توطئة
العرب وبلادهم وأنسابهم
لغة العرب
آداب الأمم
العقلية العربية
الأدب العربي
أطوار الأدب العربي
العصر الجاهلي
عصر صدر الإسلام
العصر الأموي (64-110)
العصور العباسية
عصر النهضة
توطئة
العرب وبلادهم وأنسابهم
لغة العرب
آداب الأمم
العقلية العربية
الأدب العربي
أطوار الأدب العربي
العصر الجاهلي
عصر صدر الإسلام
العصر الأموي (64-110)
العصور العباسية
عصر النهضة
أدب العرب
أدب العرب
مختصر تاريخ نشأته وتطوره وسير مشاهير رجاله وخطوط أولى من صورهم
تأليف
مارون عبود
توطئة
هذا كتاب جعلته ملخصا لتسهل على النشء مراجعته في أضيق وقت، ويحقق قول العرب في تحديد الأديب: هو من ألم بطرف من كل فن.
لقد تضمن هذا المجلد ما يحتاج إليه الطالب قبل إقدامه على الامتحان، وهو في الوقت نفسه مرجع يغني من قلت مروءته عن مطالعة المطولات. قد بعدت فيه عن السحر الكلامي الذي لا يشبع البطن، ولا يسمن الضلع، وما التوفيق إلا بالله والاجتهاد.
بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلى سهر الليالي
ومن طلب العلوم بغير كد
أضاع العمر في طلب المحال
أسمعت يا حبيبي؟! فأنا مجرب وحكيم في وقت واحد، أستغفر الله، ولكن الإنسان تظل تعجبه نفسه حتى يمرض، وحسبي أنه صح في قول المتنبي:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
مارون عبود
العرب وبلادهم وأنسابهم
العرب:
نسبة ليعرب «جد العرب»، أو عربة «اسم مكان في الجزيرة» أو بمعنى بدو، وهو الراجح.
أصلهم:
ليس العرب كلهم من أصل واحد، ولجوا الجزيرة من الشمال فارين من وجه أعدائهم فعاشوا فيها عيشة بدو على الأنعام والأعشاب فتنازعوا البقاء، وهكذا نشأ الغزو وكانت الغارات.
موطنهم:
شبه جزيرة العرب - وإن لم يكونوا كلهم فيها - وهي واقعة في الجنوب الغربي.
حدودها:
تحدها شمالا بادية الشام، وشرقا الخليج الفارسي وبحر عمان، وجنوبا المحيط الهندي، وغربا البحر الأحمر.
طبيعتها:
أكثرها صحراء، والصحراء ثلاث مناطق: (أ)
بادية السمارة:
مرملة، شحيحة الماء لقلة الآبار والعيون، مجدبة، قيظها شديد، وأغلب سكانها بدو.
يقع جنوبيها جبل شمر المعتدل المناخ الغزير المطر والنبات، فيه قرى وبلدان عديدة ويعرف بجبل طيء. (ب)
صحراء الجنوب:
أرضها صلبة مجدبة في الغالب إلا إذا أمطرتها السماء. في بعض بقاعها نخيل وأشجار، فيها الأحقاف والدهناء، وتعرف كلها بالربع الخالي. (ج)
الحرار:
أرض بركانية تمتد من شرقي حوران حتى المدينة.
الحجاز واليمن:
إذا أغفلنا شأن الصحراء فالجزيرة تتألف من جزأين: الحجاز واليمن. (أ)
الحجاز:
في الشمال، يمتد من العقبة إلى اليمن، وسمي حجازا لفصله تهامة عن نجد. والحجاز قطر كان فقيرا - قبل ظهور النفط - كثير الأودية الشتوية، قليل الماء، حار المناخ، ما عدا الطائف. أكثرية سكانه الساحقة بدو، وقع على الطريق التجاري الذي يربط اليمن ببلاد الشمال فكان ذا أهمية تجارية، فأمه اليهود في الجاهلية فاستعمروا خيبر والمدينة «يثرب» وغيرهما. (ب)
اليمن:
يقع جنوبي الحجاز في الزاوية الغربية الجنوبية من الجزيرة. اشتهر بالغنى والخصب، أشهر مدنه: صنعاء، نجران، عدن. لسكانه القدماء علاقات بالهند والشرق الأدنى.
وتلي اليمن شرقا حضرموت، وهي صقع جبلي كان عامرا بدليل الخط المسند الموجود على بعض خرائبه، وظفار، مصدر التوابل، تقع شرقي حضرموت.
وفي الزاوية الجنوبية عمان، وهو قطر جبلي على شاطئ البحر، اشتهر سكانه بالملاحة، وفي الشمال الغربي من عمان قطر البحرين الممتد إلى حدود العراق.
نجد:
أما نجد فهي الجزء المرتفع الممتد من جبال الحجاز إلى صحراء البحرين شرقا، فيه الصحاري والأراضي الزراعية، وهو أصح بلاد العرب وأجودها هواء.
مناخ الجزيرة عموما:
شديد الحرارة، يعتدل في الجبال ليلا في الصيف، وتتجمد مياهه في الشتاء، أحسن هوائها الرياح الشرقية المعروفة بالصبا، وأردأ الرياح ريح السموم. أحسن أيام الجزيرة فصل الربيع غب المطر؛ إذ ينبت العشب، وبحق سمى العرب المطر غيثا؛ لأنه غوث لهم.
سكان الجزيرة:
تصورهم لنا التوراة تجارا يربطون مصر وسوريا وفلسطين، في حين أنهم لم يكونوا في أول عهدهم غير نقلة التجارة وحماة القوافل في أرضهم من اعتداءات إخوانهم، إلى أن تدرجوا في سلم التجارة وصار بعضهم في آخر جاهليتهم تجارا. وينبئنا التاريخ أن النبي
صلى الله عليه وسلم
جاء سوريا مرتين متجرا .
أما أصلهم، فيزعم بعض المؤرخين أنهم وسكان الفرات ووادي النيل من أصل واحد، تحضر أولئك وغرق العرب في بداوتهم فكانت سبب تأخرهم عمن حولهم، فعاشوا قبائل متكلين على الأرض والسماء، لا يفكرون بالرقي، ولا يستخدمون عقلهم في تنظيم شئون حياتهم، كل رجائهم بالأنعام، فهي كل شيء من موارد الرزق في نظرهم.
أما سكان اليمن فكانوا متمدنين.
أقسامهم وأنسابهم:
انقسم العرب - ككل المغرقين في البداوة - إلى قبائل متعددة، أساس القبيلة الجد الواحد، والأنساب عن طريق الحلف والولاء، وعلى القبيلة بنوا نظامهم الاجتماعي.
عاشت القبائل في نزاع دائم، يتحالفون للدفاع والهجوم، فيؤدي هذا التحالف إذا طال أمده إلى اندغام عدة قبائل وانتسابها لأقواها، فيزعمون أخيرا أنهم من أصل واحد؛ ولذلك ترى الأنساب التي عني فيها العرب جدا عرضة للشك والريب؛ فاليمنيون اختلطوا بالحجازيين لما نزحوا إلى بلادهم عند انحطاط تجارة اليمن، قبل الميلاد بثلاثة قرون، وكذلك رحل الحجازيون إلى اليمن لكثرة نسلهم وضيق موطنهم. فتاريخ العرب غير ثابت لأنه لم يكتب؛ لبداوة العرب وأميتهم، ولا آثار تثبته حين كان العرب متحضرين كاليمنيين والحميريين، إذ لم يعثر إلا على شيء يسير من آثارهم.
فالاعتماد في تاريخ العرب على ما دونه الرومان واليونان والمصريون والفرس، والشعر الجاهلي الذي لم يدون إلا في العصر الثالث.
خلاصة الأنساب
إليكها كما اتفق عليها أهل هذا الزمان، تبعا لرواية التوراة التي تجعل عرب الشمال: الحجازيين أو العدنانيين، من نسل إسماعيل، وعرب الجنوب: اليمنيين أو القحطانيين، من نسل يقطان «قحطان».
نسل قحطان: كهلان وحمير
شعب كهلان (أ)
طيء:
وهي القبيلة المشهورة التي أطلق السريان والفرس اسمها على كل العرب. (ب)
همدان . (ج)
مذحج:
ومنها بنو الحارث سكان جنوب الطائف. (د)
بجيلة:
كان لها أثر عظيم في فتوح العراق في عهد عمر. (ه)
جذام:
سكان بادية الشام، ومن جذام لخم مؤسسة ملك الحيرة على الفرات، وكندة سيدة حضرموت، واليمامة ومنها امرؤ القيس. (و)
الأزد:
حكمت عمان، ومنهم غساسنة الشام، وخزاعة سيدة مكة قبل قريش، ومنها أيضا الأوس والخزرج سكان يثرب .
شعب حمير (أ)
قضاعة:
في شمالي الحجاز. (ب)
تنوخ:
سكان شمالي الشام. (ج)
كلب:
سكان بادية الشام. (د)
جهينة وعذرة:
في وادي أضم بالحجاز، والهوى العذري منسوب إلى هذه القبيلة الأخيرة.
نسل عدنان: ربيعة ومضر
شعب ربيعة (أ)
أسد. (ب)
وائل، ومن وائل: بكر وتغلب، كانت بينهما حروب طاحنة ملأت حوادثها وقصصها التاريخ العربي المؤيد بالشعر.
شعب مضر
قيس:
ويطلق اسمها على من ليس باليمني «قيسي ويمني» ومن قيس غطفان، ومن غطفان عبس وذبيان، وتميم سكان البصرة، وهذيل الذين اشتهروا بإجادة الشعر والإكثار منه، وكنانة ومنها قريش.
وعلى هذه القاعدة النسبية انقسم العرب في عصبيتهم، ولا بد من معرفتها لمن يشاء تفهم حوادث التاريخ وحل نصوص الشعر والأدب وخصوصا الفخر والهجاء.
قيسي ويمني:
كان العداء بين ربيعة ومضر بالغا أشده؛ حتى إن ربيعة كثيرا ما كانت تحالف اليمنيين لمقاتلة القيسيين أحفاد مضر، أبناء عمهم. وهكذا أصبح اليمنيون وأبناء ربيعة حلفا، والمضريون المعروفون بالقيسيين حلفا آخر، فعرف هذان بحزبين عربيين «قيسي ويمني» لا يزال يرافقنا في أحزابنا حتى اليوم.
عداء القحطانيين والعدنانيين
القحطانيون أو اليمنيون، أهل الجنوب عاشوا متحضرين.
العدنانيون أو النزاريون أو المعديون أهل الشمال غلبت عليهم البداوة.
لغة اليمنيين كانت تخالف لغة الحجاز وضعا وتصريفا، وهي أكثر اتصالا باللغة الأكادية والحبشية، أما لغة الحجاز فأكثر اتصالا بالعبرية والنبطية.
أما رقي هذين الشعبين فاختلف تبعا للحضارة واللغة والاختلاط بالشعوب. وقد كان العداء بينهما شديدا حتى اختلفت العمائم والرايات، فاعتم المضريون باللون الأحمر، واليمنيون باللون الأصفر، وفي ذلك قال أبو تمام:
محمرة مصفرة فكأنها
عصب تيمن في الورى وتمضر
وسبب العداء النزاع الطبيعي بين البداوة والحضارة، يدلنا على هذا العداء ما كان بين أهل المدينة - الأوس والخزرج - وهم يمنيون، وأهل مكة وهم عدنانيون.
وظل هذا الخلاف والتنافس بينهم بعد الإسلام، تثبته أقوال شعرائهم.
وظلت كفة اليمنيين في التنافس راجحة حتى ظهر النبي وهو عدناني، ثم صارت الخلافة في قريش آله.
فعني إذ ذاك القحطانيون بتلوين تاريخهم، فقالوا إن قحطان جدهم هو ابن هود، ثم قالوا إن إسماعيل هو أبو العرب جميعا.
أقسام تاريخ العرب
ثلاثة: (أ)
بائدة، وهي الأمم التي انقرضت قبل التاريخ. (ب)
عاربة، وهم القحطانيون. (ج)
مستعربة، وهم العدنانيون.
ويرى صاحب «فجر الإسلام» الدكتور أحمد أمين أنه لا يبعد أن يكون هذا التقسيم قحطانيا، فجعلوا العدنانيين بعدهم في العروبة.
عصبية العرب:
ظهر الإسلام والعرب ثلاث فرق: ربيعة ومضر واليمن، وكانت عصبية الجاهلية تأكل قلوبهم وتملك عليهم كل مشاعرهم، فحاول النبي إطفاء جذوتها فخمدت حينا، وما لبثت أن تأججت بعد موته في سقيفة بني ساعدة، وامتد لسانها في عهد عثمان ومعاوية وعلي، فالتهمت الأمويين وأكلت العباسيين.
استغل الأمويون هذه النعرة العصبية فمزقوا شمل العرب. ليست الخلافة سبب الشقاق في الإسلام إنما هي العصبية الجاهلية «بلوى العرب» ولا يزال التفريق الذي نتج عن هذه العصبية يتهدد ملوك العرب حتى يومنا هذا.
الدول العربية:
كانت العرب ثلاث دول وإمارات متعددة: (أ)
الدولة الأولى:
التبابعة، كانوا في صنعاء، أشهر ملوكهم بلقيس معاصرة سليمان بن داود. (ب)
الدولة الثانية:
المناذرة، كانوا في العراق، عاصمتهم الحيرة، من ملوكهم عمرو بن هند، والنعمان الرابع ممدوح النابغة، كان هؤلاء الملوك غير مستقلين يخضعون للفرس. (ج)
الدولة الثالثة:
الغساسنة، عاصمتهم دمشق والبلقاء، يخضعون للروم خضوع المناذرة للفرس، «أشبه شيء بالانتدابات التي كانت عندنا».
الإمارات:
أما الإمارات فعديدة؛ منها: كندة وتغلب وبكر وعبس وغيرهم. وكانت الإمارة تتناول أكثر من قبيلة.
كانت هذه الدويلات والإمارات عربية في أخلاقها وعاداتها ولغتها، أما ميولها فلم تكن عربية بحتة. كان المناذرة ميالين للفرس، والغساسنة للروم، وكانوا في شقاق مستمر ونزاع دائم، فضعفوا ولم يستطيعوا مقاومة جيوش المسلمين عند امتداد موجة الفتح الأولى.
حالة العرب الاجتماعية ونظمهم:
عاشوا متفرقين قبائل، لا تربطهم جامعة النسب، بل العصبية للقبيلة ضلت أم أصابت. يندغم الفرد بقبيلته حتى يكاد لا يشعر بذاتيته المستقلة؛ قبيلتهم أمة، وأسرتهم طائفة. تتألف القبيلة من الأسرة، رأس الأسرة الأب، فالكبير من الذكور يئد بناته وينتقي من أبناء أمته إذا شاء، وللزوجة المحل الثاني في الأسرة، يجلها الزوج وينتسب إليها الابن انتسابه إلى أبيه، تشارك الرجل في شئون الحياة كافة، فهي إلى الرجل أقرب منها إلى المرأة.
أما رأس القبيلة فقيدومها الممتاز، ثم صارت الإمارة في بيوت خاصة كولاية العهد، وأمير القبيلة سيدها الآمر المطلق، وهو القاضي والحاكم، وإليه يرجعون في شئونهم حسب عرفهم وتقاليدهم المرعية - هذا ما يعرف بحكم العشائر حتى يومنا هذا - إذن لا حكومة مسيطرة على العرب - ما عدا المتحضرين منهم - ولا يطالب بحقوق الفرد غير قبيلته.
وعلاقات القبائل ببعضها عدائية أكثر منها ولائية؛ غزو دائم وغارة مستمرة، إذا لم تجد القبيلة من تغزوه غزت بعضها؛ كقول القطامي:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقد تتحالف قبيلتان؛ إذ تلجأ الضعيفة إلى القوية لتذود عنها، ولكن حلفهم هذا لا يدوم فينقلبون أعداء متحاربين.
زواجهم عقد بسيط، للرجل حق الطلاق ما لم يشترط غير ذلك عند العقد، وهناك زواج آخر أشبه شيء بزواج المسافحة، يعقده الفساق من الشباب، وزواج السبي وهو إذا تغلبوا على رجال أخذوا نساءهم واستحلوهن زوجات لهم. أما تعدد الزوجات عندهم فلم يقف عند حد، والعصبية في الزواج صيرت ابن العم المالك الحقيقي لابنة عمه، لا تزف إلى سواه إلا بإرادته.
والأسرة مرتبطة بالقبيلة أشد ارتباط؛ إذا جنى أحدهم جناية حملت قبيلته جنايته، وإذا غنم فللقبيلة غنيمته، وللزعيم خيرها.
إذا جنى العربي في عشيرته يلجأ إلى سواها، فإن حمته والاها وصار منها يتعصب لها وتتعصب له.
شرائع وعادات
البنون والبنات:
مولد الغلام عيد، ومولد الابنة يوم بؤس وحزن، وقد يئدون البنت أو تنفى إلى الجبال لرعي الإبل.
الختان:
كانوا يختنون الطفل قبل بلوغه الحول الأول، كما كانوا يختنون البنت.
الميراث:
لم يكن للميراث قاعدة مقيدة بنظام، فقد يتحالف رجلان فيرث أحدهما الآخر، ويرث المتبنى كالبنين، وقد يحرم الرجل زوجته وأولاده ويهب ثروته لبطل قبيلته.
الطلاق:
مرجعه الرجل - كما تقدم - وهو أنواع لا محل لذكرها هنا.
الأخذ بالثأر:
لا بد منه ما لم تفصل القضية في محكمة العشيرة.
العقوبات:
يقضي بها شيخ القبيلة، وهي قطع اليد على السارق، والرجم على الزناة، والقتل على القاتل عمدا.
وقد تستبدل عقوبة القتل بدفع ألف بعير فدية لأهل المقتول إن كان شريفا، ومائة إن كان من العامة، وقد تدفع القبيلة الفدية عن القاتل لتنقذه من الموت.
هتك العرض:
هذه أفظع الجرائم عند العرب؛ فقد تتفانى لأجلها قبيلتان انتقاما لعرض بكر، ودفاعا عن شرف القبيلة وسمعتها.
خرافاتهم:
الكهانة، العرافة، الزجر، الطيرة، الميسر، الأزلام، رمي البعرة، وأد البنات، حبس البلايا، تعليق كعب الأرنب، تعليق سن الثعلب والهرة، تعليق حلي النساء على الملوع، كي السليم من الإبل ليبرأ الأجرب، وطء المقلات جثة المقتول، مسح الطارف عين المطروف سبع مرات ليسكن هيجانها، الغول، الهامة، رمي سن الصبي، جز نواصي الأسرى.
دياناتهم:
البدوي قليل الدين، قلما يكترث لما يعبد.
عاش العرب مشركين فألهوا قوى الطبيعة ومظاهرها التي لم يكن يحجبها عن أبصارهم حاجز من حواجز الحضارة؛ إذ يقابلها البدوي وجها لوجه، فعبدوا الشمس والقمر والأجرام والنار، ثم الأصنام والأوثان، وليست أصنامهم وليدة الفن كاليونان والرومان. قد يعثر البدوي في رحلة على حجر يمثل مخلوقا بعض التمثيل، فيأتي به إلى الكعبة حيث ينصبه إلها يتقيه ويخشاه، ثم يستشيره في المهمات، فقد كانوا إذا عمدوا إلى غزوة اجتمعوا حول الوثن يستشيرونه بالأمر، بواسطة أزلام يجيلها سادن كعبتهم، فإن خرج له: «لا تفعل.» أحجموا، وإن خرج: «افعل.» أقدموا، وفي ذلك يقول شاعرهم:
إنا اجتمعنا فهب السراحا
إن لم تقله فمر القداحا
ومن أشهر أصنامهم بنات الله الثلاث: اللات والعزى ومناة، وقد تهود وتنصر فريق منهم. (1)
اليهودية والنصرانية: انتشرت اليهودية في يثرب وخيبر واليمن والطائف، وكانت النصرانية في نجران، فنازعت اليهودية في الجزيرة، يغشى قسيسوها وأحبارها أسواق العرب مبشرين معلمين، ومن نصارى العرب غساسنة البلقاء ومناذرة الحيرة.
تشيع لليهودية ذو نواس أحد ملوك حمير، فاضطهد نصارى نجران وقتلهم، فانتصر لهم نجاشي الحبشة وهاجم ذا نواس ... إلخ.
وقد كانت هذه الأديان من بواعث الفتن في الجزيرة.
وقبل ظهور الإسلام كان قد تسرب الشك بالأصنام والأوثان إلى نفوس العرب، كما جرى لأحدهم مع أحد الأوثان؛ إذ رأى ثعلبا يبول برأسه، فقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه!
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلما ظهر الإسلام أسلم كثيرون بعد صراع ونزاع، فساد الإسلام إلا في بعض القبائل ككندة وبكر وقيس.
ثقافتهم:
ثقف العرب بعض الثقافة ثلاثة أمور: (1)
اتصالهم بالروم والفرس بواسطة دولاتهم - المار ذكرها - التي كانت قائمة على التخوم، شيدها غير العرب ليصدوا بها غارات العرب عن مستعمراتهم. (2)
التجارة التي مزجتهم بالأمم بعض المزج، فاقتبسوا باختلاطهم بها مدنية وأدبا وعلما. (3)
اليهودية والنصرانية اللتان حملتا معهما إلى الجزيرة بعض الثقافة اليونانية من الفلسفة والأدب، إلى جانب علوم التوراة وما فيها من تاريخ التكوين وحديث الثواب والعقاب والبعث والجنة والنار إلخ.
وحملت اليهودية أيضا الزراعة والصناعة.
فمن هذه العوامل دخلت اللغة ألفاظ جديدة لأغراض جديدة، وتأثرت العقول بمبادئ جديدة لم يألفها العرب؛ كالشك والزهد إلخ.
نعم، إن دخول هذه الثقافة لم يكن منظما، ولم تسر سيرا سريعا لتبدي العرب وأميتهم، وإعراض السواد الأعظم عن كل ما هو جديد. وهذا شأن كل أمة في اقتبال الجديد واعتناقها له مهما كانت عريقة في الحضارة.
وقصارى الكلام أن تثقف العرب كان بطيئا ضيق النطاق، فأهل الحيرة عرفوا شيئا من علوم الفرس واليونان وآدابهم، وغساسنة الشام أدركوا أشياء من حضارة الرومان واليونان وآدابهم، وأهل اليمن كانوا متصلين منذ عهد بعيد بالفرس والحبشة والرومان.
علومهم:
أما غير هؤلاء من عرب الجزيرة فكانوا لا يدركون من العلم والفن إلا ما توصلوا إليه بالتجارب والاختبار. إننا نستطيع أن نسميه علما بالنسبة لأيامهم، وهاك بعض علومهم: (1)
علم النجوم: عرفوا شيئا منه لحاجتهم لمعرفة الفصول والرياح والسرى والأمطار، كما عرف جيرانهم، إخوانهم الفينيقيون، نجمة القطب ليهتدوا بها في مخر البحار. (2)
الطب والبيطرة: عالجوا أنفسهم وحيواناتهم بالعقاقير والكي والحجامة، ثم بالرقى والطلاسم. (3)
علم الأنساب: حرصهم على عصبيتهم أوجد هذا العلم. (4)
الفراسة والقيافة: لكثرة ملاحظاتهم استدلوا بهيئة الإنسان الخارجية على أخلاقه، وبأعضائه على نسبه؛ وذلك ليكشفوا الدعي منهم.
حروبهم وأول عهدهم بالاتحاد:
أضعفتهم الحروب وكادت تفنيهم، فاستيقظ العرب لأول مرة واتحدوا عندما هاجم جزيرتهم أبرهة الحبشي واحتلها، فأبت أنفة العربي وإباؤه ونزعته الاستقلالية احتمال النير الأجنبي، فاستعان سيف بن ذي يزن بالرومان فخيبوه؛ لأن احتلال الحبشة لليمن كان بتشجيعهم، فالتجأ إلى كسرى فأمده بجيش لجب تغلب به على الحبشة واستعاد حرية العرب بعام الفيل، وصار سيف بن يزن ملكا عليهم.
استعادوا الاستقلال، ضالة البدوي المنشودة، وظلوا كذلك حتى طمعت الفرس بملك العرب بعد وفاة «سيفهم» فبسطوا سيادتهم عليهم، ثم استبدوا فقتلوا النعمان ملك العرب، فهاج العرب وتجمعوا وقاتلوا الفرس فاستظهروا عليهم ب «يوم ذي قار».
شعر العرب بفائدة الاتحاد فاعتصموا به، وظهروا أمام الأعاجم كدولة قوية متحدة، وبلغ اتحادهم الأوج تحت لواء النبي
صلى الله عليه وسلم .
أخلاقهم:
العربي معجب بنفسه، معتد بشخصيته، حريص على حريته واستقلاله، وذاك ربيب الصحراء، كريم مغياث، وهاب نهاب، أحوجته العازة إلى الغزو فصار السلب بالقوة فخرا ومجدا، شجاع يقظ على حد قول الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
أنشأته على هذه الأخلاق مجاورته القبائل المعادية والحيوانات الضارية.
أبي النفس، سخي، شجاع، كريم فخور، يحب اللهو وآلاته من خمر وميسر وصيد وغناء، يدلك على ذلك شعرهم الحافل بالتغني بهذه السجايا.
والخلاصة أن مثل العربي الأعلى في الأخلاق هو المروءة، وهي لفظة تنطوي تحتها في عرفهم كل الصفات الكريمة.
البدوي يحتقر كل عمل غير رعي الإبل والإغارة، يرى كل رزقه في أنعامه، فيقتتل على الغدير ويتطاحن على المراعي. هو غير أهل للتجارة، ولم يكن في أول عهده بين التجار غير سائق أو دليل، أو حام من إغارة أبناء عمه وخاله، وهو مع ذلك ذكي نبيه تكفيه إشارة لفهم المراد.
يعيش عيشة رخاء في العام الخصيب، ويأكل الضب واليربوع في زمن الجدب والقحط.
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا
فقل عد عنه كيف أكلك للضب؟!
سائح أبدي لا يقر له قرار، ينازل الطبيعة وجها لوجه، وإذا كان لناموس بقاء الأنسب تأثير في البشر فالعربي البدوي أنسب الناس.
لغة العرب
أصلها
إحدى اللغات السامية، نسبة لسام أحد الآباء الأولين - كما اتفق الناس - الذي من أصله العرب. ويقول المحققون من علماء اللغات إن لغتنا العربية أقرب اللغات شبها باللغة التي اشتقت منها، معللين ذلك بانزواء العرب في جزيرتهم واعتزالهم.
كانت في بدء عهدها فرعين عظيمين: لغة مضر ولغة حمير، وكان بينهما فروق كما ورد في كلامنا على لغة القحطانيين والعدنانيين، أما اللهجات فتعددت إلى حد عظيم، بيد أنه مع توالي الأيام والعصور صرعت لهجة قريش لهجات الجزيرة كلها، لأسباب ستأتي. لغة الأدب «الشعر والنثر» ولغة الدين «القرآن» ولغة السياسة والإدارة «بعد الإسلام» فاغتنت بما أدخل عليها من الألفاظ الجديدة التي دعا إليها الدين والسياسة والحضارة والعلم الجديد.
لقد كان العرب والسريان والعبران في الجزيرة يتفاهمون بلا ترجمان، ولكن تطور اللغة العربية بتطور قومها أبعدها عن أخواتها. واللغة تسود بسيادة قومها وتنمو برقيهم؛ فلذلك لم يبق رابطة تربطها بأختيها غير ألفاظ تختلف لهجة يعرفها المطلعون على هذه اللغات الثلاث، ومنها يعرفون أن هذه اللغات من مقلع واحد.
أسباب نموها ورقيها
هي العوامل التي تقدم ذكرها في كلامنا عن ثقافة العرب تحت عنوان «ثقافتهم».
فاللغة كائن ينمو ويتكاثر، فكلما وجدت الأغراض خلقت الألفاظ. وصار العرب دولة بعد الفتح الإسلامي فكانوا كالبوتقة للغات، فصهروها وطبعوها بطابع لغتهم الخاص، وأخذوا منها كل ما احتاجوا إليه، فاتسع نطاق لغتهم أيما اتساع.
وأهم أسباب النمو هو «المجاز»، والاشتقاق، والإبدال، والنحت، والقلب، والتعريب، وهاك التفصيل: (أ)
المجاز أو التجوز:
وهو أوسع أبواب اللغة، فمنه تثرى اللغة إلى ما لا حد له، ومن شروطه وجود العلاقة بين المعنى والكلمة التي نقلت إليه، ويكون المجاز في المفرد والجملة. (ب)
الاشتقاق:
هو من ميزات اللغة العربية وبه تتناسل إلى حد بعيد. فبنقلك اللفظة من صيغة إلى صيغة تنقلها من معنى إلى معنى آخر، فتستغني غالبا بكلمة عن جملة كقولك: استكتبت فلانا؛ أي طلبت إليه أن يكون كاتبا لي ... إلخ. (ج)
الإبدال:
وهو إبدال حرف بحرف من لفظة فتكونان بمعنى واحد. وللإبدال أسباب؛ منها استثقال بعض الحروف عند بعض الناس فأبدلوها بأخف منها. وللإبدال أثر كبير في اللغة تعثر عليه في أكثر كلماتها إن لم نقل كلها، وإليك المثل: أتملس أتملص أتملز؛ أي أتخلص. لصق لسق لزق. البصاق البزاق البساق ... إلخ. (د)
القلب:
وهو تقديم حرف أو تأخيره في اللفظة، بشرط أن لا تتبدل الحروف كقولك: فطس طفس، يتسكع يتكسع، أوباش أوشاب ... إلخ. (ه)
النحت:
ويقصد به الإيجاز - والإيجاز بغية العربي ومطلبه في كل شئونه حتى اللغة؛ لباسه وجيز، وأكله وجيز، وبيته وجيز - وهو أن تصوغ كلمة تدل على كلمات كقولهم: بسمل، كبر. ويكون النحت بالفعل نحو: سمعل «قال السلام عليكم» وبالوصف نحو: صلدم، للحافر الشديد من الصلد والصدم، وبالاسم نحو جلمود من جلد وجمد، وبالنسبة نحو مرقسي «من سلالة امرئ القيس». (و)
التعريب:
وهو نقل الكلمة الأعجمية على نهج العرب وأسلوبهم، فالحاجة إلى التعريب ماسة دائما في كل مكان وزمان، وقد لجأ إليها العرب في كل أطوارهم ولم يأنفوا من الالتجاء إليها كما نأنف نحن اليوم. وفي اللغة ألفاظ لا تعد كلها أعجمية معربة، وفي القرآن الكريم مائة كلمة منها.
خصائص لغة العرب
للغة العربية خصائص في إفهام المعاني ليست لغيرها من اللغات؛ منها: (1)
الإيجاز: وهو وليد الاشتقاق والنحت. (2)
جمال التعبير: الذي تتولد منه معان فرعية عديدة تفقد رونقها وجمالها الفني إذا ترجمت. (3)
الإعراب: الذي به يعرف الخبر من الإنشاء، والمفعول من الفاعل، والمضاف من المنعوت، والتعجب من الاستفهام، والنعت من الحال، والحال من الخبر. ففي إعراب: ما أحسن زيد. تتضح الأغراض الثلاثة. (4)
الحركات: كقولهم مفتح للآلة، ومفتح لموضع الفتح، ومقص كذلك ... إلخ. (5)
ترك التأنيث: حيث لا يشارك المذكر المؤنث في الصفة؛ كقولهم: امرأة طاهر «من الحيض»، وطاهرة «من العيب»، وقاعد «من الحبل»، وقاعدة «من القعود» ... إلخ. ومثل قولهم: كم رأيت رجلا؟ في الاستخبار؛ أي الاستفهام. وكم رجل رأيت، في الإخبار للتكثير. (6)
مخالفة الظاهر: كقولهم: قاتله الله ... إلخ. (7)
الزيادة: كقولهم: صه وصهن، ضيف ضيفن، رعشن ... إلخ. (8)
الاختصار: كقولهم: أثعلبا وتفر. (9)
ورود ألفاظ كثيرة بمعنى واحد يلجأ إليها الألثغ ليكتم لثغته أمام الناس؛ كقولهم: راية وغاية «للعلم»، رمازة وغمازة «للفتاة»، ملث وملس، وفاضت وفاظت ... إلخ. (10)
كثرة حروفها: وهي صالحة للاتصال بما بعدها وما قبلها، إلا ستة حروف فإنها لا تتصل إلا بما قبلها وهي: ر و ز ذ د ا.
كلمة لا بد منها
نمت اللغة العربية وتناسلت فكثرت ثروتها الأدبية حتى انتهت إلينا فوقفنا بها موقف الجمود، والجمود دليل الموت والفناء. أغلقنا باب المجاز والاشتقاق، وسددنا على أنفسنا منافذ النحت والتعريب، فأصبحت ألفاظ لغتنا كالمحنطات في المتاحف، أو كالمتاع الذي لا يصلح للاستعمال. لقد صارت كالأوثان في كعبة الجاهلين لا نجرؤ على مسها، نأنف من إدخال الدخيل إليها بالتعريب مع أنها مملوءة به وهو منبع ثروتها. لا نستعمل إلا ما ورد في كلامهم فأصبحت لغتنا لا تصلح إلا للتعبير عن أغراض ذلك الزمان.
ما أشبه لغتنا بشجرة لم تمسها فأس مشذب، لا مائية ولا نضارة فيها، ييبس منها ما ييبس ولا تفرخ جديدا!
نزعم أنها تحتوي كل الألفاظ من قديم وجديد، مما ولد وسيولد، وذاك لعمري الضلال المبين. أجل إن العربي لأنوف من كل غريب حتى الألفاظ التي يحتاج إليها ليعبر عن غرضه، وهذا لعمري منتهى الضلال والشطط، فهذه أرقى اللغات الأوروبية تدخل إليها الألفاظ الجديدة بالمئات كل عام، من دخيل وغيره، وهذه معاجمهم تدلنا على أصل كل كلمة دخلت لغتهم، ولا حياء ولا خجل.
أنا لا أقول بإدخال كل لفظة إلى لغتنا فتصبح فوضى، ولكنني أقول بأخذ كل ما نعجز عن إيجاده لنتفاهم مع ناس هذا الزمان.
وإن كان لا بد من أخذ ألفاظ من اللغة وإطلاقها على مسميات مستنبطات جديدة، فنحن محتاجون إلى قاموس مصور يخصص كل اسم بمسماه بعد رسمه وتعريفه التعريف الذي لا التباس فيه، فلا يكون تفسير سعد ضد شقي، وشقي ضد سعد، كما هي الحالة في المعاجم التي بين أيدينا.
إن الحيوانات والحشرات، برية وبحرية، مختلفة متنوعة ، ولها أسماء عديدة في لغتنا، فلماذا لا نخص كل نوع باسم خاص به؟ وكذا قل في النبات وغيره من الأشياء.
لماذا لا نشتق تلفن من التلفون، كما اشتق الإمام علي نورز من كلمة نيروز بقوله: «نورزوا لنا كل يوم.» وكما قالوا دون من كلمة ديوان. أما إذا كان لا بد من استعمال كلمة هاتف للتلفون، فلتكن كلمة هتف بدلا من تلفن، وهكذا قل في كل الألفاظ المستحدثة.
فما أشبهنا بأبناء اتصلت بهم ثروة آبائهم فلم يعملوا على زيادتها وإنمائها فكادت تفنى وتضمحل وهم ينظرون إليها نظرة الجاهل إلى مريض يتململ أمامه ولا يعرف بما يسعفه.
آداب الأمم
الفكر العام:
من اطلع على آداب الأمم ظهر له أن الفكر الإنساني متفق على بعد القارات؛ فعدة كتاب في أمم مختلفة اتفقوا في النظر إلى الحياة وإن اختلفوا جنسا ودينا وعصرا ولغة.
الأدب العام:
هو مأثورات كل أمة مما روي عن نوابغها من كلام، وخير الأدب ما استهواك وملت إلى استماعه مرارا، وتلذذت بأخيلته ومعانيه وطربت لموسيقى ألفاظه.
ولكل الأمم آداب، ومن اطلع على آداب أمة من الأمم بروية وإمعان أدرك عاداتها الاجتماعية والدينية، ورأى أمامه أخلاقها مصورة أدق تصوير.
تاريخ الأدب:
علم يبحث عن تطورات كل لغة وما فيها من ثروة أدبية نظما ونثرا، ثم يتتبع سير الفكر في تلك الأمة يرافقه في سيره صعودا وهبوطا، من الولادة إلى الشباب فالهرم فالموت فالانبعاث. ويعنى هذا العلم بتاريخ من نبه من حملة القلم ناقدا ما كتبوه، مبينا تأثيرهم ببعضهم صناعة وتفكيرا. ومن درس تاريخ آداب أمة رآها في همجيتها ومدنيتها؛ فدرس آداب أمة هو درس تاريخها، ولكي يكون حكمنا صحيحا يجب أن ندرس كل العصور.
أهمية تاريخ الأدب:
الأدب مرتبط باللغة والتاريخ، فدرس تاريخ الأمة من حيث الاجتماع والدين والسياسة ضروري لفهم آدابها، ودرس آدابها ضروري لتصديق تاريخها؛ فالأدب صورة العصر بما فيها من جمال وقبح، ومتى فقدت أمة آدابها فقدت لغتها وتاريخها، وكل أمة تتضعضع لغتها وتندثر، تتفكك عرى وحدتها وتجهل أمجادها ومفاخرها، وكل أمة منيت بهذا الداء سهل استعبادها، وماتت قوميتها، وانحطت مهما كانت نبيلة، كسلسلة ذهبية مفككة الحلقات.
فوائد تاريخ الأدب:
يبين لنا فكر الشعب العام وتطور التعبير والأسلوب بتطور الأمة وامتزاجها بسواها. وباطلاعنا على التأثيرات الاجتماعية والسياسية والدينية نحكم على الإنشاء في أي عصر كتب، فما يستعمل في عصر من الألفاظ قد لا يستعمل في عصر آخر؛ لأن اللغة اكتسابية، خاضعة للنمو، ومن درس تاريخ الأدب فهم أساليب الكتاب.
أقسام الأدب:
الأدب قسمان: نظم ونثر، ولا نبحث الآن في شيء من هذا، بل نرجئه إلى الفصل التالي ونقدم عليه الآن البحث في العقلية العربية.
العقلية العربية
العربي ذكي تكفيه الإشارة ليفهم - إن اللبيب من الإشارة يفهم - حاضر البديهة، ذكاؤه ليس في الإبداع بل تفنن بأساليب الكلام، مفرط بحب الحرية الشخصية - لا الاجتماعية - لا يخضع ولا يدين لأحد؛ ولذلك قال عنه الأب لامنس اليسوعي: العربي مثال الديمقراطية، سبب كل شقائه إغراقه في محبة الحرية وثورته على السلطة، وهو من ناحية أخرى مخلص مطيع لتقاليد القبيلة، كريم مضياف، يبر إذا حالف، ويفي إذا صادق.
قال أوليري: «العربي ضعيف الخيال جامد العواطف.»
ليس العربي جامد العواطف ضعيف الخيال، بل العربي مقلد لا يفكر كثيرا ككل من يعيش في محيط محدود. هو في أدبه مثله في حياته، فكما أنه لم يفكر بتغيير مجرى حياته لم يفكر بتغيير أسلوب أدبه وتفكيره؛ ولذلك لم يخرج على مألوف من تقدموه إلا خروجا ضئيلا في كل أطواره، فهذه آثار البداوة لا تزال ظاهرة في شعراء القرن العشرين وأدبائه ظهورا ملموسا.
قلة تفكير العربي جعلته يصدق خرافات كثيرة، وليس العربي وحده مصدقا للخرافات، فللأمم العريقة في المدنية خرافات تضحك كل مفكر.
فماذا نقول متى عرفنا أن الأميركي يعتقد اعتقادا يكاد يكون عقيدة أن «نعلة الفرس» فيها سعادة وفأل؟!
العقل العربي لا ينظر إلى الأشياء نظرة شاملة تتحرى المسائل من أصولها، بل يطوف حول الموضوع كالنحلة، تأخذ شيئا من الشهد وتترك كثيرا، ولكن عسلها في كل حال لذيذ.
ولهذا ضعف «منطقه» وظهرت أفكاره كسلسلة ذهبية مفككة الحلقات، وهذا ما نلمسه في الشعر العربي، وبناء على هذه الخاصة جعلوا البيت وحدة القصيدة.
وقد قصر نفس الشاعر العربي وصرت إذا أغفلت من القصيدة بعض أبياتها أو قدمت أو أخرت فيها لا تدرك أن هناك شيئا مفقودا.
أسباب تكوين عقلية العرب
البيئة الطبيعية:
وهي المحيط الذي عاشوا فيه، فهناك جبال وأنهار وصحراء.
البيئة الاجتماعية:
كنظام الحكومة والدين والأسرة ... إلخ.
فبيئتهم الطبيعية القاسية حالت دون دخول المدنية إليها، فلم يطمع بجزيرتهم الفاتحون والمستعمرون لجدبها وخشونة العيش فيها.
إن حياة الصحراء على وتيرة واحدة، ولذلك جاء الأدب العربي على وتيرة واحدة، فلا تبدل ولا تغيير في مشاهد الطبيعة يولد الفكر وينوع الخيال ويلون التصور.
ففي ذلك الإقليم الطلق نشأ عقل طلق إلا من قيدين: قيد الدين وقيد القبيلة.
قيد الدين:
دعاهم إليه خوفهم من عناصر الطبيعة الثائرة التي تقابلهم وجها لوجه، فترهبهم.
قيد القبيلة:
دعاهم إليه التنازع والخصام والحرب في سبيل المعاش.
في لغتهم دلالة على عقليتهم، سموا المطر غيثا لقحط أرضهم، وعدوا الكرم رأس الفضائل لبؤسهم، وجعلوا الشجاعة رأس المكارم الأخلاقية لحاجتهم إلى الدفاع.
اللغة وعملها في تكوين العقلية:
اللغة تدل على العقلية بألفاظها الدالة على الأشياء التي تعرفها الأمة، وهذا نعرفه من المعاجم. أما معاجمنا فلا تدل على شيء من هذا؛ لأنها لم توضع في عصور مختلفة، بل جمعت كلها دفعة واحدة، فخلطت الألفاظ الجاهلية بالأموية والعباسية. قد تصلح دليلا على العصور السالفة، أما أن تدل في الغد على عقليتنا نحن فهذا بعيد؛ لأننا لم ندخل فيها شيئا يدل على عقليتنا، من مسميات علومنا وما نعرفه من غرائب العلم والفن على اختلاف فروعهما.
أما أسلافنا الأقدمون فمن لغتهم نستدل على عقليتهم.
ففي الماديات أوجدت حاجتهم إلى الناقة الألفاظ الكثيرة المتعلقة بها، وقلة احتياجهم إلى السفينة والانتفاع بها قتل ألفاظها جدا. وصفوا الصحراء وما فيها بكل دقة، ولم يصفوا البحر إلا قليلا، وهذا طبيعي؛ إذ لا يصف الإنسان إلا ما يحتك به.
ألم يقل عمر بن الخطاب لأحد قواده صف لي البحر عندما سأله ركوبه للفتح؟ ألم يقل الشاعر العربي في ذلك الزمان:
لا أركب البحر أخشى
علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب
وفي المعنويات نجد ألفاظ البؤس أكثر من ألفاظ السعادة، لكثرة مصائبهم وبلاياهم.
إذا لجأنا إلى الشعر فلا نستطيع أن نحكم به على عقلية العرب جميعا؛ لأنهم كانوا قبائل متعددة تستعمل ألفاظا مختلفة، ولأسباب أخرى ستأتي فيما يلي.
وإذا لجأنا إلى القرآن الكريم - كما يريد الدكتور طه حسين - فلا نجد صورة الجاهلية تامة؛ لأن في ألفاظه وتعابيره ما هو خارج عن مألوف عرب الجاهلية.
الشعر:
الشاعر علم القبيلة، والشعر في عرفهم من شعر؛ أي علم. أما علماء اللغات فيقولون إنه من كلمة شير العبرانية، ومعناها: الغناء. ونحن إلى هذا الرأي أقرب؛ لأننا إلى الآن لا نزال نقول أنشد فلان قصيدة.
إننا نخالف القائلين إن معنى شعر علم؛ لأن شعراءنا اليوم - شعراء الزجل - ليسوا أعلم الأمة، بل هم ذوو قرائح منحتهم إياها الطبيعة، وكذلك كان الشعراء في الجاهلية.
الشعر ديوان العرب. هكذا قال الأقدمون، وهذا معناه أن الشعر وثائق تاريخية، وهو كذلك لو عني الرواة بحفظ الشعر نظرا لقيمته التاريخية، ولكنهم لم يحفظوا ولم يدونوا إلا ما لاءم أذواقهم، وأغفلوا كثيرا من الشعر الذي لو حفظ وبقي لكان منه وثائق تاريخية ذات قيمة تدل دلالة واضحة على عقلية العرب.
الأمثال:
تدل دلالة أصدق من الشعر على عقلية الأمة؛ لأنها صادرة عن مجموعها، بخلاف الشعر الذي ينبع من أفرادها.
والأمثال تدل على ضروب حياة الأمم تجارية واجتماعية وزراعية؛ كقولهم: استنوق الجمل، لا في العير ولا في النفير، في بيته يؤتى الحكم. فالأمثال التي قيلت في المرأة تدل على انحطاط مقامها، والتي قيلت في الحياة الاقتصادية تدل على جدب البلاد وقحطها.
الأحاجي والأسئلة:
وهذه تدل على مبلغ عقليتهم أيضا كما جرى لعبيد الأبرص مع امرئ القيس، وما جرى لامرئ القيس مع الابنة التي خطبها، ومعاوية مع من سأله.
القصص :
القصص التي خلقوها للحيوانات تدل على عقليتهم أيضا؛ كقولهم: ذهبت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين.
ومن القصص أيام العرب؛ أي حروبهم وأحاديث الهوى، وقصص أخرى أخذوها من أمم أخرى، أو أحدثوا هم ما يشبهها، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا بمعزل عن غيرهم من الأمم كما يظن، بل كان هناك امتزاج.
الإسلام وعقلية العرب:
للإسلام أعظم أثر في عقلية العرب؛ فقد جاء بتعاليم جديدة مخالفة لمعتقدهم فغيرت عقليتهم.
وبواسطة الفتح الإسلامي استفاد العرب من مدنيات الأمم التي استولوا عليها فأخصبت عقليتهم.
الإسلام غير قيمة الأشياء في نظرهم، فمنها ما غلا ومنها ما رخص. فمثل الإسلام الأعلى غير المثل الجاهلي.
المثل الجاهلي:
شجاعة شخصية، شهامة لا حد لها، إسراف في الكرم، منتهى الإخلاص للقبيلة، انتقام، ثأر، عصبية، لذات، تمتع.
المثل الإسلامي:
خضوع لله وانقياد أعمى، صبر، إخضاع منافع الشخص والقبيلة لأوامر الدين، قناعة، تواضع، مساواة لقتل العصبية، تعصب للجنس.
في القرآن الكريم:
ليس البر أن تولوا
إلخ،
ولكن البر من آمن بالله
إلخ.
وفي الشعر الجاهلي:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... إلخ
إلا أن العصبية التي حاربها الإسلام ظهرت من حين إلى آخر في التاريخ الإسلامي، وهي سبب النزاع بين عثمان وعلي ومعاوية.
أجل لم يصبغ الإسلام كل العرب صبغة واحدة، بل صبغ الذين تغلغل الإسلام في أعماق نفوسهم، وهم المهاجرون والأنصار. والنزعة الجاهلية ظاهرة أشد الظهور في الشعر الأموي.
التمازج:
وامتزج العرب بغيرهم من الأمم والشعوب بعد الفتح الإسلامي، فتغيرت بذلك العقلية العربية، وتناول المزج كل شئون الحياة من اجتماع وآراء ودين.
وقد ساعد الرق والولاء على الامتزاج، فالإسلام حبب عتق الرقيق، وجعله كفارة عن جرائم كثيرة، ومن أعتق كان «مولى» وهذا ما عرف بالولاء، وإذا مات المعتق بدون عقب ورثه المعتق.
إن للموالي هؤلاء يدا كبرى في تكون العقلية العربية؛ فبالزواج بالإماء والموالي اختلط الدم العربي بسواه، ومن أبناء هؤلاء السراري: زين العابدين بن الحسين، وقاسم بن محمد بن أبي بكر، وغيرهما. وقد نبغ كثير من أبنائهن فزادوا في ثروة الأدب العربي.
والاختلاط في السكنى كان من أقوى عوامل المزج، فالعجم الذين جاءوا بلاد العرب أسرى حرب صاروا فيما بعد موالي أحرارا، وأمست تعج بهم الأمصار، فاحتكروا الصناعة والتجارة، كما يحدث بعد كل انقلاب عظيم.
فمن كل الأسباب المتقدمة امتزجت العادات والأنظمة والحكم والفلسفة وضروب الحكم.
ولما كانت هذه الأمم المغلوبة أرقى مدنية من العرب، كانت السيادة لمدنيتهم وحضارتهم ونظمهم، ولما كان العرب العنصر الأقوى صبغوا هذه المدنيات بصبغتهم الخاصة.
وبالإجمال، كان هذا التمازج تطعيما بين العقل العربي والعقل الأجنبي أنتج بعد زمن قليل.
فلما اطمأن المغلوبون إلى الإسلام بدءوا يؤلفون في علومهم، فتأثر العرب بها، بكل شيء حتى العقيدة الإسلامية فإنها لم تخل من تأثر.
وكانت الحرب سجالا في الشئون الاجتماعية والدينية واللغات والآمال والأماني والنظم والعصبية، فللعربي فيها ما ينافي غيره.
ثم ظهرت نتائج كل هذا في العصور التي تلت الفتح الإسلامي فانخذل العرب في النظم الاجتماعية والسياسية وانتصروا في اللغة والدين.
غلبت اللغة جميع اللغات وهزمتها، واعتنق المغلوبون الدين الإسلامي، وإن تأثر الدين واللغة بشيء أعجمي.
أثر الفرس:
اعتنق الفرس الإسلام ولم يكونوا كالمسلمين العرب، وتعلموا العربية ولكنهم لم يفكروا كالعرب ولم يتخيلوا مثلهم، فدخل بذلك تعاليم جديدة في الإسلام ظهرت في التشيع والتصوف، وغمر الأدب العربي بمنتوجات فارس الأدبية.
مراكز الحياة العقلية:
الحياة تكون في المدن طبعا مختلفة عن السواد، وقد تمتاز كل مدينة بعلم لأسباب أدبية.
فظهور النبي في مكة وهجرته إلى المدينة جعل لهما صبغة علمية خاصة، وكثرة الأحداث السياسية في العراق وتتابع الفتن أنشأ المذاهب الدينية، ووجود الدولة الأموية في الشام كيف الحياة العلمية فيها.
فأهم المراكز العقلية هي: (1) مكة والمدينة في الحجاز. (2) البصرة والكوفة في العراق. (3) دمشق في الشام. (4) الفسطاط بمصر. (1)
الحجاز:
مكة والمدينة؛ مركز لطلاب الحديث والفقه والتاريخ، فاقت المدينة مكة لكثرة مهاجرة الناس إليها، فهي مقر الخلافة وكبار الصحابة، لا يبرحها كبار قريش إلا لحاجة ماسة، وبها كانت توزع الأسرى. فلكل هذه الأسباب المتقدمة كانت تزدحم فيها الناس من كل طبقة.
إن هؤلاء الأسرى كانوا من طبقة عالية من مختلف الأمم التي دوخها العرب، وبتوزيعهم على العرب صبغوا الحياة الإسلامية بعقلية تخالف من بعض الوجوه عقلية العرب؛ لأنهم أبناء علم منظم.
كان في المدينتين حياتان متناقضتان: حياة زهد وتقى وعلم؛ لوجود الصحابة الأنقياء القانتين، وحياة لهو وتمتع أنتجت فنا وأدبا. وقد امتلأت المدينة ومكة بالمغنين والمغنيات؛ لأن طبقة العرب العليا كانت هناك، وكانوا يتسابقون إلى اقتنائهم ويتهادونهم كما يتهادون بالسلع. (2)
العراق:
رغب العرب في الهجرة إليه لغناه وخصبه، حملوا إليه العصبية القبلية وأرستقراطية الفاتح.
فعصبية القبيلة ظهرت تجاه بعضهم بعضا؛ إذ خططوا البصرة والكوفة تخطيطا قبليا، كل فريق على جانب «كما في بعض المدن الإسلامية المسيحية اليوم، حارة الإسلام وحارة النصارى».
أما أرستقراطية الفاتح فظهرت في موقف العرب تجاه الموالي.
ثم تحولت العصبية القبلية إلى عصبية للمدينة؛ فالبصريون تعصبوا للبصرة، والكوفيون تعصبوا للكوفة. تفاخروا بالفتوح أولا ثم بالعلم، وتعصب كل لعلمائه في كل الفروع.
فالعراق أكثر البلاد ثروة علمية وأدبية لأسباب: (أ)
المدنيات التي ورثها العرب عن العراق، وثروة البلاد التي تمكن العالم من التفكير إذا تهيأ معاشه. (ب)
كثرة الفتن التي كان العراق ساحتها، ونزوح كبار العرب إليها، وبحثهم هناك في الحقوق والشرع توصلا لمعرفة صاحب الحق من الزعماء. (ج)
اضطرار العرب لوضع علم النحو لكثرة الموالي في العراق ليتعلموا العربية، وقد وضع على النمط السرياني؛ لأن السريان كانوا قبل العرب في العراق. (3)
الشام:
خصب الأرض واعتدال الجو بعث كثيرا من الأنبياء في هذا القطر، فنشروا تعاليمهم، وتعاقب المدنيات عليه أورثه علوما كثيرة؛ فحروف الكتابة عن الفينيقيين، والتعاليم الإلهية عن العبريين، والمذاهب الفلسفية عن اليونان، والنظرات الفقهية عن الرومان.
نزح العرب إلى الشام في جاهليتهم وصاروا فيها ملوكا وأمراء، وإليها انتسبوا لا إلى الجزيرة العربية.
فعند الفتح الإسلامي سادت لغة قريس فيها بدلا من لغتها التي كانت خليطا من الآرامية والعربية.
وكان فيها نصارى كثيرون محتفظين بدينهم، فقامت المساجد بجانب الكنائس، وحصل احتكاك وجدال وحوار وخصومة، فأدى كل ذلك إلى البحث في القضاء والقدر وصفات الله التي هي الأساس لعلم الكلام. (4)
مصر:
أهم علومها كان علم الدين أولا، فلما هدأت حركة الفتح استعادت الثقافة اليونانية الرومانية نشاطها إلى أن اصطبغت بصبغة إسلامية، وهذا لم يظهر إلا في آخر عهد الدولة الأموية.
الخلاصة:
عقلية عربية لها طبيعة خاصة هي نتاج بيئتها، وعيشة اجتماعية خاصة يعيشها العرب في جاهليتهم.
دين إسلامي جديد أتى بتعاليم جديدة، رسم للحياة مثلا أعلى غير المثل الجاهلي.
فتح إسلامي مد سلطانه على فارس وما حولها من مستعمرات رومانية كثيرة، فأذاب مدنية وعلم ودين الفرس ودين ومدنية وعلم المستعمرات الرومانية، وكون منها مزيجا واحدا مختلف العناصر.
كل هذه الأشياء كانت أسبابا لها نتائجها، ومن نتائجها ما كان من حركة علمية ودينية.
وهكذا تطورت العقلية في وقت قصير وبلغت غير قليل، ولكنها عادت إلى الجمود عندما ضعف أمر العرب، وصارت إلى الهمود عندما ذهب الملك من يدهم وآل إلى الأتراك، وعادت إلى اليقظة والانبعاث عندما فكر العرب بحقهم المسلوب، وقاموا يجاهدون للوصول إليه، ولا يزالون يجاهدون لاستعادة أمجادهم الغابرة. أما اللغة فظلت تقاوم العوادي، ولو لم تثبت في وجه الزمان لبادت الأمة واضمحل كيانها، وسترى أسباب هذا الثبات بعد قليل.
الأدب العربي
كلمة عامة:
الأدب العربي - الذي بين أيدينا اليوم - من الجاهلي حتى عصر الانحطاط؛ غني جدا لأنه أدب شعوب جمة، فهو وارث مدنيات عديدة لها تصوراتها وخيالاتها وأفكارها وحكمتها وفلسفتها ونظرياتها الاجتماعية، لقد كان الفتح الإسلامي أشبه بالبوتقة التي صهرت فيها المعادن المختلفة، ثم كونت منها شيئا مطبوعا بطابعها الخاص.
أدب البداوة:
البداوة طور اجتماعي تمر به كل الأمم، بل هو معبر إلى الحضارة لا بد أن تمر به كل أمة مهما سمت مدنيتها.
وللبداوة في الحياة طريقة خاصة وأدب خاص يكون في أول عهده شعرا؛ لأن الشعر وليد الخيال، والخيال يسبق الفكر؛ لأن الشعر غناء والإنسان مفطور على الغناء منذ نشأته.
بخلاف النثر - ونعني الفني منه لا لغة التخاطب - فإنه وليد الفكر ، والبدوي قليل التفكير ينفر من المنطق؛ فعقلية البدوي وثابة سريعة الانتقال، كانتقاله بين ليلة وضحاها من مفازة إلى مفازة.
ليس هذا في الأدب العربي فقط، فكل أمة في عهد بداوتها لا يكون أدبها إلا شعرا، ومتى انتقلت إلى الحضارة لا تحمل من تاريخها غير تلك الأناشيد الشعرية التي ترى فيها كل فخرها ومجدها.
فإذا بحثت في عهد بداوة العرب وغيرهم من الأمم لا تجد الساسة والحكماء والقادة ومدبري الشئون الاجتماعية إلا شعراء، ولا تجد أنظمة البدو وعواطفهم وحكمتهم إلا في الشعر.
الشعر:
فالشعر أول مظاهر الحياة الاجتماعية القوية لكل أمة كانت بدوية ثم تحضرت، فالأمة اليونانية، مثلا، أول مظاهر حياتها الأدبية الشعر.
فالحضارة بنت البداوة والأدب المتحضر هو ربيب الأدب المتبدي، فلولا امرؤ القيس ما كان عمر بن أبي ربيعة وبشار، ولا أبو نواس ... إلخ.
لقد كان الشاعر منبرا منتقلا تلقى عنه الدروس السامية، وكان سيده وهو الشاعر يزرع في العقول المبادئ الاجتماعية البدوية، بل يغرسها في الألباب غرسا، فكل المثل العلياء في الحياة البدوية تجدها في شعرهم.
النثر:
أما النثر في آداب الأمم المتبدية فلا أثر له؛ لأن النثر أقل تأثيرا في النفوس من الشعر، وأقل حفظا أيضا، ولذلك لم يصل إلينا من النثر البدوي إلا بعض فقرات من سجع الكهان لا تستحق الاهتمام والاعتبار، ما خلا الأمثال، فهذه بمنزلة الشعر من حيث التأثير والحفظ.
تطور الأدب:
يكون الأدب في بدء عهده ساذجا، تلقيه السليقة بلا أصول ولا قيود، يفصح الإنسان عن فكرته كلما جاش في صدره بعبارة أقرب إلى البساطة منها إلى الفصاحة والتأنق في التعبير، يوردها كما توحي إليه بها طبيعته بلا تأنق ولا تنميق، بعيدا عن الفن والتكلف.
وإن سأل سائل: ما دام الأمر كذلك، أليس الشعر أكثر تصنعا وتعملا من النثر، فلماذا لم يفصح البدوي عن فكره نثرا؟
فعليه نجيب: إن النثر كان موجودا، ولكن غير فني؛ أي لغة تخاطب، ومثل هذا الكلام لا يحفظ ولا يتناقله الناس كالشعر ليبقى، ولا كتابة وتدوين تحفظه فباد . وكما أن الشعر - كما قلنا - ضرب من الغناء، والأغاني طويلة الأعمار، فلذلك أبدى البدوي أدبه بصورته المنظمة التي ندعوها شعرا، يتناشدها الناس في مجالسهم، ولذلك قالوا: الشعر ديوان العرب.
أجل إن الشعر هو الحافظ الأمين لآداب الأمم القديمة؛ كاليونان في إلياذتهم، والعبران في توراتهم ... إلخ.
وقد مرت على الأدب أطوار عديدة صقلته وهذبته ونوعته، فوصل إلينا في أرقى أشكاله. والأدب نوعان: إنشائي ووصفي. (1)
الأدب الإنشائي:
ويسميه الإفرنج أدب قوة، وهو الكلام الذي ينشئه صاحبه نظما ونثرا، وهو الأدب الحق الصرف.
فالأدب الإنشائي يتأثر بالبيئة والعصر، فهو مرآة العصر والبيئة، يتطور بتطورهما، وفيه القديم والجديد.
والأدباء قسمان: قسم أدبه قطعة من روحه، فهو قوي الشخصية جبارها، لا يهمه غضب الناس أم رضوا، فهو على حد قولهم: قل كلمتك وامش.
وقسم يهمه رضا الجمهور، يفني شخصيته فيهم ولا يفنون فيه، فهو يمثلهم ولا يمثل نفسه بشيء.
فالأدباء عموما تلتمس شخصيتهم فيما يكتبون ويؤلفون، بخلاف العلماء، فإنك لا تلمس شخصيتهم فيما خطته أيديهم. (2)
الأدب الوصفي:
يتناول الأدب الإنشائي شرحا وتحليلا وتاريخا، بل هو النقد بعينه.
إن الأدب الوصفي هو ما نسميه تاريخ الآداب، فبينما الأدب الإنشائي فن كله يكاد يفسده العلم إن دخل فيه، نرى الأدب الوصفي يكاد يكون علما كله أو مزيجا من العلم والفن، بل البحث والذوق. الأدب الوصفي قديم في كل الأمم التي كان لها أدب إنشائي ومدنية زاهرة.
