جمود العصر الفكتوري
كان العصر الفكتوري - أي الفترة الواقعة بين سنة 1830 وسنة 1900 - يوهم بالجمود في الأدب باعتبار الأدب فنا من الفنون الجميلة.
وقد سبق هذا العصر شاعران كان ينتظر منهما أن يبعثا نهضة جديدة في الأدب الإنجليزي هما «شيلي» الذي مات في 1822 و«بيرون» الذي مات في 1824. ولكنهما ماتا وكأنهما لم يعيشا. وإذا كان أحد يقرؤهما هذه الأيام فذلك يرجع إلى النهضة الحديثة التي ابتدأت حوالي 1890.
بدأ «شيلي» حياته الثائرة وهو طالب بتأليف كتاب في «ضرورة الإلحاد» وطرد من الجامعة لهذا السبب. ثم رحل إلى دوبلين عاصمة أيرلندا وهناك دعا إلى استقلال أيرلندا، ومات في سن الثلاثين.
أما «بيرون» فقد رحل إلى بلاد الإغريق يؤلف القصائد في الدفاع عن حريتها. وقصائده هي أناشيد الحرية يقرؤها القارئ إلى الآن بل يتغنى بها.
ولكن «شيلي» و«بيرون» كما قلنا، ماتا دون أن يتركا لهما خلفا للعصر الفكتوري يدعو إلى الحرية. ومضى هذا العصر على طوله كأنه عصر الظلام، يقرأ فيه الناس تاريخ «ماكولي» فيعجبون بأنفسهم وإمبراطوريتهم ومجدهم وعظمة برلمانهم. وهذا الماكولي يمكن للقارئ الآن أن يعرف حقيقة واحدة عنه تكفيه للحكم عليه، فقد ذكر عن الهندي أنه لا يقبل الرقي، وكاد يقول إنه جبل من طينة أخرى غير الطينة التي جبل منها الإنجليزي. وهذا هو الرأي الاستعماري الذي ما يزال يقول به «كبلنج» الشاعر. والقارئ المصري يعرف الآن أنه ليس «كبلنج» ولا «ماكولي» الإنجليزيان جديرين بأن يحل أحدهما سيور حذاء «غاندي» أو «نهرو» الهنديين.
فإلام يعزى هذا الجمود في العصر الفكتوري؟
يعزى إلى شيئين؛ أولهما: الروح المادي الذي انتشر بين الإنجليز بتدفق الثروة عليهم ونجاحهم في الاستعمار. والثاني: الروح الديني الذي ورثه الإنجليز عن النهضة الطهرية.
ففي العصر الفكتوري ازداد استعمال الآلات في المصانع، وكادت إنجلترا تختص بالصناعات الآلية، فكانت تغزل وتنسج، وتصنع المعادن، وتصدر مصنوعاتها إلى أوروبا باختراعها الآلات البخارية والاعتماد على الفحم. وقد أثرت إثراء فاحشا، وأخذ أسطولها يفتح لها الأسواق بالاستعمار، فكانت طوال العصر الفكتوري في نهضة اقتصادية بعثت فيها الروح المادي والإكبار من شأن الترف والنجاح المالي على نحو ما نرى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم بالدور الثاني للنهضة الاقتصادية الآلية. وهذا النظر المادي وما يعقبه من نجاح مالي هما أقوى العوامل لتثبيط الحركات الأدبية.
أما العامل الثاني فهو النهضة الدينية التي فشت في إنجلترا واتخذت شكلا خاصا يقرب من النزعة الوهابية في جزيرة العرب، نعني بها تلك الحركة الطهرية «بيوريتانزم» التي تدعو إلى التقشف وكراهة الفنون والابتعاد عن الملاهي. وهذه النهضة هي التي اخترعت الملابس السود الكابية للرجال، وهي التي ما زلنا نرى أثرها حتى في رجل مجدد مثل «برنارد شو» حين يمتنع عن تناول طعام اللحم أو الخمر، وحين يميل إلى الزهد. ولا يمكن للدراما أو القصة أن تنجح أمام هذا الروح الذي لا يجيز للمؤلف أن يترخص مثلا في رواية الحب والغرام.
صفحة غير معروفة