهيئات جمعيات ترصد نفسها لبث دعاية لآراء ثقافية خاصة، أو قد تكون مجلات تعيش بمجهود محرريها وعطف طبقة من رجال الذهن عليها. أو قد تكون قائمة على أيدي أدباء أو علماء يؤلفون الكتب في نزعات جديدة في الآراء الاجتماعية أو العلمية أو الأدبية.
فهناك مثلا جمعية تدعى «جمعية العقليين» قد طبعت ونشرت إلى الآن ملايين من المجلدات من الكتب التي تدعو إلى التفكير الحر والاعتماد على الرأي العلمي دون العقيدة الدينية. وقد كان لهذه الجمعية أعظم الأثر في تطور الأفكار بين شباب الإنجليز، بل شيوخهم. وهناك جمعية أخرى تدعو إلى الفلسفة الوضعية التي يقول بها «كنت» الفيلسوف الفرنسي. وقد بقيت أكثر من ثلاثين سنة وهي تصدر مجلة، كان يكتب فيها الأديب الكبير «فردريك هريسون» ويدعو فيها إلى نوع من «البشرية» هو مزيج من الرأي والعقيدة أو العقل والعاطفة.
صفحة غير معروفة