أنشأ الأدباء أولا بلا علم ولا فن كما تقدم، ثم ارتقى الناس فجاءوا يضعون القيود والأصول للأدب مستنتجينها من أقوال الأقدمين الغريزية، فما رأيت أعظم من محبة الناس للقيود والتقاليد، والقوانين في كل شيء ولكل شيء.
فالأدب اليوناني كان في أول عهده فنا كله، ولم يكن الجمع والترتيب واستنباط النظريات ووضع الأصول والقواعد للنقد والبيان إلا في القرن الرابع، وكذاك فعل الرومان، وكذا فعل العرب.
أنشأ الإسلاميون والجاهليون وبعض العباسيين، ثم استنبط العباسيون المتأخرون الأصول والنظريات.
فالجاحظ والمبرد وابن قتيبة وابن سلام أدباء وصفيون.
تاريخ الأدب:
إن تاريخ الأدب علم قديم وليس علما متكلفا، بل هو كغيره من العلوم والفنون متأثر بكل ما يؤثر بالحياة البشرية، فهو يتطور ويتغير وينحط ويرقى.
كان يفهم بكلمة أدب في أطواره العديدة: مأثور الكلام من شعر ونثر، ثم توسع في هذا الموضوع ودخل فيه علوم عديدة خاصة كالبلاغة والنقد البياني، ثم عم علوما كثيرة، ثم تقلص بعد التمدد وعاد هذا التحديد إلى ما نفهم به اليوم: مأثور الكلام نظما ونثرا.
ولتذوق الأدب وتفهمه، على الأديب أن يلم بتاريخه، وتاريخه هذا يعين الطالب على فهمه بدون عناء وتعب؛ أي إنه يكفيه مئونة البحث والتنقيب في الكتب الأدبية التي تعد بالمئات، وقصارى الكلام: إن تاريخ الأدب «قادومية» أقرب الطرق للمتأدبين.
وتاريخ الأدب متصل بالأدب كل الاتصال؛ أي إنه لا يستطيع غير المتأدب أن يكتب في تاريخ الأدب، بخلاف بقية التواريخ، فقد يكتبها ويدونها ويفهمها من ليس له علاقة بالموضوع.
الأدب العربي:
مر الأدب العربي الذي ندرسه بأطوار عديدة؛ منها الطور الجاهلي، ولم يصل إلينا من هذا الطور إلا قصائد تمثل لنا حياة الجاهليين من كل مناحيها، فما تأثروا به أكثر وصفوه أكثر. أما النثر فلم يكن منه شيء كما سبق الكلام، إلا أمثال تبين لنا ضروب الحياة وألوانها، فالنثر الفني كان معدوما، ولا أظن سجع الكهان مما يعتد به.
ثم الطور الإسلامي الذي تأثر كثيرا بالدين الجديد، ثم بحضارات متعددة هضمها العرب وألفوا منها حضارة خاصة بهم.
ليس الآن مجال البحث عن الأدب الجاهلي أو الإسلامي، إنما سنفرد لكل منهما بابا خاصا فيما بعد، أما الآن فنقول كلمة عامة عن تطور الأدب العربي وتأثره بغيره من آداب الأمم عندما بسط العرب عليهم أجنحة سلطتهم وفتوحهم.
ليس في الجاهلية فلسفة تستحق أن تسمى مذهبا، فما حكمتهم التي نلمحها في أشعارهم إلا خطرات أفكار تعرض لكل مفكر في الحياة وشئونها، ولكننا - نحن العرب - نغالي بكل شيء، حتى قلنا إن المعري عرف مذهب دروين؛ لأنه قال:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
وإنه خبير بعلم الفلك كعلماء هذا العصر لقوله:
ولنار المريخ من حدثان الدهر
مطف وإن علت باتقاد
والثريا رهينة بافتراق الشمل
حتى تعد بالآحاد
وإنه تنبأ عن الطيارات والغواصات لأنه قال:
أقلقتم السابح في لجة
ورعتم في الجو ذات الجناح
فالشعر الجاهلي ليس بمتنوع المواضيع ولا غزير المعاني، بل هو نغمة واحدة، قليل الابتكار والتنوع. وقد تصرف في الشعر وأبوابه من جاء بعدهم من الشعراء الأمويين والعباسيين، ومن جاء بعدهم حتى عصرنا هذا، فتطور الشعر بتطور العصور.
وسنقول كلمة في آداب الأمم التي تأثر بها الأدب العربي من الجاهلية حتى يومنا هذا.
الأدب الفارسي وتأثيره:
يظهر أثره واضحا جليا في شعراء العرب الفرس، فكثيرون من الفرس دانوا بالدين الإسلامي عندما غلبهم العرب على أمرهم فتعربوا، ومن هؤلاء ظهر شعراء وأدباء كثيرون تركوا آثارا ملموسة في خيالنا ولغتنا.
فشعراء العرب الفرس ألفاظهم عربية، وتراكيبهم وأوزانهم أيضا، أما خيالهم ومعانيهم وروحهم ففارسية، وفي شعر أكثرهم التسلسل المنطقي المكتسب من السلالة.
أما اللغة، فعندما افتتح العرب بلاد فارس لم يكن في لغتهم غير ألفاظ بدوية صحراوية دعت إليها حالتهم الاجتماعية، فاضطروا أن يأخذوا أسماء عديدة لمسميات شتى لم تكن عندهم في بداوتهم، فعمدوا إلى لغة فارس أقرب الدول إليهم فأخذوا منها ألفاظا لا تحصى، ولا بد من أن يكونوا تأثروا بالتعابير كما تأثروا بالألفاظ.
الحكمة: واقتبس العرب حكما كثيرة من الفرس؛ لأنها قريبة من العقل العربي الذي لا يحب البحث العميق.
الغناء: أخذ العرب كثيرا من الأنغام الفارسية ووقعوا عليها شعرهم العربي، ثم تبع ذلك صورة مجالس الغناء والاجتماع لسماعه، وقد كانت مجالس الغناء مجالس مساجلات أدبية يعرض فيها خير الشعر وينقد.
ثم تسمية الندماء واحتجاب الخلفاء عنهم بستارة جريا على عادة ملوك الفرس، ثم آل الأمر إلى حضور الخلفاء مع الندماء حتى التجرد.
أسلوب الكتابة: وتأثر العرب بأسلوب الكتابة الذي أنشأه عبد الحميد الكاتب وجرت عليه «مدرسته» فتأثر بذلك كل أصحاب الأساليب بعده.
الأدب اليوناني:
تأثر الأدب العربي بالفلسفة اليونانية أكثر من الأدب؛ لأن العرب بعد الإسلام كانوا أميل إلى الدين منهم إلى العلم والأدب؛ ولهذا كان للأدب الفارسي تأثير أكبر من تأثير الأدب اليوناني في الأدب العربي.
من أسباب ذلك تقيد العرب بخطط القدماء، وامتزاجهم بالفرس وتذوقهم عادتهم، بعكس ذلك بعدهم عن اليونان، فلم ينظروا طرق حياتهم وألوانها، كما أن تعاليم اليونان الدينية كانت تخالف كل المخالفة دين العرب. وكذلك نظمهم السياسية والاجتماعية، فلهذا نرى أثر الأدب اليوناني أضعف من أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي.
آثاره: أما الآثار اليونانية في الأدب العربي فهي: (1)
كلمات أخذها العرب من اليونانية. (2)
ما كان من أثر في الشعر لشعراء النصرانية في الإسلام؛ كالأخطل والقطامي. يقول الأب لامنس: إن أثر النصرانية في ديوان الأخطل أثر ضعيف، ونصرانيته نصرانية سطحية ككل العقائد الدينية في البدو.
وتأييدا لقول العلامة نذكر القارئ الكريم بأن الأخطل طلق زوجته، وهذا غير جائز في النصرانية، ولا نظن أن رواية تأديب القسيس له عندما كان يسكر إلا رواية ملفقة. (3)
الحكم اليونانية، عني بنقلها السريان قبل العرب، فنقلوا منها شيئا كثيرا، ثم أخذها العرب لاتفاقها مع ذوقهم الأدبي.
السريان:
إن أثر السريان في اللغة غير قليل؛ فأصول النحو والصرف صنفها العرب على المثال السرياني؛ لأن اللغتين شقيقتان، والسريان أغنوا اللغة العربية بما نقلوا إليها من علوم اليونان وآدابهم وآداب غيرهم من الأمم، ومن ينقل مثل هذه العلوم والآداب إلى اللغة يدخل معها إلى اللغة التي يترجم إليها ألفاظا وأساليب لا يجد ما يناسبها في اللغة المترجم إليها، ولا سيما إذا كانت كاللغة العربية في أول عهد حضارتها.
فالثقافة اليونانية انتشرت في العراق والشام والإسكندرية على يد السريانيين، فمن الخطأ أن نعتقد أن العرب كانوا بعيدين عن الاختلاط بسواهم قبل العصر العباسي.
والفلسفة اليونانية دخلت الإسلام عن طريق كتب هؤلاء النصارى بواسطة المعتزلة والحكماء والصوفية، وعنهم أخذت جماعة إخوان الصفاء جل أفكارهم.
فالسريان قاموا بنشر الفلسفة اليونانية؛ وخاصة المذهب الأفلاطوني، وقد كانت اللغة السريانية لغة الأدب والعلم لجميع كتاب النصرانية في أنطاكية وجوارها، وأنشئت في الرها ونصيبين وجندي سابور وغيرها مدارس دينية كانت تعلم فيها اللغة السريانية واليونانية معا، وكانت السريانية أيضا لغة الوثنية في حران، وظلت هذه مركزا للديانة الوثنية والثقافة اليونانية إلى ما بعد الإسلام، وهؤلاء الوثنيون الذين نعنيهم هم الصابئة.
ترجم السريان أكثر مما ألفوا، فأغنوا الأدب العربي بما ترجموه، ولا نزال نلمح أثر لغتهم في الشعر العربي العباسي؛ كقول الشاعر العباسي بساق سرياني:
فقال «آزال بشينو»
1
حين ودعنا
فقلت والله زلنا عنك بالشين
لم يبتكر السريان فيما كتبوه، وشعرهم أكثره ديني؛ لأن علماءهم رهبان.
فاللغة السريانية حفظت بعض الكتب اليونانية التي فقد أصلها، كما أن ترجمتهم عن اليونانية أساس علوم المسلمين.
لقد نقل السريان العلوم عن اليونانية بأمانة، أما الإلهيات فحوروها بما يتفق مع المسيحية، وكذلك فعل المسلمون فيما بعد فيما يخالف تعاليم الإسلام.
ولم يترجم السريان عن اللغة اليونانية وحدها، بل ترجموا أيضا عن اللغة الفهلوية، وفي جملة ما ترجموه «كتاب كليلة ودمنة».
لقد كان هؤلاء السريان خدمة لعلم حقيقة في العصر الإسلامي، وقد أدوا بذلك خدمة جلى للعرب، فكانت مدارسهم تهتم بنشر الثقافة، ودخلها كثير من أبناء المسلمين، فعلموهم العلوم العالية، تدلنا على ذلك تلك الفتوى التي أفتى بها رجال الدين النصارى في ذلك العهد، وإليك تلك الفتوى كما جاءت في كتاب فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين:
يحل لنا أن نعلم أبناء المسلمين التعليم العالي.
هذه هي العناصر التي يتألف منها الأدب العربي في عصوره القديمة: الجاهلي والأموي والعباسي، أما تطوره واصطباغه بصبغة النهضة الجديدة، فسنفرد له بابا خاصا عند بلوغنا الكلام عن عصر الانبعاث.
وكذلك سنفعل حين نبحث أدبنا الغربي، ونعني به الأندلسي.
أطوار الأدب العربي
تعودنا أن نقسم الأدب العربي تبعا للسياسة؛ لأنها من المؤثرات التي تؤثر بالأدب، فقد تخمده أو تضرمه، فإذا كان السلطان من المولعين بالأدب والأدباء راجت سوقه، وأقبل الأدباء على أعمال الفكر للإتيان بالروائع، وإن كان من المعرضين عن بنات الأفكار بقيت مستقرة حيث ختم الله عليها.
فالمقياس السياسي - كما رأى طه حسين وهو ينظر إلى الأدب الغربي - لا يصح مقياسا للأدب السلطاني العتيق، أما في الأدب الغربي فيصح. ثم في الأدب العربي دواع غير دواعي الأدب الغربي. الأديب الأجنبي عول أخيرا على الشعب فيما كتب، أما الأديب العربي فما زال يعول على الحاكم الذي يمده بماله وعطاياه وإكرامه، ولما ذهب الأمراء المولعون بالأدب سقط الشعر من أوجه، إلى أن كانت النهضة الأخيرة التي ظهرت في مصر فأخرجت البارودي وصبري وشوقي، وظهورهم أهاب بغيرهم ودفعهم إلى النسج على منوالهم، فبدت في العالم العربي نهضة شعرية أدبية جديدة، اشتد ساعدها بظهور النقد الجديد وعلم الأدب الجديد، ولكنها بقيت تعول على بيت المال.
فكل هذا سببه اهتمام حكومة مصر، فلولا عباس لم يكن شوقي، ولولا الجامعة المصرية لم يكن طه حسين، بل كان لا يزال قابعا في إحدى زوايا الأزهر الشريف.
إذن المقياس السياسي يصلح لعصور الأدب مقياسا عندنا، وعلى هذه النظرية التي نؤمن بها كل الإيمان نجاري من قسموه إلى خمسة عصور: العصر الجاهلي، العصر الأموي، العصور العباسية، عصر الانحطاط، عصر النهضة.
العصر الجاهلي
لم يسم هذا العصر بالجاهلية إلا بعد ظهور الإسلام، سماه القرآن الكريم الجاهلية، بمعنى الجهل ضد الحلم.
الأدب الجاهلي:
نسبناه إلى الجاهلية فقلنا الأدب الجاهلي، وهو يتناول الشعر والنثر، الدالين على حالة ذلك العصر من اجتماع وسياسة ودين، وهذا الأدب لم يبدأ بتدوينه إلا في القرن الثاني للهجرة، حين بدأ عصر التصنيف والجمع.
كان ذلك الأدب غير مدون شأن سواه في عصر كعصر الجاهلية قل فيه من يكتبون ويعنون بهذه الشئون.
دون هذا الأدب فساد الخلاف وحامت الشكوك والظنون حول صحته؛ فمنهم من شك ببعضها، ومنهم من أنكره جملة وتفصيلا، ولا يزال إلى يومنا هذا عرضة للنقد والتمحيص وميدانا لطالبي الشهرة العاجلة. لا يعنينا البحث في صحة هذه النصوص، بل نفترضها صحيحة كما هي؛ خوفا من إضاعة الوقت بما لا يفيد.
نشأة الشعر الجاهلي:
لا أحيلك يا أخي على التاريخ، فهناك مسالك وعرة لا تستطيع اجتيازها، وخرافات لا يمكن تصديقها؛ فأجدادنا - رحمهم الله - أكدوا لنا أن جدنا آدم نطق بالشعر، واتسعت دائرة أوهامهم حتى قالوا لنا إن إبليس أيضا قال الشعر العربي، فهذا ما لا أريد أن أحشو به دماغك، وعليه أقول: الشعر العربي نشأ ككل شعر في كل أمة متبدية كاليونان وغيرها. الشعر غناء وأوزانه توافق الغناء، ولذلك سبق الشعر النثر. الشعر وليد الخيال، والنثر وليد التفكير، والخيال في العقل البشري أسبق من التفكير.
أما كيف نشأ الشعر فليس لدينا تاريخ نعول عليه، بل جل ما هنالك أقاصيص وخرافات، فإن رغبت فيها فإنني أحيلك على خزائن الأدب فهي تعج بها عجيجا.
أقسام الشعر الجاهلي:
الشعر الجاهلي قسمان: قسم قاله الشعراء ارتجالا بلا ترو ولا كد ذهن، كشعراء الزجل عندنا اليوم. وقسم قالوه بتعمل وإعنات روية، وآية هذا ما قرأناه عن زهير وقصائده الحوليات التي كانت تنظم بأربعة أشهر، وتنقح بأربعة، وتعرض بأربعة.
الوحدة في الشعر الجاهلي:
نتهم الشعر العربي عموما والشعر الجاهلي خصوصا بأن لا وحدة فيه، بل وحدته تقوم في البيت لا في القصيدة، وهذا أراه تطرفا، بل تحاملا على الشعر العربي جاء بهما بعض أدباء اليوم، وإليك البيان: إن الشعر العربي الجاهلي لم يتبع الوحدة المنطقية كما يكتب شعراء الغرب الذين ينظمون طبقا لأصول وقواعد معلومة، ولكن هذا لا يعني أن الشعر العربي يخلو من الوحدة، فكل كلام يخلو من وحدة تربطه ببعضه نعد صاحبه مجنونا، وأسلافنا لم يكونوا كذلك، بل هم أصحاب عقول ثاقبة كما تخبرنا آثارهم.
إن وحدة الشعر العربي الجاهلي تقوم بالعاطفة والتصور، والخطة الواقعية.
فالشاعر الجاهلي اتبع السلم العقلي بقصيدته التي ينتقل فيها من ذكرى إلى ذكرى، والشعر الحقيقي ذكريات عذبة ومرة وهي منبع الشعر.
إذن للشعر الجاهلي وحدة خاصة هي وحدة العاطفة التي تدفعه إلى ترتيب قصيدته بحسب ذكرياته واحدة تلو الأخرى. وكما أن لكل شاعر أسلوبا خاصا، نستطيع أن نقول إن للشعر الجاهلي أسلوبا خاصا ووحدة خاصة.
مسلك الشعر القديم:
سلك الشعر العربي طريقا منذ نشأته غير الطريقة التي سلكها الشعر الأجنبي، نشأ ذاك قصصيا يتناول وصف حياة الآلهة والأبطال، لا يذكر الشاعر نفسه بشيء، بل يتكلم بلسان الجماعة، فكان شعرهم طبقا لصور اجتماعاتهم.
وبعد زمن عثر الشاعر الأجنبي القديم على شخصيته، فأخذ يصفها، فأنشأ الشعر الغنائي.
ثم تطورت تلك العقلية، فنظم أولئك الشعراء الشعر الذي يصف الحياة الاجتماعية وصفا دقيقا، ونعني به الشعر التمثيلي.
هكذا نشأ الشعر عند اليونان والرومان وعند شعراء القرون الوسطى في أوروبا، وعلى هذه الطريق سلك شعر الهند، نشأ قصصيا وصار غنائيا، ولكنه لم يصل إلى التمثيل.
مسلك الشعر العربي:
أما الشعر العربي فسلك سبيلا خاصا: ابتدأ غنائيا خطابي اللهجة ولم يزل. لا يصف الجماعة، وإن وصفها فالقسط الأوفر لعواطفه وميوله، ولذلك كان قصصيا لا تمثيليا.
فالعربي - كما قلنا - لا يعرف من الدنيا إلا شخصيته فقبيلته، فإن تكلم في شعره فعن شخصيته أولا، ولا يذكر قبيلته إلا إذا اقتضت الحال أن يفتخر بها؛ ولذلك لا نرى الشعر العربي إلا غزلا ومدحا وفخرا وهجاء ورثاء «أكثره أهلي».
وكل هذا من الشعر الغنائي. أما النهضة الحديثة فلا نتناولها بالبحث الآن كما قلنا سابقا.
النفس العربي:
الشعر العربي بالنسبة لغيره قصير النفس، قوامه القصيدة، وأطولها ما أربى على المائة قليلا، وقصر نفسهم جعلهم يحسبون كل سبعة أبيات قصيدة. وتقيدهم بقافية واحدة سبب قصر النفس.
القصيدة:
قوامها الموضوع، والقافية، والوزن، والأوزان ستة عشر. فالقافية والوزن يلتزمهما الشاعر في كل القصيدة، أما الموضوع فقد يتوصل إلى الوصول إليه بدواع عدة، وإليكها.
سياق التصور:
غالبا ما يكون هكذا:
راحل راكب جملا ومع رفيق أو رفيقان، يرى آثار الأحبة فيذكر أيامه معهم، فيبدأ بوصف الحبيبة ثم الناقة، يصف وعوثة الطريق ومشقات السفر - السفر قطعة من العذاب - ثم يصف الحيوانات التي تعرض فيصطادها، ثم يتخلص إلى غايته التي كثيرا ما يفجأك بها، وينتقل إلى الفخر بالنفس فالقبيلة ... إلخ.
أغراض الشعر:
أغراض الشعر عند العرب يسيرة، والبدوي العربي يحب الاختصار في كل شيء حتى في الشعر. فكما أن لباسه مختصر، فهو يختصر في تصوره أيضا، ولذلك كانت أغراضه الشعرية قليلة سهلة هينة، فلا يصف غير مرئياته، ولهذا فهو لا يكد ذهنك ولا يتعبك.
كانوا أقدر في الصور اللفظية منهم في المعاني والابتكار. لبعضهم شخصية واضحة كزهير وطرفة، وبعضهم يندمج بقبيلته وهذا أقل كعمرو بن كلثوم، فما معلقة عمرو بن كلثوم إلا قبيلة تتكلم. وقد بدت في سماء الشعر العربي ظاهرة جديدة بظهور النصرانية واليهودية في الجزيرة.
ديباجة الشعر الجاهلي:
الشعر الجاهلي سهل متين شديد الأسر، حلو الوقع في الآذان، لا تكلف فيه، متين رصين قليل الغرابة والحوشية، إذا قسناه بمقياس بيئتهم ومحيطهم لا بمقياس بيئتنا وعصرنا هذا.
لم يألفوا الغرابة، ولم يميلوا إليها إلا في بعض قصائد يسمونها المعلقات. أما القصائد الرقيقة جدا كبعض شعر المهلهل وعنترة فيظن أنها ليست من قولهم، بل أكثرها منحولة.
اللغة في الجاهلية:
من صفات اللغة في الجاهلية: (أ)
مقدرتها على التعبير عن النفس البدوية ومطامحها وأغراضها. (ب)
مقدرتها على التعبير عن المشاحنات والمنازعات على كل مرافق الحياة. (ج)
وصف الوقائع والغارات والانتصارات والمفاخر وما يختلج في الصدور من لواعج. (د)
عجزها عن شرح الأفكار العامة والمعاني المعقولة، وما يتعلق بما وراء الطبيعة من علوم دينية وغيرها؛ لأنهم لم يعنوا بذلك.
العبارة الجاهلية:
صفاتها: (أ)
استعمال الألفاظ في معانيها الوصفية الحقيقية. (ب)
اجتناب تلطيف العبارة. (ج)
كثرة المترادف والمتوارد الناتج عن لغات قبائل متعددة. (د)
الإيجاز، وهو مزية من أهم مزايا الأدب الجاهلي.
النهضة الجاهلية:
الذي وصل إلينا من الشعر الجاهلي يدل على أن أصحابه مقلدون من تقدمهم، فهم متبعون لا مبتدعون.
بيد أن شعر المتأخرين منهم؛ كزهير والأعشى وعنترة والنابغة؛ هو خير ما نظم في ذلك العهد، فهؤلاء جاروا المتوسطين كامرئ القيس وطرفة وابن حلزة وابن كلثوم وفاقوا المتقدمين.
فالعهد الأخير من العصر الجاهلي - أي المائة الأخيرة - هو عصر النهضة الجاهلية.
الأسواق:
كانت ولا تزال إلى اليوم تقام في البلاد العربية، في مدن عديدة ومواقع متوسطة، دعا إليها أولا الاضطرار إلى المقايضة؛ لأن الناس لم تكن تتعامل كاليوم بالنقود. كان للعرب كما كان لغيرهم من أمم الأرض في طور البداوة أسواق تعرض بها منتوجاتهم، وهذا لا يزال أثره إلى اليوم في العالم.
بيد أن الإقبال على هذه الأسواق لا يعظم إلا إذا كانت الغاية منها دينية كالحج عند العرب.
أسواق العرب:
فللعرب أسواق كانوا يقيمونها في أشهر السنة يحضرها السواد الأعظم منهم، ينتقلون من سوق إلى أخرى، ينزلون دومة الجندل في أعالي نجد في غرة ربيع الأول، فيقيمون الأسواق للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم ينتقلون إلى هجر فيقيمون شهرا، ثم ينتقلون إلى عمان، ثم إلى حضرموت فعدن، ثم إلى عكاظ في الأشهر الحرام، وكانت لهم أسواق أخرى في المجنة وذي المجاز.
عكاظ:
أشهر الأسواق، وهو مكان بين نخلة والطائف، وهي خاتمة الأسواق يقيمون فيها من غرة ذي القعدة إلى العشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة لقضاء مناسك الحج. كان شرفاء العرب يحضرون من الأسواق سوق بلدهم إلا عكاظا، فإنهم كانوا يحضرون إليها جميعهم، ففيها تفصل الدعاوى وتفتدى الأسرى، ويطلب الثأر، ويفاخر العرب بعضهم بعضا، فقد كان العرب يفاخرون بكل شيء حتى في كبر المصائب.
ثم تطورت النظرية فصارت السوق سوق أدب أيضا.
لقد كانت هذه الأسواق محترمة جدا، وخصوصا سوق عكاظ، لا يدخلها أحد بسلاحه، بل يسلمون أسلحتهم لأهل السدانة من قريش، ومن لا يفعل ذلك يعرض نفسه للقتل.
وكان ينادي المنادي في هذه الأسواق على لسان أشراف العرب: هل من راحل فنحمله، أو من جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمنه. وكان الأمراء في هذه المجتمعات يتقاضون الضرائب، والإتاوة.
عكاظ واللغة:
لم يكن العرب وحدهم يقيمون مثل هذه المجتمعات الأدبية، فعند الرومان كان الجمناسيوم مجتمعا للألعاب، وفيه كان يتباحث فلاسفتهم وعلماؤهم ويتنافرون كالعرب في عكاظ.
إن أثر عكاظ في اللغة عظيم، فهذه السوق جعلت لغة العرب واحدة، ولولاها لصارت اللغة العربية لغات مختلفة منفصلة انفصال السريانية والعبرية عن أختهما اللغة العربية؛ فاختلاف منطق العرب جعل المترادفات كثيرة، وهذه أوقعتنا ببلية عين الفعل وغيرها، تلك التي لا يسلم من الوقوع بها أكبر علماء اللغة، فللسيف والأسد والجمل ألفاظ عديدة جدا؛ لأن كل قبيلة تسميها اسما، فلما عظم شأن عكاظ عمد الشعراء إلى انتقاء أفصح الألفاظ، طلبا للاستحسان.
لغة قريش:
لوقوع عكاظ بين نخلة والطائف كانت السيادة فيها لقريش سدنة الكعبة، والقرشيون رجال تجارة يعرفون كيف يروجون الأسواق أكثر من غيرهم الذين لا عهد لهم بالتجارة، فغلبت سوقهم الأسواق كلها لهذا السبب، وهناك سبب آخر هو دنوها من الكعبة.
ولما صارت عكاظ سوقا أدبية أيضا كانت السيادة فيها للغة قريش طبعا كما تسود اليوم لغة الأجانب في البلاد المستعمرة.
فعمد الشعراء للغة قريش المضرية تقربا منهم، وهكذا قويت لغتهم وغلبت بقية اللهجات.
أقسام الشعر وطبقات الشعراء:
يقسم الشعر الجاهلي من حيث الكمية إلى شعراء مكثرين ومعتدلين ومقلين.
يقسم الشعر الجاهلي من حيث الزمان إلى شعراء متقدمين ومتوسطين ومتأخرين.
يقسم الشعر الجاهلي من حيث الإجادة إلى شعراء متفوقين وممتازين ومجيدين.
فالمتفوقون هم أصحاب المعلقات شعراء الطبقة الأولى: امرؤ القيس، زهير، النابغة.
والممتازون شعراء الطبقة الثانية: الأعشى، لبيد، طرفة.
والمجيدون شعراء الطبقة الثالثة: عنترة، عروة بن الورد، دريد بن الصمة، المرقش الأكبر.
فالشعراء الجاهليون كلهم مجيدون، ولكنهم متفاوتون في الإجادة، وهم طبقات كما سترى.
قال الشاعر العربي:
الشعراء فاعلمن أربعه
فشاعر يجري ولا يجرى معه
وشاعر يخوض وسط المعمعه
وشاعر لا تشتهي أن تسمعه
وشاعر لا تستحي أن تصفعه
الطبقة الأولى: شعراء الطبقة الأولى هم أصحاب المعلقات السبع، ومنهم من زاد عليهم ثلاثة، ومنهم من جعل النابغة والأعشى موضع عنترة ولبيد. أما المقدمون على الجميع؛ أي المتفوقون، فهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير.
واختلف الناس في أي من هؤلاء أشعر من أخيه.
أغراض شعرهم: وصف الأطلال والأحباب، الفراق والهيام وسوء المصير، وصف الناقة والقرى، مفاخر القبيلة ومآثرها، مفاخر الشاعر والممدوح، وصف الصحراء وما يعرض لهم بها. وبكلمة مختصرة وصفوا كل ما أحسوا به من المرئيات وصفا دقيقا. إن قوام الشعر العربي في هذا الطور كان الوصف من جميع مناحيه وألوانه.
مزية شعرهم: الدنو من الحقيقة، بعد عن الخيال والمجاز، وصف ما تراه العين وتسمع به الأذن ويشعر به القلب، وهذه حقيقة الشعر.
ميزته: سذاجة، ابتكار معان وتصورات، متانة تعبير مع خشونة ألفاظ وفخامة، اختصار وإيجاز مع قصد في المجاز، مطابقة المعاني للواقع، قلة الغلو والمبالغة، قلة المعاني الغريبة، قلة التأنق في ترتيب المعاني والأفكار، الانتقال الفجائي من غرض إلى غرض بلا تمهيد، بل قد يكتفي الشاعر بأن يقول لك: دع ذا أو عد عن ذا، كما نقول نحن اليوم في حديثنا: بلا طول سيرة.
ثم مقت استعمال الأعجمي، وعدم تعمد المحسنات البديعية مثل الجناس ... إلخ.
أفضلية هذا الطور: يفضل هذا الطور سواه بكثرة الشعراء المجيدين فيه، فكل شاعر يفضل غيره بباب يبدع فيه.
فلامرئ القيس:
حسن الوصف والتشبيه والابتكار والتصرف بالمعاني.
ولزهير:
الحكم والمدح والصناعة الشعرية؛ أي إتقان التعبير.
وللنابغة:
التصبر والاعتذار وجودة القريحة والإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه.
وللأعشى:
الرنة الشعرية.
ولعمرو بن كلثوم:
الفخر والحماسة.
وللحارث بن حلزة:
البرهان والحجة.
وللمهلهل:
رقة الشعور والشعر والحماسة.
شعراء الجاهلية بحسب التاريخ:
أولا:
المتقدمون: يكثرون الغريب من الألفاظ والوصف، معظم شعرهم في وصف الوحوش والأودية القفرة الكثيرة الخطر، وأشهرهم: الشنفرى وتأبط شرا والمهلهل.
ثانيا:
المتوسطون: طالت قصائدهم وتنسقت معانيهم واتسعت ورقت أفكارهم، فرقت عبارتهم وتوسعوا بالأوصاف المختلفة. أشهرهم: امرؤ القيس وطرفة وابن حلزة وابن كلثوم.
ثالثا:
المتأخرون: نسجوا على منوال المتوسطين، ويمتاز شعرهم بدقة الوصف؛ وخصوصا المحسوسات، والإسهاب حتى التمام، وأشهرم: عنترة وزهير والنابغة والأعشى ولبيد. (1) الشعراء الأولون (1-1) الشنفرى
هو ثابت بن أوس، أو عمرو بن مالك الأزدي اليمني، لقب الشنفرى لضخامة شفتيه، أو لحدته.
أما كيف أسره بنو سلامان صغيرا وأدرك ذلك كبيرا وتركهم وحلف أنه يقتل منهم مائة، وكيف قتل تسعة وتسعين، وكيف كان يترصدهم ولا يصيب من الرجل إلى عينه فيرديه، وكيف كملت المائة بعد موته، فهذا ما لا أصدقه أنا، أما أنت فصدق إن شئت.
عدوه:
كان الشنفرى من عدائي العرب، وهم: تأبط شرا الذي يروي صاحب الأغاني قصيدة له في رثاء الشنفرى زميله، واشتهر تأبط شرا بوصف الأودية وقتال الغول.
ومن عدائي العرب السليك بن السلكة وعمرو بن البراق وأسيد بن جابر، وقد فاقهم الشنفرى جميعا فقيل: «أعدى من الشنفرى.» وبالطبع فهذا العدو في الجاهلية يحبب إلى صاحبه الغزو والنهب، وما لامية العرب إلا وصف حالة هؤلاء الشعراء الصعاليك الذين كانوا يخيفون الناس ويقلقون راحتهم، ومعظم شعرهم في وصف غزواتهم، وهربهم بعد سرقتهم وغزوهم.
لاميته:
68 بيتا من بحر الطويل، مطلقة القافية، عني بطبعها وشرحها كثيرون من أدباء العرب، وترجمها كثيرون من المستشرقين إلى لغاتهم وطبعوها. شك بعضهم بنسبتها إليه، ولكنهم اتفقوا على أنها تمثل الجاهلية، ولا يعنينا من أمرها أكثر من هذا.
أغراضها:
يبدؤها قائلها بالتأهب للرحيل عن قومه؛ لأن في الابتعاد منأى للكريم عن الأذى، ثم شرع يفضل الضواري على قومه؛ لأنها لا تبوح بسره مثلهم، ولا تتركه إذا اقترف جريمة. ويقول عن الضواري إنها إن كانت باسلة فهو أبسل منها، ثم ينتقل إلى وصف عفته عن الطعام ليقنع قومه أنه سيعيش في البرية راضيا قانعا. أما رفاقه في هذه الرحلة فثلاثة: فؤاده، وسيفه، وقوسه التي وصفها ببضعة أبيات.
ولكي يؤكد لهم أنه لن يعود إليهم يصف شخصيته ويفتخر بنفسه وبأعماله، يقول إنه ليس من المولعين بالنساء وليس بالجبان، وليس من المخنثين ولا الأوغاد القليلي الخير، أو الجاهلين بمخارم الأرض. وهنا يصف جلده على الأسفار واحتماله وعوثة الطريق:
إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي
تطاير منه قادح ومفلل
أما الجوع فيقول بشأنه:
أديم مطال الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل
وإذا اضطر فإنه يستف ترب الأرض كيلا يكون لأحد عليه فضل. وهناك أوصاف شديدة لمعاناة الصبر على الجوع؛ لأن نفسه لا تقيم على الضيم.
ولما اشتد جوعه دعا الضواري فألفاها أشد منه جوعا، وأخذ يصف حالها وحالته، إلى أن وصف نفسه بأنه أشد منها، وأسرع عدوا حتى إنه يسبق القطا إلى المورد ولو كانت عطاشا لخمس.
وهو يرى في التراب فراشا وثيرا ينام عليه هانئا، ثم يصف حلمه وعزمه اللذين لا يطيران حتى في أشد الليالي ظلمة وبردا، تلك الليلة التي يصطلي بها الرجل قوسه وسهامه، وهي عدة البدوي، وسلاح المسافر في الصحراء. كل هذا الشقاء والشنفرى ماض في سبيله لا تثني عزمه المخاوف والأهوال حتى مر بالغميصاء فأزعج الحي والكلاب، فأصبحوا يتساءلون عن الطارق أهو إنس أم جن.
ولما انتهى من برد الليل وصف ما لاقاه في نهاره من شدة الحر، وكيف قابل تلك الحرارة المحرقة بوجه لا تؤثر به النار، وكان له من شعره ظل يقيه، فظل سائرا حتى أدرك الجبال وأقام بين الوعول. آه.
وللشنفرى شعر غير هذه اللامية؛ أهمها تائيته التي مطلعها: أرى أم عمرو أزمعت ثم ولت ... إلخ.
شعره:
شديد الأسر، خشن المبنى والمعنى، وماذا تطلب من واحد أليف وحوش ويعيش كالوحوش! دقيق التصوير، وصفه حقيقي، مادي، تام الإخراج، قوي الخيال، بديهي. (1-2) المهلهل
أبو ليلى عدي بن ربيعة النغلي، شاعر يمني نجدي، لم يرو لأحد قبله شعر طويل. سمي المهلهل لأنه أول من هلهل الشعر؛ أي جعله رقيقا، وقال فيه الغزل.
عاش في أول حياته رجل لهو وقصف وسكر، حتى سماه أخوه كليب «زير نساء».
قال معظم شعره في رثاء أخيه كليب الذي قتله جساس بناقة البسوس التي عرفت حرب تغلب والبسوس باسمها، وبشؤمها ضرب المثل: «أشأم من البسوس.»
لم يكن سبب مقتل كليب تلك الناقة، إنما قتل كليبا بغيه؛ كان كليب ذا بغي.
شعره:
يلتمس الشاعر في البيئة التي توجده. فالشاعر أثر من آثار البيئة والزمان والجنس.
كان مهلهلا أميرا لاهيا سكيرا محبا للنساء كما يصفه لنا المؤرخون، فرق شعره ديباجة وسهل معنى.
أغراض شعره، ديباجته:
رثاء، غزل، وصف الخمر والحروب، تهديد ووعيد، اتفق والخنساء في موضوع واحد هو رثاء الأخ.
سهل الألفاظ، سهل التركيب، لا شدة فيه ولا أسر، تتدفق منه العاطفة تدفقا. تقرؤه فتشعر أنك تقرأ شعر رجل من معاصريك، حتى تخال نفسك شريكا له في بلواه.
خير قصائده:
أهاج قذاء عيني الادكار
هدوءا فالدموع لها انحدار
كليب لا خير في الدنيا وما فيها
إن أنت خليتها فيمن يخليها
أما صاحب جمهرة العرب فنقل له القصيدة التي عرفت «بالداهية»، وأحصاها في مصاف «المنتقيات» وإليك مطلعها:
جارت بنو بكر ولم يعدلوا
والمرء قد يعرف قصد الطريق
وأظنه عدها من المنتقيات لأن فيها بعض الألفاظ الغريبة التي كان يألفها الجاهليون، ولأنها أكثر بقية قصائده متانة وشدة أسر. (1-3) الشنفرى والمهلهل
شاعران مختلفان معنى ومبنى وإن كانا من الشعراء الأولين، فكأنهما لم يعيشا في عصر واحد، بل كأن بينهما ألف عام.
أما الأسباب فإليكها: عاش الشنفرى كما مر بك عيشة شظف وخشونة ليس بعدها خشونة، في بيئة هي أخشن البيئات كما مثلها في لاميته، فجاء شعره خشن المعنى والمبنى.
أنت تكره تلك الخشونة وتأنس بسهولة المهلهل ورقته، إنما عليك أن تعلم أن الشنفرى أليف المحسوسات، لا يصف إلا السلب والنهب وما يتبعهما من أهوال ومخاوف، فترى ذلك الجفاء وتلك الغلظة في نظمه؛ لأن الموضوع يتطلبها، فهي إذن متفقة كل الاتفاق مع موضوعاته.
وبالعكس المهلهل، فإنه رق لأنه عاش عيشة ترف ورخاء، فبعد عن كل خشونة.
فإذا رأيت شاعرا يصلب ويلين ولو في القصيدة الواحدة فلا تعلل ذلك بالانتحال، بل انظر إلى الموضوع والمعاني، فقد يستدعي معنى ما رقة وعذوبة لفظ كما يستدعي معنى غيره شدة أسر وخشونة لفظ، وقد يكون ذلك كله في قصيدة واحدة. (2) أصحاب المعلقات السبع
الشاعر:
الشاعر علم القبيلة وخطيبها المدره، ولذلك كان له المقام الأول في القبيلة، وكانت القبيلة تهنأ كما قال صاحب العمدة «ابن رشيق» بظهور شاعر فيها لشدة احتياجها إليه فتولم الولائم وتقام الأفراح.
ولذلك ترى أكثر الشعر الجاهلي خطابي اللهجة؛ لأنه كان يلقى على الجماهير، ولا بدع في ذلك؛ فالشاعر كان الخطيب، في المفاخرة والمنافرة ... إلخ.
وما هذه العاطفة التي تراها في مطلع كل قصيدة إلا نتيجة تنقلهم المستمر الذي يولد فيهم هذه العواطف، فيصورونها لك شعرا يعرب عما في نفوسهم من تأثر.
فما العربي الجاهلي إلا مسافر لا يقر له قرار، ولا ينام إلا على سفر.
المعلقات:
هذه القصائد اختارها الرواة القدماء ؛ فمنهم من عدها سبعا، ومنهم من عدها عشرا بحسب الغرض والميل، وهكذا صنفوا الشعراء طبقات أولى فثانية فثالثة، حتى العشرة.
فالبصرة قدمت امرأ القيس لأنها يمنية ربعية، والكوفيون قدموا الأعشى، وأهل البادية والحجاز قدموا النابغة وزهيرا لأنهما مواطنان لهما، وعلى هذا القيام صنفوا مراتب أصحاب المعلقات.
سموها المطولات ثم المعلقات، وسيان عندنا أعلقت على أستار الكعبة أم لم تعلق، فلا يعنيني أن أبحث في هذا الأمر.
هذه القصائد عني بها فريق من الأدباء فشرحوها وفسروها وذهبوا فيها مذاهب شتى، فمنهم من أنكر صحتها كلها، ومنهم من شك ببعض أبيات منها، ومنهم من اختلف بروايتها، ومنهم من أغفل كثيرا من الشعراء الذين لا يقلون أهمية وشأنا عن أصحاب هذه المعلقات.
أصحاب المعلقات:
أما أصحاب المعلقات الذين يهمنا درسهم فهم: امرؤ القيس، طرفة، زهير، لبيد، عمرو بن كلثوم، الحارث بن حلزة، عنترة. (2-1) امرؤ القيس
نسبه:
الملك الضليل، أبو الحارث جندح بن حجر، الكندي، شاعر يماني، حامل لواء الشعر في الجاهلية، الفاتح فيه فتحا مبينا. لا أرى أسلوب عمر بن أبي ربيعة إلا وليد أسلوبه، طالع بدقة معلقته وقصيدته اللامية: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي، فتشاركني في الحكم.
أبوه ملك كندة، وخالاه كليب ومهلهل، وهنا أبدي رأيا آخر، وهو أن العذوبة الشعرية في شعر امرئ القيس ومهلهل وابن كلثوم متأتية عن هذا النسب، كما تأتت الديباجة التي سيأتي الكلام عليها في شعر زهير ومدرسته.
عاش امرؤ القيس كما عاش المهلهل يسكر ويلهو ويقامر وينادم ويلحق بالنساء ويتشبب بهم. فغضب لذلك أبوه وركب الفتى رأسه، وانصرف إلى الملذات حتى قتل أبوه لعسفه في حكمه وإرهاقه الرعية وقسوته في الجباية.
فهب امرؤ القيس من سكرته عندما ألقيت التبعة عليه وصار مسئولا عن دم أبيه، فكان في حالته هذه أشبه بخاله المهلهل، فاستنجد قبائل العرب فلم ينجده إلا قليل منهم.
قاتل بني أسد قتلة أبيه، فأنجدهم المنذر أحد ملوك الحيرة وناهض امرأ القيس لعداوة قديمة بينه وبين الحارث جد امرئ القيس، فغلب امرؤ القيس على أمره وفر من وجههم، ونزل على السموأل فأودعه دروعه وابنته وكل ما له من متاع.
وذهب إلى ملك الروم يستنصره على مناوئيه؛ شيعة المناذرة التابعين للفرس، والفرس كما نعلم أعداء الروم في جزيرة العرب.
يقال إن قيصر أنجده ثم عدل، ومنهم من ينكر ذهابه إلى قيصر الروم، وحجته أن امرأ القيس لم يصف شيئا من مظاهر القسطنطينية.
والعالم بنكبته لا ينكر ذهابه إلى القسطنطينية لأنه لم يصفها ولم يصف إحدى كنائسها، فأظن أنه كان في شاغل عنها!
وهب أننا قلنا وصفها، فكيف يصل إلينا ما قاله فيها ونحن نعلم أنه مات على الطريق.
أما قولهم إنه مات بحلة مسمومة أرسلها إليه قيصر فهو ما لا أصدقه، ولا أظن إلا أنه مات بالجدري، هذا أصح تأويل لتلك القروح، وقد ثبت تاريخيا أن الجدري كان منتشرا في السنة التي مات فيها. ويقولون إنه دفن في أنقره حيث لفظ روحه.
شعره (1)
تشبيب ووصف أيام الصبا، وذكر حوادث غرامية. شكوى وألم في المحنة، ويعذره من أنكروا وجوده؛ لأنه رقق النسيب وأجاد الاستعارة وتفنن بالتشبيه، لما تقدم من الأسباب. (2)
تصرف في المعنى الواحد بطرق عديدة، وهذا تحديد البيان العربي. (3)
وصف دقيق مطابق للحقيقة والواقع. (4)
ابتداع أسلوب جديد اتبع، ولا يزال بعضهم يمشي على الطريق التي شقها لهم. (5)
في شعره تهتك وفحش، إلى جانب النبل والسيادة. (6)
في بعض شعره عبارة جافية، ألفاظ خشنة، ومعان قد تغرب عنك، وإلى جانب كل هذا: ديباجة حسنة، معنى بديع، رقة نسيب، سهولة مأخذ. وعلى منواله نسج الذين جاءوا بعده. وبكلمة مختصرة: إنه زعيم الشعراء الوصافين في هذا العصر.
معلقته
موضوعها:
ذكر الأطلال والبكاء عليها، ذكرى عنيزة ويوم دارة جلجل، وصف الليل وتشكي طوله، وصف الوادي والمطر، والوحوش والفرس والبرق، وكاد يكون صادقا في كل ما قال.
وتفوق معلقته غيرها بما يأتي: (1)
بابتداع طريقة اتبعها بعده الشعراء، فكأنها كانت الطريق المعبدة حتى آخر العصر العباسي، وأستطيع أقول إن شعر النهضة الأخيرة لم يخل من التأثر بها. (2)
وصف صحيح، تشابيه مبتكرة، مطابقة للواقع لم يسبق إليها ولم يلحق بها، فقلما خلا بيت من تشبيه ووصف معا. (3)
قوة التصرف بالمعنى الواحد، فيكون المعنى حسب المقام، فلا يمل بالإسهاب كطرفة ولبيد بوصف الناقة، ولا يخل الإيجاز. (4)
فيها بعض ألفاظ ينفر منها السمع، وقد تجاوز حدود اللياقة والكياسة ببعض تعابير وأوصاف فكان كلامه فيها من نوع الأدب العاري. (5)
فيها وصف خمسة أشياء: النساء، الليل، الخيل، الصيد، المطر وما يتخلله ويعقبه ... إلخ.
وبكلمة مختصرة نقول: لو قام الشعر بالوصف والتشبيه فقط لكانت خير الشعر. (2-2) طرفة بن العبد
سيرته:
طرفة بن العبد، شاعر بكري من ربيعة، أقصر فحول الشعراء الجاهليين عمرا، وأجودهم طويلة، وأوصفهم للناقة.
طواه الردى في ميعة الشباب، سماه المتقدمون: «ابن العشرين»؛ لأنه مات في تلك السن، أو ما يناهزها.
يروى أنه نادم النعمان، ومنهم من قال عمرو بن هند، مع خاله المتلمس، ثم توترت العلاقات بينهما لأسباب لا تهمنا معرفتها، فسلم النعمان كلا منهما رسالة إلى عامله في البحرين، فأخذا الكتابين معتقدين أن فيهما جائزة أو صلة، فإذا الأمر بالعكس؛ لأن المتلمس شك فأقرأ كتابه غلاما من الحيرة، فإذا فيه أمر بالقتل. فألقى المتلمس كتابه في النهر وهرب إلى الشام. وفي صحيفة المتلمس يضرب المثل وقد قال الشاعر فيه:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
والزاد، حتى نعله ألقاها
وعاش المتلمس بقية عمره يهجو النعمان، ويدعو العرب إلى عصيانه.
أما طرفة فلم يشك، وظل سائرا في طريقه إلى البحرين حيث قتله عامل النعمان فمات ولما يتمتع بشبابه إلا قليلا.
شعره:
على قلته قيم ممتع «عموما»، شديد الأسر متين النسج «أحيانا»، معقد التركيب، كثير الغريب، مبهم المعنى.
جيد الوصف، مع عدم تطرف في الغلو، يدل شعره على نفسية عاتية جبارة، لا تنظر إلا إلى الساعة التي هي فيها. يرى الدنيا على حداثته بعين الحكيم المجرب.
معلقته
أغراضها:
وصف الدار وآثارها، تغزل، وصف الأحباب وسفرهم، وصف الناقة، افتخار بالنفس، زهد بالحياة، يأس منها، حكم.
مميزاتها:
متينة اللفظ والأسلوب، يكثر فيها الغريب في مواضع وتسهل في مواضع، غزيرة المعنى، دقيقة الوضع والوصف إلى حد الإسهاب الممل.
هي من أجود المعلقات السبع، تمثل حياة صاحبها الخاصة ونفسيته، والمثل الأعلى في الحياة الجاهلية، وهذا مكتسب من المحيط وتقاليده.
أسهب في وصف ناقته، فأغرب في الألفاظ والمعاني لاضطراره إلى ألفاظ وضعية.
أهم ما يلفت النظر في معلقته، نظره إلى الحياة ويأسه منها، ومعرفته أنه فان، فلماذا لا يتلذذ في حياته ويقابل منيته بكل ما يملك.
ثم يعلن رغبته في الحياة لثلاثة أسباب هي لذاته الثلاث: الحب والشرب والحرب.
وإذا تساءلنا عما جاء به طرفة من فكرة فلسفية فلا نجده جاء بالبدع، ولم يقل إلا ما يعرفه كل رجل رأى وسمع. أنصت إلى مناقشة أهل قريتك لتصدقني. (2-3) زهير بن أبي سلمي
نسبه:
زهير بن أبي سلمى المزني، نشأ في غطفان، وإن كان نسبه في مزينة، فهو شاعر قيسي مضري.
بيته:
جل أهل بيته شعراء، رجالا ونساء، أخذ الشعر والحكمة عن خال أبيه بشامة بن الغدير أحد أشراف غطفان، كان خال أبيه بشامة هذا مقعدا فلزمه زهير فتخلق بأخلاقه.
زهير الراوية:
كان أوس بن حجر شاعر مضر في زمانه، فلزمه زهير، فروى عنه الشعر، فتأثر به في عمل الشعر، ثم فاقه فأخمله.
المدرسة الشعرية:
رأى طه حسين بالاستنتاج من أقوال القدماء، ورأيه حق، أن رواية زهير لشعر أوس بن حجر كونت مدرسة شعرية، امتازت بوصف المرئيات والمحسوسات، مؤسسها أوس بن حجر زوج أم زهير. اتبع طريقة هذه المدرسة زهير فابناه: كعب وبجير، والحطيئة الذي كان راوية زهير، والنابغة، ثم امتد بهذه المدرسة إلى جميل الذي أخذ عن الحطيئة وتأثر بطريقته، فكثير الذي أخذ عن جميل وتأثر به.
إن أهم مميزات هؤلاء الشعراء المأخوذة عن أستاذهم الأكبر أوس هي: (1)
الخيال المادي الحسي، حتى جاء شعر أوس أشبه بالتصوير منه بأي شيء آخر. (2)
الفن؛ أي اتخاذ الشعر صنعة وحرفة فيمحصه ويتعلمه صاحبه عمليا وينشئه بإمعان وروية، ولا يقوله عفو الطبع. (3)
وعلى هذا النمط درج زهير في حولياته وبقية شعره، وهكذا فعل الحطيئة الذي سماه الأقدمون عبد الشعر؛ لكثرة تجويده وإطالة النظر فيه.
التكسب بالشعر:
كان أشراف العرب يأنفون أن يقولوا الشعر، فهل الشعر معرة؟!
لا لعمري، ولكن تكسب بعض الشعراء به وجعلهم إياه وسيلة للارتزاق جعل نبلاء العرب يتجافونه. أما كيف نشأ التكسب بالشعر، فأقول كلمة هي رأي خاص، وهي أن ميل العرب إلى المنافسة في الجاهلية جعلهم يحملون بعض الشعراء على مدحهم، وأعطوهم مالا لقاء هذا العمل، فشاعت الفكرة واستغلها الشعراء.
أما تكسب زهير بالشعر فلم يكن مبتذلا مكروها، ولم يحط من قدره كما حط من قدر راويته الحطيئة.
مدحه:
قال زهير معظم شعره في مدح هرم بن سنان، وهو سيد غني توسط مع الحارث بن عوف في الإصلاح بين قبيلتي عبس وذبيان في حرب «داحس والغبراء»، ودفعا ديات القتلى من مالهما، وقد بلغت 3000 بعير.
شخصيته:
كان زهير حكيما طيب النفس، مؤثرا للخير، محبا للسلم داعيا إليه، ولو كانت جائزة نوبل للسلم في زمانه لأخذها واستراح من تعب الفكر.
شعره:
عفيف القول، وجيز اللفظ، غزير الحكمة، تهذيب كثير، لا تعقيد ولا حشو، مدح صادق، لا سخف ولا هذر في كلامه، شديد الاعتماد على الحواس في إخراج صوره الشعرية، برز في الحكمة العامة والأمثال، وقد يكون شق الطريق لمن جاءوا بعده وقالوا الحكمة في شعرهم؛ كأبي العتاهية والمتنبي والمعري.
دقيق التصوير، يسير اللغة، منسجم التركيب.
معلقته
موضوعها:
ذكر الديار، وصف رحيل الأحباب، وصف الحرب وشؤمها، ذكر حزنه، مدح هرم والحارث، وصف زهده في الحياة وسآمته، حكم عامة.
صفتها:
متينة الألفاظ والتعبير، أكثر أبياتها صور محسوسة، اعتمد عليها ليصل إلى غايته وهي المدح، ولذلك لم يبحث في معلقته بحث امرئ القيس وطرفة. ومع أن غرضه، وهو المدح، لا يمكنه من إظهار شخصيته، فقد استطاع أن يرينا شخصية إنسانية عامة النزعة في عهد لم يكن فيه أثر إلا أثر القبيلة.
انتقل إلى المدح بلا تخلص ولا حيلة، ومدح صاحبيه بطريقة قصصية، وقد أصاب؛ لأن سرد القصة الواقعية عن عمل نبيل كعملهما، هو أعظم مدح.
وبعد أن امتدح عملهما وإصلاحهما بين قبيلتين كبيرتين أخذ يعرض أمامنا صوره في تقبيح الحرب، فجاءت هذه الصور أشبه بصور السينماء الناطقة حتى لتكاد تسمعك الضوضاء.
ثم أعاد الكرة على صاحبيه فمدحهما حتى شبع. وبعد أن أخذ قسطا قليلا من الراحة وجه نظره إلى الإنسانية جمعاء فقال: سئمت تكاليف الحياة ... إلخ.
وفي أبياته الأخيرة هذه يتصل بطرفة من حيث النظر في الحياة.
فكلاهما لم يهتد إلى حل لغز الحياة إلا كما تراءى له، وبما أوحي به إليه، وبما اعتقد أنه خير حل لمعضلة الحياة والعيش.
رأى طرفة الحياة فراح يجني ثمار ملذاتها، ويلبي من دعاه إلى الجلى، أما زهير فلم يفكر إلا بما أخذه عن خال أبيه المقعد، والمقعد لا يدعو إلى السيف. (2-4) لبيد
حياته:
أبو عقيل، لبيد بن ربيعة، عامري، من قبيلة قيس، مضري. عمر طويلا بدليل قوله:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
عاش في الجاهلية عيشة الشعراء الفرسان الأغنياء، قال أكثر شعره في الجاهلية. دخل الإسلام وشغل بحفظ القرآن وتلاوته عن الشعر، ويقولون إنه لم يقل إلا بيتا واحدا في الإسلام، هو أحد هذين البيتين:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح
أو:
الحمد لله لما يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالا
خصاله:
جواد، شجاع، فاتك، ورث الجود عن أبيه الملقب بربيعة المعترين، والشجاعة والفتك عن قبيلته، فعمه ملاعب الأسنة، فارس مضر.
عاش بعد فتح العراق في الكوفة عيشة وداعة وكرم، ينفق ماله على الضعفاء الجياع، حتى كان والي الكوفة يسأل الناس أن يعينوه على مروءته، وقد أرسل إليه كما يروى 100 ناقة بكرة؛ لأنه ألزم نفسه في الجاهلية «ألا تهب الصبا إلا أطعم.» وبقي على ذلك في الإسلام.
أغراض شعره:
لم يقل الشعر إلا كما قاله الشعراء الفرسان، فلم يتكسب به. قاله بالفخر والفتوة والنجدة والكرم وإيواء الجار وعزة القبيل. في شعره الحكمة والموعظة.
في رثائه التعزية والحكمة، وهو أحد الرثائين الثلاثة: المهلهل والخنساء، ويزيدهما بما يمزج به رثاءه من الحكم.
ديباجته:
جزل الألفاظ، فخم العبارة، دقيق المعنى، لا لغو ولا حشو، لا غرابة لفظ ولا تعقيد معنى.
معلقته
أغراضها:
ذكر الديار، وصف الناقة، وصف نفسه لاهيا متغزلا، جوادا في السلم، باسلا مخاطرا في الحرب.
الافتخار بنفسه وقومه ووصفهم بخير الخلال الجاهلية التي يتعشقها العرب، وهي تمثل الحياة ومطمح أصحابها.
ديباجتها:
متينة لفظا وأسلوبا، صلابة وفخامة، حتى في أسهل أبياتها. تشابيهها لطيفة ممتعة؛ وخصوصا عندما يصف ناقته، وهو في كل هذا لم يعمد إلى الكذب والغلو.
والخلاصة أنه شاعر قوي يستمد قوته من صدقه وإخلاصه وإيمانه الشديد بالمثل العليا الأخلاقية البدوية التي يسمو إليها.
عيب:
في معلقته هفوة نحوية في هذا البيت:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
فلا داعي هنا لجزم يرتبط. (2-5) عمرو بن كلثوم
حياته:
هو أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي، زعيم تغلب وفارسها وشاعرها.
أمه بنت مهلهل أخي كليب. نشأ بالجزيرة الفراتية شاعرا خطيبا. قاد قبيلته في «أيام» جمة كان الظفر حليفه في معظمها.
أما أيام تغلب فكانت مع أختها قبيلة بكر، إلى أن كان الصلح على يد عمرو بن هند آخر ملوك الحيرة من آل المنذر.
يقولون إنه بعد الصلح بقليل اجتمع وجوه تغلب وبكر في مجلس عمرو بن هند وتلاحوا حتى التشاتم، وإذ ذاك أنشد الحارث بن حلزة معلقته: «آذنتنا ببينها أسماء».
وبعد إنشادها خرج عمرو بن كلثوم غاضبا من مجلس عمرو بن هند؛ لأنه رأى ميله مع البكريين.
شخصيته:
أبي النفس، عظيم الهوس والنخوة، جريء النفس عزيزها، لا يهاب إنسانا ولو ملكا، لا تستطيع أن تفصل شخصيته عن قبيلته في شعره.
شعره:
حسن اللفظ، منسجم العبارة، واضح المعنى، رشيق الأسلوب، حافل بفخر لا يضاهى، نبيل القصد والمرمى، يقول شعره لحاجة في نفسه.
معلقته
أغراضها:
غزلية خمرية، قصصية؛ أي إنه يصف حادثته مع عمرو بن هند عندما حاول استخدام أمه، حماسية فخرية بالنفس والقوم، فيها شيء من ملامح الملاحم.
ديباجتها:
كما جاء في وصف شعره، لا غرابة فيها، اتفاق تام بين أغراضها وألفاظها ومعانيها، رنانة طنانة.
محاسنها (1)
نفس شعري متصل من المطلع حتى ختامها الجميل. (2)
مملوءة عاطفة وشاعرية. (3)
شعرها سليقي فطري لا تكلف فيه. (4)
حافلة بالطلاوة والرونق والمتانة إلى جانب الحمية والزهو والحماسة. (5)
جاء فيها على موضوعات شتى جمعها في موضوع واحد وهو هذه القصيدة. (6)
فيها محسنات الشعر اللفظية كالتشابيه والاستعارات المطابقة للواقع. (7)
إفناء شخصيته في شخصية قبيلته، فكأن القصيدة قبيلة تتكلم لا سيدها وزعيمها. وهذا يدلنا على زعامته الحقيقية في رهطه، فكأنه يعتبر قبيلته شخصيته نفسها. (8)
إننا نسميها بحق «أنشودة الشباب»؛ لانطباقها على ميوله وأهوائه.
عيوبها (1)
ترديد بعض الأفكار ومراجعتها. (2)
تنسيقها غير واضح. (3)
ضعف الارتباط ما بين أغراضها. (4)
غلو زائد، على غير ما ألفناه من شعراء الجاهلية، إنما يصيره مقبولا حسن الابتكار، وتوطئ له الحماسة.
مدرسة أخرى:
المهلهل وامرؤ القيس وعمرو بن كلثوم مدرسة واحدة، منشؤها المهلهل ولم يخرج عن منهاجها عمرو بن كلثوم، وإن اختلف عنها امرؤ القيس في معلقته كما خرج المهلهل «بالداهية» التي عدها صاحب جمهرة العرب من المنتقيات.
وللوراثة عملها في هذه المدرسة، فهؤلاء الشعراء من سلالة واحدة. (2-6) الحارث بن حلزة
نسبه:
الحارث بن حلزة اليشكري، البكري، كان من اليشكريين كابن كلثوم من التغلبيين.
معلقته
قيلت في مجلس عمرو بن هند كما تقدم. يقولون إنه قالها ارتجالا - ولا أظن ذلك - دفاعا عن قومه.
