أشك أنني قد لحقت تلك السحائب، ثم تحطني بمقدار ذلك. فمكثت على هذه الصورة ثلاثة أيام، ثم سكن البحر. وألقتني الخشبة إلى ماء على جزيرة يكون نحو الذراع عمقه. فرمت القيام فيه، فلم تنحل
ركبتاي لانطوائهما وانضمامهما تلك الأيام على الخشبة. ثم إني حملت على نفسي وقمت في ذلك
الماء وأنا ممسك بتلك الخشبة، وقد أضعفني عدم القوت والماء، وإذا على بدني كالصورج متلبس به
من ماء البحر. فبينا أنا واقف إذ لاح لي قارب لوحت له فقرب مني. وإذا قوم قد سمعوا بخبر ذلك
المركب فخرجوا يطلبون الأمتعة ويلتقطونها من الماء. فسألوني عن حالي فخبرتهم. فقالوا: أنت ممنكان في هذا المركب؟ فقلت: نعم. فأخذوني وعادوا إلى موضع رأيت فيه مراكب مرساة. فسألت عنه،
فقالوا: هذا موضع يعرف بميفعة من بلاد اليمن. وقد أفلت أن تقع إلى جزيرة القرود فتهلك، لأنك
أنت بالقرب منها. فحمدت الله تعالى على ذلك. وأخرجت دنينرات أفلتت معي فصرفت بعضها
وابتعت ما أكلت. وأنا بالسوق إذا بكسائي وكنف فيه إبر وخيوط ومكحلة تباع. فعلقت به، وقلت: هذا
كسائي. فلما عرفوا أنني ممن كسر به المركب أفرجوا عنه. فعشت به. وأقمت باليمن أتردد في
بلدانها مشهورا، أبيع الخرز والعقيق وغير ذلك.
فإني يوما بمدينة يقال لها عثر أطوف بذلك الودع والخرز إذ مررت بفناء جبل، وإذا عليه مكتوب:
حضر فلان بن فلان البغدادي وهو يقول: الكدر في الدنيا أكثر من الصفاء، وعلى حسب تطاول
البقاء يكون إدراك الشقاء. بلغت إلى هذه البلاد لغير طلب، وانصرفت عنها لغير سبب، وإذا فكرت
وجدت حديثي من العجب، وما كل غريب يناله ما نالني، ولا كل شريد يغوله ما غالني:
ولولا أنني صلب جليد لكان الدهر قد أودى بنفسي
إلى كم ذا التقطع في البراري وحيدا مفردا من كل أنس؟
فذكرت ما مر بي في البحر وكتبت تحته: أيها الرجل، أكثر الحمد لربك، والاستغفار لذنبك، فلو
وقفت على محنة غيرك، لعلمت أن الفضل بيدك. وانصرفت.
صفحة ٣٣