عليه أثر الشقاء والغربة، فركع ركعتين إلى جانبي، ثم جلس يحدثني ويسألني عن حالي. فأخبرته أنني رجل من العراق. فتنفس الصعداء، ولم يزل يسألني عن موضع موضع منها، وشيخ شيخ من
أهلها وأنا أجيبه. فلما قطع مسألتي قلت له: جعلت فداك! أراك خبيرا ببغداد، ممن أنت؟ قال: أنا
رجل من أهلها. فاجتهدت أن يزيدني على هذا شيئا فلم يفعل. فقلت: وما الذي جاء بك إلى ها هنا؟
قال شقاء جد ونقصان حظ. فأوجع قلبي. فقلت له: إن كنت، أيدك الله، تحتاج إلى نفقة تفضلت
بالانبساط إلي، وإن أحببت أن تكتب بذكرك إلى بغداد فافعل. فقال لي: أيها الرجل! أين يذهب بك؟
لو انقادت نفسي إلى دون هذا كان الوطن أولى من الغربة، وأنشأ يقول:
ولكني أبي النفس جدا ولو ظمئت إلى الماء القراحوعلى الحالات فأنت مشكور، وقد اعتددت بعارفتك، وأنست بمحادثتك. وعرض لي شغل فقمت
وتركته في الموضع. فلما عدت لصلاة الظهر لم أجده. ووجدت في موضعه مكتوبا على الحائط:
لو ماتت النفس من جوع ومن كمد لما شكوت الذي ألقى إلى أحد
يا ليتني كنت أدري ما الذي صنعت بعدي الحوادث بالأهلين والولد
وبالحبيب الذي ودعته فبكى وقال: ما دار هذا منك في خلدي
لو كنت أعلم أن البين مقترب ما كنت أصغي إلى عذر ولا فند
فأعجبني قوله. ثم طلبته بعد ذلك في البلد، فلم أر له أثرا.
وقال لي رجل من أهل بيروت: اجتزت بمدينة صور فقرأت على سورها: حضر فلان بن فلان
وهو يقول:
دع الدنيا فإني لا أراها لمن يرضى بها دارا بدار
ودار إنما الشهوات فيها معلقة بأيام قصار
ويقال إنه وجد كتابة منقورة في جبل بناحية اصطخر هذه الكلمات: رب مغبوط بنعمة وهي داؤه،
ومرحوم من سقم هو شفاؤه، ومحمود علي رخاء بلاؤه.
وحكي عن سويد بن جعفر الكوفي قال: قرأت على حجر منقور على باب الحيرة: من يعمل اليوم
لدار البقاء يجزيه مولاه غداة اللقاء. فاجتهد اليوم بحسن التقى تنج به من شر دار الشقا.
صفحة ١٨