أغراضها:
تغزل، وصف الناقة، مدح الملك عمرو بن هند، الفخر بقومه، وذكر كثير من أيام العرب، تعييب بني تغلب.
ديباجتها:
محكمة النسج، متينة السبك، وجيزة الوصف، رشيقة العبارة، بليغة - أي إنها تجمع معاني كثيرة في قليل من الألفاظ - كثيرة الغريب، عديدة الفنون، شديدة الارتباط.
محاسنها (1)
التحام شديد وبراهين تدريجية قاطعة لإثبات القضية بجلاء. (2)
تهكم ذو أسلوب خاص في تعييب التغلبيين، وإلقاء التبعة على التاريخ. (3)
حجة قوية، دفاع بلا اندفاع. (4)
مخاطبة الملك كما يود الملك، بخلاف عمرو بن كلثوم فإنه خاطبه كند له. (5)
تبين مناصرة البكريين لعمرو بن هند، وخذل التغلبيين له.
أما «الخدم» التي بينها الحارث فهي: (1) مساعدتهم إياه. (2) تخليص امرئ القيس من السجن. (3) وأخذهم بثأر أبيه من بني كندة. (4) القرابة بين ابن هند والبكريين.
أما عيوبها فهي (1)
الإقواء «وهذا وارد في الشعر الجاهلي». (2)
كان صاحبها خطيبا أكثر منه شاعرا، ولهذا قلنا إنها غير مرتجلة كما زعموا.
بين المعلقتين:
الشعراء وخصوصا الشباب، يفضلون معلقة ابن كلثوم لحماستها ورنتها وسهولة فهمها وقوة نفسها الشعري، واستيفاء كل معاني الموضوع بلا ضجر ولا ملل.
أما الخطباء، فيفضلون معلقة الحارث بن حلزة على كل معلقات العرب لحججها وبراهينها القاطعة. وبكلمة نقول: إن الحارث أدهى من عمرو بن كلثوم، فاستطاع بمداورته أن يستميل الملك ويوقفه في صف قبيلته، فكان ما كان بينه وبين عمرو بن كلثوم «إن صدقت الرواية».
ولا بد من كلمة أخرى بشأن معلقة الحارث، فهي أمتن وأرصن من أختها الكلثومية. (2-7) عنترة
نسبه:
عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من الشعراء الفرسان، أحد أغربة الجاهلية؛ وهم: خفاف بن ندبة، وأبو عمر بن الحباب، وسليك بن السلكة. أبوه سيد عبسي، وأمه أمة حبشية. نشأ عبدا كعادة العرب في أبناء الإماء، وقد حررته شجاعته كما يروي لنا الرواة. كان بطل حرب داحس والغبراء، ومات بعد أن عمر طويلا.
في شعر عنترة إشارة إلى كل ما يرويه الرواة عنه، ولهذا يشك في صحة نسبة كل هذا الشعر إليه، فهو يخبرنا في هذا الشعر عن عبوديته وعن فروسيته وعن سواده.
إننا إلى الشك أميل في هذا الشعر، فهو موضوع مع القصة المعروفة باسم «عنترة»، والقصة من إنتاج أقلام القرن الرابع كما سنتكلم عن ذلك حين ندرس القصة في الأدب العربي.
شعره:
سهل اللفظ بالنسبة للجاهليين، منسجم التركيب فخم، رنان الأسلوب، بعيد عن الكلام الوحشي، جليل الوصف، رقيق الغزل عفيفه، وقد قيل إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «ما ذكر لي شاعر وأحببت أن أراه إلا عنترة.» وهو يقصد بهذا القول أن عنترة عفيف القول وعفيف الفعل، لم ينزل عن المستوى العربي الرفيع وهو القائل:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
معلقة عنترة
موضوعها: (1) ذكر الديار والأحباب. (2) الغزل. (3) وصف ناقته وجواده. (4) وصف شربه الخمر. (5) فخره بنفسه وسيفه. (6) اعتزازه بهما. (7) وصف النزال والطعن وتقتيل الفرسان. (8) عزته بقومه. (9) شتم شاتميه.
الكبت:
كان معينا لعنترة على قول الشعر؛ لأن العاطفة متى اتقدت يسهل قول الشعر على الشاعر ويدخل قلوب سامعيه، بعكس الشاعر الذي لا يحس شيئا فإنه لا يوفق مهما كان مجيدا.
مركب النقص: «كل ذي عاهة جبار.» هذا ما قالته العرب قبل الوصول إلى معرفة العقل الباطن في علم النفس، فكل فراغ عند الإنسان لا بد له من إملاء. فعندما يحس الرجل أنه ينقصه شيء، يسعى إلى الحصول عليه من جهة أخرى.
أسلوب عنترة:
هو أقرب الشعراء الجاهليين إلينا، فلسفته سهلة وعبارته هينة ومعانيه سامية، فهو لم يله نفسه بالسفاسف، وما عالج إلا كل موضوع أخلاقي، فوصف نفسه بأنه متنزه عن كل هذه الأشياء، وقد عمل بما قال، كل ذلك بصورة لطيفة ذات تشابيه واستعارات من حياة راقية، لا كما رأينا عند امرئ القيس مثلا حين راح يشبه أصابع عنيزة بالديدان.
لا أثر للكلفة والتعمد في قصيدة عنترة، وقد خصصنا هذه القصيدة للبحث لأنها جامعة للصورة العنترية، ولا عيب فيها إلا الانتقال من غائب إلى مخاطب ولكن بصورة مستحبة، وهي لا تخلو من ألفاظ وإن كانت كريهة وقبيحة الوقع في السمع لكنها مفهومة. ينتقل سريعا من موضوع إلى آخر، فتبدو قصيدته كأنها مفككة، وقد استعمل هذا العبد ألفاظا جميلة مثل «دار لآنسة» و«حامي الحقيقة» ... إلخ.
فخره:
كان عنترة يفخر بنفسه ولا يخرج في شعره عن وصف ذاته، وسبب ذلك مركب النقص والكبت، فإذا فتشنا عن شاعر عربي مغرم بذاته «نرجسي» لم نجد له مثيلا، ففخره يتناول جميع ما تفخر به العرب من شجاعة وجود وفروسية ودفاع عن الحوض. وهو في هذا يختلف عن شعراء الفخر؛ كالشريف الرضي الذي يفتخر أكثر ما يفتخر بنبل أصله وشرف جدوده، بينما عنترة والمتنبي لا يفتخران إلا بشخصهما؛ كقول المتنبي مثلا:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبجدي سموت لا بجدودي
تأثير سواده:
كان عنترة في جهد جهيد من سواده وهو لا يعرف كيف يتخلص من نكبته، فإذا بإحساسه يجعله يشعر بأن هذا السواد لا بد له من ماح، فلجأ إلى الصور الشعرية التي لم يوفق إليها أسود غيره؛ قال:
يعيبون لوني بالسواد جهالة
ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
تعيرني العدى بسواد جلدي
وبيض فعائلي تمحو السواد
والمتنبي يلتقي مع عنترة عند كافور فيقول له: «أبا المسك!»
تفضح الشمس متى تطلع الشمس
بشمس منيرة سوداء
كما شبه الملوك بكتيبة من الخيل تتسابق في الميدان وكافور هو المجلي «الأول»: سوابق خيل يهتدين بأدهم.
شعره الملحمي:
نلتقي مع هوميروس بقصة عنترة عندنا، وسيأتي الكلام على هوميروس، ونرى أن قصة الإلياذة شديدة الشبه بقصة عنترة. والناس مختلفون حول عنترة؛ فمنهم من ينكر وجوده كما أنكر بعضهم وجود هوميروس. وسيان عندنا أوجد عنترة أم لم يوجد، فنحن ننظر إلى هذا الشخص الذي تعجبنا أخلاقه وفروسيته فنحبه ونعجب به.
وأخيرا أقول في هذا البطل: سيان عندنا أكان هجينا، أم كان غرابا، مشقوق الشفة. وماذا تهمنا أمه، فلتكن زبيبة، أو زيتونة، أو تفاحة، المهم خلق الرجل وشجاعته، وهذان لا يشك بهما أحد. وإذا لم يكن قد وجد، فالفضل للذي أوجده. ولا بأس علينا إذا كرمناه كما نكرم الجندي المجهول. هب أنه شخص روائي مثل شخوص سرفنتس وموليير والجاحظ، أفما صار هؤلاء كالأشخاص الأكابر الذين عاشوا على وجه الأرض؟ فلينعم عنترة بالا. (3) أنواع الشعر الأخرى (3-1) الرثاء
هو عندي أصدق أغراض الشعر إذا قيل عن عاطفة، كما كان يقوله المهلهل، وامرؤ القيس، ولبيد، والخنساء، وكما قالته جليلة. وأرى أبعده عن الشعر ما كان من هذا الرثاء الاصطناعي.
إن الرثاء الاصطناعي لأشبه بقول النوادب في المآتم، يرددون أقوالا لا يشعرون بما فيها من التأثير والعاطفة.
لم يقل شعراء العرب في الجاهلية الرثاء إلا في إخوانهم وأبنائهم وأحبابهم، فجاء مؤثرا واتصل بالقلب لأنه صادر من القلب.
يقولون إن الرثاء هو مدح الميت، وهذا بعيد عن الحقيقة، فليس الرثاء من المديح في شيء إذا كان عاطفيا، أما إذا كان صناعيا موضوعيا، فهو المديح المزيف.
أمامك رثاء الشعراء الجاهليين الذين قالوه في ذويهم وآلهم؛ كرثاء جرير في زوجته، ورثاء ابن الرومي في بنيه.
اقرأ قصيدة «وا كبدا قد تقطعت كبدي» تر العاطفة متدفقة. اقرأ قصيدة «حكم المنية في البرية جار» على برودة عاطفتها ومحاولة الموعظة فيها، والاعتماد على الصناعة الشعرية.
قابل كل هذا الرثاء بغيره من الذي يقال للقيام بالواجب تدرك الفرق.
إن هذا الشعر الذي نطلق عليه في الأدب العربي اسم الرثاء، لهو شعر الصنعة والكلفة، يقوله كثير من الشعراء حتى يقال إنهم نظموا في كل أغراض الشعر، وهكذا تتحول الحفلة التأبينية مباراة شعرية.
الخنساء
نسبها:
هي تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية، لقبها الخنساء، وهي مؤنث الأخنث من صفات الظباء، وهو تأخر الأنف وارتفاع أرنبته. ودعيت خناس اختزالا للتحبب، وهذا كثير حتى في اللغة العامية.
كانت جميلة الصورة، خطبها كثير من أجواد العرب فلم تتزوج إلا في قومها. رزقت أولادا أربعة ماتوا في وقعة القادسية جملة، أما هي فماتت في خلافة معاوية في البادية.
رثاؤها:
وهذا ما اشتهرت فيه من ضروب الشعر. قالت معظمه وأجوده في صخر أخيها لأبيها، ثم في شقيقها معاوية، وكلاهما قتلا.
قتل معاوية أولا في يوم الحوزة الأول، وسبب قتله خلاف نشأ في سوق عكاظ بينه وبين هاشم بن حرملة المري الغطفاني.
أما صخر، فجرح في يوم كلاب مطالبا بثأر أخيه، ومات متأثرا من جراحه.
إن موت أخوي الخنساء؛ وخصوصا صخرا، أفاض شعورها وأسال قريحتها كينبوع غزير، تدفق حين انبثق.
ومعظم رثائها قالته في أخيها صخر؛ لأنه كان يحبها حبا جما، ويعطف عليها أشد العطف، حتى قسم ثروته بينها وبينه مرارا.
شعرها
أغراضه:
الرثاء وما يدخل فيه من محامد وفخر.
هي أشعر النساء من حيث المطولات والإكثار من الشعر، والقدماء مجمعون على أنها أشعر النساء في الرثاء.
ديباجته:
متين التركيب، لين الألفاظ، رقيق التعبير، سهل الفهم، شديد الوقع في النفوس لأنه شعر العاطفة.
في عكاظ:
يقولون إنها أنشدت النابغة في عكاظ، ويقولون إن قصيدتها كانت في رثاء أخيها صخر، وإنها «قذى بعينك أم بالعين عوار».
ثم يخبروننا عن غضب حسان بن ثابت عندما سمع النابغة يقول لها: كنت فضلتك على شعراء الموسم، لو لم ينشدني أبو بصير؛ أي الأعشى.
ثم مساجلتها مع حسان بن ثابت، ونقدها شعره «لنا الجفنات الغر ... إلخ» إلى آخر ما هنالك من القصة.
لا ريب أن هذه القصة من تلفيق الرواة، نأتي لدحضها بدليل واحد نظن أنه كاف، وهو: أننا نسأل هل كانت القواعد؛ وخصوصا قاعدة «الجموع» من حيث القلة والكثرة معروفة كما هي مدونة بالكتب النحوية اليوم؟
الجواب:
لا؛ لأن أصول النحو وضعت بعد عكاظ بكثير.
أما قصيدتها «قذى بعينك أم بالعين عوار» فإنني أرى فيها صنعة ظاهرة وتكلفا باديا، وما سياقها وضخامتها باللذين عرفناهما في شعر شاعرتنا. فقصيدتها هذه أقرب إلى المدح منها إلى الرثاء والتفجع اللذين نلمسهما في شعر الخنساء. وهي هنا على خلاف عادتها تترك الموضوع ثم تعود إليه، كأصحابنا شعراء عكاظ.
اسمع يا أخي الخنساء تقول:
يؤرقني التذكر حين أمسي ... إلخ
إلى أن تقول:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكين مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
فلا والله لا أنساك حتى
أفارق مهجتي ويشق رمسي
فقد ودعت يوم فراق صخر
أبي حسان، لذاتي وأنسي
فيا لهفي عليه ولهف نفسي
أيصبح في الضريح وفيه يمسي!
فيا لها من عاطفة تتجلى فيها الأخوة الصادقة بكل قوتها وإخلاصها، وما أشد هذا التفجع وما أعظم تأثيره في النفس!
لا أدري إذا كنت تتمثلها معي كما أتمثلها أنا حين تهتف: فيا لهفي عليه ... إلخ.
أفلا ترى معي أن كل العاطفة الإنسانية والمحبة البشرية متمثلة مجسمة بهذا الإصباح والإمساء.
أما قصيدة «قذى بعينك ... إلخ» التي قالوا إن النابغة حاول تفضيلها فيها فهذا هو رأيي فيها: ألفاظها ضخمة غريبة لا تتفق وعاطفة الرثاء. أما عيوبها فهي قولها: ترتع ما رتعت ... إلخ. فهذا لم نره في شعر الخنساء. ثم قولها: لم ترأه جارة ... إلخ. وقولها أيضا: تبكي لصخر هي العبرى ... إلخ. وقولها: مورث المجد ميمون نقيبته.
وبكلمة مختصرة أقول: إنني وجدت هذه القصيدة أكثر قصائد الشاعرة كلفة. ولا عجب، فكذلك كانت البضاعة التي تصدر وتعرض في سوق عكاظ.
أمية بن أبي الصلت
الثقفي، شاعر شهير. وإذا قالوا في ابن الرومي إنه شاعر يغني في غير سربه، فأمية هو ذاك الطائر الغريب حقا. لبس أمية المسح واطلع على كتب النصارى وشك في الأوثان وحرم الخمر، وهو القائل:
كل دين يوم القيامة عند
الله إلا دين الحنيفة زور
ومن غرائبه تسمية الله بالتغرور وتسمية السماء صاقورة وحاقورة. وأمعن في الإغراب فجعل للقمر غلافا سماه الساهور. وإغرابه هذا حمل الرواة على الإغراب في حوادث حياته. فراجعها في كتاب الأغاني إذا شئت.
وكان أمية يظن أنه سيكون نبي العرب، فلما خاب ظنه، أخذ يحرض مقاومي النبي على قتاله.
أما شعره فغريب اللون في تفكيره وتعبيره، وسترى شيئا منه في النصوص المختارة.
الأعشى
حياته:
أبو بصير ميمون بن قيس البكري. ولقبه الأعشى الأكبر.
ولد باليمامة، وعاش متشردا ماجنا؛ أي بوهيميا بلغة هذا الزمان. أدمن شرب الخمر وقامر فافتقر وراح يسعى وراء المال، فرحل إلى جميع البلاد العربية طارقا أبواب الملوك والأمراء طالبا عطاءهم.
حكاية:
كان للمحلق الكلابي عدة بنات لم يخطبهن أحد، فأكرم الأعشى فقال فيه قصيدته المشهورة: أرقت ... إلخ. وما أنشدها في سوق عكاظ حتى نفقت بناته جميعهن.
التشخيص:
كان الأعشى موهوبا ملكة القصص وتشخيص ما لا يعقل، ومن هذا قوله في مدح النبي مخاطبا ناقته:
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقي من فواضله يدا
شاعر الخمرة:
كان الأعشى رائدا للأخطل وأبي نواس، فوصف الخمرة مشخصا لها، ووصف النديم والساقي والقنينة، ورسم صورة السكارى، وأدخل في وصف السكارى الحوار مع بياع الخمرة وساقيها.
فن الأعشى:
سموه صناجة العرب؛ لموسيقاه التي يقوم عليها أساس فنه الشعري، وشعره سهل منسجم جلي ذو رنة عجيبة مقرونة بمتانة وشدة؛ ولذلك تناقل الناس شعره وطارت شهرته وكسب كثيرا.
كان يتغزل ويمدح، ويقول خمرياته بمناسبة المدح، أما أسلوبه في مدحه فهو عادة الأسلوب القديم والخطة القديمة للقصيدة. امتاز بالقص الحسن الحوار إلى أبعد حد، وحسبنا منه نظمه حكاية امرئ القيس والسموأل وابنه.
آثاره:
ديوان كبير فيه جميع أغراض الشعر، وإن كان أكثره في المديح بضاعة ذلك الزمان التي كانت تطعم خبزا. وأشهر قصائده اللاميتان؛ الأولى: ودع هريرة، وهي معلقة عند الذين يعدون أصحاب المعلقات عشرة، وقد ترجمت إلى الألمانية والفرنسية والفارسية، وموضوعها غزل ووصف الخمرة واللهو ووصف السفر والعارض والبرق، وأخيرا تهديد ابن عمه يزيد.
منزلته:
له مقام رفيع عند من ينظرون إلى الفن، ولهذا عدوه من أصحاب المعلقات. وهو شاعر خمرة عند هؤلاء لا يجارى، كما أنه شاعر قصصي من الطراز الأول. وهاك واحدة من أروع ما قال:
حكاية السموأل
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به
في جحفل كسواد الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله
حصن حصين وجار غير غدار
إذ سامه خطتي خسف فقال له
مهما تقله فإني سامع حار
فقال: ثكل وغدر أنت بينهما
فاختر فما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له:
اقتل أسيرك إني مانع جاري
أنا له خلف إن كنت قاتله
وإن قتلت كريما غير خوار
وسوف يعقبه إن كنت قاتله
رب كريم وقوم ولد أحرار
فقال محتدما إذ قام يقتله:
أشرف سموأل، فانظر للدم الجاري
أأقتل ابنك صبرا، أو تجيء بها
طوعا، فأنكر هذا أي إنكار
فشد أوداجه والصدر في مضض
عليه منطويا كالدرع بالنار
واختار أدرعه كيلا يسب بها
ولم يكن عهده فيها بختار
وقال لا نشتري عارا بمكرمة
واختار مكرمة الدنيا على العار
فصان بالصبر عرضا لم يشنه خنا
وزنده في الوفاء الثاقب الواري (3-2) الهجاء
الهجاء وليد المدح والفخر، فقد كان العرب في أول عهدهم يمدحون ويفخرون. ومن يمتدح نفسه ويفخر بقومه لا بد أن يتعرض لذم من يفتخر عليه، وهكذا انبثق هذا النوع من الشعر.
لم يكن شعراء العرب في الجاهلية يتوخون الهجو فيقولونه محضا؛ أي إنهم لم يفردوا له بابا خاصا.
كان الشعراء في بادئ عهدهم يتكسبون بالمدح حتى مل الناس من هذا المدح ورغبوا عنه، فقلت الجوائز والصلات. قد يهمل الممدوح الشاعر وقد لا يكترث له، وقد ينتظر على باب الأمراء مدة. وهذا ما حدث للحطيئة مع الزبرقان، فإنه أهمله ولم يكن شديد الاهتمام به، حتى جاء آل شماس واستمالوه إليهم فهجا الزبرقان.
ويشبه هذا ما أصاب المتنبي مع كافور، فإنه مل إهمال كافور ووعوده ففر من عنده وهجاه ذاك الهجو الخالد.
إذا ضاق صدر الشاعر يهجو ويذم، وقد يكون الهجاء بابا للرزق، كما كان يفعل بشار بن برد. وكيف كان الأمر فالشعراء لجئوا إلى هذه الوسيلة اكتسابا للرزق أولا، ثم قال الشعر بعدئذ بعضهم لغرض سياسي يسعون لتأييده في حزب من الأحزاب، كما سترى هذا في بحثنا الشعر السياسي.
الهجاءون:
أما الشعراء الهجاءون في الجاهلية فليسوا بكثيرين. نذكر منهم أوس بن حجر، وزهيرا، والحطيئة الشاعر المخضرم الذي اشتهر بالهجاء في هذا العصر.
الحطيئة
حياته:
هو أبو مليكة جرول، الحطيئة العبسي، ولد مغموز النسب في بيت رجل عبسي، ولكن نسبه لعبس لم يثبت صريحا، وهذا ما دعاه إلى هجو أمه وأبيه، وهذا أيضا سهل له الانتماء إلى قبيلة إذا غضب من أخرى.
كان العرب يحرصون على النسب ويفخرون به، فجاء الحطيئة لا نسب له فغضب على الإنسانية جمعاء، ولم يسلم من هجوه أحد - كما يقولون - حتى نفسه.
شخصيته:
كان قبيح المنظر، رث الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدين، بخيلا، قليل الخير، كثير الشر، دنيء النفس جشعا، يلحف في السؤال، يتهدد الناس بهجوه ليبتز أموالهم ويستدر عطاياهم، شبهه إذا شئت ببعض الصحف التي تنال من كرامة الناس طمعا بأموالهم.
كان الحطيئة إذا قدم بلدا تنادى أهلها لجمع الأعطيات له ليشتروا بها كرامتهم وأعراضهم. وما زال هذا شأنه حتى هجا الزبرقان بن بدر صاحب الرسول وعامل عمر بن الخطاب على الصدقات، فسجنه عمر وأخرجه من السجن بعد أن استعطفه. هدده عمر أن يقطع لسانه إن هجا أحدا، ويقولون إن عمر اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، ولكن الحطيئة نكث عهده بعد موت عمر، وظل يهجو حتى مات في عهد معاوية سنة 53.
وصيته:
لا إخال وصية الحطيئة المشهورة إلا منتحلة، وأهم ما جاء فيها: جعل عبيده عبيد قن، وأكل أموال اليتامى، وإيصاء الفقراء بالسؤال والإلحاف ... إلخ.
ولكنها في كل حال تدل على أخلاقه أصدق دلالة.
دينه:
كما تقدم الكلام عنه في أخلاقه؛ أي إنه رقيق الإسلام، ضعيف الإيمان، قليل الدين، أسلم وارتد بعد موت النبي، وفي ذلك يقول:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فيا ويلتي ما بال دين أبي بكر
أخلاقه:
يمثل الجاهلية أصدق تمثيل في الحرية والإباحة وقلة الدين.
غلظة طبع وجفوة خلق وخشونة عيش.
أطواره غريبة، يضحك منه الناس ويخشونه. جبان ساخط على الدين الجديد، ولا يجرؤ على إظهار سخطه لجبنه.
تحاماه فريق من الناس خوفا من لسانه، وأقبل عليه فريق آخر يستعين بهجائه على خصومه، كما وقع للزبرقان وأبناء عمه.
شعره
أغراضه:
الهجاء، المدح، الفخر.
ديباجته:
متين التعبير، رائق الأسلوب، لا غرابة ولا ركاكة فيه، ولا تعقيد، تأنق وتحكيك حتى سموه عبد الشعر، متأثر قليلا بالدين الجديد لفظا ومعنى.
أما معانيه، فصورها حسية مادية كما قلنا عن أستاذه زهير.
هجاؤه:
إذا ذكر الهجاء تبادر إلى الذهن اسم الحطيئة، ويظنون أنه شتام في هجوه، يتناول الأعراض بكلامه البذيء، في حين أن شعره بريء من ذلك.
فشعره على شدته ولذعه لا فحش فيه ولا هجر، ينال الناس بهجوه من قبل منزلتهم الاجتماعية، ويعيرهم بما يكرهه العرب، وكثيرا ما يكون هجاؤه دقيق المعنى خفيه، كما في قوله في هجاء الزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقوله أيضا في مدح أخصامه والتهكم عليهم:
ما كان ذنبي أن فلت معاولكم
من آل لأي صفاة أصلها راس
وقد رووا له هجوا بوالدته وأبيه ونفسه.
راجع قصيدته السينية التي حبس فيها، التي أولها:
والله يا معشر لاموا امرءا جنبا
في آل لأي بن شماس بأكياس
مدحه:
كان لا يبالغ في مدحه إلا بأخلاق العرب المحبوبة، وكثيرا ما يتعرض لذكر الكرم والجود شأن كل مستعط، وينزه ممدوحه عن المن الذي يشين العطاء ويصيره ممقوتا عند العرب.
وخير ما قاله من المدح قصيدته الدالية التي مدح فيها آل شماس، كما أن خير ما قاله في المدح كان فيهم أيضا.
أما قصيدته الدالية فأذكر لك شيئا منها وأترك لك التفتيش عن السينية ومطالعتها:
ألا طرقتنا بعد ما هجعوا هند
وقد سرن خمسا واتلأب بنا نجد
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وهند أتى من دونها ذو غوارب
يقمص بالبوصي معرورف ورد
وإن التي نكبتها عن معاشر
غضاب علي أن صددت كما صدوا
أتت آل شماس بن لأي وإنما
أتاهم بها الأحلام والحسب العد
فإن الشقي من تعادي صدورهم
وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن غاب عن لأي بعيد كفتهم
نواشئ لم تطرر شواربهم مرد
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى
بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
فمن مبلغ لأيا بأن قد سعى لكم
إلى السورة العليا أخ لكم جلد
رأى مجد أقوام أضيع فحثهم
على مجدهم لما رأى أنه المجد
وقد لامني أفناء سعد عليهم
وما قلت إلا بالذي علمت سعد
وخلاصة الكلام، أن الصور المادية تسيطر على كل شعره. فارجع إليه يتضح لك ذلك. (3-3) السياسة والمديح
إننا نعلم أن العرب البدو كانوا قليلي التأثر بالدين قبل الإسلام، ومع ذلك نرى لليهودية والنصرانية تأثيرا في الأدب العربي الجاهلي.
كان العرب في جاهليتهم - كما علمنا - قبائل متعددة متفرقة، كل قبيلة تركب رأسها وتتبع هواها، لا تتأثر إلا بالتقاليد التي توارثتها عن الأجداد وتناقلتها كابرا عن كابر دون أن تفكر بتحويرها أو تنكب عن نهجها.
وكان يجاور هذه القبائل إمارتا الحيرة والشام، كما أن اليهودية والنصرانية احتلتا أماكن كثيرة في جزيرة العرب، فالمدينة كانت مستعمرة يهودية، بنى اليهود فيها قلاعهم وحصونهم. وقد تجاوزت اليهودية المدينة إلى اليمن حيث احتلتها وكان لها فيها شأن كبير.
أما النصرانية فقد انتشرت في مناذرة الحيرة وفي غساسنة الشام وسائر قبائله، وقد كان قساوسة النصارى ورهبانهم على جانب كبير من العلم والمعرفة، وخطيبهم المشهور أسقف نجران، قس بن ساعدة الإيادي، وعظ الناس وخطب فيهم كثيرا، وذكرهم بالجنة والنار والبعث والحساب. وقد شهده النبي
صلى الله عليه وسلم
في سوق عكاظ يخطب الناس فيها على جمله.
ومتى وجد الاحتكاك الديني وجد التعصب، وعن هذا التعصب تنشأ الأغراض والأهواء والأحزاب، وهذا ما يعبرون عنه بالسياسة.
فأربعة أمور أوجدت السياسة في جزيرة العرب:
الأول:
احتكاك الأديان.
الثاني:
مخالطة الأمم المختلفة بالتجارة.
الثالث:
سوق عكاظ التي كانت أشبه ببؤرة سياسية.
الرابع:
نفوذ الفرس والرومان الذي يمثله الغساسنة والمناذرة.
لا إخالك تقول بعد هذا: وماذا يعني البدوي الضارب في صحرائه من السياسة! وإن قلت ذلك فاسمع: إن ما بينته لك لسبب قوي لإنتاج شعراء عديدين سياسيين، يخوضون غمار السياسة.
فلا شك أن السياسة وجدت في ذلك الزمان، ولو لم تكن موجودة فلماذا يترك امرؤ القيس وطنه طالبا من ينصره على قوم قتلوا أباه وسلبوا ملكه؟!
أجل، لقد خاض امرؤ القيس الشاعر الحرب السياسية بسيفه وعدته كما خاضها بلسانه، لقد قال في قصيدته المشهورة بعد أن وصف لك المتاعب والمشقات التي قاساها:
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة
كفاني - ولم أطلب - قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
ثم قوله في قصيدته الرائية:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
ثم ما قولك في قصيدة زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان، وهرم من أجواد العرب ومن كبرائهم؟!
أصلح هرم ذات البين بين عبس وذبيان بمؤازرة الحارث بن عوف، ودفعا ديات القتلى.
ومعلقة عمرو بن كلثوم أليست من الشعر السياسي أيضا؟!
ولقد أرسلت النساء الشعر السياسي في الجاهلية كالرجال، وهذا ظاهر جلي في قصة ليلى العفيفة.
فليلى هذه كانت رائعة الجمال غزيرة الأدب، نزل بها أبوها قرية فارسية فسمع ملك الفرس بجمالها فاغتصبها من أبيها، ولكنه لم يتغلب عليها، بل ظلت تستثير العرب بشعرها وتحثهم على نجدتها وحفظ عرض العرب من العجم، وبسببها نشبت حرب ضروس قهر بها العرب العجم ورجعت ليلى إلى مأمنها.
وهناك أدلة كثيرة غير هذه لا حاجة إلى سردها، ولكنني قبل أن أختم هذه الكلمة في السياسة أذكرك بالمتلمس، فماذا فعل بعد أن ألقى صحيفته وهرب؟ ألم يجعل كل همه إثارة الناس على عمرو بن هند فكان يقول الشعر دائما في تأليب العرب عليه؟!
ولماذا غضب النعمان على النابغة؟ أليس لأنه مدح الغساسنة مناظريه السياسيين، ومنازعيه النفوذ في الجزيرة العربية؟!
أتظن أن كل سبب غضب النعمان عليه لأنه قال شعرا في وصف المتجردة زوجة النعمان؟! فهذا الوصف لا يستوجب كل هذه الضغينة، فالأدب العاري كان هفوة لا جريمة في الجاهلية، بدليل ما نقرؤه من شعرهم ...
المديح:
كان الشعر في أول عهده وسيلة لإظهار كوامن الصدور وما تجيش به من عواطف. كان قوامه الوصف: وصف العاطفة، وصف الطبيعة، وصف المشقات والأسفار. وصف كل ما تقع عليه العين ويحس به القلب.
ثم دنا من المدح قليلا، عندما قيل في الافتخار بالنفس والاعتداد بها، ثم مدح عزة القبيلة ومنعتها والاعتزاز بها، حتى توصلوا أخيرا إلى مدح الأفراد والأفذاذ، لا لدفع مغرم أو لجر مغنم، بل للاعتزاز بهم.
ولما أصبح للعرب شبه ملك، من إمارات وغيرها، أصبح المدح شخصيا، يدفع إليه الغرض والميل حتى صار الشاعر لسان حال الأمير، والأمير يجيز الشاعر ويثيبه، فصار المدح المجرد من أبواب الشعر، فلجأ إليه كثيرون، ثم أصبح مورد رزق لهم يعولون عليه.
وانتقل الشعر من مدح الأمراء إلى مدح الأفراد الذين لم يؤمروا، فقيل في مدح كل جواد كريم يجزل العطاء أو يثيب.
وإمام المداحين وزعيمهم النابغة الذبياني، بيد أنه لم يمدح إلا الملوك.
النابغة الذبياني
نسبه:
هو أبو أمامة، زياد بن معاوية الذبياني. لقبه النابغة، وبهذا الاسم عرف عند أهل الأدب ورجال التاريخ.
منزلته:
من أشراف ذبيان، إلا أن تكسبه بالشعر غض من منزلته، وإن لم يتكسب به إلا في مدح الملوك.
في قومه:
كانت مكانة النابغة في قومه سامية جدا، له فيهم نفوذ كبير وتأثير عظيم، وهذه المنزلة العالية جعلت المناذرة والغساسنة يتنافسون في استرضائه ويتسابقون إلى استمالته شأنه في هذا شأن الأخطل في بني أمية.
فالنابغة كان زعيم قومه النجديين يأمرهم بالحرب وينهاهم عنها، وقد كان في القبائل زعماء أيضا يعارضونه ويناوئونه، فكان يدافع في شعره عن سياسته هذه تارة باللين وطورا بالعنف.
وفي شعره الذي قاله في هذا الباب دليل على ماجريات السياسة - داخلية وخارجية - في عرب نجد في آخر العصر الجاهلي.
عند الملوك:
اتصل النابغة أولا بملوك الحيرة ومدحهم، فأدناه النعمان بن المنذر ونادمه، ووصله بجوائز سنية إلى أن وشى به أحد بطانته، فهم بقتله فهرب إلى الغساسنة ومدحهم. ولكنه ظل يحن إلى النعمان، وما فتئ يعتذر إليه حتى استعطفه واستعاد منزلته عنده.
أسباب الغضب:
يزعم الرواة أن سبب غضب النعمان سيف كان عند النابغة أراده النعمان فوشي به أنه ضنين به على الملك.
وفي رواية أخرى وصفه المتجردة كما تقدم الكلام. والسببان مدحوضان لا قيمة لهما، ولا يستوجبان هذا الغضب الشديد.
فسبب الغضب هو كما تقدم؛ أي مدح النابغة للغساسنة منافسي النعمان، وهذه المنافسة ناشئة عن تنافس الفرس والروم في جزيرة العرب، والناس على دين ملوكهم.
أقسام شعره: شعره ثلاثة أقسام:
الأول:
قاله في ملوك الحيرة مادحا ومعتذرا.
الثاني:
قاله في ملوك غسان مادحا ومستعطفا.
الثالث:
قاله في شئون بدوية جاهلية تمس قبائل نجد، وما كان بينها من صلات حرب وسلم.
أغراض شعره:
مدح، فخر، هجاء، رثاء، اعتذار.
ديباجته:
هو أحسن شعراء العصر الجاهلي ديباجة لفظ، وجلاء معنى، ولطف اعتذار، لم يرسل شعره على السجية «كالقول» بل هو فني يتوكأ على التشبيه والاستعارة والمجاز، بيد أن هذا التكلف لم يعبه.
له صور شعرية جميلة. حبه الكسب جعله يتفنن في هذه الصور ويبتدعها. صوره مادية حسية، يشبعها درسا وتلوينا حتى تظهر ظهورا تاما، كما هي الحال في صورة ذهاب الحارث الغساني إلى الغزو؛ أي الحرب.
أنت أشعر العرب:
تقديمهم إياه في سوق عكاظ اعتراف له بالأسبقية؛ فقد كانت تضرب له قبة من أدم فيقضي لشاعر على شاعر.
وكثيرا ما كان ينشده شاعر في غير هذه السوق فيقضي له فورا بهذه الكلمة المأثورة: أنت يا ابن أخي أشعر العرب.
وقد يكون سائرا في الطريق فيستوقفه شاعر وينشده شيئا، فيقول له كلمته المأثورة: أنت يا ابن أخي أشعر العرب (على الماشي).
فاحكم أنت إذن «يا ابن أخي» على قيمة هذه الكلمة وتصور ما شئت.
ملاحظة:
من ينظر إلى شعر هذه الفترة، كشعر النابغة مثلا، وخصوصا شعر الحطيئة، يدرك أن الشعر العربي كان يسير بخطوات واسعة في آخر العصر الجاهلي نحو الرقة الحضرية.
عدي بن زيد
حياته:
هو عدي بن زيد العبادي، تعلم الفارسية وصار ترجمان كسرى أبرويز ملك فارس، وكتب له بالعربية. فلما قتل عمرو بن هند أشار عدي على ملك الفرس بتولية النعمان بن المنذر على العرب، فولاه. وخاف النعمان من عدي فسجنه ثم قتله، ولكن العين الساهرة اقتصت لعدي فأمات كسرى النعمان تحت أقدام الفيلة.
شعره:
نظم الشعر، واقتبس حكايات من التوراة ونظمها شعرا، مثل حكاية حواء والحية. فجاءت بين بين.
وأشهر قصائده قالها في السجن ووجهها إلى النعمان قبل أن يقتله.
حكمته:
مثل حكمة زهير مقتبسة من واقع الحياة واختبارها، وكلامه بسيط ساذج، ونظمه ركيك؛ لأن فارسيته أخذت من فصاحة عربيته، ولو كانت قصائده من طراز هذه الأبيات لكان شاعرا معدودا.
قال في الخمرة:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت
قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الد
يك صفى سلافها الراووق
مزة قبل مزجها فإذا ما
مزجت لذ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كاليا
قوت حمر يزينها التصفيق (3-4) النثر - الأمثال
يعلل القدماء قلة النثر بأن الشعر أيسر حفظا وأعلق بالأذهان لوزنه ورنته، ومع اعتبارنا لهذا التعليل نقول: إن الشعر يسبق النثر في جاهليات الأمم لأنه لغة العاطفة والخيال، والنثر الفني لغة العقل والتفكير، وقد كان العرب أميين في كثرتهم، والشعر يعيش مع الأمية. أما النثر الفني فلا يستطيع أن يعيش معها.
لا ننكر أن بعض أفراد العرب كانوا يكتبون في المعاملات في آخر عهد الجاهلية، ولكن الكتابة لم تكن منتشرة إلى حد يمكن من تدوين الشعر والنثر.
إن في النثر شعرا، وفي الشعر نثرا.
فهوميروس وشعراء إسرائيل وأصحاب المعلقات وخطباء العرب لم يكونوا شعراء ولا ناثرين في خطبهم وقصائدهم، بل كان همهم أن يؤثروا في سامعيهم، ولا فرق عندهم بين النثر والشعر.
ولم يكن العرب يفرقون بين النثر والشعر؛ ولذلك اعتقد فريق منهم زمنا أن القرآن الكريم شعر، أو طريقة من الإنشاد الذي كانوا يسمعونه في منتدياتهم ويسمونه شعرا، وأخذوا يحفظونه وينشدونه بدليل قوله - تعالى:
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين .
وظلوا أيضا بعد هذه الآية الكريمة يخلطون بين أبيات الحكم والأمثال الجاهلية والآيات القرآنية حتى عصر الأمويين، ولم يكن هذا عند الأعراب، بل تعداهم إلى الخطباء إذ ذاك، كما ذكر ابن عساكر والأغاني: أنهم كانوا يوردون الأبيات الحكمية والأمثال على المنابر في الجوامع ظانين أنها آيات منزلة.
وكذلك كان العرب لا يميزون بين سجع الكهان والعرافين والرجز - الذي صار بحرا - بل كثيرا ما استعملوا الكلمتين على الترادف، كما تدلنا خطب قس وغيره، فهي تبدأ بالسجع المنظم القريب الفواصل التي تتسع بعدئذ رويدا رويدا.
ومثلها خطبة أكثم بن صيفي، ففيها بعض أسطر ذات رنة موسيقية أتت عفوا.
وكذلك بعض الأمثال، فإن بعضها شعري اللهجة وبعضها موزون، وفي القرآن بعض آيات موزونة .
أما النثر الفني فلم يكن موجودا مستقلا عن الشعر، بل كان نوعا منه «للإنشاد». (3-5) الخطابة
كان للعرب خطباء، دعت إليهم الحال الاجتماعية والسياسية، وكان لهم خطباء مشهورون نعرف أسماءهم وشيئا لا يذكر من أقوالهم.
لقد مهدت لتفشي الخطابة في العرب بلاغتهم الفطرية وسرعة الخاطر، والاحتياج إليها للإقناع في الدفاع. وعدم انتشار الكتابة، وقلة المواصلات كانت تدفع الأمير العربي إلى أن ينتدب عنه رجلا لسنا للتفاهم على قضية. وقد كانت هذه السفارة في آخر الجاهلية لعمر بن الخطاب.
في أخلاق العربي عصبية شديدة التأثير، تدفعه إلى الاهتزاز بسرعة لإجابة مجيب أو رد عليه، وكانوا يتأثرون بموسيقى الألفاظ، وقوة ذاكرتهم تحملهم على الحفظ.
قد تكون خطابتهم غير فنية على طرق اليونان، ولكنها كانت موجودة.
غاية الخطابة (1)
المواعظ الدينية والأخلاقية والعبر. (2)
المفاخرة والمنافرة «حديث السلم». (3)
التحريض على أخذ الثأر. (4)
الحض على الصلح بعد المعارك. (5)
في عقد الزواج؛ لتبيين مكارم المخطوب إليه في قبيل المخطوب له. (6)
التوصية بالمحامد والتبصر والتروي ... إلخ.
سجع الكهان:
هو كغيره من الإنشاء الجاهلي، ويزيده في تكلف السجع والغموض والتلميح.
أشهر كهانهم سطيح، واسمه ربيعة، مات بعد مولد النبي، وشق أنمار كان كاهنا في عهد كسرى.
أما الخطب فامحى أكثرها ودرس ولم يحفظ لأنه وثني، ولم يبق منه إلا الذي له علاقة بالإله الواحد، ولا يمت إلى الوثنية بنسب.
الأمثال:
بعكس ذلك، فإنها بقيت؛ لأن لا علاقة لها بوثنيتهم، ولا سيما أن معظمها أصبح كالمفردات والعبارات التي يستعملها الإنسان، وهي تشبه الإنشاء الإنشادي.
والأمثال: حقيقية وفرضية.
فالحقيقية لها أصل معروف أو حادثة قيلت فيها.
أما الفرضية، فهي تمثل لسان حيوان أو نبات أو جماد، ويكثر هذا النوع منها متى اشتد الضغط السياسي.
أما الأمثال فنتيجة روية شعب مدة أجيال، والأمثال موجودة عند كل الأمم، وكلها مستمدة من التجاريب ومظاهر الطبيعة والحوادث والطرق التي تتجدد كل يوم.
الحكمة:
اشتهر العرب أكثر من سواهم بالحكمة، وفاقوا كل الشرقيين بها، بدليل قول التوراة في سفر الملوك ف3: وفاقت حكمة سليمان جميع أهل المشرق ؛ ويريد العرب.
وللعرب اهتمام كبير بالأمثال والحكم لا نزال نلمس أثره حتى يومنا هذا في إنشاء كتابنا.
قيمة الأمثال:
فالذي نستطيع درسه من النثر الجاهلي هو الأمثال.
فللعرب في جاهليتهم أمثال شعبية كثيرة، وهي في صورة نثرية غير منظومة، وإذا لم نستطع أخذها مقياسا للنثر في ذلك العصر لقصرها فعلى كل حال نرى فيها العقلية العربية والخلق العربي، وفيها نرى الجملة العربية القوية الظريفة التعبير، المصيبة المعنى، المتقنة التشبيه، الحسنة الإيجاز.
لقد أجاد العرب في المثل، وهو يمثلهم أصدق تمثيل؛ لأنه - كما قلنا سابقا - ينبع من كل طبقة فيهم، بخلاف الشعر الذي لا يمثل الشعب كله؛ لأن الشعراء عادة يكونون أرقى من العامة.
ولكن الأمثال الجاهلية اختلطت بالأمثال الإسلامية حتى صعب التمييز بينهما، إلا إذا كان المثل قيل في حادثة تاريخية أو عرف قائله.
إذن على الذين يرغبون فهم النثر الجاهلي ومكانته العالية وجماله الفني فليطلبوه من «الحديث الشريف» وخطب الخلفاء والأمراء في صدر الإسلام حتى آخر العصر الأموي، وأخيرا في عصر بني العباس حين أصبح صناعة فنية.
جمع الأمثال:
عني العرب بها كثيرا فجمعوها، وأول جامع لها: عبيد بن شرية، وحماد العبدي في عهد معاوية، ثم الضبي في أول الدولة العباسية، ثم أبو عبيد القاسم، والأصمعي، وأبو زيد القرشي، وهشام الكلبي، وابن الأعرابي، وابن قتيبة، والعسكري، والميداني، وهذا جمع 6000 مثل ليست كلها من أصل عربي.
مميزات هذا النثر:
لهذا النثر القليل مميزات وإن كان قليلا جدا لا يصلح للحكم عليه: (1)
قلة التأنق في الألفاظ. (2)
بعدهم عن المترادف والمتوارد. (3)
لا تكلف في صوغ العبارة والأساليب. (4)
قصر الجمل أو توسطها، ويلتزمون ذلك في الحكم والأمثال والوصايا. (5)
إيجاز من غير إخلال بالمعنى. (6)
استعمال الكناية القريبة المثال، والابتعاد عن التصريح بما يستهجن. (7)
قلة التعمق في المعاني والأفكار. (3-6) الرواية والرواة
ما وصل إلينا من كلام العرب شعر ونثر مروي عن أهل البدو الأميين، ورواته أميون أيضا؛ ولذلك ضاع كثير من الأدب الجاهلي، ولم يصل إلينا إلا ما بقي على ألسن الرواة، حتى كان الخط والتدوين .
وما الرواة إلا الشعراء والمتأدبون وأرباب الأحساب والمجد، فهؤلاء يتفانون في حفظ مفاخر الأمم في كل عصر.
لقد كان امرؤ القيس راوية أبي دؤاد الإيادي، وزهير راوية أوس بن حجر، والأعشى راوية المسيب بن علس ... إلخ.
واشتهر من قريش أربعة بأنهم من رواة الأشعار وعلماء بالأنساب، وهم: مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب. (3-7) الخط العربي
عرف العرب الكتابة من النصارى واليهود، وقد كانت بالخط المسند في اليمن، وهو منفصل الحروف يشبه الخط الحبشي. أما في الشمال فكانت بالخط النبطي، وله علاقة بالخط الآرامي؛ أي «الأسطرنجيلي» ويسمونه الجزم، وهذا تحول بعدئذ إلى الكوفي.
والكتابة وصلت إلى الحجاز من بين النهرين بواسطة السوريين.
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد:
حكوا أن ثلاثة من طيء اجتمعوا ببقعة، وهم: مرار بن مرة، وأسلم بن سدرة، وغامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلمه قوم من الأنبار، وجاء الإسلام وليس أحد يكتب العربية غير بضعة عشر إنسانا.
وفي رواية أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران، والكوفي من العراق، وعندما جاء الإسلام فرض على الأسرى أن يفتدوا أنفسهم بتعليم الكتابة لعشرة من صبيان المسلمين إذا عجزوا عن دفع الفدية. وكذلك فعل المأمون فيما بعد، فجعل إخراج الكتب ونسخها شرطا من شروط الصلح، فنزل الملوك المغلوبون عند هذا الطلب.
أما تحسن الخط وترقيه إلى ما وصل إليه، وما دخل عليه من حركات وضوابط وأناقة، فهنا ليس محل الكلام عنه.
عصر صدر الإسلام
المخضرمون - الأمويون
معلومات مختصرة عن امتداد ملك العرب:
أنكر قرشيو مكة بعثة النبي
صلى الله عليه وسلم
فحاربوه ففر من مكة نهار الجمعة 16 تموز سنة 622م، وفر معه مريدوه، ثم عاد ففتح مكة وحطم أصنامها، ووضع أساس الدين الحنيف الذي به وضعت أسس الوحدة العربية، فالأدب العربي العالمي الذي يشغل علماء أوروبا اليوم. (1) الفتوحات
الخلفاء الراشدون
أبو بكر:
فتح العراق والشام. وقد تم الفتح العراقي على يد خالد، والشامي على يد أبي عبيدة.
عمر بن الخطاب:
فتح القدس ومصر وفارس.
عثمان:
فتح إفريقية وأنقرة.
علي:
حروب أهلية.
الحسن:
تنازل لمعاوية.
الخلفاء الأمويون
معاوية:
نزاع بينه وبين علي.
معاوية الثاني:
على عهده فتنة ابن الزبير.
الوليد بن عبد الملك:
على عهده فتحت الأندلس. (2) نشأة الإمبراطورية العربية
جمع العرب كلمتهم بعد ظهور الإسلام، فهبوا للفتح حتى سيطروا، في آخر عهد بني أمية، من ضفاف الكنج شرقا وشواطئ الأطلنطيك غربا، وأواسط إفريقية جنوبا وشمالا إلى أواخر أرمنية في آسيا، وإلى اللوار في أوروبا، واحتلوا مدن كسرى وقيصر، وحاولوا الاستيلاء على القسطنطينية، وكانوا في كل فتوحهم يحملون معهم كتاب الله، يعلمونه الناس.
وهنا نبدأ كلامنا في الوحدة العربية، وكيف تكونت وامتدت في العالم بأسره. (3) وحدة الأمة العربية
الفتوح:
جزيرة العرب، العراق، فارس، الشام، مصر، السند، خوارزم، سمرقند، الأندلس.
ورث العرب كل هذه المدنيات، وهي وارثة عدة حضارات.
لغاتها:
كانت عديدة.
أجناسها:
سامية، حامية، آرية.
أديانها:
مختلفة: سماوية، وغير سماوية، والعقليات مختلفة.
الشام ومصر:
كان الشام ومصر ملحقين بمملكة الروم علما وأدبا، ودينهما النصرانية. والعراق وفارس آدابهما فارسية، ومنها رومية بين نصارى العراق. وكانت الحرب سجالا بين الدولتين فتغلب عليهما العرب.
ففي مصر والشام كانت الآداب عبارة عن العادات اليونانية في عصر الإسكندر.
وقد كانت العلوم اليونانية تطورت عند الفتح الإسلامي؛ وخصوصا الفلسفة لاختلاطها بالمواد اليهودية والمسيحية، فتولد منها ما يعرف بالفلسفة الأفلاطونية، والفلسفة الفيثاغورية الحديثتين، وكانت مدرسة الإسكندرية أم المدارس بالطب والهندسة والفلك وسائر العلوم الرياضية والخطابة والشعر.
عاصرتها مدارس طرسوس ورودوس وأنطاكية وبيروت التي اشتهرت بمدرستها الحقوقية.
وفي العراق وفارس كانت الآداب القديمة التي أضافوا إليها الهند والصين وآشور وغيرها من أمم الشرق.
وفي أيام سابور في الدولة الساسانية أنشئت مدرسة جندي سابور، ونقلت فلسفة اليونان إليها في عهد كسرى أنوشروان العالم سنة 531-578.
ولما أقفل بوستنيانوس الهياكل والمدارس الوثنية جاء فلاسفة اليونان الوثنيون فنقلوا كتبا شتى عن اليونان، وكانت الفلسفة الأفلاطونية قد نضجت.
ففتح الإسلام الكبير جعل مدينة الروم والفرس وأدبها في حوزة العرب ، فتسربت إلى المسلمين وامتزجت بعاداتهم وآدابهم.
واختلاط هذه الأمم الكثيرة بالعرب ولد العجمة، ولم تبق اللغة الفصحى إلا في قلب الجزيرة.
ولذلك قال الأصمعي: أربعة لم يلحنوا قط لا في جد ولا في هزل: الشعبي، عبد الملك بن مروان، الحجاج بن يوسف، وابن القرية.
ولهذا صاروا يحضرون المعلمين للأمراء وأولياء العهد من أفصح العرب، أو يرسلونهم إلى البادية.
التمازج:
خضعت هذه الشعوب كلها للمسلمين فاختلطت بهم في السكنى والجوار والزواج وكل مرافق الحياة، فصارت الأمة عربية وغير عربية.
العلوم:
أخذ المسلمون العلوم عن المغلوبين؛ لأنهم رأوا أنفسهم دونهم علما ومعارف. أخذوا فلسفة ونظما اجتماعية وعلوما فلسفية واقتصادية، وصبغوها بصبغتهم الخاصة، فاجتاحت اللغة العربية كل لغات البلدان المفتوحة وانتشرت انتشارا هائلا حتى في أوروبا، فزادت ثروة اللغة العربية، وأصبح الأدب العربي هو الأدب الفارسي المصري السامي الغربي الأندلسي.
أدب عالمي:
فهذا التكوين جعل الأدب العربي أدبا عالميا يهتم له الغربيون للأسباب الآتية: (1)
العرب حملوا مصباح التفكير الإنساني أربعة قرون كانت فيها المدنية عندهم، واشتملت عليها لغتهم، ثم نقلت ولا تزال تنقل إلى أوروبا. فالمستشرقون اليوم أشد اهتماما بها، وفي كل يوم يعثرون على كتاب جديد ينشرونه. (2)
أساس الحركة الفكرية في أوروبا في القرن الثالث عشر يرجع إلى مؤلفات العرب التي درسها الأوروبيون. (3)
الأمة العربية أنتجت حضارة لا تزال قائمة إلى الآن يبحثها المستشرقون بكل اهتمام. (4)
يدين العرب بدين كبير له تأثيره في عقليات كثيرة تبلغ مئات الملايين من الناس من بدء نشأته حتى يومنا هذا.
المظاهر الدينية:
عبادة إله واحد، إله كل شيء، عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، الخلود، الثواب، العقاب، قيمة الإنسان بعمله، خير الناس أتقاهم لا أقواهم.
أما في الجاهلية فكانت العزة للكاثر، ومنها المال والبنون والأقربون الذين تتولد بهم العصبية.
فالإسلام هدم القبيلة وكون الأمة:
إنما المؤمنون إخوة .
الآداب:
عد فضائل الجاهلية رذائل؛ كالخمر والميسر والانتقام، فحل محلها الصفح والمسالمة ومقاومة الظالم بدلا من نصرته.
دافع عن الضعيف الذي يأكله سيده، فحرم الربا وحث على الصدقة وفرض الزكاة.
فلم يكن الانقلاب الإسلامي انقلابا دينيا ليس غير، بل انقلابا سياسيا اجتماعيا اقتصاديا.
إلا أن النزعات الجاهلية لم تمح تماما، فالعصبية الجاهلية كانت تظهر في بيئات مختلفة، ثم نمت أشد النمو في العصر الأموي، فالشباب الأموي كان يعيش عيشة جاهلية من شراب وصيد وغزل.
الاجتماع والسياسة:
بتكون أمة إسلامية تتكلم لغة واحدة ذات دين واحد ونظام واحد هو الشرع الإسلامي، تحضر العرب وصاروا ينتمون إلى المواطن بدلا من القبائل.
حرم الإسلام الربا الفاحش والتلاعب بالميزان والكيل وآجال الديون.
كان الزواج غير مقيد فقيده، وورث المرأة وحرم وأدها، وقسم الميراث.
العيشة:
لما تغلب العرب على الفرس والرومان اكتسبوا مدنية وغنى وخصبا وعاشوا عيشة راضية، فكان الإسلام أشبه ببوتقة: أمة مؤلفة من أمم.
الأنظمة:
واكتسبوا أيضا أنظمة سياسية كتدوين الدواوين وتنظيم الجيوش، أما الفرس والرومان، فأخذوا عن العرب الدين واللغة، فتعلموا العربية وأسلموا، وبرز بعضهم في العربية على العرب أنفسهم. (4) الدين الجديد والأدب
للأسباب الآنفة الذكر جاء الأدب الإسلامي مغايرا للأدب الجاهلي، فهو لا يصف العقل الإسلامي الذي طبعه الإسلام بطابعه الخاص.
لم يحدث التغير في الأدب فجأة كما حدث مرة واحدة في السياسة والاجتماع، بل ظل العرب متمسكين بأدبهم زمنا.
القرآن الكريم:
أدهشهم القرآن الكريم؛ إذ رأوا شيئا لا عهد لهم به من قبل، بل كل ما كان عندهم بعض أشعار وأمثال متفرقة.
أدهشهم القرآن؛ إذ حدثهم بشيء لم يتعودوه؛ عن الدين، عن الإنذار والتبشير والاشتراع، فأنكروا ذلك أولا ثم بهرهم جماله وأحبوه، وما مضى ربع قرن حتى صار هو المثل الأعلى في الدين والأدب والاجتماع والسياسة، وكان الناس بين منكر ومقاوم ومؤمن ومدافع.
الشعر السياسي:
وظهر إذ ذاك الشعر السياسي: جماعة يدافعون عن النبي محمد ودينه، وجماعة يناضلون عن دينهم القديم ويعادون النبي.
فهذا الشعر السياسي كان جاهليا لفظا ومعنى، أسلوبا وغرضا، إلا أنه تناول شيئا لم يتناوله الشعر القديم، وهو المعاني الدينية، وكثرت فيه ألفاظ لم يذكرها من سبقهم من الشعراء. وهذه الألفاظ وردت في القرآن الكريم ، كالألفاظ الدينية؛ فمنهم من يكثر من ذكرها؛ كعبد الله بن رواحة من شعراء الأنصار، ومنهم من كان حينا يذكر وحينا لا يذكر؛ كحسان بن ثابت. أما شعراء قريش المعارضون للنبي ودينه الجديد فكانوا يلمون بها إلماما.
الهجرة:
معارضة قريش للنبي دعته للهجرة كما تقدم، وحدثت حروب كثيرة. كل ذلك فتح مجالا للشعر والإكثار منه؛ كالفخر والهجاء والرثاء، فكان عصر النبي عصرا نهض فيه الشعر نهضة لم تحدث في الجاهلية، حتى إن قريشا عرفت به وكان قليلا فيها، لأن القرشيين شعب منصرف للتجارة وله السيادة على الكعبة.
وبعد موت النبي وحدوث حروب الردة وظفر الإسلام، انقطعت المعارضة واشتد الميل للفتح، وزالت الخصومة الدينية في الحجاز، وكان عمر ينال ممن يذكر تلك الأيام وأشعارها حتى نهى حسانا عن إنشاد شعره في مسجد النبي، فضعفت العناية بالشعر وانصرفوا إلى الحروب والفتوح وتأسيس الدولة وتمصير الأمصار.
قل الاعتناء بالشعر، ولكن لم ينصرف عنه العرب كل انصراف، بل بقي منهم من يقوله مدحا وهجاء وفخرا.
ومنهم الحطيئة، وكعب، والشماخ بن ضرار، والنابغة الجعدي، فهؤلاء ظلوا يقولونه كأنهم في الجاهلية. كما أن البعض منهم انصرفوا عنه أو كادوا بعد وفاة النبي؛ مثل حسان بن ثابت، ولبيد.
أما الحطيئة فلم يتأثر بشيء من حيث المبدأ، بل ظل هجاء حتى حبسه عمر. وهناك شاعر آخر اسمه ضابئ البرجمي، أقذع في هجوه حتى حبسه عثمان، ومات في السجن.
هذان الشاعران وأمثالهما لم يتركوا جاهليتهم وتفكيرهم، ولكنهم تأثروا بالتعبير القرآني وبعض معانيه والحياة الإسلامية الجديدة، فظهر شيء في شعرهم لم يكن مألوفا من ذي قبل، كقول الحطيئة:
من يفعل الخير لم يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
ففي خلافة عمر وقسم من خلافة عثمان انصرف شباب الأمة العربية إلى الحروب؛ أي تركوا القول ومالوا للعمل، إلا بعض رجال البادية فإنهم ظلوا محتفظين بعاداتهم خاضعين للنظام الجديد. فهؤلاء كان الشعر حديث مجالسهم. وبعد تلك الفتوح العظيمة تكونت ناشئة جديدة ونظرية جديدة في الحياة، وأمن العرب شر أعدائهم وأثروا، فعادوا إلى التنافس فيما بينهم، ومن آثار هذه المنافسة مقتل عثمان وعلي. وحدثت شيع وأحزاب أخرى بسبب هذا التنافس أيضا.
وحصل تنافس شعري بسبب مقتل عثمان وعلي لم يقل عن تنافس النبي وقريش، فقيل شعر كثير.
وظلت الحالة كذلك حتى انقادت السلطة لمعاوية، فهدأت الأحوال نحو 20 سنة هدوءا وقتيا، أشبه بهدنة بين متحاربين، استعدادا لحرب جديدة.
فما مات معاوية حتى اشتدت الخصومة وشمرت عن ساقها، وعادوا إلى ما هو أشبه بأيام الجاهلية من الحروب. فكثرت الأحزاب واشتد النضال بالسيف واللسان.
فظهر الشعر ظهورا جديدا أشد مما مضى، وكان مخالفا للشعر القديم؛ لأن الجيل إسلامي، والجاهليون كانوا انقرضوا تماما، وقام جيل جديد متأثر بالإسلام، وحضارات جديدة، فتغير عقله تغييرا تاما.
فالذي يصح أن نسميه أدبا إسلاميا هو ما قاله هؤلاء الذين سمعوا عن الجاهلية الأخبار ولم يروا منها شيئا، وهؤلاء هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب شعراء إسلاميين. (5) الحياة الجديدة
فلتفهم الشعر الإسلامي الذي تطور من الشعر الجاهلي وانفصل عنه بعض الانفصال عليك أن تفهم ما يلي من الحياة الجديدة التي يصورها هذا الشعر الجديد.
ترك العرب الحياة القديمة، ولم يعد يكسب العربي قوته من الغزو والغارة، بل عاش بموارد كانت مجهولة عنده: كالتجارة، واستثمار الأرض، والجندية، ورواتبها الضخمة، وأعمال الدولة؛ سياسة وإدارة وقضاء.
ثم المهاجرة إلى أقطار بعيدة افتتحها الإسلام، حيث يكسبون ويعيشون برخاء. أصبح العرب سادة الفرس وسادة الروم في الشام. زحفوا إلى مصر، ثم إلى أفريقيا، ثم إلى إسبانيا، حيث سادوا وشادوا.
فكل هذه الأسباب غيرت أخلاق العرب وحياتهم، فلما أمنوا شر الناس عادوا إلى أنفسهم فأخذوا في الشقاق والنضال والقتال.
فبعد موت معاوية تألفت عدة أحزاب: (1)
حزب بني أمية وكتلته في الشام، التفت حول بني عبد شمس لتثبت لها الملك. (2)
حزب عبد الله بن الزبير في الحجاز. (3)
حزب بني هاشم آل البيت في العراق. (4)
حزب يعارض كل هذه الأحزاب، يرميها بالكفر والشقاق: وهو حزب الخوارج. فالخوارج يريدون أن يكون الأمر شورى، يدعو إلى هذا المبدأ كره العرب للسلطه.
كان بين هذه الأحزاب حرب ونضال شب أشأم الحرب وأشدها بعد موت معاوية وخصوصا يزيد ابنه، وكان الأدب نفير هذا الجهاد، فلكل حزب شعراء وخطباء.
انتصر حزب الأمويين على الزبيريين فمحقهم محقا، وانتصر أيضا على الشيعة نوعا ما.
كان هذا الحزب يجمد ثم يظهر إذا استجمع قواه وضعفت أعداؤه. ولهذا الحزب أيضا شعراؤه وخطباؤه.
أما حزب الخوارج فبقي ثابتا للأمويين يجاهد جهادا عنيفا، لا يغلب حتى يجدد قواه. (6) مواطن الأدب الجديد
حفظ الأمويون سلطانهم في الأقطار الإسلامية، وظهرت قوة هذه الوحدة في عهد عبد الملك بن مروان حتى أشبهت أيام معاوية فصارت مراكز القوى العربية ثلاثة: (1)
الشام:
وفيها الخلافة وما لها من بأس وقوة. (2)
العراق:
وفيها الشيعة والمعارضة، وفريق من أنصار ابن الزبير وجمهرة من الفرس، وأخلاط من أمم متعددة.
ففي العراق أرض خصبة ومال وافر إلى جانبهما الاضطراب الدائم، والمعارضة الدائمة، والصراع بين السياسة والدين. (3)
الحجاز:
منفى الشباب أبناء المهاجرين والأنصار، يعيشون عيشة ترف وبذخ لا يبرحون الحجاز إلا بإذن خاص من الخليفة «إقامة إجبارية».
لهم من بيت المال رواتب ضخمة، أغدق عليهم الخلفاء العطاء، وهم ورثة آبائهم الفاتحين أصحاب الأسلاب والغنائم التي لا تحصى.
فهذا الشباب يجمع في صدره عدة عواطف؛ فصاحة وشعور، حس دقيق، أميال متقدة، كره للدولة القائمة على أركان وضعها آباؤهم وأجدادهم.
وفي هذه الأقطار الثلاثة اختلف الأدب باختلاف الشئون السياسية والطبيعية والاقتصادية.
أدب الشام:
لم يكن في الشام شيء من الأدب إلا ما ينقل مع الوافدين على الخلفاء من أهل العراق والحجاز؛ لأن العرب الذين كانوا في الشام يمانيون، فليس لهم ما لعرب عدنان من الإنتاج الأدبي الذي ورثوه عن الجاهلية.
أدب العراق:
كان موطنا لهذا الأدب الذي يغلي كالمرجل، فهناك معارضة سياسية، ونضال بين الأحزاب؛ خطب سياسية وشعر سياسي، وجهاد بين القبائل، وتنافس بين الأفراد كأنهم في الجاهلية.
فكان هناك الهجاء للأفراد والجماعات ثم الفخر والمدح.
الحجاز:
أما الحجاز فكان موطنا لشيئين متناقضين: النسك والتقوى والجد في درس العلوم الدينية ، وتحصيلها. وكان أيضا موطن اللهو والعبث والمجون؛ لأن هؤلاء الأشراف من قريش والأنصار، لهم ثروتهم وفراغهم.
في الأمصار الثلاثة تظهر صور الحياة العربية في أواسط القرن الأول الهجري في الشعر، وتظهر أيضا أغراض الشعر الإسلامي، فهذا الشعر احتفظ بفنونه الجاهلية؛ كالمدح والهجاء والرثاء والفخر، وأضاف إليهما فنونا جديدة لم تكن، وغير الفنون القديمة تغييرا قويا.
الغزل:
قوي في هذا العصر جدا؛ نظرا لرخاء العيش الجديد والترف ورقة مزاج أهل البدو بتأثير القرآن والحياة الجديدة، ولهذا أصبح الغزل مستقلا عن أنواع الشعر الأخرى، ولم يعد تابعا لسواه، فصار الغرض منه إظهار عواطف الشاعر وأهوائه وميوله، فاختلفت مذاهب الشعراء الحجازيين فيه.
فشعر أهل البادية عفيف عذري لا إباحية ولا تهتك فيه، ولا تجاوز لما اعتاده الناس، فهو حب طاهر قوي حاد، يملك كل حواس ناظمه وقائله، فيصبح مشتعلا به اشتعالا. فهذا الشعر هو الشعر الذي تقرؤه العذراء ولا يحمر وجهها، وزعيم هؤلاء الشعراء جميل بن معمر.
أما أهل المدن - مكة والمدينة والطائف - فمنهم ذوو الثروة الكبيرة واللهو العظيم، وشعرهم يصف حياتهم وصفا صادقا، بل يصورها أدق تصوير، ولهذا ظهر في شعرهم الإباحة والعبث باختلاف مزاج الشعراء. ومن شعرائهم: الأحوص بن محمد، فهذا الشاعر أسرف في اللهو والتعرض لأهل بلده، حتى عذب ونفي أيام سليمان بن عبد الملك.
والعرجي، في الطائف ومكة، فقد تعرض لولاة مكة وسخط على خلفاء دمشق، فعذب وحبس ومات في سجنه.
و«عمر بن أبي ربيعة» الذي يعد زعيم الغزليين الإباحيين في الشعر العربي.
الغناء:
وظهر مع هذا الغزل فن آخر هو فن الغناء، وبالطبع حيث يكثر اللهو يظهر الغناء. ظهر هذا الفن في الحجاز، ومنها انتقل إلى غيرها من الأقطار، والذين غنوا وتغزلوا في العراق والجزيرة ونجد تأثروا بغزل أهل الحجاز. وكثرة الموالي من الفرس والروم رجالا ونساء كان له أثر في نشأة الغناء.
الشعر السياسي:
دعا إليه الصراع الحزبي واختلاف آراء الأحزاب في نظام الملك، وفي الأشخاص الناهضين به من الزعماء، واتصال هذا النظام وهؤلاء الأشخاص بالدين ، وهو أساس الحكم عند المسلمين.
ومنشأ هذا الشعر السياسي يتصل بالشعر القبائلي في الجاهلية، فشعراء القبائل كانوا ينافرون ويفاخرون ويدافعون ويدعون إلى القتال وإلى الصلح والسلام.
إذن الشعر السياسي تولد من ذاك كما بيناه سابقا.
كان أولا بين القبائل، ثم صار بين الوثنية والإسلام، ثم صار بين المسلمين أنفسهم بعد مقتل عثمان.
والطور الذي نتكلم عنه الآن هو طور تنظيم الأحزاب السياسية على قواعد معينة.
لم يكن هذا الشعر صورة أفراد كما كان من ذي قبل، بل صار صورة أحزاب منظمة يناضل عنها. (7) الأحزاب
حزب الشيعة:
يرى الحق أن تكون الخلافة في بني هاشم، بل في أبناء علي؛ لأنهم أحفاد النبي وأبناء عمه، ولأن النبي أوصى لهم في الحكم.
وما نشأ بعد ذلك حول هذه القضية فليس أساسيا، إنما الأصل هو المبدأ الذي ذكرنا، ولهذا ترى كل شعراء الشيعة يدافعون عن هذا الأصل، مناصرين كل زعيم ينهض به.
حزب الأمويين:
يقول بالحكم في بني أمية؛ لأن خليفة أمويا وهو عثمان ولي الخلافة شرعا، وقتل ولم يؤخذ بثأره «مزعم جاهلي» والأمويون أولياؤه الشرعيون والمطالبون بدمه والوارثون له. وهم بعد أقوى قريش وأشدها بأسا. وناصرهم في ذلك جم غفير لا يقل عن الجماعة المناصرة خصومهم.
حول هذا المحور يدور شعراء الأمويين، وعليه يعتمد الأمويون في النهوض بأعباء الحكم.
حزب الزبيريين:
يقول إن الأمويين لا يحق لهم القيام بالحكم بدون استشارة الأمة، فالخلافة شورى لا كما يفعل الأكاسرة والقياصرة، فإذن الأمويون مغتصبون، وعليهم أن ينزلوا عن الحكم المغتصب، فالأمة تنتخب.
حزب الخوارج:
يقوم أولا على إنكار التحكيم بين علي ومعاوية، ويقول إن التحكيم هذا خطأ، والخصمان اللذان قبلا به تجاوزا حدود الدين فيه.
فمعاوية، ليس بصاحب حق شرعي، فهو وال بغى على الخليفة، فلما خاف الهزيمة لجأ إلى التحكيم، خدعة وكيدا.
أما علي، فلأنه قبل في التحكيم شك بحقه الشرعي في الخلافة، وبما أنه شك ليس له حق بالخلافة، بل قد تجاوز الدين وبهذا كفر، فليعترف ويتوب، وإلا فالخوارج أعداء له.
على هذه القواعد قامت الأحزاب السياسية، ومشي الخصام والجهاد، ولعب قميص عثمان دوره، فكان لكل حزب سياسة خاصة يمتاز بها، وأخذ الشعراء يدافعون بناء على الأحوال التي تقدمت.
وسنأتي فيما يلي على ذكر شعراء الأحزاب. (8) الشعر في صدر الإسلام
شغل القرآن العرب ففتر النظم، ولكنها فترة قصيرة، وهي التخم الفاصل بين الجاهليين والمخضرمين والأمويين، ونحن قد ألحقنا المخضرمين بالأمويين لأسباب: (1)
النغمة القرآنية أفادتهم كما أفادت الأمويين لقرب عهدهم بها؛ فنفس حسان والفرزدق واحد، وجرير ككعب بن زهير، ومثله الأخطل وإن كان نصرانيا. وربما علت طبقة الأمويين على المخضرمين في البلاغة. (2)
لأن الشعراء كانوا أعز نفسا وأرفع منهم شأنا في دولة بني العباس. «السبب حاجة الأمويين لاستمالة الشعراء؛ لأن السواد الأعظم الإسلامي كان يكرههم.» فحسان مدح النبي حبا بثباته وإيمانا بدعوته، وتصح المشابهة بين الفرزدق وبينه إذ مدح زين العابدين، ولكنها لا تصح بينهما وبين مداحي العباسيين. (3)
لأن مسحة الفطرة الجاهلية ظاهرة في شعرهم، فهم والمخضرمون طبقة واحدة، لا يتخللها فاصل.
الفترة الأولى:
كان الشعر ديوان العرب وعليه تقوم العصبية، فألغاها الإسلام بقوله: «المسلم أخو المسلم.» ثم آية:
والشعراء يتبعهم الغاوون
إلخ. ولكن بعد مدة أجاز النبي سماع الشعر وأثاب عليه، وكان للدعوة أنصار وأضداد، فكان في الشعراء معارضين للنبي وشعراء يناصرونه.
معارضو النبي: عبد الله بن الزبعري، أبو سفيان، عمرو بن العاص، طراد بن الخطاب وكلهم قرشيون. ولا تنس أمية بن أبي الصلت، الذي كان يطمع أن يكون نبي الأمة كما يحدثنا صاحب الأغاني.
شعراء النبي: حسان، كعب بن مالك، عبد الله بن رواحة.
الفترة الثانية:
في أول عصر الراشدين - عصر الفتوح - خمدت القرائح قليلا، وذلك ما يحدث في كل الأمم لانشغال النابغين، إلى أن انتظمت الأحزاب السياسية فصار لكل حزب سياسي شعراء ينصرونه. وقد قامت الصحف في عصرنا مقام الشعراء.
ولكن تكون الأحزاب، بعد أن استراحوا من الفتح، قوى الشعر وهاج القرائح، وكثر الشعراء بكثرة الأحزاب، فكان لكل حزب من الأحزاب التي ذكرناها شعراء، يكثرون ويقلون بحسب أهمية الحزب، وقد كان أكثر الشعراء مناصرين للأمويين؛ لأن بيدهم مفاتيح بيت المال.
شعراء علي: النعمان بن بشير الأنصاري، ساير بني أمية لكنه كان متعصبا للأنصار، وهو الذي رد على الأخطل عندما هجاهم.
ابن مفرغ الحميري، ساير الأمويين وهجا أهل زياد.
أبو الأسود الدؤلي، تحزب لعلي ولم يطعن ببني أمية.
ابن زيد، ساير العلويين والهاشميين.
أنصار الخوارج: الطرماح بن حكيم وإسماعيل بن يسار. والطرماح بن حكيم مر الهجاء.
أنصار بني أمية: مسكين الدارمي: بث الدعوة بولاية العهد ليزيد بن معاوية.
الراعي: أبو العباس الأعمى: مدح الأمويين وهجا ابن الزبير «الذي بايعه أهل الحجاز».
أعشي ربيعة، وغيرهم.
ومن أشهر شعراء بني أمية: جرير والأخطل والفرزدق.
من هنا ترى أن الشعر تطور، لا في أساليبه التي ظلت كما كانت - إذا استثنينا روح القرآن؛ أي التحريض على نيل الشهادة وإعلاء كلمة الله في أيام الفتوحات - بل تطور في غايته، وتقدم هذا التطور بنوع خاص في الهجاء؛ لا سيما السياسي، ومنه تدرجوا إلى الهجو الأدبي.
صفات الشعر (1)
الإيجاز. (2)
قوة التعبير.
فالقليل من الحضارة الذي توصل إليه هؤلاء الشعراء أضعف فيهم النزعة الفطرية، فقصروا فيها، ولم يمكنهم التأنق في المعيشة الذي حصل لمن أتوا بعدهم، ولذلك لم يدركوا شأو العباسيين بالرقة والتصرف بالمعاني، إنما تقدم الهجو فقط في هذا العصر.
أغراضه: (1) نشر عقائد الدين. (2) الهجاء. (3) وصف القتال وحصار المدن وفتحها. (4) المدح، وليس إلى حد المبالغة. (5) الغزل.
كعب بن زهير
كعب:
هو ابن بيت كثر فيه أصحاب القرائح الشعرية. أبوه زهير صاحب المعلقة، أخذ الشعر عن والده ولم يسمح له بقول الشعر إلا بعد أن امتحنه طويلا.
ظهر الإسلام فأسلم أخوه بجير، فقال فيه كعب شعرا يوبخه ويلومه على إسلامه ويعرض بالصحابة بقوله:
سقاك أبو بكر بكأس روية
وأنهلك المأمون منها وعلكا
فأهدر النبي دمه، ودرى بذلك أخوه بجير فكتب إليه بذلك، فهام كعب على وجهه يستجير فلم يجره أحد، فلاذ بأبي بكر فأمنه، وأدخله على النبي وأنشده قصيدته التي عرفت بالبردة، التي يقول كليمان هيار إنها قصيدة من أشهر الشعر العربي ، ولا يكاد ناطق بالضاد لا يسمع بها.
آثار كعب:
أشهرها بانت سعاد ...
أقسامها:
التغزل بسعاد 13 بيتا، وصف الناقة 21، التخلص إلى مدح النبي 4 أبيات، مدح النبي 13 بيتا، مدح المهاجرين والأنصار 7.
قيمته:
لم يتخلص من الأسلوب الجاهلي كالغزل ووصف الناقة والألفاظ الغريبة، غير أنه أقدر الجاهليين على التفنن بالمعاني.
إن كعبا عالج مواضيع عديدة في لاميته، كوصف الناقة والأسد والظهيرة، أما مطلع قصيدته فقد طبع فيه على غرار من تقدمه من الشعراء، فسعاد وأسمى وغيرهما نساء خياليات.
قال حماد الراوية إنه يروي 700 قصيدة مطلعها بانت سعاد، ولكن هذا لا يعيب كعبا؛ ففي الغزل ترق عاطفته وينسجم لفظه ويلين، وفي المدح تشتد الألفاظ وتجزل، وفي وصف القفار والوحوش الضارية تخشن العاطفة والكلام معا. ليس في القصيدة ذكر للبعثة إلا في بيت واحد هو:
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
حسان بن ثابت
حياته:
هو أبو الوليد حسان بن ثابت الأنصاري، من بني النجار من أهل المدينة. شاعر النبي، بعد المناذرة والغساسنة. أسلم بعد هجرة النبي إلى المدينة ودافع عنه بلسانه، وكان له منبر في مسجد النبي ينشد شعره عليه، وكان النبي يسمع هجاءه ويقول: «أجب عني. اللهم أيده بروح القدس.» عاش بعد النبي مرضيا عنه من الخلفاء حتى مات سنة 54 كفيف البصر في آخر حياته.
قيمته:
جبان لم يجرد حساما، أشعر أهل المدر في الجاهلية، حظي عند ملوك غسان ومدحهم بقصائد عديدة ونال أسنى عطاياهم، وذكر فضلهم حتى آخر عمره. مدح آل جفنة لأهلية النسبة وقرب الجوار مع أهل يثرب.
أسلوبه في مدح النبي:
ذكر البعثة، وصف الشمائل، تصديق البعثة والنبوة، التعريض بمنكري النبوة ومكذبيها. كان صادقا في مدح النبي، دافع عنه بهجاء مقذع، لم يشتم الأنساب ولم يمزق الأعراض، بمساعدة أبي بكر العارف بأنساب العرب. أدخل شيئا جديدا في الهجاء الذي كان قبلا يقوم بذكر الانكسارات، وذكر بعض عيوب خارجية أو داخلية محضة من قيمة الأنساب مثل البخل وسواد الجلد. أما الذين هجاهم حسان فأنسباء النبي ، وأعداء الإنسان أهل بيته.
آثاره:
له ديوان مطبوع.
قيمته:
امرؤ القيس يحمل لواء الشعر في النار وحسان في الجنة.
شعر في الجاهلية ورق في الإسلام، وعلى كل لا يعد من الطبقة الأولى.
أدخل في الشعر ألفاظا جديدة: روح القدس، جبريل.
لشعره صبغة تاريخية؛ لذكره غزوات النبي وأسماء الصحابة والمشركين.
شاعر سياسي في هجائه، ديني في مدح النبي، تاريخي بذكر الوقائع. قيل فيه: يفضل حسان الشعراء بثلاثة: شاعر الأنصار في الجاهلية، والنبي في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.
العصر الأموي (64-110)
في هذا العصر نظم شعراء عديدون وأكثرهم أنصار بني أمية؛ لأنهم - كما قلنا - «أصحاب بيت المال».
كلهم تعرضوا للأحزاب، ولكن فريقا بينهم نظم في غير الشعر السياسي؛ أي الغزل. أشهرهم الأخطل ورفاقه، والراعي والأحوص، واختص بالغزل ابن الخطاب وابن معمر.
الهجاء:
نحا الهجاء في هذا العصر نحوا جديدا. (1)
فيه فخر وإشادة بفضائل قبيلة الشاعر في الجاهلية والإسلام. (2)
ذم وتشهير بالمهجو وقبيلته في القديم والجديد. «هذا الشعر، أي النوع الثاني منه، بذيء» انتهك حرمة الدين والعرض، ولكنه مصدر تاريخي لحياة العرب في جاهليتهم، ومرآة صادقة لحياة فريق من العرب.
وهذا الشعر على وقاحته وبذاءته، حفظ اللغة أيضا من الضياع. (1) شعراء البلاط الأموي (1-1) الأخطل
شاعر وقف فنه وحياته على السياسة، واشترك في فنون أخرى من الشعر حتى عد من زعماء الشعراء السياسيين، ومن فحول الشعراء الإسلاميين بوجه عام.
حياته:
ولد في قبيلة تغلب التي تسكن الجزيرة والعراق، وكانت قوية عزيزة شديدة البأس، فلم تدخل فيما دخل فيه العرب كافة من الإسلام، ولم تنزل عن نصرانيتها حين دهمتها جيوش المسلمين، فبقيت على نصرانيتها وأقرها عمر على ذلك، ورضي بالجزية، وظلت هي تؤديها كل عام.
نشأ بدويا، وقال الشعر طفلا، كما روي أنه هجا امرأة أبيه، وقضى شبابه يقول الشعر في حوادث البادية.
ولما كانت أيام معاوية وظهر الشر بين الأمويين والأنصار احتاج يزيد إلى من يهجوهم، فدل على الأخطل، ففعل بعد أن نكل غيره عن ذلك، فطار صيته بذلك.
ناضل عن بني أمية شاعرا مأجورا يريد الاتصال ببلاط الخليفة، وناضل الزبيريين أيام عبد الملك دفاعا عن قبيلته ومكانتها، فكان في ذلك بالطبع مخلصا غير مأجور.
فهو تغلبي من ربيعة. وفي الإسلام جاءت قبائل مضرية من قيس، فزاحمت ربيعة في الجزيرة وشمالي الشام كما زاحمت العرب اليمانية.
فهذه القبائل القيسية المضرية مالت مع ابن الزبير على بني أمية، فاتفقت بذلك مصلحة الأمويين واليمنيين والتغلبين على محاربة القيسية والمضرية في الشام والجزيرة والعراق حتى انتصر عبد الملك على مصعب بن الزبير.
شعره:
لهذا كان شعر الأخطل ذا مظهرين مختلفين: (1)
الدفاع عن حزب بني أمية والنضال عن وطنهم. (2)
النضال عن قبيلته تغلب وحلفائها من عرب اليمن المقيمين في الشام، وألح في هجاء القيسيين خاصة والمضريين عامة.
كانت حياته سببا لتفوقه في فنون الشعر، فلم يلحقه بها شاعر من معاصريه، فاتصاله بالقصر وانقطاعه للأمراء والخلفاء جعلاه أمدح أهل عصره للملوك، وبحكم هذا الاتصال كان أمهر الشعراء السياسيين.
وبحكم حياته الخاصة القبائلية واشتراكه الفعلي بما يعرض لها من حرب وسلم كان أقدر أهل عصره على وصف الحرب وتصوير ما يعرض فيها من هزيمة وانتصار.
كان شريب خمر، يسرف في شربها ويستعين بها على قول الشعر، ولذلك كان أقدر أهل عصره على وصفها وأبرعهم فيه.
وأشهر قصائده التي تجمع كل فنون الشعر المتقدم ذكرها، هي التي مدح بها عبد الملك بعد انتصاره على مصعب، وكان لها في الأدب العربي وحياة القبائل العربية شأن عظيم. (القصيدة مشهورة مطلعها: خف القطين ...)
وخصومة قبيلة الأخطل لقيس اضطرته إلى هجو جرير الذي كان يدافع عن قيس بلسانه، فأصبح الأخطل بهذا من شعراء النقائض، ونبه شأنه في الهجاء.
أما هجوه فمعتدل أكثر من هجاء صاحبيه.
ثم مات الأخطل في أيام الوليد شيخا، واستطاع أن يكسب لنفسه مركز الزعيم السياسي في قومه وعند الخلفاء الذين نادوا به: شاعر بني أمية.
آثاره:
لا يسهل عليه النظم إلا إذا سكر.
ومن آثاره الهجاء:
هجا كعب بن جعيد شاعر تغلب وصار هو شاعرها.
هجا جريرا والأنصار والفرزدق، وهجا الإسلام وبني تميم.
المدح:
مدح بني أمية فصار شاعرهم؛ وبخاصة عبد الملك.
الوصف:
وصف الخمرة والسكران والحرب.
قيمته:
كثير الاعتناء بشعره، يختار أجود ما نظم، يبقي الثلاثين من التسعين، يمعن في إخراج صوره حتى تأتي كاملة.
بقي سنة على نظم «خف القطين ...» تلك القصيدة الجامعة التي تفوق المعلقات تماسكا وتسلسلا.
قال فيه حماد: شعره حبب إلي النصرانية.
وقال جرير: أدركته وله ناب، ولو أدركته وله نابان لأكلني.
الثلاثة:
الأخطل وجرير والفرزدق، شغلوا العصر الأموي فاهتم الناس بتفضيل أحدهم على صاحبيه، وكان لكل شاعر حزب يفضله ... وكثيرون قالوا في حياتهم: هم طبقة واحدة. أما بعد موت الأحزاب، ففضل العلماء عامة والنحاة خاصة الأخطل للأسباب الآتية: جزالة لفظ، فخامة عبارة، صحة تراكيب، وطول النفس. أما استمراره على المتانة في القصيدة كلها فيذكرنا بالنابغة وزهير.
أشعر العرب:
أعجب العرب المعاصرون جميعا بأبيات الأخطل في مدح بني أمية «حشد على الحق» وعدوه فيها أشعر العرب.
وفي هذه القصيدة يمتن الأخطل على الخليفة بنصر قبيلته له فيقول:
وقد نصرت أمير المؤمنين بنا
لما أتاك ببطن الغوطة الخبر
أما نصرانيته فلا أدري ما مقدار عمقها، وأرى عمله فيها لا يتفق مع ما يروى عن تأثير الكهنة: يروون أنه كان عرضة للقصاص الديني إذا أذنب، ومن جهة أخرى نقرأ أنه فعل ما لا يجوز للنصراني فعله من سكر وطلاق، فأين كان القسس؟ ثم أي مسيحي هو ذاك الذي يحلف بالصليب والقربان تارة، وحينا باللات والعزى وبرب الراقصات؟! (1-2) الفرزدق
قلنا إن الشعر تطور في هذا العصر؛ عصر صدر الإسلام، ونهج فيه مناهج جديدة.
إلا أن ثلاثة من الشعراء كانوا محتفظين بالسنة الجاهلية القديمة، فيقصدون إلى أنواع الشعر كلها خاضعين للتطور الجديد فيها؛ وهم الأخطل وجرير والفرزدق.
الفرزدق:
سمي بذلك لجهومة في وجهه، ومعناها: الرغيف.
حياته:
أبو فراس همام بن غالب، دارمي تميمي، قال الشعر صغيرا، عندما كان طفلا يرعى الغنم.
نشأ بالبصرة بين فصحاء العرب، فلم تشب لغته عجمة ولا لحن.
نشأ كالأخطل من قبيلة عديدة عزيزة مثرية ، أسرته الخاصة أقوى التميميين، كريمة إلى حد الإسراف، فورث الفرزدق عنها البأس والعزة والنفور من كل سلطة.
كان شكسا محبا للخصومة، يهجو الأفراد والجماعات، رفع أمره لزياد ففر تاركا العراق لاجئا إلى الجزيرة حيث مدح عمرو بن العاص وأجاره. ولما مات زياد عاد إلى وطنه وظل فيه حتى مات معاوية ويزيد واشتد الاضطراب وفسدت الدولة، فكان الفرزدق شكسا شديد الشكيمة، عجزت السلطات عن تقويمه وإمالته إلى الاعتدال.
ولكن ظهور جرير اضطره إلى التفكر قبل القول، وأجبره على تجويد الشعر والعناية به.
وفاؤه:
ثابت الرأي، لا يميل مع الأهواء، وفي لآل البيت حتى مات.
طبع ديوانه في بيروت 910، نقل إلى الإفرنسية بعناية المستشرق «بوشه».
أغراض شعره:
المديح، الهجاء، الوصف.
المديح:
مدح آل البيت؛ خاصة زين العابدين، مدح عمر بن عبد العزيز، وكان ينتجع الخلفاء الأمويين فيمدحهم وينال جوائزهم.
الهجاء:
هجا عبد الملك وزيادا والحجاج وقبائل عديدة، والهجاء موضوعه الخاص، وأشهر مهاجاته مع جرير.
الوصف:
قليل ولكنه تام، وهو في مواضيع مبتذلة كالخمر. أما قصيدته في وصف الذئب فرائعة على صغرها. وهو يجيد القصص في شعره كما نرى في هجو إبليس.
قيمة شعره:
فخم العبارة، جزل اللفظ، كثير الغريب، وله تعابير خاصة. فيه تعقيد بسبب التقديم والتأخير والفصل والوصل، أساليب كثيرة متنوعة وتراكيب مختلفة، ومعاني دقيقة أشغلت العلماء اللغويين والنحاة فأعجبوا بها، وقاسوا عليها في علمهم.
يكاد يشغل الفخر كل عواطفه، فيفتخر بين يدي الملوك ولو حرم عطاياهم وأحالوه على أبائه وأجداده، كما حدث حين أنشد سليمان بن عبد الملك:
إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها
وقد خصرت أيديهم، نار غالب
فغضب سليمان بن عبد الملك، وأحاله على أبيه وألحقه بناره.
ومن جيد مدحه: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ...
وقصارى الكلام، أن شعر الفرزدق بعيد عن العواطف الرقيقة بعكس صاحبه جرير.
فنه في الألفاظ:
أكثر من استعمال الجوازات والأغلاط النحوية، فصارت عبئا ثقيلا على عاتقنا.
ميال إلى القصائد الصغيرة لسرعة تداولها.
وكثيرا ما سرق شعرا وادعاه، وفي هذا روايات عديدة. (1-3) جرير
نسبه وحياته :
أبو حرزة جرير بن عطية بن الخطفي التميمي اليربوعي، ولد باليمامة من بيت شعر، ونشأ بالبادية، وكان ينزل على من في البصرة من قومه حين يؤمها.
رأى منزلة الفرزدق وما كسبه من الشعر فود لو جاراه، وحمسه قومه على ذلك إعلاء لشأنهم، فوقعت بينهما المهاجاة عشر سنين، كان في أثنائها جرير في البادية، فما زال بنو يربوع بشاعرهم حتى أقدموه البصرة، فاتصل بالحجاج فأكرمه، وطار صيته حتى حسد عبد الملك الحجاج عليه.
وحرش الفرزدق بين جرير والشعراء كلهم وأغراهم عليه بالمال، فنصب له منهم ثمانون شاعرا، فأخرسهم جرير كلهم، ولم يثبت له إلا الفرزدق والأخطل. ثم مات الأخطل وظل الفرزدق وجرير يتسابان طول حياتهما، إلا مدة قليلة تنسك فيها الفرزدق وتاب. ثم مات وجريرا في عام واحد سنة 1140، وليس بينهما إلا ستة أشهر.
أخلاقه:
عفيف، دين، فخور، رقيق الطبع، أنوف، متعنت يحب الخصام.
آثاره:
ديوانه. فيه المديح، يمدح ممدوحه مدحا دينيا أكثر منه دنيويا، والعاطفة الدينية قوية في كل شعره.
الهجاء:
شديد الهجاء خبيثه، سفيهه. وقائعه كثيرة مع شعراء عصره. غضب على الأخطل لحكمه، وعلى الراعي لتفضيله الفرزدق عليه، فهجاه وهجا قومه بني نمير، فكان ذلك سببا لطرد الراعي من بلاده، ومهاجرة أهله للبصرة.
قد تفوق في هذا الباب، ولم يكن تعففه يمنعه عن الفحش والإقذاع.
أسلوبه:
غير أسلوب الفرزدق، فالفرزدق يعلي نفسه ويوطي خصمه، أما جرير فيتبع مثالب خصمه واحدة فواحدة، وإن لم تكن خلقها؛ كهجوه الفرزدق: يعيره بالجبن، يذكره بطرده من المدينة، يتهمه بالنصرانية. ولنشأته التي نلخصها لك تأثير في تكوين هذه الصفات.
محيطه:
أصغر من الفرزدق سنا، وقبيلته دون قبيلة الفرزدق عزة، أسرته فقيرة، لا شهرة لها ولا حسب بالنسبة للفرزدق، كان أبوه معدما فقيرا فنشأ بائسا ضعيفا، فأعانه ذلك على التفوق والنبوغ، فاشتد في الخصام على مقارعيه، فغلبهم.
كان الهجاء أولا بينه وبين البعيث من رهط الفرزدق. دافع الفرزدق عن البعيث فانبرى له جرير، وانصرفا لبعضهما.
تجاوزت خصومتهما حدود الأخلاق والدين والأدب، وعجزت كل السلطات عن إيقافها، واهتم لها الناس كثيرا، فدامت أربعين سنة، وهي تتناول كل مناحي الشعر العربي وأغراضه؛ ولا سيما الهجاء.
أقوال المعاصرين في جرير
الأصمعي:
لعل جريرا أول الثلاثة في الهجاء المر.
الفرزدق:
قاتله الله! ما أحسن ناحيته وأشرد قافيته! والله، لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها، والشابة على أحبابها، ولكنهم هروه فوجدوه عند الهراج ناجحا، وعند الجد قادحا.
الحجاج: «إنه لجرو هواش.» فلو لم ينصرف إلى مقارعة الشعراء لما ترك بابا من الشعر إلا قرعه؛ لما عنده من النزعات الشعرية التي ظهرت في شعره.
قيمة شعره:
سهل الألفاظ أكثر من مناظريه، أكثر تلاعبا بفنون الشعر، متأثر بالدين، ولذلك قال فيه الأخطل: جرير يغرف من بحر.
ميله غريب إلى الهجو، بدليل ما قاله فيه الحجاج.
قال الفخر بكبرياء وقد نظم في ذلك.
أنسب صاحبيه وأرقهما عاطفة، وهما يعترفان له بذلك.
أقلهم كلفة، وأرقهم ديباجة ولفظا، وأكثرهم فنون شعر. يتفرد بالرثاء الذي لم يحسنه الأخطل والفرزدق. (1-4) المقارنة
الناس مختلفون على تقديم أحدهم على الآخر، ولكنهم متفقون على أن الفرزدق انفرد في الفخر، وجرير تفوق في الهجاء، وحظ الفرزدق دون حظ جرير من الغزل، والرثاء لجرير. والأخطل تفوق بالمدح ووصف الخمرة.
فشعر الفرزدق صلب خشن الألفاظ، غليظ المعاني في أكثر الأحيان، لفظه ثقيل في الأذن، معانيه بدوية جافية. وفي شعر جرير رقة وعذوبة، ومعانيه محبوبة. الفرزدق فاجر، صافي الغزل، جرير عفيف حلو النسيب. الفرزدق يميل بهجوه إلى الفخر، وجرير مائل بهجوه للذع والعبث والسخر.
الفرزدق ينظر إلى نفسه فيكبرها ويحقر خصمه، وجرير يستقصي عيوب خصمه وإن لم يجد اخترع.
أبو عمرو بن العلاء:
رأيه في الثلاثة: يشبه جريرا بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة. أما الفقرة الحكمية فهي في قول الشاعر:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
حلو الكلام ومره لجرير
ولقد هجا فأمض شاعر تغلب
وحوى اللهى بمديحه المشهور (1-5) النقائض
سميت كذلك من النقض؛ أي إنه على الشاعر أن يرد على خصمه بقصيدة من وزن قصيدته وقافيتها. وهذا النوع شاع كثيرا في العصر الأموي، وقد كان قبله ولكن قليلا، وغير مطرد، فكان يعرض الشاعر لمعاني خصمه فيقبلها أو يفسدها أو ينفيها.
فأول قصيدة عرض فيها الفرزدق لجرير يائية أولها:
ألم تر أني يوم جو سويقة
بكيت فنادتني هنيدة ما ليا
فقلت لها إن البكاء لراحة
به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا
ثم يذكر حبه ولوعته لفراقها، ثم يستطرد إلى البعيث الذي استعان به على جرير، فهجاه هجوا مرا مقذعا، ووصفه بالضعف والجبن وسوء النسب.
ثم انتقل إلى جرير فشتمه ووصفه بالذل والقلة، وفخر عليه بحسبه ونسبه، فرد عليه جرير بيائية مطلعها «من الوزن والقافية»:
ألا حي رهبى ثم حي المطاليا
فقد كان مأنوسا فأصبح خاليا
فيها غزل طويل يصور نفسا معذبة بالحب. ثم عاتب أسرته الأدنين لإساءتهم إليه وخذلهم إياه. ثم عرض لأسرة الفرزدق وهجاها لأنها أسرة صناع قيون، لا شرف لهم ولا بلاء، وفخر بقومه قليلا وبنفسه كثيرا، ووصف خصومه بالغدر وإسلام الجار.
كل تهاجي الأخطل وجرير والفرزدق على هذا النحو، ففي هذا الشعر جناية على الأدب والأخلاق والأعراض والدين، إلا أنه - كما سبق فقلنا - مصدر تاريخي لحياة العرب يوثق به، وله فضل حفظ اللغة من الضياع، آه. (1-6) شذرات من النقائض
قال الفرزدق، وهي أول قصيدة تعرض فيها لجرير وقومه بني الخطفي:
ألم تر أني يوم جو سويقة
بكيت فنادتني هنيدة ما بيا
فقلت لها إن البكاء لراحة
به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا
إلى أن يقول هاجيا:
فإن يدعني باسمي البعيث فلم يجد
لئيما كفى في الحرب من كان جانيا
عجبت لحين ابن المراغة أن رأى
له غنما أهدى إلي القوافيا
بأي أب يا ابن المراغة تبتغي
رهاني إلى غايات عمي وخاليا
هلم ابنما كابني عقال تعده
وواديهما يا ابن المراغة واديا
تجد مجده عند السماء، ودارم
من المجد قدما أترعت لي حياضيا
بنى لي به الشيخان من آل دارم
بناء يرى عند المجرة عاليا
فرد عليه جرير:
ألا حي رهبى ثم حي المطاليا
فقد كان مأنوسا فأصبح خاليا
إلى أن يقول :
وإني لعف الفقر مشترك الغنى
سريع إذا لم أرض داري احتماليا
جريء الجنان لا أهال من الردى
إذا ما جعلت السيف من عن شماليا
إذا سركم أن تمسحوا وجه سابق
جواد فمدوا وأبسطوا من عنانيا
وليس لسيفي في العظام بقية
ولا السيف أشوى وقعة من لسانيا
أبالموت خشتني قيون مجاشع
وما زلت مجنيا علي وجانيا
تراغيتم يوم الزبير كأنكم
ضباع بذي قار تمنى الأمانيا
وآب ابن ذيال بأسلاب جاركم
فسميتم بعد الزبير الزوانيا
ميميتهما
قال الفرزدق:
إذا ما وزنا بالجبال رايتنا
نميل بأنضاد الجبال الأصاخم
ولو سئلت من كفؤنا الشمس أومأت
إلى ابني مناف عبد شمس وهاشم
وكيف تلاقي دارما حين نلتقي
ذراها إلى سقف النجوم القوائم
عجبت إلى قيس وما قد تكلفت
من الشقوة الحمقاء ذات النقائم
يلوذون مني بالمراغة وابنها
وما منهما مني لقيس بعاصم
فيا عجبا حتى كليب تسبني
وكانت كليب مدرجا للشتائم
فأجابه جرير:
لقد ولدت أم الفرزدق مقرفا
فجاءت بوزار قصير القوائم
وما كان جار للفرزدق مسلم
ليأمن قردا ليله غير نائم
يوصل حبليه إذا جن ليله
ليرقى إلى جاراته بالسلالم
هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا
مداخل رجس بالخبيثات عالم
لقد كان إخراج الفرزدق عنكم
طهورا لما بين المصلى وراقم
تدليت تزني من ثمانين قامة
وقصرت عن باع العلا والمكارم
وإنك يا ابن القين لست بنافخ
بكيرك إلا قاعدا غير قائم
فائيتهما
قال الفرزدق:
فإنك إذ تسعى لتدرك دارما
فأنت المعنى يا جرير المكلف
أبى لجرير رهط سوء أذلة
وعرض لئيم للمخازي موقف
إذا ما احتبت لي دارم عند غاية
جريت إليها جري من يتغطرف
هم يعدلون الأرض لولاهم التقت
على الناس، أو كادت تميل فتنسف
فقال جرير:
لحى الله من ينبو الحسام بكفه
ومن يلج الماخور في الحجل يرسف
ترفقت بالكيرين قين مجاشع
وأنت بعز المشرفية أعنف
ويوم منى نادت قريش بغدركم
ويوم الهدايا في المشاعر عكف
تعض الملوك الدارعين سيوفنا
ودفك في نفاخة الكير أجنف
نونية الثلاثه
قال الأخطل:
أجرير إنك والذي تسمو له
كأسيفة فخرت بحدج حصان
أتعد مأثرة لغيرك ذكرها
وسناؤها في غابر الأزمان
في دارم تاج الملوك وصهرها
أيام يربوع مع الرعيان
فإذا رأيت مجاشعا قد أقبلت
فاهرب إليك مخافة الطوفان
فاخسأ إليك كليب، إن مجاشعا
وأبا الفوارس نهشلا أخوان
قوم إذا خطرت إليك فحولهم
جعلوك بين كلاكل وجران
وإذا وضعت أباك في ميزانهم
رجحوا وشال أبوك في الميزان
وقال الفرزدق:
يا ابن المراغة والهجاء إذا التقت
أعناقه وتماحك الخصمان
ما ضر تغلب وائل أهجوتها
أم بلت حيث تناطح البحران
واسأل بتغلب كيف كان قديمها
وقديم قومك أول الأزمان
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
عمرا وهم قسطوا على النعمان
إن الأراقم لن ينال قديمها
كلب عوى متهتم الأسنان
قوم إذا وزنوا بقومك أفضلوا
مثلي موازنهم على الميزان
فأجابهما جرير:
لا يخفين عليك أن مجاشعا
من نسل كل ضفنة مبطان
يا ذا العباءة إن بشرا قد قضى
أن لا تجوز حكومة النشوان
فدعوا الحكومة لستم من أهلها
إن الحكومة في بني شيبان
قتلوا كليبكم بلقحة جارهم
يا خزر تغلب لستم بهجان
كذب الأخيطل إن قومي فيهم
تاج الملوك وراية النعمان
تلقى الكرام إذا خطبن غواليا
والتغلبية مهرها فلسان
ما في ديار مقام تغلب مسجد
وترى مكاسر حنتم ودنان
تغشى الملائكة الكرام وفاتنا
والتغلبي جنازة الشيطان
أيصدقون بمار سرجس وابنه
ويكذبون محمد الفرقان
قبح الإله سبال تغلب إنها
ضربت بكل مخفخف جنان
رائيتهما
قال جرير:
يا خزر تغلب إني قد وسمتكم
على الأنوف وسوما ذات أحبار
لا تفخرن فإن الله أنزلكم
يا خزر تغلب دار الذل والعار
ما فيكم حكم ترضى حكومته
للمسلمين ولا مستشهد سار
قوم إذا حاولوا حجا لبيعتهم
صروا الفلوس وحجوا غير أبرار
لم تدر أمك ما الحكم الذي حكمت
إذ مها سكر من دنها الضاري
أم الأخيطل أم غير منجبة
أدت لأشهب وسط البق نخار
تضفو الخنانيص والفول الذي أكلت
في حاويات ردوم الليل مجعار
فأجابه الأخطل:
ما زال فينا رباط الخيل معلمة
وفي كليب رباط الذل والعار
النازلين بدار الذل إن نزلوا
وتستبيح كليب محرم الجار
بمعرض أو معيد من بني الخطفى
ترجو جرير مساماتي وإخطاري
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
فتمسك البول شحا لا تجود به
ولا تبول لهم إلا بمقدار
أم لئيمة نجل الفحل مقرفة
أدت لفحل لئيم النجل شخار
لاميتهما
قال جرير:
حي الغداة برامة الأطلالا
رسما تحمل أهله فأحالا
طرق الخيال لأم حزرة موهنا
ولحب بالطيف الملم خيالا
إلى أن يقول:
قبح الإله وجوه تغلب إنها
هانت علي معاطسا وسبالا
قبح الإله وجوه تغلب كلما
سبح الحجيج وكبروا إهلالا
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد
وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
أنسيت يومك بالجزيرة بعدما
كانت عواقبه عليك وبالا
زفر الرئيس أبو الهذيل أبادكم
فسبى النساء وأحرز الأموالا
قال الأخيطل إذ رأى راياتهم
يا مر سرجس لا أريد قتالا
ترك الأخيطل أمه وكأنها
منحاة سانية تريد محالا
ولو أن تغلب جمعت أنسابها
يوم التفاخر لم تزن مثقالا
لا تطلبن خئولة في تغلب
فالزنج أكرم منهم أخوالا
هل تملكون من المشاعر مشعرا
أو تنزلون من الأراك ظلالا
لولا الجزى قسم السواد وتغلب
في المسلمين فكنتم أنفالا
فأجابه الأخطل:
ولقد علمت إذا العشار تروحت
هدج الرئال تكبهن شمالا
أنا نعجل بالعبيط لضيفنا
قبل العيال ونقتل الأبطالا
أبني كليب إن عمي اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وبنو غدانة شاخص أبصارهم
يسعون تحت بطونهن رجالا
ينقلنهم نقل الكلاب جراءها
حتى وردن عراعرا وجلالا
إن العرارة والنبوح لدارم
والمستخف أخوهم الأثقالا
وابن المراغة حابس أعياره
قذف الغريبة ما يذقن بلالا (1-7) عمر بن أبي ربيعة
أنال عمر بن أبي ربيعة هذه الشهرة الواسعة طريقه الخاص الذي شقه لنفسه فاستمال الناس، والناس ميالون إلى محاكاة الطبيعة وتمثيلها، إن كان في الشعر أو في التصوير أو في غير ذلك من الفنون.
فبين شعراء العرب من يفوقونه ديباجة ورقة ومتانة، ولكن أسلوبه الذي اهتدى إليه خلع عليه هذا الخلود الفني في الأدب العربي؛ ولا سيما أنه جعل الغزل فنا مستقلا ، بل قل «مهنة»، ولم لا يكون ذلك وقد اجتمعت بعمر المفاسد الثلاث: الفراغ والشباب والجدة؟!
فهو في شعره يمثل لنا - كما قلنا - دورا يمثل كل يوم. ومما جعل لعمر هذه القيمة الفنية أنه ممثل غير متكلف، على غير ما تراه عند سواه من الشعراء الغزليين الذين جاءوا بعده؛ فإنهم يتكلفون فيما يصورونه لنا من عواطفهم.
فشعره يمثل لنا السذاجة البدوية ولون الحضارة الجديدة، ذلك اللون الجديد «الخفيف» الذي لا يبهر العين فتكرهه ككل لون «غامق» شديد.
يمثل حياة المترفين في الحجاز، بل حياة الطبقة العليا الهادئة الفارغة، وهو لم يتعرض للسياسة. ساعده على اختيار هذا الباب من الشعر غناه، فهو غني وابن غني، ولأبيه ضلع في الحكم على عهد أبي بكر وعمر، عنده مال كثير ورقيق عديد ورثه. فأحد المسلمين عرض على النبي أن يستعين بأحباش ابن أبي ربيعه في إحدى غزواته.
إن شعر عمر يمثل لنا صلة الرجل والمرأة الثريين في ذلك الزمان أصدق تمثيل، وهذه الصلة لا تخلو في كل زمان من لهو ودعابة وعبث وفكاهة. إن مداعبته العابثة لثريا بنت علي بن عبد الله كانت السبب في تسويد سنيه، بعد ضربة كف أكلها من يدها المباركة خواتمها ...
كان لا يهمه من المرأة إلا جمالها، فما رأيناه يذكر لنا نفسها ولا جمالها المعنوي، ولا عجب في ذلك؛ فقد كان على ما يظهر من شعره سطحي الحب، ينتقل من زهرة إلى زهرة؛ ولذا لم يصف في شعره إلا الجمال الجسدي الذي كان يراه المثل الأعلى للأنثى، وهو لم يحدثنا إلا عن الميول والأهواء الطبيعية والأشياء التي يعرفها الإنسان بالغريزة، فكل بحثه تقريبا يحوم حول العلاقة الجنسية التي هي في نظره - على ما أظن - كل الغاية من وجود الأنثى.
لقد وصف المرأة وتغنى بجمالها وتأثيرها فيه وفي حياته، كما أنه كان يفهم موسم الحج معرضا للجمال - كما يفهم أكثر شباننا اليوم بعض الاجتماعات الدينية - فيتزين عند بدء الموسم كما يتزينون، ويترصد كما يترصدون، ويلقي في آذان المارات كما يلقون.
إن عمر حسي صادق مع تنقل دائم، وأما شعره فتطور، بدليل ما قاله عنه جرير: «ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.»
يختلف شعر عمر عن شعر المحرومين القليلي الحظ، فهو غير شقي في حبه ولا تاعس الجد ولا بكاء، فنقرأ في سطوره دلائل المسرة والابتهاج، وكأني أرى الابتسامة على فمه حين يصف لنا ما يصف، ثم لم يشعر بفناء ما عشقه إلا في آخر العمر.
يتكلم كمن يشعر بقوة وسلطان على النساء. ونستطيع أن نقول إن آثار الابتهار بادية في شعره. ولماذا لا يبتهر وهو القرشي نسبا، ماله كثير وشبابه رائع ومنطقه فصيح، وشعره خلاب، منصرف إلى عمله ... كل الانصراف، هذا العمل الذي أسميناه «مهنته».
والذي أذاع شعره وحفظه من الضياع - بخلاف شعر جميل - مصادفته هوى النفوس، وموافقته ميول الناس. والحب حديث البشرية منذ وجدت وسيظل، ولذلك وضعوا له النظم الاجتماعية والدينية التي قلما رأينا شاعرنا هذا يحترمها.
أما حظ شعره من الخيال فأراه قليلا؛ لأنه لم يتعرض إلا لما هو مادي واقعي، وتلك حالة الشعر في زمانه، فإنهم لم يكونوا يعولون على الخيال إلا لإخراج بعض صور للتشبيه. أما هفواته اللغوية والنحوية فكثيرة.
رائيته الشهيرة
أمن آل «نعم» أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع
ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها
نهى ذا النهى لو ترعوي أو تفكر
إذا زرت نعما لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيتها يتنمر
عزيز عليه أن ألم ببيتها
يسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه
يشهر إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها
بمدفع أكنان أهذا المشهر
قفي فانظري أسماء هل تعرفينه
أهذا المغيري الذي كان يذكر
أهذا الذي أطريت نعتا فلم أكن
وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالت نعم لا شك غير لونه
سرى الليل يحيي نصه والتهجر
لئن كان إياه لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما في العشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قليل على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر •••
وليلة ذي دوران جشمني السرى
وقد يجشم الهول المحب المغرر
فبت رقيبا للرفاق على شفا
أحاذر منهم من يطوف وأنظر
إليهم متى يستمكن النوم منهم
ولي مجلس لولا اللبانة أوعر
وباتت قلوصي بالعراء ورحلها
لطارق ليل أو لمن جاء معور
وبت أناجي النفس أين خباؤها
وكيف لما آتي من الأمر مصدر
فدل عليها القلب ريا عرفتها
لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت
مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أهوى غيوبه
وروح رعيان ونوم سمر
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال
حباب وشخصي خشية الحي أزور
فحييت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمخفوض التحية تجهر
وقالت وعضت بالبنان فضحتني
وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف
وقيت وحولي من عدوك حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة
سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لها بل قادني الشوق والهوى
إليك وما نفس بذلك تشعر
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها
كلاك بحفظ ربي المتكبر
فأنت أبا الخطاب غير مدافع
علي أمير ما مكثت مؤمر
فيا لك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
فيا لك من ملهى هناك ومجلس
لنا لم يكدره علينا مكدر
يمج ذكي المسك منها مفلج
نقي الثنايا ذو غروب مؤشر
تراه إذا ما افتر عنه كأنه
حصى برد أو أقحوان منور
وترنو بعينيها إلي كما رنا
إلى ظبية وسط الخميلة جؤذر •••
فلما تقضى الليل إلا أقله
وكادت توالي نجمه تتغور
أشارت بأن الحي قد حان منهم
هبوب ولكن موعد لك عزور
فما راعني إلا مناد ترحلوا
وقد لاح مفتوق من الصبح أشقر
فلما رأت أن قد تنبه منهم
وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
فقلت أباديهم فإما أفوتهم
وإما ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت أتحقيقا لما قال كاشح
علينا وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بد منه فغيره
من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقص على أختي بدء حديثنا
وما لي من أن تعلما متأخر
لعلهما أن تطلبا لي مخرجا
وأن ترحبا سربا بما كنت أحصر
فقامت كئيبا ليس في وجهها دم
من الحزن تذري عبرة تتحدر
فقامت إليها حرتان عليهما
كساءان من خز دمقس وأخضر
فقالت لأختيها أعينا على فتى
أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا
أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر
بقوم فيمشي بيننا متنكرا
فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر
فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي
ألم تتق الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا
أما تستحي أو ترعوي أو تفكر
فإن جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فآخر عهد لي بها حين أعرضت
ولاح لها خد نقي ومحجر
سوى أنني قد قلت يا نعم قولة
لها والعتاق الأرحبيات تزجر
هنيئا لأهل العامرية نشرها
اللذيذ ورياها التي أتذكر
فقمت إلى عنس تخون نيها
سرى الليل حتى لحمها متحسر
وحبسي على الحاجات حتى كأنها
بقية لوح أو شجار مؤشر •••
وماء بموماة قليل أنيسه
بسابس لم يحدث بها الليل محضر
به مبتنى للعنكبوت كأنه
على طرف الأرجاء خام منشر
فقمت إلى مفلاة أرض كأنها
إذا نظرت مجنونة حين تنظر
تنازعني حرصا على الماء رأسها
ومن دون ما تهوي قليب معور
محاولة للماء لولا زمامها
وجذبي لها كادت مرارا تكسر
فلما رأيت الضر منها وأنني
ببلدة أرض ليس فيها معصر
قصرت لها من جانب الحوض منشأ
جديدا كقاب الشبر أو هو أصغر
إذا شرعت فيه فليس لملتقى
مشافرها منه فدى الكف مسأر
ولا دلو إلا القعب كان رشاءه
إلى الماء نسع والأديم المضفر
فسافت وما عافت وما رد شربها
عن الري مطروق من الماء أكدر (1-8) جميل بن معمر
حياته:
ولد في وادي القرى بالحجاز، وشب على حب بنت عمه بثينة، فعرف بجميل بثينة وهام بها وهامت به، وقال فيها شعرا فغضب أهلها ولم يزوجوه إياها، فهجاهم، فاستعدوا عليه مروان بن الحكم والي المدينة فأهدر دمه، فذهب إلى اليمن والشام فمصر، وهناك مات.
شعره:
صادق، من أرق الشعر العربي القديم، فهو صورة لعاطفته القوية وحبه العنيف، يصف المشاهد والمواقف المؤثرة، ويذكر ما كان يدور من حديث بينه وبينها من حديث عفيف:
وأول ما هاج المحبة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب
فقالت لنا قولا فقلت بمثله
لكل حديث يا بثين جواب
وإذا كان عمر يمثل الغزل الإباحي، فجميل يمثل الغزل العذري العفيف. (1-9) بقية الشعراء
من اشتهر بالمدح والهجاء في هذا العصر:
غسان البعيث:
الملقب بالراعي.
زياد الأعجم:
مر الهجاء، أخاف الفرزدق.
الكميت بن زيد:
أثر سياسيا، هاشمي النزعة.
الأحوص «عبد الله محمد بن الأنصاري» حطيئة الأمويين:
لقب الأحوص لضيق في مؤخر عينيه. جميل الأخلاق والأفعال، هجاء، ضربه 100 سوط سليمان بن عبد الملك، ونفاه إلى جزيرة دهلك في بحر اليمن.
آثاره:
أكثرها هجاء قومه ونفسه، يتعرض للناس فيخافونه. شعره سهل رقيق، لطيف الألفاظ، إلا في الهجاء فكان بذيئا. لم يتوصل إلى مستوى الشعراء المجيدين بنمو الأفكار والتصورات.
الرقيات: ابن قيس الرقيات:
قرشي معتز بقرشيته محب لها، يريد كل شيء لقريش، مذهبه لا يعتمد على دين، بل على العصبية القومية. تألم لمصاب القرشيين وتشتتهم، وتمنى لو ظلت أيام أبي بكر وعمر.
كره الأمويين وهجاهم لاعتزازهم باليمنية على المضرية، فناصر الزبيريين عليهم لاعتقاده أن الأمويين يعتزون بالأجنبي، وظل يناصر مصعبا حتى قتل مصعب، ففر إلى الكوفة واختفى عند امرأة أنصارية، وهي لا تعرفه.
أمنه عبد الملك ودخل عليه ومدحه فلم يسر به، فلزم عبد العزيز بن مروان والي مصر حتى مات.
قيمته:
شاعر مبتكر في الشعر السياسي، أثر شعره كثيرا من جهة السياسة. محب للنساء، يكاد يشبب بهن جميعا، تغزل بنساء أخصامه ولم يسئ إليهن لأنهن قرشيات. تغزل بأم البنين وأم الوليد، فغاظ عبد الملك وابنه وأرضاها؛ لأنه لم يسئ إليها، فشفعت به عند عبد الملك ونالت ما تمنت.
ديباجته:
شعره سهل رقيق جدا، متأثر بمعاشرة النساء، لاحظ هذه الرقة عبد الملك ونسبها إلى الخنوثة، فادعى أنه إنما يتأثر بالقرآن الكريم.
أما عيوبه، فهي شذوذه عن مألوف النحو وقلة المعاني.
شعراء الرثاء
متمم بن نويرة:
يربوعي، أسلم أخوه وارتد، فقتله خالد بن الوليد، فرثاه بقصيدة هي أشهر آثاره.
مالك بن الري التميمي:
كان لصا يقطع الطرق، شعر بدنو أجله فنظم قصيدة يرثي نفسه، وذلك في أثناء عوده من خراسان حيث كان يعاون معاوية، فلدغته أفعى برجوعه.
قصيدته هذه رقيقة العاطفة والتصور والألفاظ، غير أنها قليلة الخيال. (2) الإنشاء الخطابي والخطباء
دواعي الخطابة:
العربي فصيح، ذرب اللسان يحب الكلام، معجب بلغته فيطيل الكلام ويحب سماعه، يدلك على ذلك حوار العرب ومجادلاتهم واختصامهم، ولذلك عولوا على القول واعتنوا به ليؤثروا كما يتأثرون هم، واتخذوا الكلام سلاحا للفوز.
ومن أسباب عنايتهم أن الدين الإسلامي اجتماعي قبل كل شيء، عني بالجماعة أشد اعتناء فجمعها في الصلاة والحج والأعياد والشورى، فاضطر الحاكم لمحادثة المحكومين وبالعكس.
وعندما ظهر الإسلام ظهر له خصوم وأنصار، فاشتد الجدال في المجتمعات، وعني بالكلام سلاح الحجة والإقناع.
وبعد موت النبي كثرت مصالح الإسلام بتكاثر الفتوح، واختلفت الآراء واحتاجوا إلى التشاور والتناظر، ثم كانت الفتن والأحزاب السياسية والخصومة والجهاد، واحتاج الزعماء إلى مشاورة أنصارهم ومجادلتهم في الآراء وتدبير الخطط.
ولما ضعف أمر الأحزاب وأغمدت السيوف، سلت الألسنة مكانها فكان المعارضون الأذكياء، فاضطر الخلفاء أن يدافعوا عن سياستهم حينا باللسان وأحيانا بالسيف.
كل هذه الظروف جعلت حظ العرب من الخطابة في هذا العصر وافرا، ولم تبلغ أمة قديمة هذا المبلغ إلا اليونان والرومان. وأسبابها عندهما تشبه أسبابها عند العرب، فالخطابة لا تقوى إلا في البيئات التي يعظم حظها من الحياة الاجتماعية من جهة، ويعترف فيها بحرية الفرد من جهة ثانية. وهذان الأمران ضمنهما الإسلام للعرب، فكرامة الفرد كانت فيه موفورة، وقد لاءم بين حرية الفرد وسلطة الحكومة.
وحدة طباع العرب ومزاجهم وفصاحتهم وخصب شعورهم؛ أظهر فيهم خطباء مفوهين، ولم يضعف أمر الخطابة إلا عندما فسد هذا النظام في العصر العباسي فتجاوز سلطان الدولة حد الاعتدال وأفنى حرية الفرد أو كاد.
لغة الخطابة:
كانت أولا ساذجة لا تمتاز عن لغة التخاطب إلا بعناية يبذلها كل من يحاول الإقناع والتأثير، ولما كثر النزاع والجدال اشتدت العناية باختيار الألفاظ والأساليب التي تساعد على الإقناع والفوز.
وكان مثلهم الأعلى القرآن الكريم الاجتماعي بكل معنى الكلمة، فكله موجه إلى الجماعة.
لقد كانوا شاهدوا واختبروا تأثيره في نفوسهم ونفوس من تقدمهم فتأثروا به واقتبسوا منه، فأكسبهم قوة ولينا لم يكونا في خطابة من تقدمهم.
فالخطابة العربية الإسلامية تمتاز بروعة القرآن وجاذبيته التي تحبب إليك السماع، وإذا قرأت خطيبا من هؤلاء الخطباء المعدودين تحسب أنك تسمعه فتحبه، أو تخافه فتفزع منه، ولكنك في الحالين تحب سماعه. فإذا بحثت عن السبب وجدت أكثره من تأثر الخطباء بالقرآن وتحديهم له واقتباس معانيه واستعارة ألفاظه.
عادات الخطباء:
الوقوف على نشز، أو صخرة، أو منبر، أو ناقة. الاعتماد على السيف أو القوس أو المخصرة. لا يكثرون من تحريك أجسامهم ولا يسرفون بالإشارة، لا يترددون في القول، يكرهون الاضطراب وفساد مخارج الحروف، والتنحنح والسعال.
أول من خطب جالسا الوليد بن عبد الملك، ولكن القيام سنة مطردة حتى اليوم.
ميزات الخطابة الإسلامية (1)
روح قرآني دينا واجتماعا. (2)
مضاهاته بالسجع والجمل المتوازنة. (3)
الابتداء بالحمدلة. (4)
كثرة الآيات، وقد تكون مجموعة آيات، كخطبة مصعب في العراق حين دعا لمبايعة أخيه طلحة.
وهذه الخطب، منها خطب طويلة مسهبة، ومنها قصيرة موجزة. وفي كل حال لم تكن على الطريقة اليونانية والرومانية براهين وأدلة؛ لأن العربي يفهم من الإشارة ويكلم القلب أكثر من العقل.
الخطباء:
عديدون، دعت إلى كثرتهم الظروف الآنفة الذكر، كان المطنب منهم يخطب طول النهار، والموجز لا يتجاوز الساعة، ومنهم من لا يتكلم إلا بضع دقائق.
أما خطباء العرب في صدر الإسلام والعصر الأموي فهم:
أبو بكر الصديق
أعلم العرب بالأنساب والأيام والمفاخر، صاحب النبي وأول مؤمن به.
ولي الخلافة بعده، وأول خطبه خطبة السقيفة عندما دب الشقاق بأهل المدينة، حتى كادت تحصل ثورة أهلية.
سمتها: قصيرة، قوية اللفظ، تامة المعنى. وكذلك كان إنشاء ذلك العصر؛ وخصوصا الرسائل، وهي منتهى البلاغة.
الإمام علي
أشهر خطباء هذه الفترة، وهو وزياد والحجاج طبعوا الخطابة العربية بطابعهم الخاص.
إلمامة به:
ولد قبل الإسلام بسبع سنوات. أدركه الإسلام صبيا فنشأ فيه. اتصل بالنبي طفلا وشب في كنفه، فرأينا فيه ما رأينا من قوة الإيمان. شهد مع النبي كل الوقعات العظيمة، فكان قوي النفس شديد البأس. شارك النبي في حلو الحياة ومرها؛ لأنه ابن عمه وصهره ونابغة عالم.
حيل بينه وبين الخلافة بعد موت النبي، فصبر وظل يخلص النصح للخلفاء حتى كانت الفتنة وقتل عثمان، فتألبوا عليه: عائشة أم المؤمنين، ومعها طلحة والزبير. وناصبه معاوية العداء، فأنفق آخر حياته في حرب سوداء، وظل يكافح حتى قتله ابن ملجم سنة 40.
حياته:
أيام النبي كانت حياة جهاد ورجاء، وفي أيام الخلفاء الثلاثة كانت حياة إذعان ورضاء بقضاء الله في نصح للخلفاء، أما في آخر عمره فكانت حياة نضال ويأس وحزن.
صفاته:
علم، جودة رأي، خطيب، بأس، شجاعة، إقدام، تضحية، تسامح، صبر.
خطبه:
احتاج الإمام إلى القول والخطابة في آخر أيامه - أي أيام خلافته - فقال وهو ناضج العقل والفكر واللسان.
نسب إليه طائفة كبيرة من الخطب، يظهر في بعضها التكلف والصنعة لأنه منحول، والبعض الآخر تظهر فيه شخصية بارزة حلوة جذابة شديدة الإيمان بالدين والاقتناع بالحق، لا تتحول عن رأيها إلا مكرهة، فتنصرف عنه صابرة راضية بقضاء الله، واثقة بأن ما عند الله خير مما عند الناس.
وأكثر خطبه متصل بالسياسة، يتحدث فيه إلى أصحابه محرضا إياهم على قتال عدوهم، مظهرا حقه في السلطان، مبينا ضلال خصومه عن سواء السبيل، فوفق خطابيا دائما، وقلما وفق عمليا؛ لأن ظروف حياته كانت أقوى من الخطابة وأقوى من الحق وأقوى من الصواب. وكانت الناس قد تغيرت، ومثلهم العليا في الحياة قد تغيرت أيضا، وأصبح نظام الخلافة، كما كان يريده علي وكما كان يريده الخلفاء الثلاثة من قبله؛ مغايرا لما كان الناس يرجون ويأملون.
زياد بن أبيه
ابن أبيه أو ابن سمية أو ابن أبي سفيان، نشأ نشأة إسلامية محضة. كان ذكي القلب، واسع الحيلة، حازما، حاد اللسان، ميالا إلى العنف، يطغى في أكثر الأحيان.
عمل مع أبي موسى الأشعري في البصرة فظهر وأعجب به الناس، حتى عمر نفسه. خاف عمر من دهائه فحال بينه وبين العمل السياسي الدائم، ثم استعان به الإمام علي، فأخمد ثورة فارسية ووفى لعلي حتى قتل. واستماله بعده معاوية وألحقه بنسبه وولاه البصرة والكوفة، وكان يطمع بالحجاز، وقد مات بالطاعون سنة 53ه.
ظهرت قوة شخصيته في العراق، فاشتد على حزب المعارضة فأذعنت وهدأت، وبطش بالمعتدين المفسدين حتى أقر الأمن وثبت النظام.
وقد حفظت له خطبته البتراء، سميت بذلك لأنه لم يبتدئها بذكر الله، ألقاها في البصرة فوجم الناس، فمنهم من خاف ومنهم من مدح متملقا، ومنهم من أنكر ما جاء فيها لأنه مخالف لشرع الله والحدود المعروفة، ولكن السياسة العملية بينت لهم أنه كان جادا غير هازل فيما أنذر.
خطبته البتراء:
بدأها بإنكار ما كان عليه البصريون من معصية الله والفسق في الدين وطاعة السلطان، وأعلن أن أمور المسلمين لا تصلح إلا بما صلحت به من قبل؛ أي لين بغير ضعف، وشدة بغير عنف. وذكر أن العراقيين استحدثوا آثاما لم تكن من قبل، وأنه سيحدث عقوبة تلائمها. وأعلن عقوبات فإذا بها مجاوزة حدود الله كما تقدم: من نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا ... ثم جعل القتل عقوبة لمن ظهر بعد ساعة معينة في الليل (حكم عرفي).
ثم ألغى في آخر خطابه ما كان بينه وبين الناس من عداوة، ثم أثبت حق بني أمية وسأل الناس الإذعان لهم فذلك أنفع .
شخصيته:
فصاحة لسان، شدة وعنف، دهاء ومكر.
الحجاج
نشأ نشأة إسلامية في الطائف، وشب في خلافة معاوية، وعرف ما كانت تقوم عليه من دهاء وعنف، وشهد شدة زياد وقسوته، وكأنه أحب زيادا فتمثل به، فنشأ بعيد المطامع والأمل، جريئا، شديدا لا يتردد.
كان في حرس روح بن زنباع، ثم صار منظما للعسكر في عهد عبد الملك، فجد وجزم فرفعت مرتبته، فصار قائدا للجيش الذي حارب به عبد الملك ابن الزبير في الحجاز، فحصر مكة وهدم الكعبة، وقتل ابن الزبير ومثل به. ثم ولاه عبد الملك على العراق، فأسكت المعارضة وأقر النظام وأخاف الناس، وبسط سلطانه على الشرق الإسلامي كله، فكسر الخوارج وبسط سلطان المسلمين على بلاد لم تكن لهم.
صفاته:
لسانه كقلبه جرأة، أشد من زياد تعطشا للدماء، ولسانه أحد من سيفه، وخطبه تنم عن أكبر طاغية.
خطبه:
تمتاز بشدة ألفاظها ومعانيها، وكثرة الاقتباس من القرآن والشعر «لأنه كان معلما». جمله متقطعة، يلقيها على الناس كصخور تقذف من المنجنيق، فأذهلهم وأفسد عليهم عقولهم، فصور لهم الحق باطلا والباطل حقا، واقتادهم فسيرهم حيث شاء. وهكذا وطد سلطان الأمويين حتى مات في آخر أيام الوليد بن عبد الملك.
بعد الحجاج:
وظلت الخطابة بعد الحجاج كما كانت في عهده، واتخذوه مع زياد وعلي مثلا أعلى لإجادة القول والإتقان، فتحداهم من جاء بعدهم، ومن هذا التحدي تقرر بعض أصول للخطابة.
ثم كثرت المقالات الدينية والسياسية وكثرت المناظرة، واستحالت الخطابة آخر عهد بني أمية فصارت أقرب إلى الخطابة السياسية، واشتد هذا الجدل حتى قام مقام الخطابة أيام العباسيين. (3) النثر الفني
لم يكن للجاهليين نثر فني بالمعنى الدقيق، إنما كانت لهم لغة غنية عذبة في آخر الجاهلية وأول الإسلام، وكانت كتاباتهم كحروف في أعمالهم التجارية، وربما كتبوا رسائل قصيرة في حاجاتهم، ولم تكن لغة التراسل إلا لغة التخاطب.
أما الكتابة فشاعت وعمت بعد هجرة النبي كما قلنا سابقا. حث النبي على تعلم الكتابة، وصدرت عنه وعن أصحابه كتب مثلت فصاحتهم وطريقتهم الخاصة في التعبير، وما هي إلا لغة حديثهم الخاصة والعامة؛ أي إنه لم يكن فرق ظاهر بين لغة الكتابة ولغة الخطابة ولغة الحديث.
فكثرة المصالح واختلاف الآراء والتنافس بين الأحزاب، رقى الخطابة وطورها. وهذه الأسباب أيضا جعلت حاجة الدولة إلى الكتابة قوية شديدة لبعد المسافات والحاجة إلى الاتصال بالولاة والعمال. على أن بين الخطابة والكتابة في هذا العصر فرقا لا بد من ملاحظته.
فالخطابة عربية خالصة نشأة وتطورا في القرن الأول، أما الكتابة فظلت عربية خالصة حتى كثرت المصالح وتعقدت، وكانت الفتوح، فاضطر المسلمون إلى تنظيم الدولة ووضع الأصول والقواعد التي تجري عليها الإدارة وأمور الجيش، والخراج.
كان العرب يجهلون هذه الإدارات فاستعانوا بالأمم المغلوبة، واستعاروا لذلك نظمها بادئ بدء، فكان النظام فارسيا في العراق وفارس، ويونانيا أو قبطيا في الشام ومصر، حتى انقضى الجيل الأول، فعرف العرب اللغات الأجنبية وأحسن الأجانب اللغة العربية، فنقلت الدواوين إلى اللغة العربية في جميع أقطار الدولة.
بدأ ذلك في أيام عبد الملك وتم رويدا رويدا، وكان الأجانب الذين تعلموا اللغة العربية أكثر من العرب الذين تعلموا اللغات الأجنبية، فاستمر الخلفاء يستعينون بالكتاب والعمال من الموالي، وعني هؤلاء بكتابة الدواوين عناية عظمى، واتخذوها وسيلة يحفظون بها لأنفسهم شيئا من المكانة ويرقون بها إلى استرضاء الخلفاء والولاة.
فإتقان هؤلاء الموالي صناعتهم الفنية، وخدمتهم اللغة العربية، ومعرفتهم بميل العرب وحرصهم على جودة القول والبراعة فيه؛ أظهرت في الأدب العربي هذه الظاهرة التي لا نجدها إلا قليلا في تاريخ الأمم القديمة الأخرى، وهي: أن الرسائل الرسمية الفنية أصبحت مظهرا للجمال الفني الأدبي، يجد قارئها لذة فيها كأنه يستمع لشاعر مجيد أو خطيب حاذق.
ففي هذا النوع ينحصر النثر الفني، وما عداه فبعض أمثال جرت على ألسنة الفصحاء أو ما كان ينشئه القصاص والعلماء كالتي نجدها في كتب التاريخ والأدب.
سالم وعبد الحميد:
وأول من تفوق في صناعة الكتابة الرسمية سالم مولى هشام بن عبد الملك وكاتبه، ثم تلميذه عبد الحميد بن يحيى، كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين ، الملقب بالحمار لعظم جلده. وقد دعوه زعيم الكتاب؛ لأن من بعده اقتفى أثره حتى قالوا ساجعين كعاداتهم: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.
فعبد الحميد هو أول من طول الرسائل ونظمها، فجعل لها مقدمة وخاتمة وجعلها ذات تسلسل منطقي، واستعمل التحميدات وأضفى على رسائله روحا دينية. ولعل تأثر ابن العميد به هو الذي حملهم على قول تلك السجعة الآنفة الذكر. وهذه رسالة من رسائله وجيزة جدا، ذكرناها لأن الكتاب بعدها تحدوها. وإليكها:
حق موصل كتابي إليك عليك كحقه علي إذ رآك موضعا لأمله أهلا لحاجته، وقد أنجزت الحاجة فصدق أمله.
ولا تظن أن جميع رسائله من هذا الطراز، فهناك رسائل أطول من يوم الجوع.
أنصح جميع الأدباء والمتأدبين أن يفتشوا عن رسالة عبد الحميد إلى الكتاب ...
فهذا النوع، ظهر واضحا جليا قويا في آخر العصر الأموي، ولم يبلغ أشده إلا حين تقدم القرن الثاني أيام بني العباس.
وهذا النثر وإن يكن عربي اللهجة والأسلوب، فللأجانب فيه يد طولى. (4) أسلوب كتابة هذا العصر
في عهد الخلفاء الراشدين كان الخليفة بنفسه يتولى أمر الرسائل إلى أن تعددت الشئون وكثرت، فاضطروا إلى الدواوين فدونها عمر بن الخطاب، ثم عهد الخلفاء بعده إلى الكتاب من العرب والموالي والمستعربين، ثم على توالي الأيام أصبحت الكتابة آلة للوزراء؛ أي أصبح هؤلاء الكتاب يلقبون بالوزراء.
كانت الكتابة في الأقطار بلغة أهلها إلى أن أصبحت اللغة العربية لغة الدولة كلها، وذلك في عهد عبد الملك بن مروان وابنه الوليد.
أسلوب الكتابة ومميزاتها (1)
الاقتصار في الأغراض على القدر الكافي لدولة عربية. (2)
الاقتصار في المعاني على الإلمام بالحقائق وتوضيحها بلا مبالغة ولا تهويل. (3)
استعمال الألفاظ الفحلة الفخمة والعبارات الجزلة والأساليب البليغة في مخاطبة العرب الفصحاء، كان البيان هدفهم يكتبون للرجل بقدر ما يسيغ. (4)
مراعاة الإيجاز حيث لا تدعو الحال إلى الإطناب. (5)
قلة التفنن في أنواع البدء والختام. (6)
استعمال الضمائر بما وضعت له في الأصل، إلى أن ولي الوليد ففخم المكاتبات. (5) العلوم
تنحصر العلوم في هذا العصر بثلاثة أنواع:
الدينية :
أقبل كثيرون من الصحابة على القرآن الكريم يتدارسونه ويتفهمونه، ومن أشهرهم عمر وعلي وزيد بن ثابت وعائشة، ومن هؤلاء تفرق فريق في الأمصار، فأخذوا عنهم وعرفوا «بالتابعين».
ثم اشتغل في هذا العلم الموالي، وهؤلاء اشتغلوا على نمط قومهم، ومن أشهرم الحسن البصري ومحمد بن سيرين بالكوفة.
التاريخية:
بدأت الحركة التاريخية تمتد لأن الداخلين في الإسلام من الأجانب بدءوا يذكرون تاريخ أممهم بين المسلمين، فانتشرت أخبار اليهود والفرس، فعني المسلمون بالسيرة النبوية وصحابته، وفتوحات عمر وأبي بكر وأعمالهما، وغير ذلك مما كان أساسا للتاريخ الذي كتب العصر العباسي.
الفلسفة:
بثتها المدارس السريانية المثقفة بالثقافة اليونانية، ومن هذه المدارس أكثر الأطباء الذين كانوا في قصور بني أمية. وقد كانت الفلسفة متصلة كل الاتصال بالطب كما ظلت عليه الحالة في الأندلس، ومن أشهر هؤلاء «ابن أثال» طبيب معاوية، وهو نصراني، وطبيب آخر يهودي اسمه ماسرجويه طبيب عمر بن عبد العزيز.
كل هذه العلوم كانت ساذجة بسيطة في هذا العهد، ولم تنضج ولم يكثر التأليف فيها إلا في العصر العباسي. (6) التدوين والتصنيف
لم يدون المسلمون شيئا في بادئ أمرهم، أحجموا عن التدوين خوفا من الاعتماد على الكتب وترك الحفظ، ولما استفحل الأمر دونوا ذلك خوفا من البلبلة، فدونوا: (1)
القرآن الكريم، وذلك في عهد الخلفاء الراشدين. (2)
النحو، في عهد الراشدين أيضا. أول من كتب فيه أبو الأسود الدؤلي آخذا عن علي، وعن نمط النحو السرياني. (3)
الحديث الشريف، على عهد عمر بن عبد العزيز.
هذا كل ما دون وصنف، أما بقية العلوم فعرفوها كما تقدم، إلا أنه لم يصل إلينا شيء مما كتبوه فيها.
الخلاصة:
نشط الأمويون الآداب؛ وخصوصا الشعر والخطابة، وراجت سوق الأدب في البصرة والكوفة، وكثر الشعراء فنظموا في كل باب، وفقد كثير مما نظموه.
ففي العصر الأموي تكون الفقه والتفسير والنحو وضبط الخط والإعجام والحركات.
وفيه رسخت اللغة العربية في المملكة الإسلامية بنقل الدواوين إليها، وفيه أيضا نقلت بعض العلوم الطبيعية.
أما ما خلا الشعر والخطابة فلم يصلنا كتاب في علم من العلوم ، وكل ما بين أيدينا من كتب ومؤلفات شرعية لسانية أدبية في التاريخ والجغرافيا، أو في علم من العلوم، إنما هو من ثمار العصر العباسي.
حتى إن الشعر الأموي وصل إلينا من رواة العصر العباسي.
الرواة:
هم عمدة العرب في جاهليتهم وصدر الإسلام، في ضبط علومهم وآدابهم. أما تدوين الكتاب الحكيم والحديث فقد تقدم ذكره، وأما الشعر فبقي على ما كان عليه في الجاهلية، لكل شاعر راوية، أو عدة رواة؛ فهدبة بن خشرم راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل، وأبو شفقل وعبيد أخو ربيعة بن حنظلة راوية الفرزدق، ومربع راوية جرير والفرزدق معا ... إلخ.
وظل الأمر كذلك حتى أواخر هذا العصر، فاشتغل العلماء بالرواية، وصار الراوية منهم يروي لمئات من الشعراء والشواعر.
ومع تشدد الناس في تصحيح الرواية سنة وأدبا، حدث في الحديث والشعر والخطب كثير من التحريف والتصحيف والنقص والزيادة والانتحال.
حماد الراوية
سيرته:
أبو ليلى حماد بن ميسرة، أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها.
كان في أول أمره لصا صعلوكا، ترك ما كان عليه وانصرف إلى الأدب، وهو الذي جمع المعلقات السبع.
قربه الأمويون وآثروه، وكثيرا ما كانوا يستزيرونه، ويسألونه عن أيام العرب وعلومها ويجزلون صلته. أدرك العباسيين فلم يكن له كبير حظ عندهم.
يؤخذ عليه في روايته قلة الأمانة؛ فإنه كان ينحل من يروي لهم ما لم يقولوه فيفسد شعر القدماء.
دفعه إلى ذلك الطمع وميل العرب إلى التنافس بالمجد القديم، فاختلق لهم ما لم يقل لاسترضائهم، وطمعا بجوائزهم. فألحق أناسا بغير أنسابهم وأيد ذلك بأقوال انتحلها.
وكذا فعل خلف الأحمر، الراوية أيضا، وقصته مع أبي نواس مشهورة. (7) القرآن الكريم وتأثيره
نزل القرآن على الرسول الكريم في أوقات مختلفة، ولم يكتب دفعة واحدة، بل كتب أولا على سعف النخل ورق الغزال والحجارة وألواح العظام.
حفظه علي وعبيد بن كعب؛ وخصوصا زيد بن ثابت.
نزوله وجمعه:
جمعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر ولم يحفظ إلا السورة التي يتفق على روايتها شاهدان، فنتج عن ذلك أن سورا عديدة لم تحفظ. فوقع خلاف بين مسلمي الأقطار البعيدة، فقام عثمان وجمع السور كلها في كتاب واحد سمي «قانوني» وأتلف كل النسخ.
جمعه الحاضر صورة طبق الأصل عن جمع عثمان.
تقسيمه:
يقسم إلى سور «والسورة كلمة عبرانية معناها المدماك». أما سوره فعددها 115، منها 93 مكية و22 مدنية. نسبت إلى المكان الذي نزلت فيه؛ أي مكة والمدينة.
أما ترتيبه فعلى نظام خارجي؛ أطول سورة في الأول وهلم جرا دون مراعاة المعنى والتاريخ، ما خلا سورة الفاتحة؛ لأنها فاتحة الكتاب.
أول ما نزل منه:
اقرأ باسم ربك الذي خلق
إلخ، وآخر ما نزل منه:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
إلخ.
تركيب السور:
تقسم إلى آيات يختلف عددها باختلاف السور، فبينا سورة البقرة 286 آية نرى السورة الأخيرة 6 آيات، وسورة النصر ثلاث آيات فقط.
وقد قسم القرآن الكريم 30 جزءا.
من حيث المعنى:
ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
يخاطب به شعب غير مؤمن بالتوحيد والبعث. والقرآن كلام الله، الجنة للصالحين والنار للهالكين. يدعو إلى عبادة الله الواحد، ويظهر قدرته الفائقة ووحدانيته من النظر إلى مخلوقاته، والعالم والأجرام العظيمة ... إلخ.
وتذكير بما حل بمن كفروا به، وفي أكثر هذه السور يتكلم الخالق، وهذا القسم من السور المكية القصيرة.
القسم الثاني:
يخاطب به شعب مؤمن ولكنه غير عارف بطرق العبادة؛ ففيها فرض الصلاة والصوم والحج والزكاة. ففي هذا القسم تنظيم طرق العبادة لله، وسور هذا القسم مكية ومدنية.
القسم الثالث:
الكلام موجه لشعب مؤمن يؤلف الهيئة الاجتماعية. ففيه تنظيم القضاء وسن الشرائع المدنية من زواج وطلاق ومعاملات ... إلخ. فلذلك طالت السور وتغيرت لهجتها.
أسلوبه:
يخالف أساليب العرب في نظمها ونثرها: تأليف حسن، كلمات ملتئمة، إيجاز وجودة مقاطع، انسجام، قصص، أمثال بديعة، موسيقى لا نهاية لها، سهولة في اللفظ مع شدة ارتباط في التعبير. كل هذا جعله في أعلى درجات البلاغة، وجعل لأسلوبه من القوة ما يملأ النفس روعة، فلا تمل ترديده وقراءته.
يسجع أحيانا ولا يلتزم السجع، ويوازن ولا يلتزم الموازنة. ألفاظه سهلة، قل أن تجد فيها غريبا، وهي مع سهولتها جزلة عذبة، وهي بعضها مع بعض متشاكلة منسجمة لا نبو بينها. فإذا أضفت إلى ذلك سمو معانيه أدركت سر بلاغته وإعجازه (المجمل: لطه حسين ورفاقه).
هو في السور المدنية غيره في الغزوات، طويل الآيات هادئ المقاطع يفيض لينا ورحمة.
تأثيره:
سحر العقول بيانه، فعكفوا عليه يحفظونه ويقتبسون منه ويحاكونه، ويتأثرون بألفاظه وتركيبه.
فللقرآن أعظم فضل على اللغة في وحدتها وانتشارها، وإحداث علوم جديدة فيها، وتخليدها.
له في وحدة اللغة أثر بين، بإحكام تركيبها وتهذيب عبارتها، ونشره إياها بانتشار الدين، وحفظه لها على فصاحتها الأولية. فمن حيث هو كتاب سماوي منزل ضمن لها الحياة على مدى الأجيال، ما دام في الكون عربي متمسك بدينه، وصانها من كل ما يشوه خلقها، فأصبحت وهي اللغة الوحيدة الحية بين اللغات القديمة التي اختفت آثارها.
وقد أحدث القرآن علوما شتى، وجمع كلمة العرب عموما والمسلمين خصوصا حيث كانوا، وألف منهم عائلة واحدة على نمط واحد.
وتأثيره في النثر أكثر من تأثيره في الشعر؛ أي إن أثره في الخطابة واضح جلي. والخلاصة، مهما قلنا عن شدة تأثير القرآن في العقلية العربية فلا نغالي.
خلاصة (1)
ربط اللغة العربية وجعلها لهجة واحدة، فصارت اللغة السائدة في الجزيرة، وتحددت معاني الكلمات كما جاءت فيه. (2)
توحيد العرب، بتوحيد اللغة توحدت الأمة، وبواسطة القرآن فرضت على شعوب كثيرة فصارت لغتهم. (3)
إدخال كلمات جديدة وتعابير خاصة، منها عربية فتغير معناها للدين، ومنها غير عربية كمنبر ... إلخ. وبعض أسماء علم عربت. (4)
قواعد الوقف، وضبط الألفاظ، بسبب تعلمه غيبا بالشكل الكامل. (5)
النثر: أوصله إلينا وهو لم يكن موجودا في الجاهلية - كما كان يحكى في ذلك العهد - فجعل العربية أقدم لغة حية.
العصور العباسية
سقوط الأمويين وقيام العباسيين
تحدثنا فيما سبق عن تكون الأحزاب في الأمة العربية، وكيف استقام الأمر للأمويين، ولكن هذه الهدنة كانت على دخن، فالعرب كانوا أحزابا، والفرس كانوا يتربصون بهم الدوائر؛ لأنهم غلبوهم على أمرهم واستولوا على ملكهم، فلذلك ظلوا يحاربونهم سرا، ويحاولون قلب الملك الجديد. وإذ لم يستطيعوا ذلك مباشرة لجئوا إلى مبدأ «فرق تسد»، فانتصروا للعباسيين ووقفوا يرمون سهامهم على الأمة العربية، متحصنين وراء رجل من آل البيت. وهذا ملخص ما حدث: اتخذوا مأساة الحسين سلما كما اتخذ معاوية مقتل عثمان. وهناك رجل آخر وهو جحدر الكندي بن عدي، قتله معاوية في نفر من أصحابه، فكان للقيسيين كالشهيد.
فنشأت جمعيات سرية «التقية» مبدؤها جواز التكتم حتى في العقائد الدينية إذا كان هناك من خوف. حرك إلى ذلك الأعاجم لحقدهم على العرب الأمويين المتمسكين بالعصبية العربية واحتكارهم المناصب لنبلاء العرب واحتقارهم الدخلاء. ومن هذه الروح تولدت «الشعوبية».
كانت هذه الأحزاب تنفق الأموال وتضحي بكل غال ورخيص في سبيل النجاح؛ وخصوصا الفرس. أما الأمويون فكانوا لاهين بإثارة روح العصبية بين اليمانية والمضرية، يستميلون هذا حينا وذاك آونة، فضعف شأنهم.
كان زمام المعارضين بيد أبي مسلم الخراساني، كان يشتغل بشدة والأمويون لاهون لا يباشرون الإدارة بأنفسهم، بل يكلونها لأرباب اللهو والمجون، وتنازعوا على الخلافة، فأثاروا القلاقل والبلابل في البلاد فضعفت همتهم ولعب الفساد بهم.
لم يكن النزاع بين العرب والفرس نزاعا سياسيا فقط، بل دينيا أيضا، أرادوا أن يدخلوا في الإسلام شيئا جديدا حتى الإباحية، فمهدوا السبيل لشيع عديدة منها «الإباضية» زعيمها عبد الله بن إباض، مبدؤها قتل الخليفة الأموي لأنه أموي، لأنه خليفة باغ مسيطر على الإسلام بغير حق.
الحركة العباسية:
كانت تدعمهما سيوف الفرس وأموالهم ويدعو لها رجالهم، همها القضاء على الأمويين ونقل الخلافة لآل البيت؛ فأسسوا الجمعيات القوية في العراق وخراسان، وجمعوا زكاتهم وسلموها لمحمد بن علي «محمد الحنفية» مرشحهم للخلافة، فسار معهم سرا في الأمر، ولما مات ولي ابنه عبد الله من بعده، ثم عقبه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فاستسلم للفرس وأقام في خراسان لاعتقاده أنهم مخلصون، وهو الذي قال: أبى الله أن تكون شيعتنا إلا أهل خراسان ولا ننصر إلا بهم.
إن بعد خراسان عن الشام جعلها أرضا خصبة صادفت فيها الدعوة العباسية نموا سريعا، فأخذ أمر دعاتها يشتد، فتعقبهم الأمويون فلم يقفوا لهم على أثر.
وأهم رجالهم بكير بن ماهان، وهو شاب فارسي غني خطيب مفوه، وغيره ممن التفوا حوله من الفرس والشيعة، فضحوا بالمال والراحة والوقت.
ثم عقب محمد بن علي ابنه إبرهيم المعروف بالإمام، يعضده شاب فارسي داهية هو أبو مسلم الخراساني رجل الدولة العباسية.
قدمه إبرهيم الإمام وأسند إليه زعامة النقباء في خراسان، وأوصاه بالتكتم، فأظهر براعة في نشر الدعوة. أرسل الدعاة من خراسان بزي التجار إلى النواحي، فعظم أمره وأحبه الجميع، وصار أعز الناس منزلة وأرفعهم مقاما.
سياسته «فرق تسد»، أضرم نار الخلاف بين الأمويين باذلا الأموال في سبيل إشعالها، ووقعت العصبية بين المضرية واليمنية بخراسان؛ لأن الحكومة كانت على عهد مروان بن محمد الخليفة الأخير لا توظف أحدا من اليمنية. فوالي خراسان، نصر بن سيار، كان متعصبا على اليمانية لبغضهم.
فغضب زعيمهم الكرماني واعتزل الحكومة ونصب لهم العداء، فأخذ أبو مسلم يتقرب من الزعيمين الكرماني وابن سيار وينفذ إليهما الكتب ويساعدهما ماليا، حتى استمال الكرماني إليه؛ لأنه كان اختلف مع نصر الذي سجنه.
فلما اشتد الخلاف بين الزعيمين، حاول العقلاء من العرب إصلاح ذات البين، فأبى الكرماني لعدم ثقته بنصر، وهكذا ظل العرب يقتتلون نحو عشرين شهرا في خراسان، وأبو مسلم يضرم النار ليوهن قوتهم ويتحين الفرصة لضربهم ضربة قاضية تهلكهم.
فتألم نصر بن سيار لما أصاب العرب، فاستنجد بمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ليدرأ خطر العباسيين قبل أن يهاجموه ويجبروه على الانسحاب للعراق، أو ليضعف شأن أبي مسلم قبل استفحاله. فكتب إلى الخليفة مروان رسالة جاء فيها: قد بايعه - أي أبا مسلم - 200000 رجل، فتدارك الأمر يا أمير المؤمنين وابعث إلي بجنود من قبلك يقوى بهم ركني وأستعين بهم على محاربة من خالفني.
وختمها بهذه الأبيات المشهورة:
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فقلت من التعجب: ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام
فأجابه الخليفة: احسم أنت الداء الذي ظهر عندك.
فأجابه نصر بأبيات منها:
والثوب إن أنهج فيه البلى
أعيى على ذي الحيلة الصانع
كنا نداركها فقد فرقت
واتسع الخرق على الراقع
وماذا جرى بعد ذلك؟ قبض مروان على إبراهيم الإمام وأحضره إلى حران لما كثرت شيعته، وأمر به فأعدم أو سمه.
فخاف أخواه السفاح والمنصور فهربا إلى الكوفة، وأظهر السفاح بها الدعوة وخطب الناس في المسجد الجامع وبويع بالخلافة سنة 132، فوفدت عليه الناس من أطراف العراق مبايعين خاضعين، وعهد إلى عمه عبد الله بقتال مروان، فجهز مروان جيشا من 120 ألفا والتقى به على الزاب، فانكسر مروان؛ لأن جنوده كانوا تأثروا بالذهب الفارسي، حتى لم يعد يستطيع مروان أن ينفذ أمرا في جنوده، وضع المال بين أيديهم وقال: خذوا وقاتلوا. فأخذوا المال ولم يقاتلوا.
فوقعة الزاب هذه تقابل وقعة القادسية التي انتصر بها العرب على الفرس.
كانت العصبية سبب سقوط الأمويين، ولم تقف الكارثة عند حد سقوط الدولة الأموية فقط، بل زاد أعداؤهم الفرس والشيعة أن أعملوا السيف في رقابهم حتى أفنوا معظمهم، ولم يفلت منهم إلا عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش؛ لأنه فر إلى الأندلس.
كان الشعراء أكبر المحرضين على إعدامهم، وهاك ما قاله سديف أحد موالي بني العباس في حضرة السفاح:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
جرد السيف وارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
استعمل العباسيون الحيلة في استقدام بني أمية، فأمنوهم على أرواحهم وأموالهم وأملاكهم حتى قدموا على السفاح مطمئنين، فنكث عهده وتفنن في تعذيبهم واختلاس أموالهم.
قتلهم ومد البسط فوقهم وجلس للطعام. وما فرغوا من الوليمة حتى أمر بجرهم، فجروا إلى الخارج وألقوا في الطريق، وظلوا حتى أنتنوا ودفنوا جميعا في بئر.
ثم صدرت الأوامر بمطاردة من بقي حتى أفنوهم.
أما أبو مسلم الخراساني، فاشتد أمره بعد ذلك حتى خاف الخليفة المنصور منه؛ لأنه طمح إلى الخلافة، فاستقدمه إليه المنصور وأمر بقتله فقتل، ثم أصاب البرامكة ما أصاب أبا مسلم، فقتلوا في عهد الرشيد؛ لأنهم طمحوا إلى الخلافة. وكذلك فعل المأمون فقتل وزيره الفضل. (1) النفوذ الأجنبي
فهمت مما تقدم تأثير الفرس ونفوذهم، شاء العرب التخلص منهم فكان أن قتل المنصور أبا مسلم الخراساني، ومع ذلك بقي نفوذهم كما كان، يقوى حينا ويضعف تارة.
كان العصر الأموي عصر تطور خضعت له الأمة العربية من جهة والأمم المغلوبة من جهة ثانية. وسبب هذا التطور الإسلام وامتزاج العرب بغيرهم من الأمم.
فالعصر الأول مظهر صادق لتغير النفس العربية وتأثرها بالحياة الجديدة التي تلت الإسلام، والعصر الثاني مظهر صادق لتغير النفس الأعجمية الأجنبية بهذه الحياة؛ أي إن جوهر الأدب العربي ظل في القرن الأول عربيا، وتأثر بالإسلام، وهو دين الدولة، تأثرا قويا، ولم يؤثر فيه اختلاط العرب بغيرهم إلا قليلا.
أما في القرن الثاني فقد أصبح الأدب العربي أجنبيا في الجملة، لغته العربية. ثم أخذ تأثير العرب يضعف فيه رويدا رويدا؛ لأن منشئيه من الأجانب الذين تعلموا العربية وبرعوا فيها، فما مر العصر الأول حتى دخل كثير من الأجانب في الإسلام ليظفروا بالمساواة في الحقوق السياسية، والاجتماعية، وأتقنوا اللغة ليخدموا الفاتحين وتولوا مناصب خطيرة في الدولة كما تقدم وقلنا في الكلام عن النثر الفني.
وكان ظهور هذا مؤذنا بما سيئول إليه أمر العرب إذا لم يجدوا ويشدوا لينقذوا سلطانهم من الفناء والاضمحلال. ما عجز العرب عن المحافظة على سلطانهم، بل تعادوا وتقسموا في سبيل العصبية، فضعفوا وقوي الأجنبي؛ لأن الثورة التي كانت على العرب كانت أجنبية، انتصر فيها الأعجمي على العربي، واستأثر بالسلطان والسيادة. ولا يستغرب أن تظهر هذه البادرة في شرق البلاد الإسلامية، وتفوز فيها الأمة الفارسية، وتظل بقية الأمم هادئة في الشام ومصر؛ ذلك لأن الفرس حين ظهور الإسلام كانت لهم دولة ذات سلطان، ولذلك كان الصراع شديدا بينهم وبين العرب، ضعيفا بينهم وبين الأمم الأخرى. وهذا الصراع كان في العراق، حيث التقى الشعبان، وبينهما اختلاف في كل شيء؛ في الأهواء والمنافع والأغراض، وفي الدين أيضا ... إلخ.
فلهذا كان العراق موطن المعارضة الشديدة، ومهد الحركة الأدبية والفكرية، ومن هذه البيئة شبت الثورة كما رأينا ، وسقط الأمويون وساد العباسيون .
حرية الفكر:
كان القرن الأول الهجري عصر احتكاك بالأمم التي شاعت فيها فلسفة الأقدمين، فتعرف العرب المسلمون على الفلسفة، من كتب أرسطو وأفلاطون بواسطة الترجمة.
وكان مسلمو سوريا مختمرين بالعلوم اليونانية وغيرها، فلم يقبلوا الدين على علاته كما قبله الأعراب، فأخذوا يتفلسفون ويتمنطقون ويبحثون ويجادلون ليبنوا معتقدهم على أساس علمي راسخ، فدب الشك إلى قلوبهم فأخذوا يبحثون ويشكون.
فمنهم من أنكروا العجائب وقالوا بخلق القرآن ولم يعتبروا الصحابة ولا الحديث، فسموا بالمعتزلة، وكل هذا مسبب عن تعلمهم المنطق والفلسفة؛ ولذلك شاع بينهم: «من تمنطق فقد تزندق.» فأطلقت الأفكار من سجونها، وصار كل واحد يجاهر بمبدئه ولا يخاف.
وتساهل الخلفاء بذلك ولم يبالوا بتقليد ما لم يكن مسه يمس الدولة، وأخذت هذه الحالة تنمو وتشتد بتقدم العصر العباسي الأول حتى عصر المأمون، وكان المأمون محبا للفلسفة والمنطق «ونظن أن للوراثة عملها فيه؛ لأن أمه فارسية» فراجت هذه الأبحاث في عهده أيما رواج.
وقد كان هو أشد الخلفاء تسامحا؛ كان هو شيعيا، ووزيره يحيى بن أكثم سنيا، ووزيره أحمد بن داود معتزليا. وأكبر دليل على تسامحه انتصاره للمعتزلة.
وهكذا كان الرجل في هذا العصر لا يكره على دينه، فقد يكون في بيت واحد عدة إخوة لكل منهم مذهب، فأولاد أبي الجعد كانوا ستة: اثنان شيعيان، واثنان خارجيان، واثنان مرجئان.
فتقريب الموالي وإعزازهم في الدولة العباسية، وكلهم من أمم غير عربية لهم دين قديم، ساعد على نشر حرية الدين.
تقريب الموالي:
سببه: تعلم أن دولة العباسيين قامت على أكتاف هؤلاء الموالي؛ فالعباسيون كانوا قليلي الثقة بالعرب؛ لأنهم يعلمون أنهم آل البيت، وأن العرب تخلوا عنهم ونصروا الأمويين، ولذلك كانوا يكرهون العنصر العربي، فقربوا الفرس لثقتهم بهم. وقد ظهر تعصب العرب عندما كانت الفتنة بين الأمين والمأمون ولدي الرشيد، فالعرب نصروا الأمين؛ «لأن أمه عربية، فأضمرها لهم المأمون».
ومن أشهر الموالي الذين قبضوا على الحكم آل برمك وآل الفضل، ولا أرى هؤلاء إلا متلبسين بالإسلام تلبسا.
نعم قد أسلموا، ولكنهم صبغوا الدين الإسلامي بصبغة فارسية ولم يتجردوا من عقائدهم القديمة وتقاليدهم، فعن يد هؤلاء دخل التشيع والتصوف في الإسلام.
وفي هذه الآونة ظهرت بادرة جديدة هي التطرف الشديد في الدين وحرية الفكر، وهي ناتجة عن احتكاكهم بالأمم الغريبة، فأخذوا يزدرون كل شيء قديم من دين وخلق وسياسة وأدب.
فانتشرت الزندقة انتشارا عظيما، وصاروا يزدرون الأمة العربية ودينها وسياستها وأدبها، حتى فضلوا الفارسية عليها، وهذا ما يعرف «بالشعوبية».
ولم يكن مصدر كل هذا إلا الفرس الذين كانوا يكيدون للعرب، فلما اشتد هذا الأمر في عهد المأمون، وآلت الخلافة بعد وفاته إلى المتوكل قام وضرب الزنادقة بعصا من حديد، وجلد العلماء، واضطهد الفلاسفة والمناطقة.
وظل هذا الانتقام منتشرا، يكون بالسيف عندما يتعرض الدين أو الحكم للخطر، وباللسان عندما لا يتعرض لهذا الخطر إلا الأدب.
وهاك مثلا عن شدة تهكمهم ومجونهم حتى في أقدس الأشياء: كان أبو نواس وأصحابه على فسقهم ومجونهم يتدينون ويقيمون الصلاة، ولكنهم كانوا يعبثون بها عبثهم بغيرها، وربما كانوا يسكرون وتدنو الصلاة فتكف الأيدي عن الكئوس وتقام الصلاة.
أقاموا الصلاة مرة فأمهم أحد الندماء واسمه يحيى، فغلط وهو يقرأ
قل هو الله أحد
فاستحالت الصلاة إلى استهزاء به، فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلطا
في قل هو الله أحد
فقال العباس بن الأحنف:
قام طويلا ساهيا
حتى إذا أعيا سجد
وقال الحسين الخليع:
يزحر في محرابه
زحير حبلى بولد
فقال مسلم بن الوليد:
كأنما لسانه
شد بحبل من مسد
ويشبه هذا ما حكاه الجاحظ عن خمسة أموا ديرا، فجاءتهم الدلالة التي تبيع الخمر، فقالت: كم أنتم؟ فأجابوا: أربعة وأهملوا صاحبهم الذي كان يصلي. فقال المصلي بصوت عال: سبحان الله، فعرفت إذ ذاك أنهم خمسة.
ولم يكن بعض الخلفاء أقل ترفا في قصورهم من هؤلاء، فبعضهم كان يعيش عيشتين: عيشة إسلامية لعامة الأمة، وعيشة ترف ملوكية فارسية في قصره. (2) الشعر وتأثير الترف فيه
الأدب عامة:
الأدب لسان حال العصر وترجمان المحيط، فإذا شئنا أن ندرس درسا واضحا أدب هذا العصر العباسي علينا أن نوطئ له بدرس حضارة هذا العصر.
لم يكن شعب هذا العصر عربيا قحا ولا فارسيا خالصا، بل مزيج من الشعبين وغيرهما من الشعوب التي كانت تسكن العراق وتعمل في أرضه، وهي مكونة من العقلية العربية والفارسية والسامية القديمة، متأثرة بالديانة المسيحية وثقافة اليونانيين، ولذلك كانت مخالفة كل المخالفة لحياة العرب في عهد بني أمية، فكان الفرق عظيما جدا بين الحياتين.
فلذلك ضعف أثر الحياة البدوية الخالصة في هذا الجيل من أهل العراق، وتأثر جدا بالحضارة الفارسية القديمة، فنشأ عن ذلك وعن ذهاب سلطة العرب؛ تمتع أهل هذا الجيل الجديد بكل ما كان لا يتمتع فيه العربي في العهد الماضي، فاستوى فيه الغالب والمغلوب في كل شيء، فتضاءلت سلطة الدين الإسلامي، لحداثة القوم فيه ولتأثير ديانتهم القديمة الموروثة عليهم.
وكانت لغتهم أيضا بين الفصاحة الخالصة والرطانة الأعجمية.
والفرق بين هذا الجيل والجيل الذي تقدمه، أن هذا ظهر فيه ميل شديد للحياة العلمية، فانتشر العلم وتنوع، فمنه ما حدث ومنه ما نما وارتقى، ومنه ما نقل، فمحصوه ودرسوه حتى هضموه وطبعوه بطابع عربي خاص.
كان في العصر الأموي علم، ولكنه كان إسلاميا محضا، وهو يسير ساذج. أما في هذا الجيل فكثرت وتشعبت فروعه.
وبعد هذا الجيل عهد الأدب بالبداوة العربية، فقل حظه من السذاجة فتكلف وتعقد، وظهرت آثار التعمل فيه، بعدما كان ساذجا، وبعد الطبع، والسجية الحرة الخالصة. ونشأت في الأدب فروع وفنون، لم تكن معروفة من قبل إلا قليلا.
الخلاصة:
قد تطور كل شيء تطورا يلائم البيئة والعقل والدين.
الشعر خاصة:
لم يضعف الشعر في هذا العصر، بل قوي ونما وتطور في ألفاظه ومعانيه وأوزانه وقوافيه وأغراضه وفنونه.
ألفاظه: رقت وسهلت فبعدت جدا عن ألفاظ الشعراء في العصر الإسلامي أيام جرير والفرزدق والأخطل. فإذا قرأت شعر بعضهم كمسلم بن الوليد وأبي العتاهية والعباس بن الأحنف فكأنك تقرأ كلاما منثورا، لولا الوزن والقافية.
معانيه: تطورت معاني الشعر فانصرفوا عن المعاني البدوية، أو المعاني البدوية المتأثرة بالحضارة، إلى المعاني الحضرية الصرف. فبعد أن كان الشعر الإسلامي يصدر عن الطبع بلا تكلف، أصبح متحضرا يسيطر عليه العقل، ويرده إلى ميدان الخيال الفسيح، وإذا عدا الشاعر ذلك عدوه منه تقصيرا عن الإتقان الفني.
أوزانه: ورغب الشعراء عن الأوزان الطويلة، وفضلوا عليها الخفيفة السهلة القصيرة، ولاءموا بينها وبين موضوعاتهم، فاختاروا للغزل والمجون أوزانا تلائمها، وإذا مدحوا الخلفاء والوزراء أو رثوا أو جدوا في أمر، فضلوا الأوزان الطويلة. ويسروا على أنفسهم في القوافي، واختاروا أسهل الألفاظ وأحبها للسمع، وتجنبوا عيوب الشعر: كالإيطاء والإقواء والإكفاء والسناد.
أغراضه: لم يطل عهد الشعر السياسي في هذا العصر إذ لم تبق حاجة إليه، ورغب الخلفاء عنه فأصبح الشاعر لدى الخليفة كالنديم له، وذلك بعد انحلال الأحزاب، فضعف الشعر السياسي حتى أصبح كنوع من الهجاء يقوله الشاعر متقيا، عند سنوح الفرصة.
الغزل:
أما الغزل العذري، فامحى إلا قليلا؛ لأن العفة والطهارة لم تكن من مميزات هذا العصر، فالجواري والغلمان كانت تباع في الأسواق بيع السلع.
أما الغزل العادي فتطور ولم يعد صورة صادقة للعاطفة وميل النفس، وبقي محفوظا كفن موروث لا ينبغي أن يضيع.
بدعة جديدة:
وظهرت بدعة جديدة في الغزل، استنبطها فساد البيئة وكثرة الرقيق، وهذا الغزل هو المعروف بغزل المذكر، وهو وصمة في جبين أدبنا.
الهجاء:
أما الهجاء فازداد قبحا وإقذاعا وفحشا يبحث فيه عن السيئات.
المدح:
وأما المدح فتجاوزت فيه المبالغة الحد، وبعد فيه الشعراء عن الاعتدال الذي هو من مميزات الطبع العربي الخالص، فانحط به بعض الشعراء واتخذوه أداة لكسبهم بلا حياء ولا كرامة.
المجون:
وأشد الشعر نموا في هذا العصر، شعر المجون ووصف الخمر، وهو ما نسميه بشعر القصور، فتهالك الناس عليه لفساد أخلاقهم وانحلال روابطهم الاجتماعية، وتسلط الإماء على الحياة المنزلية واستئثارهن بمكان الحرائر، وإتقانهن العربية وآدابها، وبروزهن للناس واشتراكهن في حياة العبث واللهو جهرا، وتسلط الرقيق من غلمان الترك والروم على نفوس الزعماء والسادة، حتى صاروا يدبرون القصور والثروة كما يرغبون.
وساعد أيضا على اشتداد هذا النوع من الشعر، ظهور المذاهب الفلسفية والمقالات الدينية وتسلط الشك على النفوس.
الزهد:
وظهر فن جديد، وهو الزهد، دعا إليه اتصال العرب بالفرس وانتشار الحكمة الفلسفية الفارسية والهندية. ظهر في شعر أبي العتاهية، كما ظهر في نثر ابن المقفع.
الشعر التعليمي:
وظهر نوع جديد من الشعر هو الشعر التعليمي؛ أي نظم فنون العلم شعرا ليسهل حفظها؛ كنظم كليلة ودمنة، وقصائد في الفقه.
الوصف:
أما الشعر الوصفي فتبدل واشتد، فبعد أن كان البدوي يصف ناقته وخيله وصحراءه، وصفوا الحضارة وقصورها والبساتين والخمارات والكئوس والصيد، فوصفوا هذا الأخير كما كان يفعل الفرس، فدققوا في وصف الكلاب والجوارح، وكان الرجز أداة لهذا الوصف.
وشعراء هذا العصر طبقات يتبع بعضها بعضا، ولكل طبقة زعماء. وزعماء أولى هذه الطبقات ثلاثة: بشار بن برد، والسيد الحميري، ومروان بن أبي حفصة. (2-1) بشار بن برد
نسبه:
بشار بن برد بن يرجوخ، كنيته أبو معاذ، لقبه المرعث، أبوه مولى امرأة عقيلية، حرفة أبيه طيان. فبشار عربي عجمي، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، كثير التبرم بالناس لعماه، متلون في ولائه، يكره العرب ويحث الشعوب على كرههم، ويتعصب لهم أحيانا ويتشيع للعلويين. كان الناس يزدرونه حتى يخرج عن طوره، ولولا خوفهم لسانه ما انفكوا عنه.
شخصيته:
ضخم مجدور طويل جاحظ العينين يغشاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس منظرا وعمى، وفيه يقول حماد عجرد:
وأعمى يشبه القرد
إذا ما عمي القرد
لم ير الدنيا قط، وقال والده إنه لم ير مولودا أعظم بركة منه.
كان متوقد الذهن ذكي القلب، وقد زعم أن العمى يقوي الذكاء فيتوفر الحس وتذكو القريحة. قال الشعر ابن عشر سنين، وما بلغ الحلم حتى هابه الناس للسانه، هجا جريرا ولم يرد عليه.
زعامة الشعر:
قلده إياها رجال عصره لأسباب: هجوه العلماء، اتباع أسلوب البادية وألفاظهم، وتحضير الشعر، كثرة المعلمين عليه، غزله الرقيق الذي أحبه الظرفاء والخالعون ورووه فهبت ريحه، أضف إلى ذلك ما لبشار من صنعة وفن.
قال الجاحظ: كان بشار يدين بالرجعة، ويكفر الأمة، ويقدم النار على الطين، حيث قال:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
وكان الأصمعي يشبهه بالنابغة والأعشى، ويقول عنه خاتمة الشعراء.
ادعاؤه:
معتد بنفسه يرى فيها كل ذكاء، يرى نفسه أشعر الناس وعلى الناس أن يقولوا ذلك ويعترفوا به، وقد قال عن نفسه: من أين يأتيني الخطأ وقد نشأت في حجر 80 شيخا من بني عقيل الفصحاء، ونساؤهم أفصح منهم. ومع هذا نرى لبشار شعرا ركيكا مبتذلا لا يقوله فصحاء العرب، كقوله:
ربابة ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
وقوله:
إنما عظم سليمي قصب
قصب السكر لا عظم الجمل
فإذا أدنيت منها بصلا
غلب المسك على ريح البصل
وقوله: غنني للقريض يا ابن قنان. فقالوا له: ومن ابن قنان؟ فقال: ألكم قبله دين أو ثأر؟
وقوله: وهلال السماء في البردان. فسئل: أين البردان؟ فقال: هو بيت في بيتي.
وقوله، بلسان حماره:
سيدي خذ بي أتانا
عند باب الأصبهاني
ولها خد أثيل
مثل خد الشيفران
فسئل: ما الشيفران؟ فقال: هذا من غريب حماري، فإذا لقيتموه فاسألوه.
بشار والنحاة:
انتقده الأخفش فهجاه، فاسترضاه وسكت عنه، وصار يحتج بشعره، وكذلك فعل بسيبويه.
استهتاره:
كان مستهترا في شعره، خالعا فاحشا، فنهاه الخليفة المهدي عن الغزل والتشبب بالنساء وإغرائهن على الفحشاء. وكان قليل الدين لا يصلي، وقد امتحن ذلك أصحابه بوضعهم ترابا على ثيابه فيرونه لم يقم. وقد سئل في ذلك فقال: الذي يقبلها تفاريق لا يرفضها جملة.
نباهته:
جاءه رجل يسأله عن بيت فجعل يفهمه فلم يفهم، فقاده إلى السبيل حتى أوصله وقال له هذا البيت:
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم
قد ضل من كانت العميان تهديه
صدقه:
كان بشارا يقول الشعر عن غير عاطفة. فهو غير صادق في لهجته. قال ابن الصياح: دخلت على بشار وهو منبطح في دهليزه كأنه جاموس، فقلت له: يا أبا معاذ، من القائل:
في حلتي جسم فتي ناحل
لو هبت الريح به طاحا
قال: أنا. قلت: ما الذي حملك على هذا الكذب، وإنني لأرى أن لو بعث الله الرياح الأربع التي أهلك بها الأمم الخالية ما حركتك من مدخلك؟ وقس على هذا من شعر بشار.
كيف مات:
هجا المهدي لأنه لم يجزه. ولأنه لا يرعى حرمة محسن أو مسيء، بل يهجو أيا كان بسبب وبلا سبب، وكان هجا المهدي ووزيره يعقوب بن داود معا بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الرق والعود
فلما أخبره يعقوب بالهجاء، انحدر إلى البصرة للنظر في أمرها، فسمع أذانا في وقت ضحى النهار، فقال: انظروا ما هذا الأذان. فقالوا له: بشار يؤذن وهو سكران، فأمر بجلده 70 سوطا، فكان إذا أوجعه السوط قال: حس. فقالوا: يا أمير المؤمنين انظر إلى زندقته فإنه لا يسمي. فقال بشار: ويحكم! أطعام هو فأسمي عليه. فلما ضرب 70 سوطا بان الموت فيه، فألقي في سفينة حتى مات، ثم رمي في البطيحة.
بغض الناس له:
فلما علم أهل البصرة بموته هنأ بعضهم بعضا، وفي حياته كان السعيد منهم من لا يعرف بشارا. ولم يمش في جنازته غير جارية له، وفيه يقول شاعر من قصيدة:
بل زعموا أن أهله فرحا
لما أتاهم نعيه سجدوا
سخريته:
أنشد المهدي قصيدة، وكان خال المهدي ضعيف العقل، فأقبل على بشار يسأله: ما صناعتك؟ فأجابه بشار: أثقب اللؤلؤ. فضحك المهدي وقال له: أتتنادر على خالي؟ فقال بشار: وماذا أصنع به، ألم يرني رجلا أعمى؟
رمحت رجلا بغلة، فقال: الحمد لله شكرا. فقال له بشار: استزده يزدك.
ومر قوم يحملون جنازة مسرعين بها، فقال بشار: ما لهم مسرعين، أتراهم سرقوه؟
أنفق غلامه عشرة دراهم على جلاء مرآته، فتعجب بشار من جلاء مرآة لأعمى. فقال: لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة، ما دفعت أجرة من يجلوها 10 دراهم.
سرعة خاطر: قالت له زوجته: لماذا يهابك الناس على قبح وجهك؟ فقال: ليس من حسنه يهاب الأسد.
كان جالسا أمام بيته وبيده مخصرة وأمامه طبق تفاح، فحاول أحدهم سرقته، فضربه بالقضيب. فقال له الرجل: أو أنت أعمى؟! فأجابه: يا أحمق، وأين الحس؟!
نفسيته:
مجان مازح، وإنما مزحه مؤلم، كان في السبعين كأنه في ريعان صباه، والدليل أذانه وهو سكران. كان خليعا شهوانيا، شره في الملذات هائج العاطفة أبدا، تدل على ذلك أشعاره، جريء جسور لا يستحي «الحيا في النظر» غير صبور وغير متقن لعمله، والدليل على ذلك إدخاله في شعره ألفاظا لا أصل لها، جبان ثقيل الظل يخاف على روحه أيما خوف لأنانيته وحبه لذاته.
كان يهجو ليعيش لا لأنه يحب الهجاء، وهجاؤه مجموعة عيوب يضعها فيمن ينقم عليه أو يطمع بماله.
شعره:
وصف وقائع حال تأتي عفوا بلا تفكير وكد ذهن. غزله وصف أشياء ظاهرة كالألوان والمحسوسات وبعض الحركات. لا يفهم من الحب إلا المادة فقط، فغزله لا يمثل عاطفة بل التهالك على اللذات والاستقتال في سبيلها. غزير المادة، غير متكلف في ألفاظه ومعانيه. شعره كله ترغيب في الفجور، كل هجائه فحش، ونكتته تضحك وتؤلم معا.
جمع جزالة العرب إلى فن المحدثين، لين إذا تغزل أو هزل، متين إذا مدح، مدحه لا يخلو من هجاء.
نعجة بشار:
أهدى إليه صديق من بني منقر أضحية هزيلة فقال:
وهبت لنا يا فتى منقر
وعجل وأكرمهم أولا
عجوزا قد اوردها عمرها
وأسكنها الدهر دار البلى
سلوحا توهمت أن الرعاء
سقوها ليسهلها الحنظلا
وضعت يميني على ظهرها
فخلت حراقفها الجندلا
وأهوت شمالي لعرقوبها
فخلت عراقبها مغزلا
وقلبت أليتها بعد ذا
فشبهت عصعصها منجلا
فقلت أبيع فلا مشربا
أرجي لديها ولا مأكلا
أم اشوي وأطبخ من لحمها
وأطيب من ذاك مضغ السلا
إذا ما أمرت على مجلس
من العجب سبح أو هللا
رأوا آية خلفها سائق
يحث وإن هرولت هرولا
وكنت أمرت بها ضخمة
بشحم ولحم قد استكملا
ولكن «روحا» عدا طوره
وما كنت أحسب أن يفعلا
فلولا استيحائك خضبتها
وعلقت في جيدها جلجلا
فجاءتك حتى ترى حالها
فتعلم أني بها مبتلى
سألتك لحما لصبياننا
فقد زدتني فيهم عيلا
فخذها وأنت بها محسن
وما زلت بي محسنا مجملا (2-2) السيد الحميري
نشأ في العصر الأموي، وقال الشعر وأجاده في العصر العباسي، شيعي المذهب. قال أكثر شعره في الإمام علي وبنيه، ومدح العباسيين وأخذ جوائزهم، وكان يجاهر بحضرة العباسيين بحب علي وبنيه، بيد أنه يكره أعداءهم الأمويين ويفضلهم عليهم ويستبشر بعهدهم.
صفاته:
كان ضعيف العقل، مضطرب النفس، شعره سهل، ومعانيه منها الجيد والمبتذل، مات 173. (2-3) مروان بن أبي حفصة
فارسي الأصل، نشأ في العصر الأموي، إلا أن تفوقه في الشعر لم يظهر إلا أيام العباسيين. لم يترك اليمامة التي نشأ فيها، فظل بعيدا عن التأثير الفارسي، ولذلك تظهر في شعره الرصانة والمتانة، فهو جزل اللفظ صلب المعنى كشعراء المسلمين الكبار.
مدح في أول عهده معن بن زائدة، فأجزل عطاءه.
هدفه:
ولما طار صيته، ذهب إلى العراق ومدح الخلفاء العباسيين، ووجه هذا المدح نحو الدفاع عن الخلافة العباسية، وإنكار حق العلويين فيها، فأجزلوا له العطاء، وكانوا يشترون منه البيت بألف درهم، وقد كان يجود شعره ويبطئ في قوله، وأشهر بيت قاله في الدفاع عن حق العباسيين بالخلافة:
أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبني البنات وراثة الأعمام
لقد كان تأثير الفرس في هؤلاء قويا؛ وخصوصا بشار بن برد والحميري، أما تأثرهم باليونان فكان ضئيلا بالنسبة للطبقة التي جاءت بعدهم، وزعماؤها أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد. (2-4) أبو نواس
هو الحسن بن هانئ، تلميذ والبة الحباب.
كنيته:
الأولى أبو علي، إنما قال له خلف الأحمر الذي كان شديد الميل إليه: أنت من أشراف اليمن فتكن بالذوين، فتكنى بذي نواس.
تربيته:
لسوء حظ الأدب، لم ينشأ نشأة صالحة، بل ربي في كنف والبة وأمثاله من الفساق، فكان من شخصيته ما أرانا إياها أدبه وشعره وأخباره.
شخصيته:
جميل الصورة، خفيف الروح، فصيح اللسان، هازل، سكير، مستخف في الدين.
لغته:
قال الجاحظ: ما رأيت أحدا أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة منه مع حلاوة ومجانبة استكراه.
هو وبشار:
قال الجاحظ: «بشار وأبو نواس معناهما واحد والعدة اثنان.» ولكن كان بشار قليل الجلد لا ينقح وأبو نواس كثير التنقيح.
أثره في الأدب:
أحسن بالخروج على خطة الشعر الجاهلي، وترك البكاء على الأطلال، وجعل الشعر شعرا مصدره الشعور، وأساء إلى الأدب العربي بنقله الغزل من أوصاف المؤنث إلى المذكر، وتلك جناية ووصمة لا تغتفران له.
امتيازه:
تفوق بوصف الخمرة والمجون والغزل والمداعبة؛ غرامية أو غير غرامية.
الخمرة: وصفها كثيرون في كل العصور، ففي الجاهلية وصفها وأجاد عدي بن زيد العبادي، وكانت أبياته تغنى للوليد بن يزيد، وأجاد وصفها الأعشى والأخطل.
أما أبو نواس فلم يصفها وصفا فقط سبق فيه من تقدمه، بل قدسها تقديسا:
اثن على الخمر بآلائها
وسمها أحسن أسمائها
شعوبيته:
عد النقاد له ما سنرويه لك، خروجا على الأسلوب القديم، ثم عادوا فعدوه «شعوبية». أما الحقيقة فهي أن أبا نواس مستهزئ بكل شيء، فاسمع ما يقول:
عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ولفهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد
لا جف دمع الذي يبكي على حجر
ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
تهتكه:
كان خليعا متهتكا لا يبالي بحدود الأدب والدين ولا يراعي شيئا من هذا، قال:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فعيش الفتى في سكرة إثر سكرة
فإن طال هذا عنده قصر الدهر
فبح باسم من أهوى ودعني من الكنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
ولا خير في فتك بدون مجانة
ولا في مجون ليس يتبعه كفر
وقوله في الخمرة:
عتقت في الدن حتى
هي في رقة ديني
ومن قوله يخاطب أحمد بن أبي صالح:
ناديته بعدما مال النجوم وقد
صاح الدجاج ببشرى الصبح مرات
فقلت والليل يجلوه الصباح كما
يجلو التبسم عن غر الثنيات
يا أحمد المرتجى من كل نائبة
قم سيدي نعص جبار السماوات
من مجونهم:
لم يبرع أبو نواس هذه البراعة إلا لأنه صادف أرضا خصبة وندماء لا ينفكون عن معاقرة الخمرة . ففي ذات ليلة قالوا: أين نجلس الليلة؟ فقال أبو نواس: فلتكن الدعوة شعرا، والمجيد منا تقبل دعوته. فنظموا في ذلك وكانوا ستة، فأجادوا جميعا، فكانت الجلسة في القهوة.
ومن مجون أبي نواس، كما روى ابن منظور، قال: كان أبو نواس مع المصلين في المسجد فإذا بالإمام يقول: قل يا أيها الكافرون ... فصاح أبو نواس من وراء: لبيك، فأخرج.
رجاؤه:
كان رجاؤه بعفو الله عظيما كما يقولون، ولذلك أكثر من المعاصي معتمدا على عفو الله، حتى ختم همزيته المشهورة بهذين البيتين وهما موجهان «للنظام» زعيم المعتزلة الذي كان يقول لا يغفر الله لأصحاب الكبائر:
قولوا لمن يدعي بالعلم فلسفة
عرفت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرءا حرجا
فإن حظركه بالدين إزراء
مدحه:
كان عربيا خالصا إذا مدح أو رثى، وقد مدح محمد الأمين وكان نديمه، ومدح البرامكة.
هجوه:
وقد هجا بظرف فقال:
خبز المفضل مكتوب عليه ألا
لا بارك الله في ضيف إذا شبعا
وقال:
خان عهدي عمرو وما خنت عهده
وجفاني وما تغيرت بعده
ليس لي مذ حييت ذنب إليه
غير أني يوما تغديت عنده
وقال:
أبو جعفر رجل عالم
بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوف تخمة أضيافه
فعودهم أكلة واحدة
مع الجارية جنان:
أحب هذه الأنثى حبا صادقا، وقال فيها شعرا كثيرا، ويروون أنه ذهب فحج عندما حجت جنان.
وفي ذلك يقول:
حججت وقلت قد حجت جنان
فيجمعني وإياها المسير
زهده: ويقال إنه زهد في آخر عمره. ومما قاله في الزهد:
من اتقى الله فذاك الذي
سيق إليه المتجر الرابح
شمر فما في الدين أغلوطة
ورح لما أنت له رائح
ما قيل فيه:
قال أبو تمام: أبو نواس ومسلم بن الوليد، اللات والعزى وأنا أعبدهما.
قال النظام: كأنما جمع الكلام له فاختار أحسنه.
قال إبراهيم بن العباس: إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس، علمت أن ذلك عنوان أدبه.
قال العتبي: عندي أشعر الناس أبو نواس، وعند الناس امرؤ القيس.
قال ابن السكيت: ارو من المحدثين لأبي نواس فحسبك.
خلاصة:
متقن اللغة قولا وعملا، عربي خالص إذا جد، ظريف إذا هزل. أخذ عن العرب قوافيهم ولفظهم المتين الجزل. أخذ عن الفرس أوصافهم المادية للحياة المتحضرة. أخذ عن اليونان معانيهم الدقيقة واصطلاحاتهم الفلسفية.
أشد شعراء عصره ثورة على القديم، يفضل الحضارة على البداوة.
يريد الشعر حضريا بألفاظه ومعانيه وأغراضه.
كان فاسقا عاصيا لله معتمدا على عفوه ومغفرته.
وقصارى الكلام، كان شعره صورة لعصره، تمثل الحياة فيه. (2-5) أبو العتاهية
حياته:
أبو إسحاق اسماعيل بن كيسان، ولقبه أبو العتاهية. ولد بالأنبار وكان يبيع الجرار بالكوفة. كان في أول شبابه عشيرا للخالعين مستهترا، ثم ظهرت مقدرته الشعرية، فقال الشعر، وطرق أبواب الخلفاء، ونال جوائز المهدي، وأحب جارية للخليفة اسمها عتبة، فخاب في حبه وتنسك، وصار يقول الشعر في الزهد ويحث على ترك الدنيا وملاذها.
ولكنه ظل محبا للمال، وعلى زهده بقي يمدح الخليفة ورجال دولته. ثم امتنع عن الشعر، فحبسه الرشيد لأنه لم يلب طلبه، وما أطلقه حتى قال الشعر الذي طلبه منه.
وأدرك المأمون وكان من شعرائه وبطانته ينال جوائزه.
آثاره:
ديوانه وليس فيه كل شعره.
أغراض شعره:
غزل ومدح ورثاء وهجاء وعتاب واستعطاف، ثم ترك هذه كلها ووقف شعره على الزهد والوعظ والحكمة والمثل.
زهده:
روي أنه كان يلبس المسح ويقضي الليالي ساهرا مصليا، ثم يدع المسح ويعود سيرته الأولى لاهيا. أما مذهبه في زهدياته فمواعظ أدبية ونظرات في الحياة والموت: الدنيا زائلة فلنحتقرها، ولنقنع بما يقيتنا. وزهدياته تخاطب العقل لا العاطفة والقلب.
زهديات أبي نواس صادرة من قلب محترق طافح بحب الحياة، أما زهديات أبي العتاهية فكثيرة التكلف، صادرة عن العقل، وقد اشتهرت بما فيها من حكمة جامعة.
قريحته:
سيالة، وقد قال عن نفسه: لو أردت أن أتكلم شعرا لتكلمت. ولكن هذه الدعوى ليست بذات بال فالشعر غير النظم. وهو لو قال نظما لكان أصدق.
ساحة الملوك:
ولأجل كثرة الساقط في شعره، قال أحد النقاد القدماء: شعره ساحة الملوك، في كناستها التراب والذهب .
فنه:
شعره سهل جدا ، ولولا الوزن والقافية لكاد أن يكون نثرا. وله في فنه سيرة بخلاف شعراء عصره الخلعاء، وهذا ما جعل له هذه الشهرة. ولكن لأبي العتاهية وثبات لا يستهان بها إلا أنها قليلة بالنسبة لشعره الكثير. (2-6) أبو تمام
نسبه:
حبيب بن أوس الطائي، نشأ بجاسم، وهي قرية من ناحية منبج من أعمال حوران. كان يخدم أباه الحياك، ثم ذهب إلى مصر وصار يسقي الماء في جامع عمر. لم يعمر كثيرا، وقد توفي بالموصل، وقبره فيها خارج باب الميدان على حافة الخندق.
صفاته:
شاعر مطبوع، فطن ذكي، دقيق المعاني، سبق الشعراء إلى المطابقة، السليم من شعره لا يعلق به أحد، ورديئه رذل جدا.
الرأي فيه:
مريدوه يفضلونه على كل سابق ولاحق، وكارهوه يحطون من قدره جدا، وينسبون إليه سرقة شعر غيره.
دعبل:
كان من ألد أعدائه، ويقول: إن أبا تمام كان متبعا معانيه يسرقها. روى له محمد بن صابر الأزدي من شعر أبي تمام وقال له: كيف تراه يا دعبل؟ فقال: أحسن من عافية بعد يأس. فأخبره أنه لأبي تمام فأجاب: ولعله سرقه.
إبراهيم بن العباس:
كان يقول له: أمراء الكلام رعية لإحسانك.
وقال فيه أيضا: أبو تمام اخترم ولم يستمتع بخاطره.
روايتان متناقضتان:
روى صاحب الأغاني أن أبا تمام مدح الأمير عبد الله بن طاهر في خراسان بقصيدة يائية هائية، فنثر عليه الأمير ألف دينار، فلم يلتقط منها أبو تمام شيئا، بل تركها للخدم. وروي أيضا أنه أنشد أبا دلف القاسم بن عيسى قصيدة يائية أيضا، فأعطاه خمسين ألف درهم واعتذر له.
الحسن بن رجاء:
أنشده أبو تمام قصيدته اللامية فسمعها واقفا، وأحسن صلته على بخله.
معانيه:
كان يأخذ كثيرا منها مما يسمعه، ومنها البيت المشهور:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا
إن السماء ترجى حين تحتجب
أخذه من مخنث يعاتب صديقا له.
واتهمه دعبل أنه أخذ قصيدته التي مطلعها: «كذا فليجل الخطب» من مكنف أبي سلمى، قالها في رثاء زفافة العبسي.
محفوظاته:
كثيرة جدا، يقال إنه كان ينشد أربعة آلاف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقطعات.
كتاب الحماسة:
حبسته الثلوج في همذان عند رجوعه من عند الأمير عبد الله بن طاهر من خراسان، فنزل على أبي الوفاء بن سلامة الذي كان له خزانة كتب نادرة، فطالع فيها كثيرا، وجمع كتابه «الحماسة» الذي قيل في أبي تمام بسببه: «إنه في انتقاء شعر الحماسة أشعر منه في شعره.»
شعره:
يفضل تجويد المعنى على تسهيل العبارة. ولما رأى السلاسة تنقصه عمد إلى الجناس والمطابقة والاستعارة، فأثر ذلك في شعره وكان كتكلف ظاهر.
ديوانه:
ديوانه جمعه أبو بكر الصولي مرتبا على الحروف الهجائية، وجمعه علي بن حمزة الأصبهاني مرتبا على الأنواع.
هو والبحتري:
قال عنه: مداحة نواحة، وكان يقول أيضا: جيد أبي تمام خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه، أرضي تنخفض عند سمائه، والله ما أكلت خبزا إلا به (لأنه أستاذه).
ذاكرته:
غريبة جدا، قال البحتري: أنشدت سعيد بن أسلم الطائي قصيدتي: أأفاق صب في الهوى فأفيقا. وكان عنده رجل لا أعرفه، فلما انتهيت، قال لي ذلك الرجل: أما تستحي أن تنتحل شعري وتنشده بحضوري؟ وأنشد القصيدة برمتها، فتغير وجه سعيد وخرجت من عنده كاسف البال. وبينا أنا كذلك إذا برجل يدعوني ضاحكا، فإذا هو أبو تمام وقال: «الشعر لك.» وإنما هذه عادتي أحفظ القصيدة من مرة.
المتمثل به:
من شعره 150 بيتا.
ومن قصائده المشهورة في المدح قوله في المعتصم: هو البحر من أي النواحي ... إلخ. وفي هذه الأبيات يلتقي بزهير.
بائيته المشهورة:
قالها بالمناسبة الآتية: زحف توفيل بن ميخائيل ملك الروم على البلاد الإسلامية، حتى بلغ زبرطة، مولد المعتصم، وأغار على ملطية وغيرها، فقتل وسبى كثيرين، ومن جملة السبايا كانت امرأة هاشمية لطمها رومي على وجهها، فصاحت «وا معتصماه.» فلما بلغ المعتصم الخبر كانت بيده كأس فطرح الكأس وصاح لبيك لبيك! ثم جهز جيشا عرمرما زحف به على بلاد الروم حتى بلغ عمورية، فحاصرها ورماها بالمنجنيق ودخلها وقتل نحو 90 ألفا منها.
وهنا لا بد من هذه الحكاية، فنوردها ملخصة جدا ؛ قالوا:
عندما طال الحصار على عمورية، جمع المعتصم المنجمين. فقالوا: إنها لا تفتح إلا في زمن نضج التين والعنب. وظهر في ذلك العام نجم مذنب تقول المنجمون فيه، وزعموا مزاعم كثيرة. أما عمورية ففتحت قبل الزمان الذي حدده المنجمون، فقال أبو تمام قصيدته الرائعة، وفيها رد على المنجمين وغيرهم.
وإليك منها ما يشير إلى الحوادث:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
عجائبا زعموا الأيام مجفلة
عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبرج العلياء مرتبة
ما كان منقلبا أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
ما دار في فلك منها وفي قطب
لبيت صوتا زبرطيا هرقت له
كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
أجبته معلنا بالسيف منصلتا
ولو أجبت بغير السيف لم تجب
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت
جلودهم قبل نضج التين والعنب
إلى أن يقول:
فبين أيامك اللائي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسب
أبقت بني الأصفر المصفر كاسمهم
صفر الوجوه، وجلت أوجه العرب
خلاصة:
يعدونه رأس الطبقة الثالثة: يدقق في المعاني كثيرا، تارة يهمل الديباجة حتى تبتذل، وطورا ينمقها حتى يظهر أثر التكلف فتعيب.
جعل الشعر صناعة كغيره من الصناعات التي يتكلفها البشر، حتى لم يترك للسجية أثرا. متأثر بالفلسفة اليونانية الإسلامية.
استغل حكمة اليونان في شعره، فزاد في ثروة اللغة العربية من حيث المعنى.
فتح طريق الحكمة والفلسفة للمتنبي والمعري، اللذين فاقاه.
تعمده المعاني جعل كثيرا في شعره غامضا، وقلة اهتمامه جعل في شعره أبياتا غير قليلة لا يسيغها العربي المعجب بفصاحة لغته.
تعمد الشعر الجاهلي فجاء بالغريب المكروه لفظا وتركيبا.
يبدع في وصف المرئيات، يشخص كل شيء، ومتى اتقدت عاطفته اختفى التكلف الذي يظهر في أكثر شعره. وقد اشتد الإعجاب به من أجل قصيدته الأولى: السيف أصدق ... إلخ، التي سبق ذكر بعضها، والثانية في حرق الأفشين ومطلعها: الحق أبلج والسيوف عوار.
ولعل أبا تمام هو أول الذين دخلوا موضوعهم رأسا، بدون «مقبلات». حتى قال فيه أحدهم:
يا نبي الله في الشعر
ويا عيسى ابن مريم
أنت من أفصح خلق
الله ما لم تتكلم
قال فيه هذا لأنه كان يفأفئ ويتمتم متى تكلم. (2-7) دعبل الخزاعي
حياته:
أبو علي دعبل بن علي الخزاعي، ولد بالكوفة وأقام ببغداد. من متقدمي الشعراء ومجيديهم، إلا أنه كان هجاء خبيث اللسان لم يسلم من لسانه أحد، أحسن إليه أم أساء، ولم يفلت منه خليفة أو وزير أو نبيه شأن. فهو عندي الشاعر السياسي حقا وإن تقدمه ابن برد.
قضى حياته كلها شريدا هاربا خائفا. وقد قال عن نفسه: أنا أحمل خشبتي منذ خمسين عاما، ولا أجد من يصلبني عليها.
أخلاقه:
ناكر الجميل، ينسى العطايا، وهو قد هجا الرشيد على إحسانه إليه، وقد زاد على كل هذا اللصوصية، فكان يكمن للناس ليلا، وقد رصد صيرفيا يهوديا طمعا بما معه، فقتله، ولم يكن معه غير ثلاث رمانات في خرقة، فاشتد عليه الطلب فاختفى في الكوفة.
قيمته:
مر الهجاء، جرت بينه وبين الشاعر أبي أسعد المخزومي مهاجاة شديدة.
والفرق بينه وبين بشار، أن بشارا كان أسفل لفظا وأضيق نفسا وأضعف تأثيرا، إذ لم يكن لبشار حزب سياسي يحميه ويؤيده.
أما دعبل، فكان يدافع عن العلويين ويحتمي عند أهل اليمن.
لغته:
لغته بالإجمال أصح من لغة بشار، والكثيرين من معاصريه، حتى فضله البحتري على مسلم بن الوليد.
أمثلة من هجائه:
قال يهجو الرشيد لما مات وقبر في الري، وهناك قبر الرضا من ولد علي بن أبي طالب:
قبران في طوس خير الناس كلهم
وقبر شرهم، هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
له يداه، فخذ ما شئت أو فذر
في المأمون:
أيسومني المأمون خطة جاهل
أو ما رأى بالأمس رأس محمد
إني من القوم الذين سيوفهم
قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله
واستنقذوك من الحضيض الأوهد
في المعتصم:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة
ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة
خيار إذا عدوا، وثامنهم كلب
وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة
لأنك ذو ذنب وليس له ذنب
وقال في قيام الواثق بالله وموت المعتصم:
الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد (3) العصر العباسي الأول
النثر:
تقدم النثر خطوات في آخر العصر الأموي على يد عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر بني أمية.
كان الإنشاء في العصر الأموي آلة الخطابة التي كان لها الشأن العظيم في سياسة الدولة. فلما ضعف أمر الخطابة في العباسيين بانحلال الأحزاب وضعف الحياة السياسية، وتسلط العجم واعتماد الدولة على الإقناع بالسيف، أصبحت بضاعة الخطابة كاسدة لا يلجأ إليها إلا في الحفلات الكبرى. بيد أنه حل محل النثر الخطابي نثر آخر، وهو: (1)
نثر الدواوين الذي يصدر عن الخلفاء والوزراء. (2)
نثر الترسل بين الناس، الذي حل محل الشعر فصار يعبر فيه عن جميع أغراض الشعر. (3)
نثر التأليف، وقد شمل الموضوعات الأدبية والوعظ والإرشاد والعلم والسياسة وكل فن. (4)
النثر الذي عبر عنه «بالأدب الوصفي»، وبه تناولوا الشعر والنثر القديمين بالنقد.
وكما تنوع النثر تنوعت أساليب الكتاب فيه؛ فمنهم من كان يوجز، ومنهم من كان يطنب، ومنهم من كان وسطا بين الإيجاز والأطناب، ومنهم من كان ينمق ويسجع، ومنهم من كان يرسله على السجية.
وفي كل حال اصطبغت الرسائل بالصبغة المدنية الحضرية، فسهل الإنشاء ولان، فجاء منمقا كالطراز الموشى.
طاهر بن حسين:
وممن اشتهروا بالرسائل: طاهر بن حسين، له مجموعة رسائل ضاعت، إلا رسالة واحدة كتبها لابنه عندما ولاه المأمون مصر، فيها وصايا بجميع ما يحتاج إليه دينا وخلقا وسياسة، وهي مدونة في مقدمة ابن خلدون.
أما أشهر من عرف في هذا العصر من الكتاب فهو ابن المقفع. (3-1) ابن المقفع
نشأ أبوه المقفع واسمه دازوبه، في ولاء آل الأهتم، وهم بيت فصاحة ولسن في الجاهلية، فنشأ المقفع وابنه مستعربين فصيحين. كان المقفع عاملا للخراج زمن يوسف بن عمر والي العراق، فظهرت عليه خيانة في مال الدولة، فضربه الأمير ضربا تقفعت منه يده، فسمي المقفع. أما ابنه روزبة «ابن المقفع» فنشأ في البصرة يتكسب ببضاعة أبيه، فخدم في دواوين العراق، آخر زمن بني أمية، وجمع بين ثقافتي العرب والعجم.
قرأ آداب الفرس والهنود، وكتب الحكمة التي ترجمها كسرى أنوشروان من اليونانية، فجعله كل هذا واحد زمانه.
اتصل في العصر العباسي بوالي البصرة والأهواز وكتب لهما، وهما عما أبي جعفر المنصور.
وكان إذ ذاك لا يزال مجوسيا على دين زرادشت. فكتب وترجم لهما وللخليفة المنصور بعض كتب الأدب وكتب الفلسفة المنقولة عن اليونانية، ثم أسلم على أيديهما وسمي بعبد الله.
أما سبب موته فمختلف فيه؛ فمنهم من قال إن والي البصرة قتله لاتهامه بالزندقة والكيد للإسلام، ومنهم من قال إن المنصور عبد الله بن علي خرج عليه فهزمته الجيوش فاستجار بأخوي المنصور سليمان وعيسى. فطلبه المنصور منهما، فأبيا تسليمه إلا بأمان خطي. فكلفهما المنصور أن يكتبا الأمان ليوقعه، فأمرا ابن المقفع، فاحتاط في كتابة الأمان كثيرا حتى لا يجد فيه المنصور مخرجا للإخلال بعهده، فأغضب ذلك المنصور، فأغرى به والي البصرة سفيان بن معاوية فقتله.
ولد ابن المقفع سنة 106 ومات في الأربعين.
كان ابن المقفع كثير الاستهزاء بهذا الوالي، ويقولون إن هذا الوالي كان ذا أنف طويل وإن ابن المقفع كان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما، وهذه رواية لا تصدق.
ثقافته:
كان ابن المقفع نتاج ثقافة فارسية عميقة واسعة لقحت بلقاح عربي، فكان من هذا وذاك أدب جم، فهو مدين في أكثر معانيه للفرس، وفي أساليبه وألفاظه للعربية. عاش في العصر العباسي عشر سنوات وشاهد كما شاهد غيره من الموالي اضطهاد العرب واحتقارهم لهم.
شخصيته:
ابن المقفع قوي في خلقه وعقله وعلمه ولسانه. كان نبيلا كريما، يحافظ على الصداقة جدا، ويوصي باختيار الأصدقاء، يدفع نفسه إلى المثل الأعلى، يرغب جدا في إصلاح الراعي والرعية، متمسك بآداب اللياقة، دقيق فيما يتطلبه الذوق.
وصفه الجاحظ فقال: كان فارسا جوادا كريما جميلا.
واسع الاطلاع، متضلع من اللسانين العربي والفارسي، نقل خير ما كتب باللغة الفهلوية، غزير المعاني إذا كتب، وليست كتابته جوفاء. يمعن في اختيار المعنى ثم يمعن في اختيار اللفظ.
قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
قال جعفر بن يحيى: عبد الحميد وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.
تآليفه:
الأدب الكبير والأدب الصغير، اليتيمة، رسالة الصحابة، كليلة ودمنة.
اليتيمة والأدبان:
ترجمة وتأليف، جمع فيها المأثور عن ذوي العقول الراجحة من كل الأمم.
اليتيمة:
مفقودة، وغلطا أطلقوا اسم اليتيمة على الأدب الكبير.
الأدب الصغير:
كلمات حكمية في الأخلاق أشبه بالمأثور من كلام علي. من أمثلته: أربعة أشياء لا يستقل منها القليل: النار والمرض والعدو والدين. وبسبب هذا العدد قالوا: أسلوبه رياضي. ولكنه غير مرتب، توضع فيه الفكرة حين تسنح أو ترد، أحيانا تسند، مثل قوله قالت الحكماء وقال: وأحيانا لا تسند.
الأدب الكبير:
كالأدب الصغير، كلمات ولكن مجموعها أطول، مرتبة غالبا. أهم ما جاء فيه موضوعان: الكلام عن السلطان والولاة ومن يتصل بهما. أجاد الكتابة في هذا الموضوع؛ لأنه اتصل بالولاة فلاحظ ما لاحظ، اتصل بالخلاف بين المنصور وأعمامه، وكان ركنا من أركانه ومحررا لوقائعه ومستشارا في أمره وقارئا لمثل هذه الأحداث في سير ملوك الفرس.
والموضوع الثاني منه: في الصديق والصداقة: وقد أجاد أيضا في هذا الموضوع لتأثره به خلقيا كما سبق. فهو يرى في الأصدقاء عماد الحياة ومرآة النفس، ولا عجب أن احتاج إلى الصديق الوفي وهو منقطع لا رحم له. شهد دينا جديدا، ودولة تسقط ودولة تقوم، متصل بالخلفاء والولاة، نزاع إلى الإصلاح، لا يدري متى يفتكون به . لا يخفي النصيحة ولا يسكت عن ضعف، يصف العلاج بلا حذر. فمن كان في مثل هذا الموقف يحتاج إلى صديق يخلص له الإرشاد.
فهذان الكتابان أثر من الثقافة الفارسية، فيهما حكم كثيرة ونظم عديدة، لا يخلوان من الثقافة اليونانية ولكنها ضعيفة الأثر فيهما.
رسالة الصحابة:
ويعني بالصحابة الولاة والخلفاء. يرجح أنه كتبها للمنصور، وهي كتقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه.
ذكر فيها أولا غفلة الولاة وعجزهم عن القيام بالإصلاح، ووصف الحالة الاجتماعية بقوله: «وأمة إن أخذت بالشدة حميت، وإن أخذت باللين طغت.»
ثم ابتدأ بشرح حال الجند الذين لم يكن لهم نظام يتقيدون به، ونصح أمير المؤمنين أن يحول بين الجند وبين إدارة الشئون المالية. وأشار بمراعاة الكفاءة بالقيادة وتعليم الجند الكتابة والتفقه بالدين، ودفع رواتبهم في حينها، ثم تقصي أحوال الجنود ومعرفة أخبارهم ... إلخ.
وتعرض لفوضى القضاء الذي لا يرجع لقانون معروف، إنما هو متروك لرأي القضاة واجتهادهم، وبذلك تتناقض الأحكام حتى في بلدة واحدة. وارتأى أن ترفع المسائل التي يقع فيها الخلاف إلى أمير المؤمنين. وفي الكتاب تعطيف المنصور على أهل الشام؛ لأن العباسيين نظروا إليهم كأعداء للدولة. وتكلم عن الحجاز واليمن واليمامة. وكانت موضع نقمة المنصور؛ إذ خرجت عليه. وسأله أن يولي الصالحين من أهل بيته، وأن تسخو نفسه عن أموالها، إذا لم يمدها بمال من عنده.
وختم هذا التقرير ببيان تأثير الخليفة إذا صح؛ لأن العامة لا تصلح إلا بصلاح الخاصة، والخاصة لا تصلح إلى بصلاح الإمام.
كليلة ودمنة:
أقدم كتاب خيالي أدبي في لغة العرب، هندي الأصل، عثر المستشرقون على أبواب كثيرة منه في كتب متفرقة. نقله الفرس إلى لغتهم وزادوا عليه باب بعثة برزويه، وباب ملك الجرذان (هذا ترجيح). ويرجحون أن ابن المقفع نفسه زاد عليه باب عرض الكتاب، وباب الفحص عن أمر دمنة، وباب الناسك والضيف، وباب البطة ومالك الحزين.
دفع ابن المقفع إلى ترجمة هذا الكتاب ميله إلى الإصلاح الاجتماعي، كما رأينا في الأدبين ورسالة الصحابة؛ ففي كتاب كليلة ودمنة يشرح بعض النواحي الاجتماعية شرحا وافيا؛ ينصح بعدم الإصغاء إلى الحاسد النمام، والحذر من العدو، والاعتماد على الصداقة، ويحث الضعفاء على الاتحاد ليتغلبوا على القوي البطاش، وينصح باستعمال الحيلة لبلوغ القصد.
عاش ابن المقفع في زمن لم تكن الحرية متوفرة فيه، وهو ميال للنقد، ولا يستطيع نقد الخليفة بصراحة؛ لأنه نضج في زمان أبي جعفر المنصور الشديد البأس والبطش، والسريع إلى إعمال السيف يقطع به رأس كل مخالف. قتل كثيرين بالظنة، وتذرع في قتلهم بالاتهام بالزندقة. وكان ابن المقفع نفسه أحد هذه الضحايا.
ولعل ابن المقفع رأى موقفه مع المنصور كموقف بيدبا مع دبشليم، فوصف دبشليم الملك بما يتصف به المنصور من العتو والاستبداد بالرعية والاستهانة بها، وأن بيدبا الفيلسوف وعظه ورده إلى العدل والإنصاف.
لم يستطع ابن المقفع أن يصارح المنصور بأكثر ما صارحه في رسالة الصحابة خوفا على رأسه منه، فعمد إلى ترجمة كتاب كليلة ودمنة، وأمثال هذه الكتب تظهر أيام الاستبداد، كما فعل لافونتين.
ويظهر ما يرمي إليه ابن المقفع في مقدمة الكتاب، إذ أخفى الغرض الرابع فقال عنه ما يأتي: «والغرض الرابع وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيسلوف نفسه خاصة.» ويظهر بالاستنتاج أن هذا الغرض هو النصح للخلفاء حتى لا يحيدوا عن طرق الصواب، وتفتيح عين الرعية حتى يعرفوا الحق ويطالبوا بتحقيقه. ولعل هذه النزعة كانت من أسباب الإيعاز بقتله.
لم يترجم ابن المقفع الكتاب ترجمة حرفية، بل عدله ليتفق والذوق العربي الإسلامي، وجعل فيه شيئا جديدا من روح الدين الجديد، كمجازاة الله بالخير خيرا، وذكر جهنم، والإخلاص لله تعالى. وقد ظهرت زيادة ابن المقفع من الاطلاع على النسخة السريانية التي ترجمت سنة 570م ووجدت في أحد أديار ماردين ونشرت سنة 1876م.
وعلى توالي العصور، دخل على ترجمة ابن المقفع شيء كثير؛ لأن النسخ التي بين أيدينا تختلف عنها اختلافا كثيرا. وفي كتاب «نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة» لابن الهبارية؛ اختلاف في ترتيب الأبواب، وليس فيه باب الحمامة ومالك الحزين، وسمي فيه إيلاذ وبلاذ وهيلار وبيلار.
تأثير الكتاب:
لقد أثر هذا الكتاب في اللغة العربية جدا؛ فمنهم من نسج على منوال لغته وأسلوبه وعبارته، ومنهم من حذا حذوه، وكثيرون نظموه شعرا. ولعل أسلوب ألف ليلة وليلة في تعليق القصص ببعضها قد أتى من هنا.
ناظموه:
أبان اللاحقي، ابن الهبارية، وله منظوم ثالث أكمله عبد المؤمن بن الحسن الصاغاني.
مقلدوه:
ابن الهبارية بكتاب «الصادح والباغم»، وابن ظفر بكتاب «سلوان المطاع في عدوان الطباع»، وابن عربشاه بكتاب «فاكهة الخلفاء ومناظرة الظرفاء»، وترجم كتاب «مرزبان نامه». وإخوان الصفاء لهم في رسائلهم مناظرة بين الإنسان والحيوان من لون كليلة ودمنة. ويظن جولدزيهر أن اسم إخوان الصفاء مقتبس من كتاب كليلة ودمنة؛ لأنه ورد في أول فصل «الحمامة المطوقة».
فضل الكتاب:
إدخاله القصص المفصلة على الأدب العربي. للفرس والعرب فيه فضل المحسن، وللهند فيه فضل صاحب الفكرة وواضع الأساس.
زندقته:
قال الجاحظ: ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم. وقال المهدي: ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع.
خلاصة:
إن مئونة ابن المقفع في كتبه من الثقافة الفارسية، وقل فيها أثر الثقافة العربية الإسلامية؛ لأنه غير متأثر بدين؛ فحكمه مستمدة من تجارب دنيوية حتى ما يتصل منها بالدين.
لا يعمد إلى السجع إلا ما جاء عفوا، كلامه من السهل الممتنع، أديب مثقف، فارسي النزعة، مخلص لأصله، نشر آداب أمته وسياستها وتاريخها، نبيل سام، وقد جاءه هذا النبل والسمو عن طريق الفلسفة والعلم لا الدين. يصدق؛ لأن الصدق شرف ورفعة، لا لأن الدين يأمر به. رجل مدني، لم يستند إلى آية أو حديث، أشبه بباسكال في أفكاره.
أسلوبه:
جيد، وإن ظهرت فيه العجمة، رصين القول شريف المعاني، سهل بين رشيق، يختار الكلمة السهلة الصحيحة الفصيحة، وربما فتش عنها. جمله خالية من أساليب التفنن في كتاب كليلة ودمنة، أما أسلوبه في الأدبين فمنطقي؛ ولذلك صعبت جملته.
أخذ شيئا من أسلوب عبد الحميد. وقد اتبع أسلوب ابن المقفع كثيرون حتى ظهر الجاحظ. (3-2) العلوم اللغوية
علم اللغة:
هو البحث في ألفاظ اللغة من حيث وضعها وأصولها واشتقاقها، وغايته وضع المعاجم، فلم يتم إلا في العصر العباسي الثالث، غير أنهم انتبهوا إليه في أوائل الدولة الأموية فابتدءوا به، وكان من أشهر علمائه الخليل.
الخليل:
حليم وقور، طاف في البلاد العربية فوقف على ألفاظهم، أستاذه أبو عمرو بن العلاء. كان الخليل زاهدا، مات في خراسان قبل أن ينهي كتاب العين، فأتمه تلميذه الليث.
كتاب العين:
انتقده كثيرون، منهم بن مريد، وبقي معروفا حتى القرن الرابع عشر، فضاع ولم يصلنا منه إلا ما نقله سيبويه والسيوطي، غير أن مختصر الزبيدي له موجود منه نسخة في برلين واسكرباد.
ومن كتبه: كتاب النغم، وآلات الطرب، وكتاب العروض.
قيمته:
الخليل هو أول من ضبط اللغة ووزن الشعر. له فضل المستنبط؛ لأنه مهد لأصحاب المعاجم والنحاة. وقد كان واسع العلم، عنده من كل فن خبر.
علم النحو
النحو:
خوف العرب من فساد اللغة واللفظ المؤدي إلى فساد المعاني، دفعهم إلى ضبط إعراب الكلمات وتصوير الحركات وتحسينها وإعجامها، ومن ذلك توصلوا إلى وضع القواعد.
يقال إنهم اتبعوا في ذلك السريان والكلدان في كتابتهم. ويرى رنان أن كتب اليونان المعربة دفعت العرب إلى استعمال قياس لغتهم.
أبو الأسود:
واضع الحركات بشكل النقط. أخذ طريقته عن الكلدان، وهو أول من ألف في النحو، على نهج السريان، وأول فصل وضعه «التعجب».
قيمته:
إن لم يستوعب النحو كله فقد أسس علما كان شغل العلماء الشاغل، في العصر الأول والثاني العباسيين، فانقسموا إلى مذهبين: البصري والكوفي، وزادوا في المناقضات والتعليلات حتى صيروا كل خطأ صوابا.
علماء البصرة أصح حجة وأشد تعقلا بإيراد البراهين، أما علماء الكوفة فمتعصبون لعصبية البدو، وقد فازوا على البصريين لأسباب سياسية.
علماء البصرة:
سيبويه، وهو من أصل فارسي، لزم الخليل وأخذ عنه، قصد بغداد وناظر الكسائي فيها، إلا أن الخلفاء نصروا الكوفيين عليه، فنفر منهم وعاد إلى بلاد الفرس ومات في قرية اسمها البيضاء.
الكتاب:
هذا أثر سيبويه الخالد، قال فيه أبو عثمان المزني: من أراد أن يعمل كتابا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح.
يقع الكتاب في 820 فصلا، في ألف صفحة. طبع في باريس بمجلدين مع شروح ومقدمة بالإفرنسية بعناية المستشرق داريمبورغ، وطبع في برلين ومصر.
الجزء الأول يحتوي على الكلم وأقسامه والفاعل والمفعول ... إلخ.
الجزء الثاني يبتدئ بما ينصرف وما لا ينصرف والنسبة والإضافة ... إلخ. وفيه باب الوقف وشروطه، والكلمات الفارسية الأصل.
قيمته:
كان لكتابه أعظم أثر، وهو أساس مؤلفات النحو من ذلك الزمان حتى يومنا هذا. واشتهر من علماء البصرة اليزيدي والأخفش.
علماء الكوفة:
الكسائي، أشهر نحاة الكوفة، ولد فيها وخرج إلى البصرة فأخذ عن الخليل، وقدم بغداد فأقامه الرشيد مؤدبا لابنه المأمون. فارتفعت منزلته عند الخلفاء وتعصبوا له ضد سيبويه، وهو فارسي الأصل أيضا. طاف البادية حتى قويت لغته.
آثاره:
ألف في النحو والقراءة والأدب والنوادر، ولم يصل إلينا إلا رسالة في لحن العامة، كتبها إجابة لطلب الرشيد.
قيمته:
بانتصاره على سيبويه علا قدر الكوفيين.
ومن مشاهير علماء الكوفة: معاذ الهراء، الفراء، ابن السكيت.
ابن السكيت:
علم ابن المتوكل «المعتز» ثم قتله المعتز؛ لأنه كان متعصبا للشيعة، وأرسل إلى أبيه ديته عشرة آلاف درهم قائلا: «هذه دية ولدك رحمه الله.»
قيمته:
قصير النظر في النحو. أشهر تآليفه: إصلاح المنطق، تهذيب الألفاظ، شرح ديوان الخنساء، وديوان طرفة، وله شعر حكمي إلا أنه جاف.
المذهبان:
البصري والكوفي: البصرة والكوفة مدينتان أسستا على عهد عمر بن الخطاب. اختلط فيهما العرب والموالي ثم صارتا أهم مركز علمي، فاشتهرتا بعلم النحو واللغة، ثم تفوقت البصرة، ولا يزال مذهبها فائزا يعول عليه النحاة.
الكوفيون أكثر استعمالا للقياس، والبصريون أكثر استعمالا للسماع؛ أي كما يلفظ الأعراب «البدو». (3-3) العلوم الإسلامية
سميت كذلك لأنها نشأت عن القرآن الكريم وبسببه. أولها الحديث والسنة، وهو ما ورد عن النبي وأقواله وأفعاله وغير مدون في القرآن.
الحديث:
لما كان القرآن كتابا دينيا منزلا لا يحسن شرحه إلا بمعنى واحد يتفق عليه الجميع، ولما كان من الصعب الاتفاق على هذا المعنى، أخذ المسلمون يتذكرون سلفا عن خلف شرح النبي آيات الكتاب وما قاله في كل معنى من المعاني، فحفظ الصحابة ذلك وأخذه التابعون، ولم ينتبهوا إلى هذا العلم إلا في العصر الثالث. وقد هلك معظم الصحابة ومن تبعهم، وكثرت الأحاديث الكاذبة التي كان يصنفها ذوو الأغراض.
أول مصنف:
أول من صنف في الحديث مالك بن أنس، اعتمد على الحديث المتسلسل، وعلى إخلاص المحدثين وأمانتهم.
لقد لعبت الشعوبية دورا عظيما في تصنيف الأحاديث وإسنادها للنبي، وغاية هؤلاء إفساد الدين بما يدخلون عليه من بهتانهم.
الفقه:
هو تطبيق أحكام الشريعة على أعمال البشر لتمييز الحلال من الحرام، ويعرف بعلم الدين أو الفروع. هذا العلم يقوم به العارفون بأمور الدين والقرآن وشرحه وناسخه ومنسوخه كالصحابة والتابعين.
سمي علماء الدين في أول أمرهم «قراء»، ثم لما انتشرت القراءة سموا فقهاء. أما استنباط هذه الأحكام فعائد إلى إعمال العقل ودرس الكتاب، وهذا كان سبب اختلاف الشراح في الشرح، والتأويل - التأويل ضد المعنى الحرفي - والاستنتاج. ولهذا كانت غاية الجميع واحدة، وهي غرض الشارح في أحكامه.
فكان من نتيجة هذا الخلاف أن قسم الشرح إلى قسمين: طريقة أهل الحجاز في الحديث، وطريقة أهل الرأي. وعن هاتين الطريقتين تفرقت المذاهب الأربعة: (1)
الحنفي:
طريقته الدليل العقلي. (2)
المالكي:
طريقته الحديث. (3)
الشافعي:
مزيج من المذهبين. (4)
الحنبلي:
طريقته التثبت في الحديث وطرح كل قياس عقلي.
وهذه المذاهب الأربعة تكاد تكون واحدا، وكل الدروب تؤدي إلى الطاحون.
البدع:
لم يكد يترجم العرب الفلاسفة الأعجام وتبدأ مدنيتهم بالازدهار، حتى أخذ علماء الدين يطبقون أحكام العقل على القرآن منتقدين ما جاء فيه مخالفا للعقل، فنشأت البدع.
البدعة:
هي كل مقالة مبتكرة جديدة في الدين مخالفة للأصول المرعية فيه، وهي كالبروتستانية في المسيحية.
ومن البدع الإسلامية:
المعتزلة، الخوارج، المرجئة.
الفرق:
كما تفرعت البروتستانية إلى فرق مختلفة، كذلك تفرعت البدع في الإسلامية.
فالشيعة المعتدلة مثلا تكتفي بتكريم الإمام علي وذريته، أما الشيعة المغالية، وهي مجموعة فرق، فتدعي الحلول في علي وسائر أمته.
علم الكلام:
هو السلاح ضد البدع، وهو البرهان على العقائد الدينية بالأدلة العقلية، للرد على المبتدعة. موضوعه : معرفة عقائد الدين، وتطبيق حقائق الدين على أعمال البشر. واضعه: أبو موسى الأشعري. (3-4) العلوم الدخيلة
كالهندسة والموسيقى والفلسفة، وهي نتيجة أبحاث المسلمين من رجال العلم بالمدنيات القديمة التي وجدوها أول نهضتهم، فنقلوها إلى لغتهم، وحفظوا خلاصة علم اليونان والكلدان والسريان والهنود والأقباط، فدرسوها وأتموها وبنوا عليها مدنيتهم، وبهذا مهدوا السبيل للنهضة العربية في القرون الوسطى.
ومما يجدر ذكره أن غزاة العرب كانوا أوفر تساهلا من جميع غزاة الشعوب عن قصد أو عن غير قصد؛ لأن هؤلاء إذا احتاجوا إلى علوم مغلوبيهم طلبوا إليهم فكتبوا المؤلفات بلغتهم الخاصة دون لغة الغالب. أما العرب فكانوا يحضون المغلوبين على اتباع دينهم وشريعتهم ولغتهم.
النقل:
ابتدأ مع المنصور، وخف قليلا على زمان المهدي، وهب في زمن الرشيد، وبلغ شأوه في عهد المأمون.
فنقل العرب:
عن اليونان: الفلسفة، الطب، الهندسة، الموسيقى، المنطق، علم النجوم.
عن الفرس: السير، الآداب، الحكم، التاريخ، الموسيقى، علم الفلك.
عن الهنود: الطب، العقاقير، الحساب، النجوم، الموسيقى، الأقاصيص.
عن المصريين: الكيمياء.
عن الكلدان: الزراعة، الفلاحة، التنجيم، السحر، الطلاسم.
ولم يأخذوا شيئا عن آداب اليونان ولا عن تاريخهم. (3-5) تأثير النقل
الألفاظ:
أجبر النقلة على إدخال الكثير من المفردات العلمية في تراجمهم، وأكثرها في الطب والفلسفة. فاضطروا إلى اشتقاق ألفاظ كثيرة من العربية واستعمالها في غير معناها الوضعي الحقيقي؛ وخصوصا في علم الفقه والبدع الإسلامية وصفات الأدوية ومفاعيلها.
ولم يخل تركيب اللغة من هذا التأثر كما سبق فقلنا. وكان تعبير الكتب العلمية؛ وخصوصا الفلسفية، لا يضاهي تعبير الكتب الأدبية متانة بسبب استعمال فعل الكون، يوجد، وكثرة الجمل الاعتراضية، واستعمال الفعل المجهول، وإدخال هو بين المبتدأ والخبر.
وكان من التعبيرات الجديدة اللانهاية واللاأدرية واللاضرورة، الكيفية، الكمية، الماهية، الهوية، ثم بنقل الألفاظ الوضعية أو الاسمية: ماني، ماسية.
الفلسفة:
تقسم الفلسفة العربية إلى شرقية، ومشاهيرها الكندي، الرازي، ابن سينا.
وإلى غربية؛ أي أندلسية ومشاهيرها ابن باجه، ابن طفيل، ابن رشد.
أما أصلها فواحد تقريبا، يتفرع منها الأفلاطونية المستحدثة التي اشتهرت بأنها توفق بين أرسطو وأفلاطون، وقد زاد عليها العرب التوفيق بين العقائد الدينية والمبادئ الفلسفية - كما فعل المسيحيون قبلهم - والفضل في هذه النهضة للنقلة، وهم: (1)
حنين بن إسحاق:
ترجم جمهورية أفلاطون، ومنطق أرسطو، وما وراء الطبيعة، وأخلاق أرسطو. هذا الرجل عهد إليه المأمون برئاسة بيت الحكمة، فعمل ما لا تستطيع أن تعمله المجامع. ولم يكتف بما أحضر له من الترجمة، بل كان يطوف بنفسه في البلاد ويحضر الكتب النفيسة ويترجمها. (2)
يوحنا بن البطريق:
ترجم سياسة أرسطو. (3)
يوحنا بن ماسويه:
عرب كتبا عديدة. غير أن الفلاسفة المشهورين لم ينبغوا إلا في القرن الثاني.
التاريخ:
إن العناية بانتفاء الحديث والرغبة في جمع الكتب وترجمتها؛ وخصوصا الفارسية منها، دفعت العرب إلى هذا الفن. (1)
المغازي:
لما اطلع العرب على ترجمة الكتب التاريخية الفارسية اندفعوا فألفوا في هذا العلم؛ علم التاريخ، فجمعوا حوادث دولتهم حادثا فحادثا، ومنها تألف تاريخهم. (2)
ابن عقبة:
وأول المؤلفين في هذا موسى بن عقبة. وهو الملقب بإمام المغازي؛ لأنه دون مغازي النبي؛ أي حروبه مع المشركين. (3)
ابن إسحاق:
أبو عبد الله محمد بن إسحاق، كان له كثير من الأعداء فهرب إلى أقطار عديدة، ثم التقى أبا المنصور، فدعاه إلى بغداد وفيها مات.
من آثاره: سيرة الرسول، ضاعت إلا بعض أقسام منها استخرجها أحد المستشرقين الألمان.
قيمته: أول من كتب تاريخ الرسول، ولا يزال العلماء ينتقون مما جاء في هذه السيرة مما نقله ابن هشام من الحوادث أو النوادر، فيمحصونها ويدرسون تاريخها كي يتوصلوا إلى تأليف تاريخ عن النبي محمد، ومنهم من قضوا الحياة جادين وراء هذه الغاية.
الموسيقى:
طبيعي تقدم الغناء عند العرب؛ لأنه كان في الجاهلية يزدهر أوان الأسواق في عكاظ وغيرها.
أما نظرية الموسيقى فلم يتوسع فيها العرب إلا بعد ازدهار الترجمة عن اليونان، فبحثوا في ذلك بحثا مليا، وكان أكثر البارعين من العلماء والفلاسفة، وهم يذكرونها كاليونان بين الرياضيات، ويجعلون مقامها بعد الهندسة.
وأشهر من ألف بذلك: الفارابي، والكندي، وابن سينا، وثابت بن قرة.
وقد اشتهر الغناء مع الموسيقى الوترية، فكان للمغنين مراكز رفيعة في عين الخاصة والاعتبار عند الخلفاء. وقد جمع أخبارهم وحوادثهم وبعض طرق صناعاتهم، أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني.
وأشهر المغنين: إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابن إسحاق، وغيرهم.
الطب:
أول أطباء العرب الحارث بن كلدة الثقفي، معاصر النبي. أخذ الطب عن الفرس، وابنه النضر ابن خالة النبي، وقد شايع أخصامه فقتله الإمام علي.
وبقي هذا العلم محصورا ببعض وصفات حتى ترجم العلماء العباسيون كتب أبقراط وجالينوس، فأصبح للطب مصدران أكثر العالم استعمالهما وأضافوا إليهما كثيرا من معلوماتهم.
أشهر الأطباء: آل بختيشوع، نصارى نساطرة، نبغوا في الطب وخدموا الخلفاء العباسيين 300 سنة.
جرجس بن بختيشوع: وبختيشوع بن جرجس طبيب الرشيد. أما أشهرهم فجبريل بن بختيشوع.
ومن مشهوري أطباء النصارى المقربين: يوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق.
فحنين هذا ترجم كتبا فلسفية وطبية، وكان تأثيره أقوى في مجرى الفلسفة.
الكيمياء:
منبع التفتيش عن حجر الفلاسفة «معنى ذلك، الحجر الذي يحول المعدن ذهبا». أول من اهتم بهذا، الأمير خالد بن يزيد بن معاوية الأموي. وأشهر علماء هذا العصر جابر بن حيان. (1)
جابر بن حيان:
عاش في الكوفة صابئيا. أما الكتب المنسوبة إليه عند الغربيين في القرون الوسطى فأكثر من 200 كتاب، المعروف منها 21 في مكاتب أوروبا، أكثرها قد ترجم إلى اللاتينية والألمانية وطبع في مدن عديدة. نشر منها برتلو الكيماوي المشهور، خمسة كتب مع ترجمتها للإفرنسية.
آراؤه: الجمادات كالحيوانات، تولد ثم تنمو وتكبر وتموت. في الأجسام مواد خفيفة وثقيلة طيارة، الأولى مائية والثانية حية، وكل هذه الصفات نسبية.
فالكبريت والزرنيخ حيان بالنسبة للطلق، ميتان بالنسبة للزئبق. وفي كل التحام كيماوي جسم وروح.
غاية الكيماوي أن يجد روحا حيا، وإكسيرا قادرا على تحويل الأجسام، وهذا الإكسير هو حجر الفلاسفة، وهذا الحجر ينتج عن كائن حي. وهنا يختلف الكيماويون في حقيقته، فالبعض يقولون دم أو شعر أو بيض أو مفرزات. فإذا وجد هذا الحجر وسحق وجبل بالماء مع بعض العقاقير يتحول إلى إكسير.
الأجسام الأولية سبعة: الزئبق، الذهب، الفضة، النحاس، الحديد ، الرصاص، الطلق.
وهي تختلف كمالا، فالذهب أكملها. فعلى الكيماوي أن يربي الباقية، ويقودها إلى الكمال شيئا فشيئا.
اختلف العرب في إمكان الوصول إلى هذه النتيجة، فالرازي يعتقد بصحتها، والكندي وابن سينا ينكران.
قيمته: الرأي الشائع أن كل المشتغلين في الكيمياء منذ القدم إلى اليوم يمخرقون ويشعوذون.
أما علماء عصرنا فرأوا بعد الاختبارات أن مبادئ القدماء لم تكن كلها فاسدة، وإن كانت أعمالهم قريبة من المحال. فنرى مثلا تحويل المعادن الذي ذكره جابر منذ أكثر من ألف سنة يشتغل به كيماويو القرن العشرين، وقد توصل بعضهم إلى شيء منه. ويعتقد أن أصل المعادن الأورجانوس، وأنه بفضل ما توصل إليه من العلوم الكهربائية عن الذريرات الدقيقة التي تتركب منها المعادن، وكيفية التحامها ببعضها، قد يكون لآراء جابر قيمة تذكر.
فالاختبارات التي أجراها هذا العالم بخصوص المغناطيس وقيمته، والتمغنط به، وفقدان القوة المغناطيسية، مما كان يعد جديدا في ذلك الزمان، فهو محدد المغناطيس. (حجر يجذب الحديد بقوة روحية لا تلمس ولا ترى. وقد يعرض لهذا الحجر ما يفقده تلك القوة دون أن ينقصه شيء من وزنه.)
ونسب إليه علماء الغرب اكتشاف الماء الملوكي، وهو مزيج من حامض الأكلور والحامض النتروني.
ونسبوا إليه الحامض الكبريتي والنتروني ونترات الفضة. وعلى كل، فقد فتح جابر بابا واسعا لكيماويي العرب وغيرهم من بعده.
الرياضيات:
الحساب والجبر - أصل الأرقام. ينسب الغربيون أصل الأرقام للعرب، والعرب ينسبونه للهنود ويدعونها الأرقام الهندية. (1)
الخوارزمي:
هو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي، لا نعرف من حياته إلا أنه كان في بغداد على عهد المأمون.
آثاره: له في الحساب كتاب طلبه المأمون فاختصره عن كتاب الحساب الهندي المعروف بسند هند.
ألف كتابا خاصا بالحساب ترجم إلى اللاتينية، وله أيضا كتاب في الجبر.
قيمته: للخوارزمي قيمة ثمينة؛ لأنه أخرج الجبر والهندسة من الغشاوة القديمة التي تغطي العلوم الهندسية القديمة، وألبسها الصراحة العربية، كما يقول المستشرق كرالوفا. ومما أتحف به الخوارزمي علم الرياضيات، بعض قواعد وطرق اكتشفها وحسنها؛ منها قاعدة الخطأين، ومنها الطريقة الهندسية لحل المربعات المجهولة، وهي اليوم تسمى بالمعادلة من الدرجة الثانية.
الهندسة:
يونانية الأصل، أول من كتب فيها الحجاج الحسين من نقلة الرشيد، فترجم أصول إقليدس، ثم صلحها على عهد المأمون. طبعت هذه الترجمة في لندن. أما مهندسو العرب المشهورون فسيأتي ذكرهم.
الفلك والنجامة:
ترجم كتاب بطليموس الحسين المذكور، وكان أول عالم في هذا الفن إبراهيم بن حبيب الفزاري، ألف جداول حساب العرب وصنع أسطرلابا. وخلفه ابن محمد فدرس طريقة النجامة الهندية.
ومن علماء هذا الفن يعقوب بن طارق، كان يعاصر هؤلاء، وهو مذكور بين المهندسين الذين خططوا بغداد.
الفيزياء:
استفاد العرب في أول عهد العباسيين أشياء من علم الحيل أثناء نقلهم عن اليونان. ولم يشتهر هذا العلم مع علمي الهندسة والنجامة إلا عندما نبغ أبناء موسى وأبناء شاكر وقسطا بن لوقا والفيلسوف الكندي، وسيأتي الكلام عنهم. (3-6) الأدب في العصر الأول
الرواة:
الأديب عند العرب هو العارف ببعض العلوم أو بها كلها.
وعلومهم: النحو واللغة والتصريف والعروض وأخبار العرب وأنسابهم.
وقالوا: الأديب، هو كل من يلم بأحسن كل علم، أما العالم فهو من يتقن فنا من العلم.
وعلى كل، المراد بالأدب جمع أقوال العرب وأشعارهم وأمثالهم وأخبارهم، مع نقد ونظر في صحتها، للاستعانة بها على تفسير القرآن وضبط ألفاظه وتفهم أساليبه، أخذا بقول ابن العباس: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله لم تعرفوه، فاطلبوه من أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوانهم.
ظهر هذا الفن في الدولة الأموية، لحاجة الفقهاء لمعرفة عادات العرب القديمة وأقوالهم وطرق تعبيرهم، ليتمكنوا من فهم القرآن وشرحه، فاختص رجال عديدون بدرس الشعر القديم مع حفظه، ودرس الأمثال وأخبار العرب وغير ذلك. وعلى هذه الطريقة أخذ الأدب العربي ينمو رويدا رويدا، فما توطدت أركان الدولة العباسية حتى نضج هذا العلم وألفت فيه الكتب. على أنه لا يسع الباحث إلا أن يتساءل: هل هؤلاء الرواة صادقون فيما قالوا؟ وهل نقلوا رواياتهم عن رجال ثقة؟
الجواب:
كثيرون من الرواة شك الأقدمون في صدقهم، ومنهم حماد وابن الكلبي وخلف الأحمر.
غير أن المحققين من رواة العصر العباسي الثاني ؛ مثل أبي الفرج الأصبهاني وابن عبد ربه وابن قتيبة وأبي القايم البصري، اشتهروا بنقد هذه الروايات وتبين مواضع الضعف منها، وقد نجحوا في أكثر أعمالهم. ويمكننا القول إن أكثر الأقوال عن شعر العرب مقبولة صحته، ما لم يظهر لنا برهان واضح مقنع على إنكاره.
أما أشهر أدباء أو رواة هذا العصر فهم:
أبو عبيدة
حياته:
هو معمر بن المثنى، يهودي الأصل، ولد بالبصرة ونشأ على بغض العرب. كان شعوبيا خارجيا، مرهوب الجانب، خبيث اللسان، ألثغ، يلحن عمدا إذا قرأ أو تحدث، وإذا أنشد الشعر لم يقم وزنه. ومن قوله: النحو شؤم كله.
كان قذر الثياب. درس على أبي عمرو بن العلاء، ودرس أبا نواس. استقدمه الوزير ابن الفضل إلى بغداد، فكان يؤلف ويجيد، غير أنه جرح العرب أجمع بكتابه «المثالب»، فكثر أعداؤه، وسم بموز فمات، ولم يسر بجنازته أحد لكرههم له. وكان بينه وبين الأصمعي مساماة ومفاخرة.
آثاره:
مؤلفاته بلغت المائتين في النحو واللغة وأخبار العرب وأيامها، لم يبق منها إلا القليل؛ ككتاب نقائض الفرزدق وجرير. طبع في لندن بثلاثة مجلدات سنة 1905.
قيمته:
عليم خبير بالأنساب والأخبار، يروي شعرا كثيرا، أجمع الكثيرون على أنه مخلص أمين فيما كان يذكره، ولا سيما فيما يتعلق بمفاخر العرب. له الفضل بفتح الطريق لكثير من جامعي أخبار العرب؛ كصاحب الأغاني الذي استفاد كثيرا من كتابه أيام العرب.
ركيك العبارة، بخلاف الأصمعي الذي قل عنه علما، وكان يفوقه تعبيرا، ولهذا قال أبو نواس: الأصمعي بلبل في قفص، وأبو عبيدة جلد قديم طوي على علم.
الأصمعي
حياته:
الأصمعي هو عبد الملك بن قريب الباهلي، ولد بالبصرة، ودرس على أبي عمرو بن العلاء، وتعلم نقد الشعر عن خلف. استدعاه هارون الرشيد وألحقه بمجلسه. كان شديد التدين حتى تجاوز الحد. رجع في شيخوخته للبصرة ومات فيها. اشتهر بقوة ذاكرته حتى قيل إنه حفظ 16000 أرجوزة.
آثاره:
ذكر ابن النديم أربعين كتابا، نعرف منها الأصمعيات، مجموعة شعرية، ورجز العجاج، وهو كتاب له في اللغة ، فيه أسماء الوحوش. وكتاب الإبل، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الخيل، وكتاب الشاء، وكتاب الدارات، وكتاب النبات والشجر.
قيمته:
حاز شهرة بعيدة في حياته ومماته، فأصبح اسمه مرادفا للفظة عالم وأديب ومطلع. ولهذه الشهرة سبب؛ وهو كثرة اشتغاله بدرس محال العرب كما في كتاب الدارات، وأصل مفردات اللغة ومعانيها، وأسماء أعضاء الحيوانات والنبات وغير ذلك. وقد انتصر على خصمه أبي عبيدة بحادثة الفرس المشهورة.
محمد بن سلام
اسمه أبو عبد الله بن سلام الجمحي. كان عالما بالشعر والأخبار. ذكر له ابن النديم كتابا في بيوتات العرب وآخر في مدح الأشعار.
أشهر تآليفه:
طبقات الشعراء، طبع في لندن. بدأ فيه بنقد الشعر وطرق روايته وتاريخه والمنحول منه، ثم قسم الشعراء طبقتين: جاهليين وإسلاميين، وكل طائفة عشر طبقات، في كل طبقة أربعة شعراء، وألحق بشعراء الجاهليين طبقة لأصحاب المراثي، ثم ألحق بهم شعراء القرى وهي: المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين.
قيمته:
مع محمد بن سلام يبدأ دور تمحيص الشعر. كان الأدباء قبله يروون الشعر عن غيرهم، أما هو فابتدأ بنقد الرواة، وأخذ يقابل بين الروايات ويفاضل بين الشعراء، وتبعه الأدباء بعده في ذلك. ولكتابه قيمة تذكر وشأن كبير، ذكره الكثيرون واستشهدوا به، وكان أول من قسم الشعراء إلى طبقات.
غير أن انتقاده يكاد ينحصر بإيراد أحاديث وأحكام من تقدمه. ثم لا يخفى أن تقسيمه هذا ووضعه أربعة شعراء في كل طبقة لمما يؤيد الانتقاد.
أبو زيد القرشي
حياته:
محمد بن الخطاب، بصري، اشتهر بالنحو ودعاه سيبويه «بالثقة». صار من مشاهير الرواة في النوادر واللغة.
آثاره:
جمهرة العرب: جمع فيه 49 قصيدة، قسمها إلى سبع طبقات، كل طبقة 7 قصائد. صدره بمقدمة انتقادية في الشعر واللغة، وأقوال الشعراء، واختلاف الناس في قيمته، والمفاضلة بينهم، وصفاتهم وبعض أخبارهم.
قيمته:
كان لهذا الكتاب تأثير لما فيه من نقد الشعراء، والمقابلة بين لغته وبين لغة القرآن وأقوال الأدباء في الشعر والشعراء. غير أننا نرى فيه ما في كتاب ابن سلام من عدم الشخصية؛ أي لا آراء خاصة.
نقل أحكام الأدباء دون أن يرتبها، ولم يردها إلى أحكام عامة ومبادئ نقدية ليستخلص منها حكما خاصا به، كما هو شأن نقاد اليوم.
وعلى كل، فهو قد خطا خطوة وإن قصيرة، ككل شيء في أول نشأته. (4) العصر العباسي الثاني
العهد التركي:
يبدأ العصر التركي العباسي بخلافة المتوكل، وينتهي بدخول الديلم وتأليفهم الدولة البويهية.
نفوذ الأتراك:
امتاز هذا العصر بنفوذ الأتراك فيه وتسلطهم على الخلفاء. أدخلهم المعتصم؛ لأن أمه تركية، ليقاوم بهم نفوذ الفرس. وعززهم المتوكل لكرهه الشيعة والفرس، «أمر بهدم قبر علي بن الحسين كرها.»
لقد بلغ من أمر الأتراك أن استبدوا بالخلفاء، فكانوا يقتلونهم وينصبون من شاءوا منهم؛ «فالمتوكل قتله غلام تركي.» وعلى عهد ابن المعتصم والمعتز بن المتوكل استفحل أمرهم واستبدادهم.
فلما تولى المعتز أحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش الخليفة. فقال من كان بالمجلس: مهما أراد الأتراك. وهكذا كان، فإنهم قتلوا المعتز شر قتلة، وسملوا عيني المستكفي، وصار القاهر فقيرا فحبسوه، فكان يلتف بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب.
وأخيرا صار الخليفة آلة بيد الأتراك يحلف يمين الطاعة لهم.
نفوذ الخدم:
ثم جاء نفوذ الخدم في هذا العصر، ففيهم كان يحتمي الخلفاء من الأتراك. وقد كان للمقتدر من الخدم 11 ألفا.
وفي هذا العصر انتشرت الرشوة والفساد، فأصبح كل حاكم يهمه أن يحتفظ لنفسه بما يستطيع الوصول إليه من المال، وكثر الاغتيال، فالخليفة يخاف على نفسه من جنده وحشمه، والحاكم يخاف على نفسه من الخليفة، والوزير يخاف على نفسه من الجميع. وكان كل هؤلاء معرضين لتصفية الأموال وحجز الممتلكات. وقد تقيدت الأفكار بداعي الاستبداد والقتل.
مميزات هذا العصر الأدبية (1)
أثر الفساد السياسي في الآداب، ولا سيما ما كان فيها نفسيا؛ كالشعر والإنشاء، وقيدت الأفكار، وقل النابغون. وكان للعلوم السبق على الآثار النفسية. (2)
ظهر انقلاب في ألفاظ اللغة، فتوسعت معاني بعضها حتى خرجت عما وضعت له في الأصل. (3)
استقر الخط العربي على ما وصل إلينا. وكان أول من وضع هذه القاعدة ابن مقلة سنة 283. مات في السجن بعد أن صودرت أمواله وقطعت يده ثم لسانه. (4-1) الشعر
مميزات الشعر (1)
توسع الشعراء في البديع والزخرفة، وكان قد ابتدأ بذلك بشار وأبو تمام، فأتمه في هذا العصر البحتري، وزاد عليه ابن المعتز. (2)
كان شعراء العصر الأول قد ابتدءوا مع أبي نواس بوصف مجالس الأنس والزهريات، فتوسع نظامها في هذا العصر، ولطفت تشابيهها مع ابن المعتز. (3)
أخذت العلوم الفلسفية تؤثر بالشعر، فظهر التلميح إليها في هذا العصر، على أنها لم تزدهر إلا في العصر الثالث أيام المتنبي ثم المعري. (4)
إن التضييق على الحرية، وعدم التبسط في الأغراض السياسية، وضعف شوكة الأحزاب المختلفة، أثرت في الآداب النفسية، فقل عدد الشعراء ولم يشتهر منهم إلا أصحاب الشاعرية القوية. (5)
كان من نتيجة ذلك أنهم بدءوا يتذمرون ويتشكون من ذهاب من يعرفون قدر الشعر، على حد قول ابن الرومي:
ذهب الذين تهزهم مداحهم
هز الكلمة عوالي المران (6)
نبغت طبقة من الكتاب الذين انتقدوا الشعر وروايته، فكانوا في العصر السابق ينظرون فيه بلا تمحيص، فصاروا بهذا العصر يتدبرون معانيه وأساليبه بعين النقد، حتى أخذ هذا الفن يستقل عن بقية الفنون.
ابن الرومي
أصله:
من اسمه تعرف أنه رومي الأصل غير عربي، وهو من السوقة. غالى الذين ترجموا له ودرسوه فنسبوا إلى أصله أشياء كثيرة رأوها في شعره.
خاصياته (1)
طول قصائده، وهذا دليل على كثرة أفكاره. (2)
هجوه مر بذيء أحيانا، يخرجه بشكل صورة هزلية. (3)
خلاق للمعاني النادرة، يأخذ الأفكار المبتذلة فيأتي بصور ووجوه جديدة لم يسبقه إليها شاعر. (4)
تهافته على المعاني جعل شعره غير منقى. (5)
مبتدع لا متبع. (6)
أطول الشعراء نفسا. (7)
مضطرب المزاج حاد الشعور. (8)
قصيدته ليست ذات موضوعات متعددة كغيره من الشعراء.
شراهته:
تظهر شراهته وحبه للطعام من نظمه في الطعام والشراب على مختلف أنواعه.
تطيره:
كان كثير التطير، يحبس نفسه أياما في بيته بلا طعام ولا شراب، إذا تشاءم.
هجاؤه:
كان هجاء لا يخاف أحدا. وقد قتل بسبب هجائه كما حصل لغيره من شعراء عديدين.
أجاد العتاب والهجاء؛ لأنه تأثر بمعاملة أهل عصره له، وإعراضهم عنه، حتى كان يجوع ويعرى أحيانا، وقد طلب الكسوة والرغيف، كما نقرأ في شعره.
خموله:
من أسباب خموله تطويله القصائد إلى حد يمل، وقلة حيلته، وهجوه الأمراء، وبعده عن الناس لتطيره، وأسلوبه الذي لم يألفوه.
عبقريته:
كان يختلف عن شعراء العرب بفكره وأدبه، ولعل لأصله الرومي يدا في ذلك.
نظره للطبيعة:
كان يعشقها كأنها من لحم ودم، وهذا ظاهر في شعره. ينظر إليها نظرة طبيعية كأنها أنثى حقا. وهذا بعض ما قاله فيها:
فهي في زينة البغي ولكن
هي في عفة الحصان الرزان
وقوله:
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر
الألوان:
كان محبا للألوان، يكثر من ذكرها.
حظه:
ولد في خلافة المعتصم، وأدرك الواثق والمتوكل والمنتصر والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد، فلم يؤاسه أحد منهم ولا وهبوه شيئا، فكان فقيرا. يسمعون قوله في وصف مأكولاتهم ولا يجودون عليه بفضلاتهم، بل كانت توصد الأبواب دونه.
خصاصته:
يدل عليها طلبه الثياب ليتقي البرد، ومنها قوله لأبي جعفر النوبختي:
جعلت فداك لم أسأل
ك ذاك الثوب للكفن
سألتكه لألبسه
وروحي بعد في البدن
ضعفه:
اغتصبت داره أنثى، فقال يخاطب الوزير عبد الله بن سليمان:
تهضمني أنثى وتغصب جهرة
عقاري، وفي هاتيك أعجب معجب
فلا تسلمني للأعادي وقولهم
ألا من رأى صقرا فريسة أرنب
أصله:
لم يكن هذا الشاعر يتبرأ من أصله كغيره من الشعراء المولدين، بل يشير إلى أنه مولى بني العباس بقوله:
أنا منهم بقضاء من ختمت
رسل الإله به وهم أهلي
مولاهم وغذي نعمتهم
والروم حين تنصني أصلي
لم يكن كأبي نواس تارة نزاريا وطورا يمنيا، وأحيانا عجميا. وقد هجا إسماعيل بن بلبل لانتسابه إلى شيبان زورا، حيث قال فيه:
تشيبن حين هم بأن يشيبا
لقد غلط الفتى غلطا عجيبا
شخصيته:
ساخط على الحياة، ناقم على العصر وأبنائه، نفسه متألمة جدا من فقره، قال:
شرط خولوا عقائل بيضا
لا بأحسابهم بل الأنساب
فإذا ما تعجب الناس قالوا
هل يصيد الظباء غير الكلاب
لم أكن دون مالكي هذه الأم
لاك لو أنصف الزمان المحابي
شكله:
قد وصفه لنا في هذا البيت:
أنا من خف واستدق فما
يثقل أرضا ولا يسد فضاء
إن لي مشية أغربل فيها ... ... ... ...
ومع هذا فقد شاخ قبل الأوان.
سخره:
قد كان على حظ كبير من السخر والاستخفاف، قال:
أطلق الجرذان في الليل
وصح هل من مبارز
وقوله في بخيل:
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
هجوه: قال يهجو طبيبا:
أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه
وبكحله الأحياء والبصراء
فإذا مررت رأيت من عميانه
أمما على أمواته قراء
أسباب هجائه (1)
سب الناس شعره وانتقادهم له. (2)
قيام الكتاب والحجاب في سبيل رزقه ومنعهم إياه من الوصول إلى من يرجو عطاءه. (3)
رد الناس مدحه وحرمانه العطاء كما يتضح لنا من هذه الأبيات:
رددت إلي مدحي بعد مطل
وقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت امدح به من شئت غيري
ومن ذا يقبل المدح الرديدا
ولا سيما وقد أعقبت فيه
مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعدما امتلأت صديدا
عتابه:
كان يحاول أولا الاستمالة باللطف، ثم بالتذلل، ثم تذكيرهم بواجب الصداقة، والمحافظة عليها لأنها نادرة الوجود، كقوله:
ثم يخفى عليك أني صديق
ربما عز مثله في الغلاء
وهناك أصدقاء يتكبرون عليه يعاتبهم بشدة وقسوة عظيمين، ويتهددهم بهجائه المر المقذع، وهذا عتابه للقاسم:
لاقيتني ساعة لاقيتني
أثقل خلق الله أجفانا
كأنما كنت تضمنت لي
رد شبابي كالذي كانا
أو كل ما لم يستطع فعله
عيسى ولا موسى بن عمرانا
أنت حلول حائل عهده
تصبغك الساعات ألوانا
هو وابن المعتز:
قيل له: لماذا لا تشبه مثل ابن المعتز؟ فقال: أنشدوني ما استعجزتموني عنه.
فأنشدوه قول ابن المعتز في الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر
فصاح: وا غوثاه! هو ابن خليفة يصف ما في بيته وأنا أي شيء أصف؟! وأنشدهم قوله في وصف قوس قزح:
وقد نشرت أيدي الجنوب غمائما
من الجو دكنا والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأخضر
على أحمر في أصفر إثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل
مصبغة والبعض أقصر من بعض
وله في وصف قالي الزلابية وخباز الرقاق، شعر نفيس.
وله في هجو الورد بيتان مشهوران يدلان على دقة تصوير ولكن بلا ذوق.
خلاصة:
أطول الشعراء نفسا، طبعه حاد، كثير الإنتاج، حاد الشعور حتى الهوج. مشوش المزاج إلى حد التطير. شعره سلس، سهل الألفاظ حتى الركاكة. بارع في عتابه، لسانه مر في هجائه. هجاء في معرض الرثاء. قصيدته ذات موضوع واحد، لا تنقل فيها.
ادعى أنه عباسي كما مر بك، وفي إحدى قصائده برهن على أنه متشيع ومتعصب لهم. ولو حظي بمن ينقي له شعره، لكان له أروع ديوان.
البحتري
نسبه:
هو الوليد بن عبد الله، وينتهي بطيء بن أدد بن يعرب بن قحطان.
كنيته:
أبو عبادة، ولقبه البحتري.
منزلته:
شاعر فصيح، حسن المذهب، نقي الكلام، مطبوع، حسن التصرف في جميع أنواع الشعر إلا الهجاء.
هجاؤه:
عندما دنت وفاته أمر ابنه بحرق كل ما قاله في الهجاء.
تشبيهه:
كان يتشبه بأبي تمام وينحو نحوه في البديع، ويتخذه إماما. وقد قال عن نفسه إنه تابع له.
أبو تمام:
ساعد البحتري لما رآه بحمص، فكتب لأهل المعرة يوصيهم به خيرا فوظفوا له بأربعة آلاف درهم، فكان أول مال أصابه. وهذا كتاب أبي تمام لأهل المعرة:
يصل كتابي هذا على يد الوليد بن عبادة الطائي، وهو على بذاذته شاعر فأكرموه.
قذارته:
كان من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة.
بخله:
كان أبخل الناس على كل شيء، وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا، فإذا بلغ جوعهما أشده، جاءا بكيين فيرمي إليهما بثمن قوتهما مضيقا مقترا ويقول: «كلا، أجاع الله أكبادكما وأطال إجهادكما.»
من أمثلة بخله:
قال أبو مسلم الأصفهاني: دخلت على البحتري فاحتبسني عنده، ودعا بطعام ودعاني إليه فامتنعت من أكله، وكان عنده شيخ شآم لا أعرفه، فدعاه إلى الطعام، فتقدم وأكل معه أكلا عنيفا، فغاظه ذلك فالتفت إلي وقال: أتعرف هذا الشيخ؟ هذا شيخ من بني الهجيم الذين يقولون فيهم:
وبني الهجيم قبيلة ملعونة
حص اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربة
بمعان أصبح جمعهم بمعان
فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك.
ارتجاله:
مرت صبية بالمتوكل بديعة جدا ومعها كوز ماء، «اسمها برهان»، فسألوها لمن هذا الماء؟ فقالت: لستي. فقال المتوكل: صبيه في حلقي. فشربه وقال للبحتري: قل في هذا شيئا. فقال:
ما شربة من رحيق كأسها ذهب
جاءت بها الحور من جنات رضوان
يوما بأطيب من ماء بلا عطش
شربته عبثا من كف برهان
الإنشاد:
أنشد البحتري المتوكل قصيدة، أولها:
عن أي ثغر تبتسم
وبأي طرف تحتكم
قل للخليفة جعفر ال
متوكل بن المعتصم
أسلم لدين محمد
فإذا سلمت له سلم
وكان البحتري من أكره الناس إنشادا، يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا ومرة القهقرى، ويهز رأسه ومنكبيه، ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت قائلا: أحسنت والله، لماذا لا تقولون لي أحسنت؟
فضجر المتوكل من هذه الحالة، فقال للصيمري الذي كان حاضرا: أما تسمع؟ بحياتي تهجوه. فقال الصيمري:
في أي سلح ترتطم
وبأي كف تلتقم؟
والقصيدة طويلة يختمها بقوله: وعلمت أنك تنهزم.
ففر البحتري من الديوان، وضحك المتوكل كثيرا وأمر للصيمري بالجائزة المعدة للبحتري.
امتيازه:
يمتاز في المدح. له مقدرة على تصوير أخلاق الممدوح. أبدع في وصف القصور البديعة وما فيها من مشاهد كالبرك وغيرها، واشتهر بوصف بركة المتوكل وقصر المعتز بالله.
وأشهر قصائده في الوصف، وصف الإيوان بقصيدته السينية.
كتبه:
ديوانه: جمعه أبو بكر الصولي على الحروف.
حماسته:
له ديوان حماسة. وحماسته كحماسة أبي تمام، إلا أنها أكثر أبوابا، تخلو مما تنبو السماع عنه. وله أيضا كتاب معاني الشعر.
مدحه:
من قصائده المشهورة، تهنئة بعيد الفطر رائية القافية.
ومن قوله في الوصف:
ذعر الحمام وقد ترنم فوقه
من منظر خطر المزلة هائل
وقال في الطيف:
إذا ما الكرى أبدى إلي خياله
شفى قربه التبريح أو نقع الصدى
إذا انتزعته من يدي انتباهة
حسبت حبيبا راح مني أو غدا
ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا
نعذب أيقاظا وننعم هجدا
من حكمه:
أقوى العواقب يأس قبله أمل
وأعضل الداء نكس بعد إبلال
والمرء طاعة أيام تنقله
تنقل الظل من حال إلى حال
شعره:
يجيد سبك الألفاظ أكثر من المعنى. معانيه من وحي الخيال، لا من العلم والمنطق كالمتنبي وأبي تمام، فأعاد بذلك للشعر ما فقده من روعة وبهجة ديباجة. شعره عذب جزل فصيح. امتاز بذلك على أبي تمام أستاذه، ونهج طريقته هذه معاصروه ومن جاءوا بعده، فعرف بأسلوبه هذا الذي دعي بالطريقة الشامية.
خلاصة:
جرب أولا أن يتعرض للشعر السياسي فلم ينجح به لفوات الأوان، فسلك مسلك أبي تمام، ولكنه توسط بعض الشيء، فمال إلى الناحية العربية الخالصة، فقلل من البديع ودقق في المعاني.
وصاف ماهر، يميل إلى وصف الحضارة المادية أكثر من ميله إلى وصف المعاني.
مصور ماهر للعواطف الإنسانية، يرثي فيبكي، ويستعطف فيستميل، ويبلغ ذلك بلا عناء. خفيف الروح إذا تغزل، موفق إذا مدح، شعره رنان حتى قالوا فيه: أراد أن يشعر فغنى. وقال هو: من الوفاء إجادة الرثاء.
ومع كل ما تقدم من جمال الوصف، كان مغرورا بنفسه معجبا بها، ثقيل الظل، مبغوضا. في شعره غث ساقط، إلا أن القسم الأكبر منه على جانب عظيم من الطلاوة والدقة، أو براعة التصرف في المعاني والألفاظ، ينتقل بفكره إلى آخر منطقة.
ابن المعتز
اسمه:
عبد الله بن المعتز بن المتوكل.
لقبه:
المرتضي بالله.
خلافته:
كانت يوما وليلة، ولذلك لم يعد من الخلفاء.
أوصى المكتفي بالله لابن أخيه جعفر بن المعتضد، ولقبه المقتدر بالله، وكان عمره 13 سنة، فساد الخدم والنساء واستولوا على الأمور، فصعب ذلك على القضاة والقواد فأوصوا الوزير العباس بن حسن في خلعه ومبايعة ابن المعتز، فقتلوا الوزير وخلعوا المقتدر سنة 296.
بايعوه بالخلافة مرغما، وطلبوا من المقتدر أن يخلي دار الخلافة لينتقل إليها ابن المعتز، فأطاع واستمهلهم للغد، وفي تلك الليلة فر إلى الموصل ولم يبق في الدار إلا خادمه مؤنس، وخازنه موسى، فبلغ ذلك ابن المعتز، فسار ومعه وزيره محمد بن داود وظن أن الجند يتبعه فخذل، واختفى مع وزيره خوفا من الغوغاء التي انتشرت في بغداد ثلاثة أيام.
مقتله:
فلما رأى المقتدر ضعف خصمه، عاد إلى بغداد في العسكر وقبض على خصومه فقتلهم، أما ابن المعتز فاختفى عند ابن الجصاص، فعرف مكمنه وقبض عليه، وقتل خنقا، ولف في كيس وسلم لأهله هكذا.
صفاته:
حسن الأخلاق، واسع الاطلاع على زبدة العلوم وفنون الأدب، كثير المطالعة، مولع بالشطرنج، حسن المذاكرة، شريف الهيئة، يحب الطيب والتضمخ به، جذل طروب، جواد على أهل الأدب بماله، كان لا يخرج من عنده أديب أو نديم إلا بصلة وطيب، وكان يشرب معتمدا على عفو الله:
وأشربها وأزعمها حرام
وأرجو عفو رب ذي امتنان
البديع:
مغرم به لدرجة قصوى، وخصوصا في الاستعارة والتشبيه، وهو أول من ألف في البديع، جمع منه 17 بابا ثم عقبه قدامة فزاد 13 بابا، وجاء بعدهم كثيرون فزادوا عليه حتى بلغ ما بلغ.
البلاغة:
حددها بقوله: هي البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام.
في نديم:
قال في نديم جدر ولم يؤثر به الجدري:
لي قمر جدر لما استوى
فزاده حسنا فزادت همومي
أظنه غنى لشمس الضحى
فنقطته طربا بالنجوم
النميري:
صلى النميري صلاة خفيفة وسجد سجدة طويلة جدا فقال فيه:
صلاتك بين الورى نقرة
كما اختلس الجرعة الوالغ
وتسجد من بعدها حسرة
كما ختم المزود الفارغ
عطفه:
قال في مغنية محسنة ولكنها قبيحة:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
وصفه:
كان مولعا في الوصف إلى حد بعيد يتقنه جدا، وأكثر شعره قوامه الوصف الدقيق في أشياء كثيرة، وخصوصا مجالس الأنس وما إليها.
القمر:
هجا القمر، مخالفا بذلك شعراء الزمان فقال:
يا سارق الأنوار من شمس الضحى
يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي
أما ضياء الشمس فيك فناقص
وأرى حرارة نارها لم تنقص
لم يظفر التشبيه منك بطائل
متسلخ بهقا كلون الأبرص
الخلافة:
الأبيات التالية تدل أصدق دلالة على ابن المعتز وميوله:
قليل هموم القلب إلا للذة
ينعم نفسا أذنت بالتنقل
فإن تطلبه تقتنصه بحانة
وإلا ببستان وظل مظلل
ولست تراه سائلا عن خليفة
ولا قائلا من يعزلون ومن يلي
ولا صائحا كالعير في يوم لذة
يناظر في تفضيل عثمان أو علي
سخطه:
كن جاهلا أو فتجاهل تفز
للجهل من ذا الدهر جاه عريض
والعقل محروم يرى ما يرى
كما ترى الوارث عين المريض
من رائع شعره:
قوله:
عجبا للزمان في حالتيه
وبلاء وقعت منه إليه
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
وهذا وصفه موكب الصلاة على المعتصم:
قضوا ما قضوا من حقه ثم قدموا
إماما يؤم الخلق بين يديه
وصلوا عليه خاشعين كأنهم
صفوف قيام للسلام عليه
ومن بديع وصفه، وهو يدل على حبه السمر:
وأبكي إذا ما غاب نجم كأنني
فقدت صديقا أو رزئت حميما
فلو شق من طرف الليالي كواكب
شققت له من ناظري نجوما
وقد نسب إليه موشح لطيف جدا أطلبه في موضعه، ولا نستطيع أن نقول عن الأسبقية، أله هي أم لغيره من الأندلسيين.
في غلام:
رشأ يتيه بحسن صورته
عبث الفتور بلحظ مقلته
وكأن عقرب صدغه وقفت
لما دنا من نار وجنته
في الهلال:
انظر إلى حسن هلال بدا
يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة
يحصد من زهر الدجى نرجسا
زهده:
ولقد قضت نفسي مآربها
وقضيت غيا تارة ورشد
ونهار شيب الرأس يوقظ من
قد كان في ليل الشباب رقد
وقال:
أعاذل قد كبرت على العتاب
وقد ضحك المشيب من الشباب
رددت إلى التقى نفسي فقرت
كما رد الحسام إلى القراب
آخر ما نظم:
يا نفس صبرا لعل الخير عقباك
خانتك من بعد طول الأمر دنياك
مرت بنا سحرا طير فقلت لها
طوباك يا ليتني إياك طوباك
ورب آمنة كانت شبيهتها
ورب مطلقة من بين إشراك
أظنه آخر الأيام من عمري
ويوشك اليوم أن يبكي لي الباكي
مذهبه:
يظهر أنه حنفي بدلالة قوله في الخمر المطبوخة وهو معنى بديع:
خليلي قد طاب الشراب المورد
وقد عدت بعد النسك والعود أحمد
فهاتا عقارا في قميص زجاجة
كياقوتة في درة تتوقد
يصوغ عليها الماء شباك فضة
له حلق بيض تحل وتعقد
وقتني من نار الجحيم بحرها
وذلك من إحسانها ليس يجحد
الطرديات:
وله في الطرديات شعر كثير جيد لا محل لذكره هنا.
آثاره:
ديوانه، كتاب البديع، مختصر طبقات الشعراء، أشعار الملوك، كتاب الشراب.
حياته:
ملاه وأنس - حياة ملوك - شعره مرآة حياته.
خلاصة:
رجل عربي قح، ترفع عن بذيء اللفظ ومبتذل المعنى. جميل الأفكار، مختار اللفظ، دقيق التعبير، شعره خال من الزلفى، يحب الفن للفن، ألهى عقله بالشعر كما التهى بالصيد والشراب والزينة. هو في العباسيين كالوليد في الأمويين، والفرق بينهما أن ابن المعتز شاعر الصنعة، والوليد شاعر السليقة، وكل منهما أجاد في ناحيته.
ميزة شعره:
رقة وانسجام، وسهولة لفظ وتعبير، وهذا ناتج عن أخلاقه وتربيته.
لم يمدح إلا نادرا وعن اقتناع بوجوب المدح. معظم شعره في وصف الجنائن ومجالس الخلان، وأندية الطرب وجمال الطبيعة، والصيد والكلاب، والبواشق والبئزان.
أبرع شعراء العرب استعارة وتشبيها ووصفا. فإذا صح قولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، فذلك ينطبق على ابن المعتز في زمانه.
الخلاصة: إن في شعره رقة الملوك، وغزل الظرفاء، وهلهلة المحدثين.
خلاصة عامة:
شعراء هذا العصر يمتازون عن الذين تقدموهم بأنهم جمعوا بين الغزل والعلم، فكانوا شعراء ومؤلفين، إلا ابن الرومي فإنه كان شاعرا فقط. (4-2) النثر
الإنشاء:
إمام الإنشاء في العصر العباسي الأول ابن المقفع، أطال الجملة وصرفها عن إيجاز الراشدين إلى تنميق عبد الحميد، واشتهر أسلوبه في إنشاء كليلة ودمنة، وهو أسلوب الكتاب؛ أي الإنشاء المرسل، بلا تسجيع ولا تقطيع، فتبعه الكثيرون. حتى ظهر الجاحظ في هذا العصر، فقصر الأسلوب القديم وجعل الجملة قطعا صغيرة، وأدخل في الدعاء الجمل الاعتراضية، فتبعه كثيرون حتى أطالوها فأضحت غامضة.
كانت الأفكار في صدر الإسلام وما قبله، جامعة مختصرة عامة غير مفصلة، فجاء التعبير موجزا بليغا، فلما توسع الفكر وفصلت معانيه طال الإنشاء واتسع، فابتدأ هذا الأسلوب بعبد الحميد، ثم جاء ابن المقفع فخلا نثره من التسجيع والتقطيع؛ لاتصال المعاني بالأفكار وخروجها من بعضها البعض، فكان الإنشاء المرسل .
ثم جاء الجاحظ، وأدخل أسلوبه المعروف؛ أي عبارات قصيرة كالشعر ولكن دون قافية ووزن. وكان هذا الإنشاء عنوان التفكير المفصل غاية التفصيل، والرجوع إلى الذات.
العلوم اللغوية:
عرفنا فيما تقدم كيف نشأ علم اللغة وتوسع، وذكرنا من مشاهيره الخليل. أما في هذا العصر، فاتسع هذا العلم توسعا كبيرا، وظهرت الكتب المطولة التي مهدت السبيل للمعاجم اللغوية التي نضجت في العصر الثالث، وكان من أشهر اللغويين في هذا العصر: المبرد. (1)
المبرد:
أشهر تآليفه: «الكامل»، وهو كتاب أمالي ولغة ونحو. المبرد يمثل الثقافة العربية في العصور العباسية؛ لأنه لم يعتمد على أدب أجنبي، وهو شديد النزعة إلى العروبة، وخصوصا أبناء قومه الذين أشاد بذكرهم في كتابه هذا، وروى ما له علاقة بأمجادهم. (2)
ابن دريد:
صاحب المقصورة الدريدية. وله كتاب جمهرة العرب، وهو معجم مرتب على حروف الهجاء، وكتاب الاشتقاق، وهو قاموس في أسماء القبائل العربية. (3)
عبد الرحمن الهمذاني:
من تآليفه: الألفاظ الكتابية، وهو كتاب فيه مترادفات، ألفاظ وجمل يستعملها الكتاب.
علم النحو:
فساد ملكة اللسان أدى إلى وضع القواعد، وكان أسبق الناس إلى ذلك الخليل. وسبب فساد اللغة الامتزاج بالأعاجم ومخالطتهم بالسكنى والزواج.
وقد رأيت فيما مضى مذهبي البصريين والكوفيين وغلوهما. أما في هذا العصر فنشأ مذهب بين بين، وهو مذهب البغداديين، أشهر أركانه المازني، وهو أول من دون علم الصرف منفردا عن النحو. (1)
ثعلب أبو العباس:
ألف كتاب الفصيح المعروف باسمه «فصيح ثعلب»، وله أيضا قواعد الشعر وشرح ديوان زعير، وديوان الأعشى، وكتاب الأمالي المعروف باسم: «مجالس ثعلب».
فهؤلاء الكتاب لم ينصرفوا إلى اللغة وحدها، بل كتبوا في الأدب كما رأيت. (4-3) العلوم الدخيلة
النقل:
رأينا في العصر العباسي الأول أن جل هم الخلفاء كان لنقل الكتب العلمية إلى العربية، وظل هذا العمل موضوع الاهتمام في أوائل العصر الثاني، فكان خير تمهيد للتآليف العلمية. أما نقلة هذا العصر فمنهم: (1)
إسحاق بن حنين:
كان طبيبا أيضا. أكثر منقولاته في الفلسفة عن أرسطو، ونقل كتاب إقليدس. (2)
قسطا بن لوقا:
نصراني بعلبكي، أتقن اليونانية والعربية والسريانية، واتصفت ترجماته بإقامة العبارة ورشاقة التعبير. (3)
متى أبو بشر:
ابن يونس، ترجم كتاب أرسطو في الشعر. (4)
يحيى أبو زكريا:
ابن عدي، نصراني من اليعاقبة.
العلوم الطبيعية
أشهر فروع علم الطبيعة التي اشتغل فيها العرب في هذا العصر هي: الطب، الكيمياء، الطبيعيات.
الطب:
اشتهر به أبو بكر الرازي، جالينوس العرب، ويسميه الإفرنج
Rases .
آثاره:
كتاب الحاوي: ملخص الطب، كتاب الجامع، برء الساعة. (1)
الطب المنصوري:
يحتوي على عشرة كتب منها: الجدري والحصبة، وهو ما ألف في هذا الموضوع، وقد بقي زمانا طويلا الكتاب الوحيد من نوعه. طبع في المطبعة الأميركية. وينسب للرازي طريقة استحضار الحامض الكبريتي «زيت الزاج» باستحضار كبريتات الحديد، وينسب إليه اكتشاف الكحول. (2)
سنان بن ثابت:
له عدة رسائل في الطب والهندسة والهيئة والتاريخ، منها كتاب التاجي، قدمه إلى تاج الله عضد الدولة بن بويه.
الكيمياء والتاريخ الطبيعي:
أشهر من يذكر في هذا العلم أبو بكر بن وحشية. أشهر تآليفه كتاب الفلاحة النبطية، كتبه زاعما أنه نقله عن النبطية. والراجح اليوم أنه تأليفه، ولم يترجمه. أدخل فيه بعض مغامز ضد الإسلام، يقصد من ذلك أن يظهر بطريقة فنية ما للكلدان من السبق في المدنية، وما في ديانة البابليين من الميزة على الإسلام.
الهندسة:
للعرب فضل يذكر في علم الهندسة، نقلوا علوم اليونان وأوصلوها إلى أوروبا في القرون الوسطى مع شروحهم عليها وتعاليقهم، وكان من آثارهم المشهورة أصول إقليدس، وكتاب المجيسطي لبطليموس، والكتاب الخامس والرابع من مخروطات فولمبوس. (1)
ثابت بن قرة:
أما المشهورون في الرياضيات فهم: ثابت بن قرة، ترك نحوا من 150 تأليفا في العربية و16 في السريانية، أهمها ترجمة المجيسطي لبطليموس.
شرح كتاب أرسطو، وكتب مقدمة أصول إقليدس، وله رسالة في حل الصعوبات الموجودة في جمهورية أفلاطون.
كان صابئي المذهب، قطع من مجمع قومه لآراء أنكروها عليه، عاش بين منجمي المعتضد مقربا منه، يقبل إليه دون وزرائه وخاصته. وكان أيضا من المبرزين في الطب والفلسفة، ومن النقلة المشهورين. (2)
أبناء موسى شاكر:
محمد وأحمد والحسن . كان أبوهم في حداثته حراميا ثم تاب .
اشتهر أبو جعفر محمد في الهندسة والنجوم، واشتهر أحمد في علم الحيل، واشتهر الحسن في الهندسة وكان وافر المقدرة في الاستنتاج.
فالحسن هذا لم يقرأ في كتاب إقليدس إلا قليلا، أما بقية العلم فاخترعه من عند نفسه. كان له مرصد على جسر بغداد، أكثروا بواسطته الأرصاد والتحقيقات في سير النجوم، وألفوا فيها رسالات عديدة، وكذلك في الموازين والأشكال المخروطة، وقياس الدائرة، وخواص الزوايا.
وقد ترجم كتابه في قياس الأشكال المسطحة إلى اللغة اللاتينية.
مساحة المثلثات:
لم يعرف اليونان علم مساحة المثلثات بالمعنى الذي نعرفه اليوم؛ أي تلك الطريقة التي تحول الأعمال الحسابية إلى مثلثات وحل زواياها. فهذه الطريقة السهلة كان الفضل للعرب في اكتشافها، فكان علم الرياضيات. (1)
البتاني:
أبو عبد الله بن جابر البتاني، نسبة إلى بتان، ناحية من حران. كان أصله صابئيا، اشتغل برصد الكواكب في الرقة على الفرات مدة 48 سنة، وكان مرصده كثير الآلات الفلكية، بعضها من مخترعاته.
آثاره: أشهرها الزيج الصابي، نسبة إلى دينه. والزيج اسم كل كتاب تعرف به أحوال الكواكب وحركاتها، ويؤخذ منه التقويم. وهو قسمان، ذكر فيه خلاصة أرصاده ومراقباته ومعلوماته عن النجوم ومجاريها والفلك وطبقاته. ترجم إلى اللاتينية وطبع مرات. في الجزء الثالث منه يستعين المؤلف بالمثلثات في قياس أبعاد الكواكب.
قيمته: قال ابن العبري: لا يعرف أحد في الإسلام بلغ مبلغه بتصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها. وإننا نتحقق ذلك إذا عرفنا التأثر الذي أحدثته ترجمة كتابه في أوروبا، حتى كان أعظم الفلكيين يعجب به في أواخر القرن الثامن عشر. وكفى البتاني فخرا استبداله أوتاد الدائرة بالجنوب، ووضعه لهذه الطريقة علما اسمه علم المثلثات.
أبو معشر الفلكي:
تعلم علم النجوم بعد بلوغه السابعة والأربعين من عمره، وكان مدمنا للخمرة.
الفلسفة:
اختص العصر العباسي الأول، من حيث الفلسفة، بنقل الكتب، فانتشرت بين المفكرين وطالعوها. فما ظهر العصر العباسي الثاني حتى بدءوا بالتأليف من عندياتهم، فكان من فلاسفة العرب الأولين: الكندي والفارابي. (1)
الكندي:
فيلسوف العرب؛ لأنه عربي الأصل ، وهو أمر يستحق الذكر؛ لأن أكثر الفلاسفة الذين كتبوا في العربية كانوا من شعوب غير عربية.
ذكر له مؤلفات بلغ بها بعضهم المائتين، ولم يصلنا منها إلا بعض مقاطع في العلوم مع أربع رسائل فلسفية بترجمتها للاتينية، واحدة منها في العقل والمعقول، وأخرى في العناصر الخمسة: المادة والهيئة والحركة والزمان والمكان. (2)
الفارابي: «المعلم الثاني» - الأول أرسطو - تركي الأصل، أتى بغداد وتعلم العربية، ثم جاء الشام، قصد سيف الدولة بحلب وصحبه حتى مات.
آثاره:
في جميع العلوم المعروفة في عصره، أشهرها: كتاب المدينة الفاضلة، السياسة المدنية، إحصاء العلوم.
الجغرافيا والتاريخ:
هي من العلوم الدخيلة عند العرب. قبل الإسلام، كان العرب يعرفون مساكن الجزيرة ومحلاتها، مهتدين بالكواكب بسبب النجعة والقوافل. فهذه معلوماتهم قبل الإسلام. أما بعده، فشعروا بالحاجة إليها، وقد فرض على الجميع الحج، فلزمهم معرفة موقع المدينة ومكة وطرقاتها والقبلة، باتجاههم إليها وقت الصلاة.
والفتوحات التي جعلت البلدان تحت سلطة الخلفاء، فكان من اللازم معرفة مواقعها وبعد بعضها عن بعض ومحصولاتها، ليسنوا عليها الخراج، وليتمكن أصحاب البريد الوصول إليها بلا تردد، فتسهل المواصلات.
كان قد ترجم النقلة كتاب الجغرافيا لبطليموس، فدرسه الناس وتوسعوا فيه، وكان أول عملهم شرح هذا الكتاب، حتى كان العصر العباسي الثاني، فألفوا الكتب الخاصة في الجغرافيا العربية. وأهم المؤلفين في هذا العصر هما: ابن قرادية واليعقوبي. (1)
ابن قرادية:
فارسي الأصل، نشأ ببغداد، واشتهر بكتاب المسالك والممالك، طبع في مجلة أسيوية. منه فوائد كثيرة تاريخية، فضلا عن تقاسيم المملكة وطول المسافات بين البلاد. (2)
اليعقوبي:
تآليفه: كتاب البلدان، وتاريخ الخلفاء العباسيين. (4-4) التاريخ
ولد في عصر الأمويين ونضج في العصر العباسي
لم يكن للعرب تاريخ سوى شعرهم في جاهليتهم، أما في صدر الإسلام، فكان من التاريخ سيرة النبي ومغازيه، والحوادث التي وقعت في أيامه وأيام الصحابة.
نزع العرب إلى تدوين التاريخ في العصر الأموي، فكتبوا أولا تاريخ الأمم الأخرى؛ لرغبة الخلفاء والقواد في الاطلاع على أحوالهم عبرة واقتداء. وعلى هذا الأساس بنيت أسس التاريخ الإسلامي. فقبل الإسلام، كان تاريخهم في الشعر، وفي صدر الإسلام، كان مؤرخوهم الرواة والعارفون بعلم الأنساب الذي تتوقف عليه منزلة القبائل والأفراد.
أما أول من دون في التاريخ فهو عبيد بن سارية.
عبيد بن سارية:
ألف كتاب الملوك وأخبار الماضين لمعاوية، وذكر ابن خلكان تأليفا لابن منبه، المتوفي 116، في ملوك حمير وأخبارهم.
إذن بدء التاريخ يكون حقا في العصر الأموي، بالاطراد من مدح المشاهير في تحقيق الأنساب لأجل العطاء. إنما كل هذا ذهب ضياعا.
وفي العصر العباسي الأول، تمهيد السبيل لتأليف التواريخ العامة والخاصة؛ فابن هشام يكتب سيرة النبي والمغازي والفتوحات.
الواقعي يكتب في الفتوحات والمغازي، ثم طبقات الشعراء لابن سلام، وطبقات الصحابة لابن سعد.
وفي العصر العباسي الثاني، ظهر التاريخ بمعناه الحقيقي، وامتاز هذا العصر بكتابة التاريخ العام الشامل لأخبار القدماء والمحدثين، فصار المؤرخون في هذا العصر ينقسمون إلى أربعة أقسام:
مؤرخو الفتوح:
البلاذري - فتوح البلدان.
مؤرخو أخبار العرب وشعرائهم وطبقاتهم.
مؤرخو التاريخ الخاص:
تاريخ كل بلد وأمة على حدة.
مؤرخو التاريخ العام:
الطبري.
الطبري:
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فارسي الأصل، ولد بآمل من أعمال طبرستان. سافر لمصر وسوريا والعراق. أقام ببغداد يعلم الحديث والفقه، وفيها كتب تأليفه الكبير. كان في أول عهده شافعي المذهب، ثم اختار لنفسه مذهبا فلم ينجح. اشتهر بمقدرته على التأليف. قيل عنه إنه كان كل يوم يسود أربعين صحيفة على مدة أربعين سنة. وقد توفي ببغداد.
آثاره: أشهر كتبه تاريخ الرسل والملوك، طبع بعد تعب كثير وعناية عجيبة بأحد عشر مجلدا، في لندن. وهو تاريخ عام يبتدئ بآدم وينتهي بالطبري صاحبه.
وله كتاب تهذيب الآثار، في الفقه على مذهب جديد اختطه لنفسه، تكلم فيه عن اختلاف الفقهاء الأربعة، فقال ابن حنبل لم يكن فقيها لكن محدثا، فنقم عليه الحنابلة فضايقوه. ولما مات دفن ليلا في داره خوفا منهم.
وله التفسير الكبير، طبع في القاهرة.
قيمته: أعظم مؤرخي هذا العصر، بل العرب في كل عصر؛ لأنه جمع في كتابه أخبارا عديدة كنا خسرناها لولاه.
وتاريخه الفريد في بابه هو مختصر تاريخه الأكبر، تراجع تلاميذه عن نسخه فاختصروه.
وهو، فوق كل هذا، مفسر وفقيه ضليع يفوق غيره من المفسرين.
البلاذري:
من تآليفه: فتوح البلدان. كان شاعرا وكاتبا ومترجما، ينقل من الفارسية إلى العربية.
نشأ ببغداد وتقرب من المتوكل والمستعين والمعتز. ذكر في كتابه فتوح البلدان أخبار المسلمين خبرا خبرا، وأنساب الأشراف منهم.
أبو بكر الصولي:
ألف تاريخا للشعراء، رتب أسماءهم على أحرف الهجاء. ويعرف بالشطرنجي؛ لأنه كان ألعب أهل زمانه فيه. أصله من ملوك جرجان. كان نديم الخلفاء. جمع أشعارا كثيرة كما فعل السكري بالقدماء.
وله تآليف أخر في أخبار آل عباس وأشعارهم، ولكنه لم يتمه. (4-5) الأدب
تحول الأدب في هذا العصر عما كان فيه في العصر السابق، فتقدم لأسباب، منها تغير عقلية الخلفاء والولاة، ومعيشة الشعب، والتأثر بالعلوم المنقولة.
لم تبق في الخلفاء تلك الرغبة القوية في الاطلاع على أخبار العرب ومنازعاتهم وأمثالهم وحوادثهم الشعرية، التي كانت تدفع الأدباء السالفين كالأصمعي وخلف الأحمر وحماد؛ إلى قطع البراري والتعرف إلى القبائل، لجمع أخبار الشعراء والمتاجرة بها. فانصرف من كان من هذا النوع عن غاية التجارة إلى غاية العلم، فدققوا في صناعتهم، وأخذوا يشتغلون بنوع آخر معها، حتى ندر وجود أدباء لم يشتغلوا إلا بالأدب.
أما الأسباب فلأن البيئة أصبحت غير عربية، الحكام أعاجم لا تهمهم أخبار العرب وحكاياتهم، والشعب كأمرائه لا يكترث للعربية، فاعتاض رواته عن الشعر العربي وأخبار العرب، بالقصص من مصدر غريب، مثل ألف ليلة وليلة.
وكان أن فساد الحكومة، والنزاع الدائم على الخلافة، ومصائب الخلفاء وكبار القوم، دفع الأدباء إلى تعزية الجمهور المصابين وتخفيف وقع النكبات بالأقوال الحكمية، ومبادئ الزهد، وأخبار رجال الدنيا وأصحاب الفضيلة. فكثرت هذه الأنواع، وحلت من كتب العرب مقاما فسيحا.
أما ما استفاده أدباء العرب في هذا العصر من كتب الأقدمين، فهو روح التقسيم والترتيب، وجمع أطراف الموضوع في مقام واحد، وفصل كل موضوع عن غيره، فقاموا يميزون بين الأدب والنحو واللغة، يجمعون مظاهر كل فن في كتب مستقلة، يبوبونها بطرق مرتبة سهلة المأخذ.
السكري:
كان من النحاة، وكان راوية العصر بين جميع الشعراء، وأهم ما بين أيدينا من أشعار الجاهليين وصدر الإسلام إلى أيامه، هو من جمعه.
من تآليفه: شعر القبائل، ديوان الهزليين، أخبار اللصوص، شعر الأفراد، جمع أشعار الكثيرين من الجاهليين كامرئ القيس والنابغة ... إلخ.
قدامة بن جعفر:
كاتب بغدادي، كان أبوه نصرانيا وأسلم في أيام المستكفي.
آثاره: ألف كتبا عديدة لم يصل إلينا منها إلا كتاب الخراج في الجغرافية، وكتاب نقد الشعر، ونقد النثر. وهذان الكتابان الأخيران من خير ما كتب في ذلك الزمان.
الوشاء:
عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة. أديب ظريف نحوي، له تآليف لم يصل إلينا منها إلا كتاب الموشى، الفريد في بابه، وهو يمثل ذلك العصر، ولا سيما وصف الأدباء، على اختلاف الطبقات، بما كانوا يكتبونه من الأشعار عن الشباب والعصائب.
ابن قتيبة:
أديب نحوي قاض، ولد في الدينور فنسب إليها. علم ببغداد. جم المعارف، واسع الاطلاع، جريء في قول الحق، ألف بالحديث والأدب واللغة والتاريخ.
آثاره: كتاب الشعر والشعراء، فيه تراجم الشعراء والمشهورين الذين يعرفهم جل أهل الأدب، ويحتج بأشعارهم في النحو وكتاب الله، وهم المشهورون من شعراء الجاهلية وصدر الإسلام زمن المؤلف، وقد أورد أمثلة من أشعارهم ونظر فيها وانتقدها.
أدب الكاتب: يحتوي على ما يحتاج إليه الكاتب الأديب في صناعة الكتابة من الاطلاع على الآداب والعلوم، مع إصلاح ما كان يقع فيه الكتاب من الغلط والوهم في معاني الكلمات والتركيب. وقسمه إلى ثلاثة أقسام: (1) إقامة الهجاء؛ أي الإملاء. (2) تقويم اللسان. (3) الأبنية.
لخص هذا الكتاب وشرح ثلاث مرات. وله كتاب الشعر الكبير، خط بالقسطنطينية. وكتاب عيون الأخبار، عشرة كتب، طبع حديثا في مصر.
وله في غير الأدب كتب عديدة: (1)
كتاب المعارف:
وهو خلاصة تاريخ الخلفاء والصحابة ومغازي النبي وأحاديث القراء وأهل العاهات وأخبار ملوك العجم. (2)
الإمامة والسياسة:
تاريخ الخلافة من وفاة النبي إلى عهد المأمون مع شروطها. (3)
التسوية بين العرب والعجم:
فيه تفضيل العرب على العجم. (4)
كتاب الرحل والنزل:
في اللغة.
قيمته: عالم باللغة والنحو، والتاريخ والفقه والأدب. وهو أول أديب اشتغل بالأدب مع غيره من العلوم. أما ما يهمنا الآن فهو قيمته في الأدب.
لقد استفاد كثيرا من علومه المختلفة، فأدخل روحا جديدا في الانتقاد؛ أي إنه كان جريئا تجاوز نقد الظاهر إلى المعنى، ففند كثيرا من مصطلحات الأدباء.
ومن اطلع على كتابه، عيون الأخبار، يرى فيه شيئا من كل آداب الأمم.
الجاحظ
ترجمته:
اسمه أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب. جده عبد أسود كان جمالا لعمرو بن الكناني.
ولد في البصرة، وكان في أول عهده بياع خبز وسمك. لقب الجاحظ لدمامة خلقه، وجحوظ عينيه. استدعاه المتوكل لتهذيب ولده، فاستبشع سحنته، فصرفه بعد أن أمر له بشيء من المال.
انتحاله:
كتب في أول عهده، ونسب ما كتبه إلى الأقدمين كابن المقفع وسهل بن هارون.
سجنه:
سجن في عهد المتوكل، عدو المعتزلة. وسبب سجنه طريقته «الجاحظية» المعروفة باسمه، وهي تخالف آراء السنة والمعتزلة.
دينه:
قال ابن أبي دؤاد: أثق بظرفه، ولا أثق بدينه.
مرضه:
أصيب في آخر حياته بالفالج، وفي ذلك قال:
عليل في مكانين
من الأسقام والدين
وكان يقول: وماذا تصنع بلعاب سائل، وشق مائل، ولون حائل!
ومما قاله لابن أخته: لم يبق لي من ملاذ الدنيا إلا ثلاث: ذم البخلاء، وحك الجرب، وأكل الحديد.
مع المبرد:
قال المبرد: زرت الجاحظ في آخر أيامه، فقلت: كيف أنت؟ فأجاب: كيف يكون من نصفه مفلوج لو نشر بالمناشير لما أحس به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، والأمر في ذلك أني قد جزت التسعين!
أترجو أن تكون وأنت شيخ
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
خليق كالجديد من الثياب
الجاحظية:
كان بادئ أمره تلميذا للنظام، والنظام كان يسير على مبادئ أرسطو وتلامذته، محكما العقل في الوحي. أما الجاحظ فرأى جفاف تلك الفلسفة «اليونانية المنطقية»، فلجأ إلى تطبيق مبادئه على التاريخ والاختبار، فانفرد عن المعتزلة وأسس مذهبا جديدا في الفلسفة اللاهوتية، عرف «بالجاحظية».
المعتزلة
مبادئها (1)
القول بالمنزلة بين المنزلتين ، «كقضية المطهر في الكثلكة.» (2)
القول بالقدر، وأن الله لا يخلق أفعال الناس، بل هم يخلقون أعمالهم، ومن أجل ذلك يثابون ويعاقبون. (3)
التوحيد؛ أي إن الله ليس له صفات أزلية زائدة على ذاته. (4)
القول بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح، ولم يرد بهما شرع؛ أي إن الشرع لم يجعل الشيء حسنا بأمره به.
الجاحظية
أما الجاحظية فتخالف المعتزلة فيما يأتي: (1)
ليس للعباد كسب سوى الإرادة، أما الأفعال فجبرية يأتيها العباد طبيعة.
فيستنتج من هذا أن لا فضل لهم بالعمل، ثم يتخطى إلى أنه لا ثواب ولا عقاب، كما لا يثاب الإنسان ولا يعاقب على تركيب بدنه ولونه. (2)
أهل النار يصيرون إلى طبيعة النار ولا يدخلون فيها. (3)
الجاهل بالله معذور والعالم محجوج. (4)
خلق القرآن.
شكله:
كان شنيع الشكل بشع الصورة، وقد قيل فيه:
لو يخلق الخنزير خلقا ثانيا
ما كان إلا دون قبح الجاحظ
ثقافته:
أخذ العربية من المربد ومن الأصمعي وأبي زيد، واليونانية من مناظرة علماء الكلام ومشافهة حنين بن إسحاق وابن سلمويه. وحذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع وأخذه عن أبي عبيدة. وتوسع في الثقافات كلها من مطالعة الكتب كلها، فعرف المسيحية كما فهم اليهودية والمانوية، فجاءت ثقافته مجموعة ثقافات.
ولقد كان الزمان أكبر مثقف للجاحظ؛ فقد ولد في خلافة المهدي، ونشأ في خلافة الهادي، وشب في عهد الرشيد، وشهد صراع الأمين والمأمون، ونضج في عهد ازدهار المعتزلة، واشترك في جميع الأبحاث العلمية والفلسفية. رأى الفرس وغلبتهم، والترك وسطوتهم وحلولهم محل الفرس. كما عاين دولة الواثق تنهج نهج المعتصم، والمأمون يناصر الاعتزال، والمتوكل يشردهم. ومرت عليه دولة المنتصر والمستعين والمعتز، وهو يعاني الفالج والنقرس، حتى مات في عهد المهتدي بالله.
فحياة الجاحظ تاريخ قرن بكامله، وهو زهرة القرون العباسية، وقد مر في كل أطوار الحياة؛ من ولد يبيع خبزا وسمكا بسيحان، إلى رجل يخالط العلماء، إلى كاتب مثقف يغتني بما ألف، ويمتلك ضيعة تنسب إليه، ويبني قصرا، ويقتني عبيدا خدموا في قصور الملوك.
رحل إلى بغداد زمنا، ثم إلى دمشق وأنطاكية، وهذه ثقافة جديدة اكتسبها من غير الكتب بدرس طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة دخائلهم.
ولهذا ترى في كتبه شيئا ملموسا عن الحياة، فكأنك تراها وتذوقها من وصف الجاحظ، وهذا لا تراه إلا في كتب الجاحظ. فكامل المبرد، وأمالي القالي، وعيون ابن قتيبة، لا تريك شيئا من هذا؛ ولهذا نرى كتب الجاحظ أغزر مصدر لدرس الحياة الاجتماعية في هذا العصر.
كتبه:
كتب الجاحظ في كل شيء؛ من صفات الله إلى القيان والحول والعور، والحيوانات والدبابات والحشرات. مزج العلم بالأدب، نظريات وتجاريب، أخبار وحوادث واقعية. مزج الشعر الجاهلي بالإسلامي، بعلم أرسطو، بطب جالينوس، وآي القرآن بالحديث، ورأي الطبيعيين والدهريين، واليهودية بالنصرانية والزردشتيين والمانويين.
أسلوبه:
مزج كل هذه الأشياء ببعضها، والقارئ يقبلها منه لخلطه الجد بالهزل، ومزج اللقمة بكثير من الحلوى، حتى إذا أعدك للبكاء، رماك بنادرة تمعن منها في الضحك. واضح البرهان، جزل اللفظ، سريع التنقل من حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة. غلبت عليه النزعة الأدبية في كل ما كتب، حتى في كتاب الحيوان. يتخير خير الألفاظ وأحسن التعبيرات، ويفر سريعا من الأسلوب العلمي إلى مناحي الأدب، من شعر أو حكمة أو نادرة.
البيان والتبيين:
آخر ما ألف الجاحظ، بدأ بالتعوذ من العي، وساق الشعر في ذمه، وانتقل إلى فصاحة اللسان، ثم إلى اختلاف لغات العرب. وتكلم عن اللثغة، ومنها انتقل إلى عيوب اللسان، فنحنحة الخطباء، وعدد كثيرا منهم، ثم تكلم عن الألفاظ المتنافرة، وتوصل منها إلى اللكنة.
هذا في الباب الأول، ثم عقد بابا للبيان، وذكر بلغاء وخطباء وأنبياء وفقهاء وأمراء، ثم تكلم عن البلاغة واللسان والصمت، وأسماء كهان وعلماء قحطان وأمرائهم ... إلخ.
أما الجزء الثاني، ففيه يقول: إنه رد على الشعوبية. ولكنه روى الأحاديث والخطب والألغاز والحكم، وتكلم عن اللحن والحمقى والمجانين، وكتب وصايا ونوادر لبعض الأعراب ... حتى إذا أتم الجزء الثاني جاء الجزء الثالث، وأوله كتاب العصا في الرد على الشعوبية، ثم كتاب في الزهد، تكلم فيه عن النساك وكلامهم وأخلاقهم ومواعظهم. ثم باب في دعاء السلف الصالحين والمتقدمين، ودعاء الأعراب، ثم مقطعات في نوادر الأعراب وأشعارهم.
الحيوان:
كتاب الجاحظ الشهير، ألفه لبيان الحجج على حكمة الله السامية وقدرته العجيبة ... إلخ، ومما قاله: إن أهمية الحيوانات جعلت سورا من القرآن الكريم مسماة باسمها، كسورة البقرة، وغيرها. وهذا الكتاب مزيج أيضا من جد وهزل وحكمة وتاريخ وعلم، إلى لذع وإحماض ومجون مكشوف.
ويخبر الجاحظ أنه في هذا الانتقال العجيب يصادف عناء ما كان يصادفه لو كتب في موضوع واحد.
أما مصادر هذا الكتاب فكثيرة: القرآن، التوراة، الإنجيل، حديث، أخبار، أشعار، أمثال مضروبة، كتب قرأها في فنون شتى، محادثة أطباء وتجار وذوي حرف، وتجارب جربها بنفسه في الحيوان والنبات، وسفر وسماع لمن مارس الأسفار وركب البحار وسكن الصحاري وسلك الأودية.
وفي كل ما حدث لم يقبل عقله خرافة، بل يهزأ بمن يقبلها. وهو يشك، حتى يجرب وتثبت النظرية. وهو يلاحظ في أبحاثه ملاحظات كأنه فيها من علماء هذا الزمان.
إن الثقافات التي وصفنا الجاحظ بها تظهر في كتابه هذا أكثر منها في كتابه الأول.
فمن أهم العناصر التي اعتمد عليها الجاحظ في كتاب الحيوان، ما كتبه أرسطو عنها، وهذا الكتاب نقله إلى العربية ابن البطريق، كما يقول ابن النديم في فهرسته صفحة 251.
قد ذكر الجاحظ أرسطو في كتابه باسم صاحب المنطق؛ أي أرسطو، وصرح باسمه أيضا. إن موقف الجاحظ منه كان موقف العالم الجريء، فلم يصب أمامه بشلل الفكر، كما أصاب ابن سينا وغيره من الفلاسفة في الشرق والغرب، إذ لم يقدموا على مناقشته. أما الجاحظ، فكان يضع أرسطو في مخبره يمتحنه ويجربه، ويخطئه أحيانا، ثم يقارن بين قول أرسطو وبين قول شاعر جاهلي أو إسلامي، ويفاضل بينهما، فيكون طورا مع أرسطو وحينا عليه.
وإليك برهانا هذه الحكاية. قال الجاحظ: زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيا عن ذلك، فزعم أن ذلك حق. فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: أما السعي، فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب، كما يتقلب الصبيان على الرمل؛ وأما الأكل، فإنها تتعشى بفم وتتغدى بفم؛ وأما العض، فإنها تعض برأسيها معا. وختم القصة بقوله عن الأعرابي: «فإذا به أكذب البرية.»
فلا يظنن أحد أن كتاب الحيوان لا يتناول إلا الحيوان فقط، فهو فيه كثير التنقل من موضوع إلى آخر كما وصفناه. ففيه شيء من علم الفراسة عن أقليمون، ومن الطب عن جالينوس، وفيه يتكلم عن الفرس وأديانهم، وعن اليهودية والمسيحية، وعن أشياء لا تخطر ببال.
وقصارى الكلام، أن كتاب الحيوان معرض لكل الثقافات: عربية ويونانية وفارسية وهندية، ومعرض أيضا للثقافات الدينية: مانوية وزردشتية ودهرية ويهودية ونصرانية وإسلامية.
وقد أثر أسلوب الجاحظ هذا فيمن كتب بعده، فجاءت كل كتب الأدب تقريبا غير مبوبة، يكثر فيها الاستطراد.
كتاب البخلاء:
لم يكتب كاتب في مواضيع مختلفة كما كتب الجاحظ. وقد أعرب في كل موضوع عن مقدرة لا يضارعه فيها أحد، فهو في كل موضوع من موضوعاته يعرب عن شخصية جديدة، وإنه في بخلائه غيره في الحيوان والبيان والتبيين. ولعله أول من عني بالأسلوب العلمي في كتاب الحيوان، وإن كان يستطرد إلى حكايات تنفي الملل عن القارئ. وهو أول من عني بالألفاظ الوضعية التي تؤدي الفكرة على حقها، بألفاظها الوضعية، وقد صارت هذه الألفاظ أداة للأسلوب الذي ابتدعه.
يخال القارئ أن كتاب البخلاء حكايات ونوادر مضحكة، مع أنها أعمق دراسة للنفس البشرية، تحل الأعمال وبواعثها وأغراضها. فالجاحظ هنا عالم نفساني قبل أن وجد هذا العلم، يمارس بلباقة لا توصف بين النظرية والتطبيق، فيجلو لنا الأشخاص أيما جلاء.
كتاب البخلاء تناول ناحية واحدة من النفس، هي البخل، فقلبها على جميع وجوهها، ونظر إليها من كل جانب. ولو عني الجاحظ في جميع مناحي النفس لجاء عمله تاما، ولكنه وضع أساسا لهذا العلم وشق طريقه للناس، فلو طلبنا اليوم إلى أكبر علماء النفس أن يحلل نفسية البخيل ما استطاع أن يكتب مثل كتاب البخلاء، لا من حيث التحليل الدقيق، ولا من حيث الفن الرائع، وإذا ضاهاه أحد في فن القص قصر عنه في الفكاهة والسخر العميق.
ولئن كتب موليير واصفا بخيلا واحدا، فالجاحظ لم يدع بخيلا يفلت منه، وكل ذلك بروح مرحة ونفسية فكهة ساخرة. مزج الجد بالهزل، والفلسفة بالفن، والتفكير بالاطلاع الواسع.
استطاع أن يكون مصورا يحسن رسم الشخوص ومزج الألوان. يروح ويجيء بخفة الطير. هو قصصي ماهر يجيد سوق قصته إلى غرضه. وإني لإخال الجاحظ قد عرف هؤلاء الأشخاص الذين تحدث عنهم وعايشهم، فأحسن تصويرهم ولم يدع خطا واحدا.
لست أظن أن أحدا يستطيع أن يكتب بمثل هذا التفصيل قصة بخيل كالكندي، صاحب بيوت الكراء في البصرة، إن الجاحظ مطبوع على الجدل، ولهذا نرى في بخلائه هذه الصفة بارزة جدا.
خذ مثلا لذلك عبد الرحمن آكل الرءوس، لترى كيف يغوص الجاحظ على الأعماق، فينتقد ويجادل حتى يشبع نفسه المتعطشة إلى مثل هذا الكلام.
من عادة القصصي أن يعرفك بمن يتحدث عنه، بوصفه لك ظاهريا، أما الجاحظ فما عمل شيئا من هذا، ولكنه رسمه لك نفسيا فتتخيل أنت ظاهره.
إن كتاب البخلاء أثر فني فيه روح القصص وحكمة الفيلسوف الناقد الاجتماعي.
خلاصة:
الجاحظ أقدر الناس حجة، يستهزئ بكل أمر، حاضر النكتة.
شخصيته بارزة في كل شيء؛ ففي حياته شخصية بارزة لا تمتزج بغيرها من الشخصيات، وفي آرائه متكلم شخصي، وفي إنشائه أديب شخصي. هو الرجل الذي يكون نفسه ويطبعها على غرار خاص. وكلمة «نسيج وحده» كأنما كتبت لتقال في الجاحظ.
وإذا كان الأدب هو الإلمام بكل فن، فالجاحظ هو الأديب، هو الكاتب الفريد الذي يأسر قارئه، وإن حدثه عن أتفه الأشياء.
الترتيب:
لا ترتيب ولا نظام عنده ولا تبويب فيما يكتب، فأسلوب الجاحظ هو أنه لا أسلوب له، وأسلوبه منبثق من شخصيته. هو أشبه بديكارت القائل لخادمه: لا تخربط عدم نظام مكتبي.
الجاحظ في الشرق، كفولتير في الغرب؛ هو مزيج من كل ما عرفه العرب من ثقافات.
عود إلى ابن قتيبة:
صاحب عيون الأخبار هذا، هو بالجاحظ أشبه من حيث امتزاج الثقافات، وقد ألف مثله، إنما كان أكثر ترتيبا. عاصر الجاحظ، وانتقده بأنه يعبث بالدين وبكل شيء .
فهذا رجل جد ودين من رؤساء أهل السنة، مطلع كل الاطلاع على التوراة والإنجيل، وقد أكثر النقل عنهما، وبكلمة مختصرة، نقول: إن ثفافته واسعة دينيا ومدنيا، ولكن ليس في أسلوبه طلاوة الجاحظ. (4-6) تطور اللغة
في العصر الأموي، كانت الدولة عربية في كل شيء؛ خليفة وجنود وقواد وعمال. كانت العصبية شديدة للعرب، وسيادتهم على الشعوب قوية. احتقار وامتهان لكل ما هو غير عربي.
لم يحدث تغير جوهري في اللغة، فما فتئت تجري مجراها وترتقي رقيها الطبيعي، حسب العمران الجديد، دون أن تنتقص أو تزيد في أفكارها ومعانيها.
في ذلك الوقت، تعربت الشعوب الخاضعة لسلطة العرب، فدانت بدينهم وتكلمت بلغتهم، وإن كان بلحن، ثم تحركت الشعوب المغلوبة، وانتشر روح الشعوبية بينهم، وازدادوا يقظة للنهوض عندما رأوا أن الفاتحين الذين غلبوهم لا يفوقونهم بشيء.
وكان الفرس في مقدمة الشعوب الثائرة ضد العرب. أوجدوا دولة جديدة، عربية برئيسها وأجنبية بدولتها؛ أي برجال الحكومة الذين كانوا من غير العرب، من الفرس والموالي، فضعفت العصبية العربية، وتمكنت الشعوبية، وتكونت دولة جديدة، قوامها الفرس وأركانها السريان والترك والبربر ... إلخ، فأخذ كل واحد من هؤلاء الشعوب يخرج من خزائن آدابه ذخائر علومه التي طابت للخلفاء، وما امتازت به أمته، فحصلت ثروة عظيمة للغة، فزادت ألفاظها الوضعية من ترجمة اللغة الأجنبية، أو بنقلها إلى اللغة العربية بلفظها الأصلي، أو بتعريبها، فلطفت العبارة بما أدخل فيها من التجمل والتلطف، حسب عادات الشعوب المتمدنة.
أما في العصر العباسي الثاني، فتلاشت تلك العصبية العربية، وضعفت الخلافة، واشتدت الدولة الأعجمية وقويت. استعان المتوكل بالأتراك لا بالعرب لضرب الفرس؛ لأن العرب ضعفت ثقتهم بالخليفة، وقلت قيمتهم. فقاوم الأتراك الفرس، واضطهدوا الخليفة، واتفقوا مع الفرس بمناضلة العرب، فتسرب الضعف إلى اللغة العربية، فأصبح بعض الأمراء يدفعون الكتبة ليؤلفوا بلغة أجدادهم، ويقصوا أخبار قومهم؛ كالدقيقي والفردوسي. (5) العصر العباسي الثالث
ضعف الخلفاء:
في أيام القاهر كان مبدأ دولة بني بويه، وذلك سنة 320. أدى إلى ذلك استبداد الأتراك بالسلطة، فاختل نظام الملك، وكثرت الفتن والثورات، فاستقل كل حاكم بالبلاد التي يحكمها.
وفي سنة 323 اضطر الراضي أن يقلد محمد بن رائق الوزارة وإمارة الجند، ولقبه أمير الأمراء. وخطب لابن رائق في البلاد على المنابر، وفوض إليه الخراج في جميع البلاد، ومن ثم أصبحت الخلافة رسما دينيا صوريا، وأصبح الخليفة وليس بيده من سياسة الملك شيء، بل الأمر كله بيد أمير الأمراء، وليس للخليفة إلا الخطبة والسكة، بل يشركه في الخطبة أمير الأمراء.
فانقسمت المملكة هكذا: لم يبق للخليفة غير الخلافة وأعمالها، والحكم فيها لابن رائق. أما باقي الأطراف فكانت: البصرة بيد ابن رائق، وخوزستان بيد أبي علي محمد بن إلياس، والري وأصفهان والجبل في يد ابن بويه ركن الدولة، وهو وشمكير بن زيار يتنازعان عليها، والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيد محمد بن طغج - وإخشيد لقب ملوك فرغانة ومعناه ملك الملوك - والمغرب وأفريقيا في يد القائم العلوي، والأندلس في يد الناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين وعمان في يد أبي طاهر القرمطي.
أما الراضي فمات سنة 329، وهو آخر خليفة انفرد بتدبير الخلافة، وآخر خليفة خطب له على منبر يوم الجمعة، وآخر خليفة كانت نفقته وخدمه وحجابه وكل شئونه على قواعد الخلفاء المتقدمين. أما إمارة بني بويه، فأعلنها المستكفي ولقبه معز الدولة، ولقب أخاه حسنا ركن الدولة، ولقب أخاه عليا عماد الدولة، وضرب أسماءهم على النقود. ولما عزم المستكفي على الفتك بابن بويه، شعر ابن بويه بذلك فخلع الخليفة سنة 334 وسجنه حتى مات 338.
وسلب بنو بويه كل سلطة الخلافة، ولم يبق للخليفة إلا كاتب يدير أملاكه. واستعاد معز الدولة بن بويه مدنا كثيرة حتى بلغ ما لم يبلغه قبله إلا الخلفاء.
أما دولة الفاطميين، فظهرت سنة 358 على يد جوهر القائد، فبايع الناس الفاطميين وانقطعت الخطبة عن بني العباس، وبنى جوهر القاهرة لإسكان الجند فيها. وأول خليفة دخلها هو المعز سنة 362، ثم ملك دمشق وغيرها.
وفي أواخر هذا العصر، ضعفت الدولة الأموية في الأندلس حتى انقرضت سنة 704، بعد أن دامت 268. وقسمت، وامتلك كل عامل المنطقة التي كان يحكمها، وذلك كما جرى في الدولة العباسية كما رأيت. وظلت تنتقل في يد ملوك الطوائف إلى أن خرجت من المسلمين تماما في أيام بني الأحمر سنة 897.
اللغة في هذا الطور:
رأيت فيما تقدم تجزؤ الدولة، وفي كل هذا لم يستغن الأمراء عن اتخاذ اللغة الفصحى العربية لغة رسمية في التعبد والتعليم والسياسة، إلا أن هذه اللغة اصطبغت بصبغة قومية في بعض أحوالها.
فارس والعراق:
فالفرس في العراق وفارس وخراسان، حاولوا إنشاء آداب جديدة بلغتهم الفارسية الحديثة، فأفلحوا في الأدب، ولكنهم لم يستطيعوا أن يجعلوها لغة العلم والاشتراع والتعليم والسياسة؛ لخلوها من الاصطلاحات الحديثة، فظلت اللغة العربية صاحبة النفوذ والسيادة في جميع الممالك الشرقية التي اشتقت من الدولة العباسية، ببذل كل ملك جهده في ترغيب العلماء والأدباء والكتاب والشعراء والأطباء والمهندسين في الإقامة عنده، تأييدا لملكه وزينة لدولته.
فبقيت سوق الأدب رائجة أكثر من قرنين، ثم اضمحلت بالتدريج بتغلب النزعات القومية، وانقراض العلماء والأدباء المطبوعين بطابع الدولة العباسية، حتى خرج التتار، في أواسط القرن السابع، وخربوا ملكهم وقتلوا علماءهم وبددوا كتبهم، فجمدت اللغة العربية في أواسط آسيا جمودا لم تنتعش بعده.
الشعر:
عاش شعراء كثيرون في هذه الممالك الشرقية يكتبون في دواوينها، ويمدحون وينادمون ويملون في مدارسها، ومنهم من كان يتنقل من مملكة إلى أخرى. لم يجاروا شعراء الشام ومصر والجزيرة والأندلس لأنهم في بيئة أعجمية، ومع ذلك سلكوا مسلك الشعراء المتقدمين في أغراضهم من مديح وغزل ورثاء ووصف وفخر، بضعف قليل في البلاغة واختراع المعاني.
إنما حدث الشعر التهكمي المضحك على لسان ابن سكرة وابن حجاج في بغداد، ثم انتشر هذا النوع، وهو بمنزلة جرائدنا الهزلية اليوم.
وظهر نوع آخر، وهو شعر فلسفي يشرح بعض الحقائق الفلسفية وحركة الأجرام السماوية؛ كشعر ابن سينا والرازي وابن التلميذ الطبيب، وشعر آخر صوفي رمزي نشأ في العراق ثم انتقل إلى الشام ومصر ، كما في شعر الحلاج والشبلي والقشيري.
وهجر الشعراء استعمال الغريب من اللفظ والغويص من الأسلوب، واستعملوا ألفاظا أعجمية واصطلاحات فنية ومحسنات بديعية وألفاظ مجون وسخف.
أما المعاني المخترعة فكانت في شعر البغداديين؛ لأنهم فاتحو باب الهزل، الفن الجديد. ولكن بين شعرائهم الهزليين شعراء ألموا بالمعاني الشريفة والأخيلة الرائعة، وتنزهوا عن هذا الخليع؛ كالشريف الرضي ومهيار الديلمي.
وقد كان شعر أهل العراق عامة أرق أسلوبا وأفصح لفظا من شعر أهل فارس وخراسان.
مصر والشام:
انتشر العرب في مصر والشام بعد الفتح الإسلامي؛ لخصبهما وقربهما من الجزيرة، فغلبت لغتهم وآدابهم ودينهم على لغة الروم والقبط. ولما ضعفت بغداد، وقعت مصر في أيدي الطولونيين فالإخشيديين فالفاطميين غنيمة باردة، فكانت مصر أخيرا عاصمة لخلافة عربية علوية ضخمة ذات حضارة عالية، وعاشت هذه الدولة 270 سنة، فصبغت مصر والشام بصبغتها في بعض الاعتقاد، وأكثر العادات والأعياد، وكانت حضارتها في الصناعات أساسا للفن العربي الإسلامي، إلى وقتنا هذا.
أحب وزراء هذه الدولة وأمراؤها وخلفاؤها العلم والأدب والشعر أقصى محبة، فهاجر الأدباء إلى مصر من كل فج، فجلس الخلفاء للشعراء في الأعياد يستعرضون بضاعتهم وأجازوهم أسنى الجوائز. ولم يخمد هذه الشعلة المدنية إلا نشوب الحرب الصليبية ومنازعة مواليهم لهم كما أصاب الدولة العباسية، فأباد صلاح الدين الأيوبي خلافتهم الفاطمية، وأسس دولة كردية في النسب مستعربة في اللسان والنزعة، على أنقاضها. انتفعت الدولة الأيوبية بحضارة الفاطميين، وأحلت محل مذهبهم الشيعي الباطني، مذهب أهل السنة. أما المملكة الأيوبية فقوضها مماليكها التركمان.
الشعر:
كانت دار الخلافة أي معرض للأدباء والعلماء والشعراء والكتاب، يهاجرون إليها من مصر والشام اللتين لم تكونا في شباب الدولة العباسية إلا ولايتين مرجعهما بغداد، فكان الشاعر المشهور لا يطير صيته إلا إذا هاجر إلى بغداد، كما حصل للبحتري وأبي تمام، أما الأديب والشاعر والعالم الذين لا يقوون على المهاجرة والأسفار فيظل ذكرهم خاملا.
ولهذا لم تكن الفسطاط والإسكندرية ودمشق بيئة صالحة في ذلك الوقت لإقامة الشعراء، ولكن لما ضعفت بغداد قاسمتها مصر والشام العناية بالأدب والشعر والفنون ، فعاش فيهما شعراؤهما ولم يرحلوا إلى غيرهما إلا قليلا. والمثل دويلة سيف الدولة الصغيرة في شمالي الشام، فقد التف فيها حول أميرها جمهرة من الشعراء والأدباء والفلاسفة والنحاة ... إلخ. من الشام ومختلف الأقطار، من لم ير مثله في باب خليفة، بل إن شاعر سيف الدولة لم يبال بخليفة بغداد ووزيرها المهلبي عند مروره بها قاصدا عضد الدولة.
فالشعر زمن الأيوبيين والفاطميين لم يطرد تقدمه؛ لطول هذا العصر وتقاصر همم الملوك في أواخره عن معاضدة أهله، فانصرف الشعراء أخيرا إلى الخدمة في الدواوين، وظلوا ينظمون الشعر إما تكملا وتظرفا أو تملقا للرؤساء وتقربا منهم.
لذلك كان مبدأ هذا العصر بمصر والشام نهاية ما وصل إليه الشعر العربي من الارتقاء، كما في شعر المتنبي وأبي فراس والمعري، لقرب عهدهم بالعصر العباسي السابق وتأدبهم بأدبه.
وأخذ الشعر يتحول رويدا رويدا إلى صورة وطنية قومية، بسبب ما نشأ في مصر والشام في قرنين من حضارة خاصة ومذاهب مختلفة شيعية وباطنية وصوفية وسنية، وكلها ذات تقاليد ورسوم حديثة، وبسبب ما دهم البلاد من الحروب الصليبية التي غيرت مجرى الحكم ونظمه وطرق الكسب والمعيشة، وشغلت الناس عن الاستزادة من العلم والأدب.
صفات الشعر:
بقيت فنون الشعر وأغراضه كما كانت قديما مستعملة في الشام ومصر، ثم استدعت حوادث العصر السياسية وتشكيل التربية الخلقية والأدبية والثقافة العلمية خصوصا؛ بعض توسع في أغراض الشعر القديمة، أو تنويع فيها أو زيادة عليها، فكان ما يأتي: أن توسع شعراء الشام في وصف الطبيعة، وذلك قبل أن تجتاح بلادهم الحروب الصليبية؛ ولذلك سببان:
الأول:
اتساع مجال الخيال الجميل عندهم، ووفرته لديهم بجمال بيئتهم وكثرة مناظرها الرائعة، كالجبال الشاهقة المكللة الغيوم والثلوج، والمروج والجداول، والحدائق، إلى صحة الهواء واعتدال الفصول وتميز بعضها من بعض.
الثاني:
قرب الشام من العراق، منشأ الحضارة الإسلامية ومنبت علماء اللغة والشريعة والحكمة، وقربها من الجزيرة مهد الفصاحة الأولي، وكان عند أهلها في ذلك العهد بقية منها. واتصالهم بالشام أيسر عليهم من الاتصال بمصر، ولذلك نرى سكان شرقي الشام حتى وقتنا هذا من أهل البدو أو المتطبعين بطباعهم.
ولقرب الشام من العراق أبقى فيهم في مطلع هذا العصر ملكة التكمل بالمعرفة والعلم، والتزود من العلوم الإسلامية، والفلسفة المنقولة عن الأوائل، التي رسخت في أذهان نشء هذا الزمان بالعراق والجزيرة وشمالي الشام.
كل هذا من الأسباب التي تنمي مادة الخيال، وتجمل صوره وتشكلها بما لا يحصى، ويجود اللفظ؛ ولذلك نجد أشهر الوصافين من الشاميين؛ مثل كجاشم والصنوبري والوأوأ، فكجاشم من الرملة فلسطيني، والصنوبري حلبي من شعراء سيف الدولة، والوأوأ دمشقي وهو القائل:
فأمطرت لؤلؤا من نجرس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
وتوسع شعراء الشام في وصف المعارك الحربية؛ لكثرة وقوعها بين دول الجزيرة والشام ومصر من جهة، والروم البيزنطيين والإفرنج الصليبيين بعدئذ من جهة.
فشعراء سيف الدولة؛ كالمتنبي وأبي فراس والنامي والببغاء، وشعراء نور الدين بن زنكي وصلاح الدين الأيوبي، ممن يجيدون وصف المعارك الحربية (العماد الأصبهاني والجواني ممن مدحوا صلاح الدين).
وتوسع شعراء الشام في الحكم والأمثال، كما فعل المتنبي، ونقد العادات وشرح الفلسفة وإحسان معاملة الحيوان، كما فعل المعري.
وتنوعت التهاني؛ وخصوصا في مصر، بسبب الأعياد التي كان يقيمها الفاطميون؛ كوفاء النيل، وفتح الخليج، ومولد النبي، والنيروز المصري، وقافلة الحاج.
وتنوع الشعر الصوفي بتنوع الكنايات والرموز عن أسراره بالغزل والخمريات ووصف السير والسرى، ثم خرج عن طريقة الرموز والكتابة إلى تقرير حقائق التصوف وتقسيم مقاماته وأحواله.
ديباجة الشعر:
كان في هذا العصر لا يزال رصينا جزلا ممزوجا ببعض الغريب، ولا سيما شعراء الشام؛ لغلبة البداوة على أهليه، كما في شعر المتنبي وأبي فراس والمعري.
ولما تغلبت الدولة الفاطمية وغلبت حضارتها وعلومها وفلسفتها ورخاؤها، مال الأدباء فيها إلى الظرف والتملح في كل شيء، فاستدعى ذلك رقة اللفظ، ولطافة المبنى، والميل إلى المحسنات اللفظية، فاشتهرت هذه الطريقة في أواخر العصر الفاطمي بين المصريين من أمثال القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن النبيه، وابن مطروح، ثم انتهت بالبهاء زهير، فتبسط فيها حتى قربت من درجة لفظ العامة، وسرى هذا الروح إلى شعراء الشام. (5-1) الشعراء
المتنبي
نسبه:
يرجع لأبيه المعروف بعبدان السقاء الذي كان يستقي في الكوفة على جمله لأهل محلة فيها اسمها كندة، ليس إلى القبيلة المعروفة.
ذاكرته:
يروون عن قوة ذاكرته أنه كان عند وراق، فعرض كتاب للأصمعي فيه أكثر من عشرين ورقة، فأطال أبو الطيب النظر فيه، فإذا به قد حفظه، (القصة).
تحصيله:
تنقل به والده عندما رأى نبوغه، فجاء به إلى بلاد الشام، فجالس الكثيرين من علماء زمانه، كالزجاج وابن السراج والأخفش وابن دريد، وغيرهم.
في اللغة:
حصل كثيرا، حتى سأله مرة أبو علي الفارسي: كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فأجابه بلا تردد: حجلى وظربى. قال أبو علي: وفتشت كثيرا فلم أجد لهما ثالثا.
حبه للسيادة:
دفعه إلى طلب السلطة والمجد، فدعا بعض شبان الكوفة إلى بيعته فبايعوه، فسجن. فاستعطف الوالي بقصيدة منها:
تعجلت في وجوب الحدود
وحدي قبيل وجوب السجود
طموحه:
لم يستفد من هذا الدرس، بل فكر بمطمح أعلى، وهو ادعاء النبوة في بادية السماوة، فأخذ يتلو على الأعراب كلاما منمقا روى بعضه علي بن حامد وهو: «والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سننك، واقف أثر من قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله.»
فتبعه بعض القوم من بني كلب وكلاب وعبس، فسجنه لؤلؤ أمير حمص، ثم استتابه وأخلى سبيله. المعري يكذب الرواية، أما المتنبي فقد قال عندما سئل عن ذلك: هذا شيء كان في الحداثة.
طمعه بولاية:
انصرف المتنبي عن هذه الأفكار إلى الأدب، فكان الشاعر الخالد، ولكنه ظل يحن إلى السيادة والولاية، كما يتضح ذلك مما قاله لكافور:
وغير كثير أن يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وكفك تسلب
فمن حسنات الدهر إلى الأدب العربي أن المتنبي لم يوفق في مطالبه الأولى.
سيف الدولة:
كان ملك حلب، محبا للأدب يعرف جيد الشعر ويجيده في بعض أوقاته، أغدق عطاياه على الشعراء منافسا بذلك الخلفاء حتى قال المؤرخون: لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء الكبار ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر.
اتصاله به:
رآه سيف الدولة في أنطاكية عند أبي العشائر الحمداني، فقدمه إلى سيف الدولة وأثنى على مكانته الأدبية.
لزومه له:
لزم سيف الدولة فمدحه بما لم يمدح به أحد، ويكاد أن يكون نصف شعره في سيف الدولة، فخلد له ذكرا أبديا.
حساده:
وهذا أكثر حساده والواشين به، فجرى له مع سيف الدولة ومع الشعراء حوادث جمة لم يسلم بها شرفه من الأذى، وأهمها ضرب ابن خالويه له بمفتاح فشج رأسه.
فترك سيف الدولة، وسافر إلى دمشق، ومنها إلى الرملة في فلسطين فمصر.
مع كافور:
حل المتنبي دمشق لأنها لم تكن في حكم سيف الدولة، وتعرف إلى يهودي يعرف بابن ملك. فسأله اليهودي أن يمدحه، فأبى ذلك أنفة. وكان كافور يطلب المتنبي من اليهودي، فأجابه المتنبي: أنا لا أقصد العبد، وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده. فكتب اليهودي لكافور بذلك.
في الرملة:
ومل المتنبي الإقامة في دمشق، فسار إلى الرملة، فخلع عليه أميرها الحسن بن طغج، وحمله على فرس كريم بموكب ثقيل، وقلده سيفا مرصعا. وعلم كافور بذلك، فطلبه من أمير الرملة.
فذهب المتنبي إليه، فأخلى له دارا وخلع عليه، فمدحه بقصائد رائعة انتقاما من سيف الدولة عدو كافور الألد. وإليك هذا التعريض:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
ومدح أيضا سيد كافور ابن الأخشيد، فأكرمه جدا، حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق.
طمعه بكافور:
مدح كافورا طمعا بالإمارة، علله بها كافور، ولكنه لم يصدق، فيئس المتنبي، وعوتب كافور على إخلافه الوعد، فقال: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد، ألا يدعي الملك مع كافور! فحسبكم.
كافور:
عبد أسود مخصي، مثقوب الشفة السفلى، عظيم البطن، مشقق القدمين، ثقيل البدن. كان عبدا لأبي بكر محمد بن طغج صاحب مصر، فتوفي عن ولد صغير فانفرد كافور لخدمته واستبد بالملك دونه. ومع كل تلك البشاعة كان داهية ألمعيا.
أنفته:
لما قنط من كافور خرج حانقا هاربا من عنده، ونظم فيه قصائد هجو مرة ومقطعات أليمة، فجد كافور في طلبه فلم يدركه، أما المتنبي فلم يعد إلى حلب، بل ذهب إلى بغداد على عهد الخليفة المطيع لله العباسي.
رغب وزيره المهلبي أن يمدحه، فأبى مترفعا عن مدح غير الملوك، فاغتاظ الوزير وحرش به شعراء بغداد فتناوشوه، فلم يجبهم أبدا، فسئل في ذلك فقال: لقد فرغت من إجابتهم من زمان، بقولي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول
مع ابن العميد:
وقد راسله ابن العميد من أرجان، وهو وزير ركن الدولة، فمدحه وأقام عنده مدة، وله معه مساجلات عدة.
وقد انتقد ابن العميد قصيدته: باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... إلخ، فأجابه المتنبي بقصيدة يعتذر عن ضعف تلك، ومطلعها: جاء نيروزنا وأنت مراده.
وأصبح يدقق جدا فيما يقول في ابن العميد النقادة.
مع الصاحب بن عباد:
راسله الصاحب بن عباد ولم يكن استوزر فلم يجبه، فغاظه ذلك منه وتجند لانتقاده وإظهار معايبه، وهذا سبب عدائه للمتنبي.
عضد الدولة:
ترك ابن العميد وذهب إلى عضد الدولة فحظي عنده وفاز بأمانيه. ولم يطل إقامته عنده بل رجع إلى بغداد وودعه بقصيدة كانت آخر ما نظم.
مقتله:
خرج من شيراز ميمما بغداد ومعه كثير من الأموال والتحف، فاعترضه فاتك بن جهل الأسدي مع عدة من أصحابه فاقتتلا، فقتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح.
السبب:
هجوه ضبة ابن أخت فاتك هذا. حذر المتنبي من المكيدة أبو نصر الحلبي، فأجابه المتنبي: أبنجو الطير تخوفني، ومن عبيد العصا تخاف علي؟! والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات، وبنو أسد عطاش لخمس، وقد نظروا الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف أو ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين!
فقال له أبو نصر : قل إن شاء الله. فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا ولا تستجلب آتيا.
دفاعه:
قاتل المتنبي حتى أحس بالضعف، فعمد إلى الفرار. فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فأجابه أبو الطيب: قتلتني، قتلك الله! وحمل على الأعداء فقتل.
رثاؤه:
رثاه معظم شعراء زمانه.
كبرياؤه:
أدت به إلى المبايعة والنبوة والموت.
كان يرى نفسه مساويا للملوك والأمراء وأعظم كثيرا منهم. كان يشترط على ممدوحيه ألا ينشدهم إلا جالسا، وألا يقبل الأرض بين أيديهم. ولما سئل أن يعيد إنشاد قصيدته واقفا ليسمعها كل الجمع، قال: لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وهو مطلع القصيدة المذكورة، وأعاد إنشادها جالسا. وقد قال فيه من رثاه: كان من نفسه الكبيرة في جيش، ومن كبرياءه في سلطان.
بخله:
يروي مبغضوه عنه قصصا كثيرة في البخل، لا محل لذكرها هنا.
ديوانه:
لم يعن بديوان شاعر كما عني بديوانه، فقد شرحه كثيرون، وكثيرون كتبوا كتبا بشأنه.
سير شعره:
لم يتناقل شعر شاعر تناقل شعر المتنبي، فما كان ينظم قصيدة حتى تتناقلها الألسن وتجوب البلاد. وقد أراد ابن العميد قبل أن يتصل به أن يمحو ذكره فلم يفلح.
شهرته:
لم يحز شاعر شهرة المتنبي. أما أسبابها فهي: (1) مقدرته ونبوغه. (2) كثرة حساده. (3) تحامل العلماء والنقدة علي. (4) كان عصره عصر منافسة بين الملوك والأمراء. (5) إقلاله، فكل شعره 5494. (6) كان جريئا في أسلوبه، يحاول أن يوجد لنفسه أسلوبا خاصا، وهذا هو الشاعر.
قيمة شعره:
عادي ومسف في الشعر الذي لا يلائم فطرته، ولا يجاريه شاعر في تصوير ما تتألم منه نفسه، فيرمي إلى الإبداع وإلى إتيان ما يتفرد به. فهو شاعر قوي في مبادئه، قوي في خياله وتصوره، قوي في فلسفته. شاعر بما في نفسه من قوة ونبوغ، يراها فوق كل شيء حتى فوق نفسها.
مدحه:
نراه قد بالغ كثيرا في مدحه، وهذا ناتج عن إعمال قريحة لتروي ظمأ الملوك المتنافسين في ذلك الزمان. ومن لاحظ مدح المتنبي يرى أنه كان يعود إليه من مدحه الملوك جزء من المدح يختص به نفسه، وهذا يتفهمه من طالع قصائده المدحية بإمعان.
فخره:
قد كان يفخر في كل ما ينظم، يفخر في المدح، يفخر في الرثاء، يفخر في الحكمة، والقوة تتجلى في كل ما يقول وينظم. حتى كان يؤدي افتخاره إلى احتقار الملوك، ويفتخر حتى على الفخر كقوله:
وليفخر الفخر أنني غدوت به
مرتديا خيره ومنتعله
حكمته:
ترمي إلى القوة والطموح والمطامع الكبيرة والتفاني والجرأة. ويرى الظلم من طبيعة الناس، ومن لا يظلم، فلأنه عاجز. يحب الوفاء والصدق، ويكره كل تصنع.
معتقده:
في بعض أشعاره نراه مشككا، وفي غيرها نرى له رأيا كرأي الدهريين والعدميين:
تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
تدينه:
لم يكن متدينا، بل كان رجلا ماديا يحب المال، يعتقد أنه سبب كل عظمة وشرف وفرح في الحياة. ويظهر عدم تدينه من عدم احترامه للأنبياء، وذكرهم كأحد أفراد الناس.
أفكاره:
عزي إليه سرقات كثيرة من حيث الأفكار؛ فمنهم من قال إن أفكاره الفلسفية مأخوذة عن أرسطو، وفي كتاب الوساطة شيء كثير يدل فيه مؤلفه على المواطن التي يتفق فيها المتنبي مع الشعراء الذين تقدموه.
التعقيد:
اعتماده على المعاني جعل في شعره كثيرا من التعقيد، وارتكب جوازات كثيرة، ومخالفات كثيرة لما ألفه العرب قبله. واستعماله الثقيل والضعيف أكثر السفاسف في شعره. قد أكثر استعمال التصغير للتحقير والازدراء.
الخلاصة:
كان المتنبي في شعره كمن يلقي درسا على الإنسانية أجمع، وكان يرى أن كلامه القول الفصل، يقطع في كل ما يقول، كأن لا خلاف عليه، ولا يعبأ برأي سواه.
وهذا جعله مبتدعا لا متبعا.
ابن هانئ الأندلسي
نسبه:
هو أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي، ولد بإشبيلية 326، اتصل بعامل إشبيلية زمن المستنصر الأموي، فمدحه بقصائد غراء.
اتهم بالزندقة والكفر لاشتغاله بمذاهب الفلاسفة، وظهر ذلك الأثر في شعره لوصفه الممدوح بصفات المعبود، فنقم لذلك أهل إشبيلية فأشار عاملها عليه بالهجرة، فهاجر إلى المغرب ومدح ولاته من قبل المعز الفاطمي، فاتصل خبره بالمعز فدعاه إليه ومدحه بإفريقية، ودخل في دعوة الفاطميين فاتخذه المعز شاعرا لدولته.
ولما فتحت مصر على يد جوهر وبنى القاهرة ورحل المعز إليها، أراد ابن هانئ اللحاق به، فتجهز وتبعه، ولما وصل إلى برقة نزل على بعض أهلها، فأقام عنده في مجلس أنس، يقال إنهم عربدوا عليه وقتلوه وعمره 36 سنة، ويقال أيضا إنه وجد مشنوقا بتكة سراويله. روي أنه عندما بلغ المعز خبر موته قال: هذا شاعر كنا نرجو أن نفاخر به الشرق.
أخلاقه:
كان غير دين، خالعا كافرا.
لقبه:
متنبي الغرب.
صراحته:
كان صريح القول والفعل، لا يبالي بأحد ولا بعواقب الصراحة، ومبالغته بها قتلته. وهذه المبالغة في الصراحة أدت إلى تطرفه في الأفكار والمديح حتى قال لممدوحه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وقوله:
هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلة ما كانت الأشياء
شعره: قيل فيه:
إن تكن فارسا فكن كعلي
أو تكن شاعرا فكن كابن هاني
هو كبير شعراء الأندلس، غير مدافع، سليم التفكير، سلس التعبير، عالج كثيرا من مشاكل الحياة وأحوال الاجتماع.
تأثره بالمتنبي:
اطلع على شعر المتنبي وهو معاصره، فنسج نسجه في الحكمة والفلسفة والأمثال، وفاقه في المبالغة التي لم نسمع بمثلها في الشعر العربي.
وصفه:
يجيد وصف ما يراه إجادة نادرة، ولذلك سموه متنبي الغرب، تشبيها له بأبي الطيب، إنما بين الاثنين فرق: المتنبي مبتدع، وابن هانئ متبع. شعره يقرقع، كما قال المعري.
وأشهر قصائده:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر
وأمدكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعا
بالنصر من ورق الحديد الأخضر
وقال في مدح جوهر إذ فتح مصر:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع
وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله
فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
خلاصة:
شعره جزل اللفظ، فخم العبارة، أشبه بالأعشى في الرنة، وكبشار وأبي تمام في الديباجة. يجيد الاستعارة والتشبيه، وقد أكثر منهما جدا. يطيل القصائد ويبالغ أشد المبالغة، وأظن أن موقفه مع الفاطميين كان يستدعي ذلك ، وقد يكون معتقدهم مهد لذلك.
من شعره المتداول: فتكات لحظك أم سيوف أبيك ... إلخ.
أبو فراس
نسبه:
هو أبو فراس الحرث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة الحمداني، أمير حلب. رافق سيف الدولة في غزوات عديدة ببلاد الروم.
أسر أبو فراس مرتين؛ في المرة الأولى لم يتعد به العدو قلعة خرشنة، أما في المرة الثانية فحمل إلى القسطنطينية، وأقام في الأسر أربع سنين. له في هذا الأسر قصائد عدة تعرف بالروميات، وهي رقيقة جدا. فيها عتاب شديد لسيف الدولة؛ لأنه لم يسرع إلى المفاداة.
شخصيته:
كان أبيا جدا، كبير النفس، فارسا مقداما، شجاعا عظيم الشأن. مدح ابن عمه سيف الدولة إنما بإباء الملوك وعزة الأمراء. حر الخصال، صادق اللهجة، ملء برديه الأريحية العربية.
كان المتنبي يتجنبه ولا ينبري لمباراته ولا يجاريه، لنفوذه.
عاطفته:
ظهرت رقته وحنانه وبره ولطف شعوره في منفاه، إذ قال ذلك الشعر الرقيق في رومياته.
فوا عجبا من هذا الفارس الشجاع الذي يفلق الهام، كيف تحول إلى شخص فاقت عواطفه عاطفة الأمهات. فاسمع شعره في روميات تحس هناك عاطفة تتدفق كالبحر الزاخر.
موته:
لم ينعم أبو فراس بالانفكاك من الأسر حتى داهمته المنية. أراد بعد موت ابن عمه سيف الدولة أن يستقل بإمارة حمص، فاعترضه أبو المعالي ابن سيف الدولة، وجرت حرب بينهما قتل فيها أبو فراس سنة 357، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين.
شعره:
فخم المعنى، جزل اللفظ، خال من العيوب التي تراكمت في شعر المتنبي، يجمع بين الحسن والجودة، والعذوبة والفخامة، والسهولة والمتانة. وهو مرآة عواطفه الشريفة، تلمس في شعره رواء الطبع وإباء الشريف، يمشي على آثار السلف فجاء شعره صورة لشعرهم، ولولا العاطفة لما عاش ذلك الشعر.
أما ما قاله صاحب اليتيمة عن أن المتنبي لم يمدحه مع أنه مدح من أمراء آل حمدان من هم دونه، وعد ذلك من المتنبي تهيبا لمقام أبي فراس وإجلالا لا إغفالا وإخلالا، فهذا حكم في غير موضعه ، فكيف يمدحه أبو الطيب وهو يعلم أن أبا فراس مناظر له، وكان يتعقب سقطاته وينسب إليه الأخذ عن هذا وذاك؟!
الخلاصة:
إن شعر أبي فراس على نمط واحد ليس فيه ما في شعر أبي الطيب من رديء، ولكن الجو الذي حوم فيه أبو الطيب لم يحوم شاعر فيه، وقد يكون هواؤه لا يلائم صدورهم فقصروا عن التحويم فيه.
الشريف الرضي
حياته:
ولد في بغداد، وتلقى العلوم فيها. اعتقل والده وحبس وصودرت أملاكه، ثم أفرج عنه فعادت إلى الشريف غبطته.
اتصل الشريف بالخليفة الطائع ومدحه بإخلاص كما مدح القادر، ثم مال إلى بعض الوزراء والملوك طمعا بالخلافة التي كان يؤمله فيها أبو إسحاق الصابي، وتوفي ولما يبلغ منها أربا.
آثاره:
ديوان شعر فخم، وجمعه نهج البلاغة للإمام علي.
شعره:
موضوعه التغني بحبه وآلامه وآماله، وافتخاره بنفسه وبأصله. قال الغزل بعزة نفس وفخر. قوله فيه مبتكر أحيانا، وأسلوبه نقي الديباجة فخم.
قال الرثاء صادقا مخلصا، وخصوصا في رثاء الحسين. وقال المدح بعزة النبلاء، وأرسل الفخر رصينا بلا تبجح. كان فخره بأصله ومكارم أجداده بخلاف المتنبي. عبارته تقليدية بخلاف عبارة المتنبي، وقد وصف موكب الحج، والشيب والطبيعة.
كان أسلوبه مزيجا من البداوة والحضارة، سامي الخيال، حافلا بالصور الرائعة والعبارة المتماسكة.
أبو العلاء المعري
حياته:
ولد في معرة النعمان، ومرض صغيرا بالجدري فانطفأت عيناه، وهو يقول: إنه يذكر اللون الأحمر.
أخذ عن والده مبادئ العلم، ثم قصد حلب وتحدث إلى علمائها وزار مكتباتها، ثم ذهب إلى أنطاكية واللاذقية وعاد إلى طرابلس، وأخيرا قصد بغداد وجالس علماءها في مجالس العلم والأدب، ولما بلغه نعي أمه رجع إلى المعرة وحبس نفسه في بيته، وسمي رهين المحبسين؛ أي العمى والبيت. ترك هو الدنيا فجاءت الدنيا إلى بيته الذي أصبح مزارا لكبار العلماء والأدباء وطلاب العلم.
شخصيته:
زاهد في حطام الدنيا، كبير النفس، متوقد الذكاء، تروى عن ذاكرته أخبار كالأساطير. وهو من نوابغ العميان العالميين.
أبو العلاء الشاعر:
هو شاعر في ديوانيه: سقط الزند وضوء السقط. وأغراض هذين الديوانين: فخر ورثاء ووصف ومدح.
أبو العلاء الفيلسوف:
في ديوان اللزوميات، طرق المعري جميع القضايا التي تشغل العقل الإنساني. واللزوميات مجموعة آراء المعري في المشاكل العقلية. يؤله العقل. عاش نباتيا وتحدث عما وراء القبر، وقبح الزواج وأساء الظن بالمرأة.
أبو العلاء الناقد:
في رسالة الغفران، يتولى أبو العلاء النقد اللغوي والنحوي لأنه كان من العلماء، فنقد الأدب واللغة والتاريخ والمجتمع والدين، وكان في هذه الرسالة ساخرا من الطراز الأول، يهزل وتحسبه حادا، وما هو إلا هازئ بأقدس عقائد الناس.
قيمته الفنية:
لا يبالي أبو العلاء في لزومياته بخلق الصور البيانية، بل يريد أن يفض مشاكل فكرية، ومع ذلك ظهرت في أسلوبه خاصة الهزء والظرف والفكاهة. وفي الجملة: أبو العلاء والمتنبي هما الشخصيتان العربيتان اللتان لا نظير لهما في قول الحكمة.
آراؤه ومعتقداته:
إن هذا التضارب والتناقض يظل يواجهنا مع المعري حتى نعلم أنه فاطمي المعتقد. كان معاصرا للحاكم بأمر الله ومشايعا له، ومن يتتبع تطوراته الفكرية يظن أنه مضطرب التفكير، في حين أنه ذو عقيدة، مهما كان شأنها، تظل عقيدة. وقد أثبتت الأيام صحة ما تخيل هذا الأعمى الذي رأى ما لم يره المبصرون.
ألا تقوى أن تقول إن أبا العلاء كان على حق بعدما رأيت هذا الفتح المبين في عالم الفضاء؟! أما قلب هذا الاكتشاف الفضائي المعتقدات رأسا على عقب؟!
قال المعري:
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما استطاع الخروج من الدهر
فإلى أين أيها العلماء؟
وفيما يعتقد البشر، يقول المعري المشكك:
في اللاذقية ضجة
ما بين أحمد والمسيح
قس يعالج دلبة
والشيخ من حنق يصيح
كل يصحح دينه
يا ليت شعري ما الصحيح
ثم يوجه مدفعه الرشاش نحو جميع المذاهب فيقول:
عجبت لكسرى وأشياعه
وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضام
ويظلم حيا ولا ينتصر
وقول اليهود إله يحب
رشاش الدماء وريح القتر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد
لرمي الحجار ولثم الحجر
فوا عجبا من مقالاتهم
أيعمى عن الحق كل البشر؟
وإذا سألناه ما هو الحق، أتراه يسكت أم يجيب، كما سكت السيد أمام بيلاطس؟! ولكنه يومئ من بعيد قائلا:
أمور تستخف بها حلوم
ولا يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى
وإنجيل ابن مريم والزبور
وها هو قد بدأ يوضح:
إذا رجع الحصيف إلى حجاه
تهاون بالمذاهب وازدراها
وهت أديانهم من كل وجه
فهل «عقل» تشد به عراها
انتظر قليلا لتصدق أكثر ما قال فيلسوفنا:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت، والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
وأخيرا يدعونا إلى عبادة العقل فيقول:
أيها الغر إن حبيت بعقل
فاعبدنه فكل عقل نبي
وأخيرا يحل مشكلة المشاكل كما يرى هو فيقول هازئا:
أأترك شربها صهباء صرفا
لما وعدوه من عسل وخمر
حياة ثم موت ثم حشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وآخرا يبوح بما عنده، وإذا شئته كاملا فارجع إلى كتابي «زوبعة الدهور»، قال موضحا رأيه في نهاية النهاية:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعادله سبك
وفي موضع آخر يعترف بخلود النفس، ويرى الجسد كباقول حبر فرغ مما فيه، فطرح بين سقط المتاع، ثم يضحك هازئا كعادته:
فيا ليتني هامد لا أقوم
إذا نهضوا ينفضون اللمم
وليس أبو العلاء بمخترع مذهب التقمص، فعلى هذه فريق من فلاسفة اليونان ومن عندنا كان جبران على هذا المذهب.
وآخرا نقول إن أبا العلاء قد عالج جميع القضايا الفكرية وجمعها في «لزومياته» و«فصوله وغاياته»، فكأنه نظر بعين بصيرته فرأى ما لا يرى قبل حدوثه، وهكذا يكون العبقري حقا.
الطغرائي
هذا لقب عرف به واشتهر، وهو من المتفوقين في عصره في صناعتي المنظوم والمنثور، وأشهر ما قاله شعرا هو قصيدته التي تعرف بلامية العجم، تقابل لامية العرب. وكلا الشاعرين، الشنفرى والطغرائي يصور لنا في لاميته أروع صورة لحياته وعصره الذي عاش فيه.
وكما تمتاز لامية العرب بالوعورة كذلك تمتاز لامية العجم بالسهولة التي سار الشعر إليها، وكما يفتخر الشنفرى بأسلوب حياته الوعر، جاء الطغرائي يتغنى بالحكمة تغنيا، ويندب زمنا كان فيه سيدا، وظل كذلك حتى قتل.
حكمة الطغرائي بنت الاختبار، ومعانيه مستمدة من تجاريبه، كل هذا يبدو لك جليا لأول نظرة في لاميته المشهورة، وكان بيت بشار الذي قاله في وصف شعره ينطبق عليها:
وشعر كنور الروض لاءمت بينه
بقول إذا ما أنجد الشعر أسهلا
ابن الفارض
شاعر مشهور لم تفارقه السهولة رغم ثقله وتصيده أنواع البديع، وقد شرح ديوانه الصغير وطبع في باريس. شرحه النابلسي الذي كان صوفيا من طراز ابن الفارض.
وأشهر شعره قصيدته الطائرة الشهرة:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وقد تفنن الجماعة في تفسيرها حتى يعتقد القارئ أن ناظمها عاشق إلهي، حتى هزئ أحد الشعراء إذ قال يخاطب الصوفيين:
أقال الله حين عشقتموه
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي (5-2) النثر الفني
مميزاته:
كتابة الترسل والإنشاء.
لما كان هذا النوع من النثر من الرسائل والمقامات والأخبار والقصص والسير مثارا للخيال ومظهرا لحركات الوجدان والشعور وإظهار التفوق في براعة القول والحذق في الصناعة اللفظية، اصطبغ العصر وما بعده من العصور بصبغة يغلب فيها تفضيل جانب اللفظ على جانب المعنى، فالتزم فيها السجع القصير الفقرات غالبا، واستعملت الأساليب الشعرية في الشرح والاستدلال بالإكثار من الأخيلة والتشبيهات والاستعارات البديعة، وقلت المعاني المخترعة، فاضطر الكاتب إلى حل كثير من أبيات الشعر ذوات المعاني الجميلة، وإلى الاقتباس من القرآن والحديث، حتى سمى الأدباء هذا النوع من الشعر: المنثور.
وأول من أشاع هذه الطريقة ابن العميد وزير آل بويه، وقلده كثير ممن عاصروه وجاءوا بعده، وأعظم نموذج لها مقامات الحريري، كان ابن العميد رأس كتاب الشرق، ومع أنه إمام طريقة الشعر المنثور، لم تنحط كتابته في البلاغة كما انحطت كتابة تابعيه في طريقته من المتأخرين، حتى قيل: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد.
وتخرج على يده الصاحب بن عباد الذي أولع بالسجع والجناس. ومن أئمة هذه الطريقة بديع الزمان، وأبو بكر الخوارزمي، والصابئ ، والحريري.
وظلت هذه القيود في الأدب حتى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كانوا يقلدون المقامات والرسائل، حتى جاء أحمد فارس الشدياق وثار عليها في كتابه الفارياق.
ابن العميد
أصحاب الأساليب:
خمسة: عبد الحميد، ابن المقفع، الجاحظ، ابن العميد، القاضي الفاضل.
ابن العميد:
هو الأستاذ الرئيس الوزير أبو الفضل محمد بن الحسين العميد، كاتب الشرق وعماد ملك آل بويه ورئيس وزرائهم.
فارسي الأصل من أهل مدينة قم. كان أبوه كاتبا بليغا من كبار كتاب الدولة السامانية، فنشأ ابنه مولعا بالعلوم العقلية واللسانية، فبرع في علم الحكمة والنجوم، ونبغ في الأدب والكتابة. رحل عن أبيه إلى آل بويه، وتقلد الأعمال الكثيرة في دولتهم حتى تولى وزارة ركن الدولة - أبو عضد الدولة الشهير - فساس الملك أحسن سياسة، وقلد البرامكة ففتح بابه للشعراء والعلماء والفلاسفة، يشاركهم في كل علم إلا الفقه، وظل كذلك حتى مات سنة 360.
شخصيته:
كان ذا منزلة عالية لعلمه ومقامه السياسي، حتى أطلق عليه اسم الجاحظ الثاني. ومن طالع قصائد المتنبي في مدحه يرى أن المتنبي لم يتواضع لأحد تواضعه له.
أسلوبه:
من الإنشاء الكثير التنميق، فهو أول من فتح باب الولوع بالرسائل البديعية، متوخيا فيها السجع القصير الفقرات، مقتبسا الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة، مشيرا إلى الحوادث التاريخية المشهورة، ناثرا الأبيات الحكمية مؤثرا الحلية البديعية، كالجناس والمطابقة، مضمنا الأمثال السائرة. وقد حاكاه فحول عصره وأخذوا عنه وقلدوه، إلا أنه أقل سجعا منهم وأقرب إلى الطبع.
شعره:
له شعر رائق، إلا أن صبغة النثر والعلم تظهران فيه.
مرضه:
كان قليل الحظ من العافية، مصابا بالقولنج والنقرس وتشنج الأعضاء، سأل الصاحب بعد أن عاد من بغداد قائلا: كيف رأيت بغداد؟ فأجابه: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد.
آثاره:
له مجموع رسائل في الفلسفة والنصح والعتاب.
ملاحظة:
كان ابن العميد مولعا باستعمال حروف الجر، وإليك المثل: كتابي إليك وأنا مترجع بين طمع فيك ويأس منك، وإقبال عليك وإعراض عنك. إلى أن يقول: ولا جرم أن وقفت بين ميل إليك وميل عليك، أقدم رجلا لصدمك وأخرى عن قصدك، وأبسط يدا لاصطدامك واجتياحك. ومنها: كيف وجدت ما زلت منه، وكيف تجد ما صرت إليه.
الصاحب بن عباد
نشأته:
هو كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل الصاحب بن عباد وزير آل بويه، وكاتبهم.
ولد سنة 326 بطالقان من قزوين، كان أبوه كاتبا من خيرة كتاب آل بويه، تعلم العلم والأدب من أبيه، ثم اتصل بابن العميد فلزم صحبته وتولى كتابة خاصته، ثم وزر لمؤيد الدولة من آل بويه، ثم لأخيه فخر الدولة، حتى أصبح له في ملكهما اليد النافذة المطلقة، وظل كذلك حتى مات سنة 385.
صفاته:
كريم الأخلاق، سليم الذوق، أريحي جواد يحب العلم والعلماء، مولع بجمع الكتب القيمة النفيسة. كان مجلسه حلبة علم وأدب، يساجل فيها العلماء والشعراء، سيال القريحة، سريع العارض، حاد النكتة، كان أكثر كرما من ابن العميد، نقادة صادق النظر في الشعر والنثر، تعقب شعر المتنبي وأكثر من نقده.
أسلوبه:
هو أسلوب ابن العميد، ولم يسم بالصاحب إلا لأنه صحب ابن العميد وأخذ عنه، إلا أنه أولع بالجناس والسجع جدا حتى قيل فيه: إنه لا يترك سجعة ولو انحلت باستعمالها عروة الملك! يعد ثاني ابن العميد بين الكتاب.
شعره:
له شعر رائق، متأثر بالنثر أيضا كابن العميد، إلا أنه أقرب إلى الشاعرية من أستاذه، فهو يتعمد المعاني العلمية والشرعية والفلسفية وغيرها من المعاني تزيينا لشعره، ولا أرى حملته على المتنبي إلا حسدا وتشفيا؛ لأنه لم يجبه على مراسلته له كما سبق.
آثاره:
المحيط في اللغة «سبع مجلدات» مجموعة رسائل، كتاب الوزراء، الكشف عن مساوئ شعر المتنبي. وله توقيعات بديعة جدا، ونكات لطيفة فيها التلاعب بالألفاظ الذي كان مولعا به.
من شعره:
أترى القاضي أعمى
أم تراه يتعامى
سرق العيد كأن
العيد أموال اليتامى
المقامات
معناها اللغوي محل الإقامة، وهي قصة قصيرة يرويها واحد دائما، كما أن بطلها واحد، وهذا البطل شحاذ كثير الحيل، تارة يتعامى، وطورا يلبس جبة الواعظ وحلة العالم. والعقدة فيها من طراز واحد؛ أي إن الراوية يعرف أن البطل محتال كذاب فيما يدعي.
مبدع المقامة هو بديع الزمان الهمذاني، والذين جاءوا بعده له تبع، ولم يجاره إلا الحريري، وهو أصح لغة من البديع.
أما الغاية من المقامة فهي إظهار البراعة في الإنشاء أو جمع الألفاظ اللغوية لا القصة، ولكن بديع الزمان وفق في بعض مقاماته فجاءت كأقاصيص اليوم.
أما المغزى فيفيدنا كيف كانت الكدية والتكالب على جمع المال، وقد كثر المحتالون في ذلك العصر فصورهم البديع متأثرا بالجاحظ.
والذي يعجبني من بديع الزمان خلقه في ذلك الزمان بطلا سماه بشر بن عوانة، فظل العلماء والأدباء يعتبرونه شخصا حقيقيا، وعدوا قصيدته التي أولها: أفاطم لو شهدت ببطن خبت، من روائع الشعر. وهذا ما أطلقت عليه اسم طلسم الشهيرة.
وبقي السر مغطى بقشرة بصلة - كما يقول مثلنا - حتى قام الأستاذ بطرس البستاني ففتش عن آثار أقدام ابن عوانة عبر مجاهل تاريخ الأدب العربي، فلم يظفر بشيء، فبين للناس أن ابن الأثير وقع في الفخ حين قابل بين ابن عوانة والبحتري والمتنبي، ففضل ابن عوانة على البحتري؛ لأنه اعتقد أنه السابق إلى صوره ومعانيه في وصف القتال مع الأسد.
لقد مر على ابن عوانة ألف سنة وهو ينعم بجلال التاريخ إلى أن هتك ستره، فبلغ بذلك بديع الزمان قمة الفن حين كذب على الشعراء والمؤرخين، وجازت عليهم كذبته عشرة قرون.
بديع الزمان الهمزاني
حياته:
أبو الفضل أحمد بن حسين. نشأ بهمذان، ودرس العربية والأدب ونبغ فيهما، ثم ضرب في الأرض يتكسب بأدبه. أقام بنيسابور مدة أملى بها 400 مقامة بلفظ رشيق وسجع رقيق، طبع على غرارها الحريري، حينما جادل الخوارزمي وتغلب عليه، فاشتهر وخلا له الجو بموت الخوارزمي، فوفد على الملوك والأمراء، حتى صاهر أعيان هراة التي استوطنها، فحسنت حاله، إلا أنه مات في الأربعين من عمره سنة 398.
المقامة:
أطلقت المقامة في ذلك العصر على قصة خيالية أنشئت بعبارة مسجوعة غالبا، محلاة بأنواع البيان والبديع، مشتملة على كثير من الغريب.
بدأ بهذا النوع من الأدب بديع الزمان، وحذا حذوه الحريري وغيره، ولا عيب في هذه القصص الصغيرة، إلا أنها ترمي غالبا إلى الاحتيال وطلب الرزق عن طريق النصب. هي مفيدة بأسلوبها وحفظها ألفاظا كثيرة، إلا أنها غير شريفة المبادئ، لا تعلم عزة النفس.
شخصيته:
كان بديع الزمان حاد الذكاء قوي الذاكرة، كاتبا مترسلا مجيدا، وشاعرا مبدعا، سريع البديهة، مر الهجاء.
أسلوبه:
لين العبارة سهلها، قصير السجع. كل هذا يدل على أنه غير متعمل في الصنعة، وأنه غزير المادة.
آثاره:
المقامات، التي لم يصل إلينا منها إلا 53 مقامة، ديوان رسائل ومقالات ومناظرات، وديوان شعر.
كان كصاحبيه، ابن العميد والصاحب، مولعا بالجناس والطباق وغيرهما من أنواع البديع، وقد زاد عليهما المقامات التي أبدعها وتفوق فيها، فلم يبلغ أحد بعده ما بلغ.
راجت المقامات رواجا عظيما حتى نسج على منوالها كثير من الأدباء، وظلت متبعة حتى آخر القرن التاسع عشر، فتحولت مع ناصيف اليازجي إلى صناعة لفظية؛ إذ كان يتبع آثار الحريري لا البديع والبهلوانيات. وإلى ركاكة وسجع بارد مع نقولا الترك وغيره، حتى كان بعض الأدباء المقلدين يتراسلون بشكل مقامات. (5-3) القصص
لم يهتم العرب لهذا النوع في بدء نهضتهم. ترجموا كل شيء إلا القصص، فلم يترجموا لا الإلياذة ولا غيرها من قصص اليونان والرومان. وأول كتاب قصصي رأيناه في الأدب العربي هو كليلة ودمنة وغيره من الكتب المترجمة عن الفارسية والهندية.
أما القصص التي نراها بين أيدينا اليوم فهي من تأليف هذا العصر، منها ما هو مترجم ومنها ما هو من وضع العرب.
كانت القصص في أول عهدها كأخبار تروى عن أيام العرب وحوادثهم تشجيعا للجنود وتحميسا لهم، إلى أن صارت تنمو بتناقل الرواة، ثم نمت وكبرت وجمعت ولم يذكر اسم واضعيها، كما جرى في أكثر القصص عند الإفرنج. أما القصص الناضجة فلم يصل إلينا منها إلا قصة عنترة المشهورة.
قصة عنترة:
هي أكبر القصص العربية المملوءة بالحماسة وأخبار الحروب. تمثل أخلاق العرب في جاهليتهم وحروبهم وعاداتهم. معظم أسماء أبطالها حقيقية، إنما فيها مبالغة ككل رواية من نوعها.
وضعت في آخر هذا العصر، ألفها يوسف بن إسماعيل في زمن الخليفة العزيز بالله الفاطمي . حدثت ريبة في بيت هذا الخليفة فأصبحت حديث الناس في مجالسهم، فأشار على المؤلف بوضع هذه القصة ليشغل الناس بها عنه، وهكذا كان. من المعقول أنها لم توضع كما هي اليوم، إنما أخذت تضخم تدريجيا، ككل الأخبار من هذا النوع.
هي أحسن القصص العربية مغزى؛ فهي ترمي إلى الإباء والعفة والسمو، بخلاف كتاب ألف ليلة وليلة، وقصص اليوم التي تعلم الفساد الأخلاقي.
قصص أخر:
وقد وضع العرب قصصا أخر، منها قصة البراق، وقصة بكر وتغلب، وقصة شيبان وكسرى أنوشروان، ووضعوا أيضا قصصا غرامية، بعضها ضاع وبعضها أدخلوه في كتاب ألف ليلة وليلة.
ألف ليلة وليلة:
هي مجموعة قصص متسلسلة، ينبثق بعضها من بعض كأساطير كليلة ودمنة، اختلف الناس في تاريخها: فمن قائل إنها معربة، ومن قائل إنها مترجمة، وهي على ما نظن ككتاب كليلة ودمنة، مترجمة في الأصل وقد زاد عليها العرب أشياء كثيرة من حوادثهم وأخبارهم.
موضوعها:
تمثل الآداب الاجتماعية في القرون الإسلامية، وهي تمثل ما قرأناه وكتبناه في هذا الدرس عن حياة العرب في هذه العصور، وانغماسهم في اللهو والترف.
وفيها أيضا أخبار جن وعفاريت، وقصص غريبة عجيبة تصورها العقل البشري في ذلك الزمان، وقد تحقق بعضها اليوم. وليست الخرافات بضاعة جديدة عند العرب في كتابهم هذا، بل هي مألوفة في ذلك العصر وفي كل عصر. (5-4) النحو واللغة
كثر النحاة في هذا العصر، ولكنهم لم يأتونا بشيء جديد، فلم يؤلفوا من عند أنفسهم، بل كانت كل أعمالهم في الشرح والتعليق والإعراب. أشهرهم:
ابن خالويه:
همذاني الأصل، جاء بغداد ثم رحل إلى الشام واتصل بسيف الدولة فقدمه. له محاضرات ومناقشات، وكان من أعداء أبي الطيب المتنبي.
وله رسالة في إعراب ثلاثين سورة، وكتاب الشجر، وأشهر كتبه كتاب ليس في كلام العرب، موضوعه الشواذ العربية، طبع في مصر.
وقد قرأت له شعرا أشبه بشعر الصاحب المتكلف، كله صنعة وطباق.
الزبيدي:
من علماء النحو في الأندلس، واسمه أبو بكر محمد من إشبيلية. تولى القضاء وكان شاعرا. له كتاب طبقات اللغويين في المشرق والأندلس، وكتاب الواضح في النحو، وكتاب الاستدراك على سيبويه.
ابن جني:
موصلي الأصل، قرأ على أبي علي الفارسي. أشهر نحاة هذا العصر، وله شعر جيد، إنما غلب عليه النحو، وله فلسفة ونقد. أما أشهر كتبه فهي: الخصائص في اللغة، يبحث في أصول النحو، واشتقاق اللغة. سر الصناعة في النحو، يبحث في الحروف ومخارجها والحركات وما يناسب تقاربه منها في اللفظ. شرح شعر المتنبي.
اللغة:
نضجت في هذا العصر علوم اللغة ونشأت المعاجم اللغوية، فدونوها على حروف المعجم أو على المعاني. وأشهر هؤلاء:
القالي:
أبو علي، من بغداد، من حفاظ اللغة والشعر ونحو البصريين، تنقل بين بغداد والموصل، ونفي في قرطبة. من آثاره كتاب الأمالي، وهو ككتاب المبرد. وله كتاب النوادر. (5-5) المعاجم اللغوية
وضع نواتها الخليل في كتاب العين، إلا أنها لم تتم إلا في هذا العصر. أما مصادرها فما نقل عن الرواة المتقدمين كحماد والأصمعي وأبي عبيدة. دونت أولا في كتب مستقلة كل موضوع على حدة، ككتب الإبل وأسماء الوحوش، والخيل والشاء، والنبات والشجر ... إلخ.
وكذلك كتب النوادر؛ أي ما ندر استعماله في اللغة، ككتب الكسائي والشيباني والقالي ... إلخ.
وكتب الغريب في اللغة وشروح الشعر، وكل ما كتب في اللغة واشتقاقها، من أضداد وأشباه ونظائر.
فهذه المؤلفات وأمثالها كانت مصدرا لأصحاب المعاجم، بيد أن مؤلفي المعاجم لم يعتمدوا عليها وحدها، بل رجعوا أيضا إلى التحقيق من ألسنة العرب.
أقدم المعاجم:
كتاب العين للخليل، مرتب على الحروف الأبجدية، ثم جمهرة ابن دريد، ثم البارع للقالي، ثم كتاب التهذيب للأزهري، وهو ابن الأزهر من هراة، رتبه على مخارج الحروف ككتاب العين. ثم كتاب المحيط للصاحب بن عباد، مرتب على الحروف الأبجدية كما هي اليوم، أكثر فيه الألفاظ وقلل الشواهد. والمجمل لابن فارس، اقتصر فيه على الألفاظ الهامة المستعملة معتمدا على السماع.
ومن كتبه المتداولة، كتاب الصاحبي ألفه للصاحب بن عباد، موضوعه فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، بحث فيه في أصل اللغة وخصائصها واختلاف لغاتها بحسب القبائل.
الصحاح للجوهري:
أصله من فاراب ببلاد الترك. كان هذا عالما كبيرا في اللغة، سافر إلى الجزيرة وغيرها وخالط ربيعة ومضر، فأتقن اللغة وعاد يعلم ويؤلف في نيسابور، وهناك ألف كتابه الصحاح فأسماه تاج اللغة وصحاح العربية، رتبه على حروف الهجاء، مرتبا الكلمات على آخر حرف منها.
ابن سيده:
أندلسي من مرسية. كان ضريرا وأبوه ضرير، وهو من علماء اللغة، فأخذ عنه كتابه المحكم رتبه على ترتيب كتاب العين. وهو محكم الضبط دقيق، عول عليه صاحب القاموس في تأليف كتابه. وله المخصص أيضا وهو كتاب مرتب المواد حسب المعاني.
الفهرست:
أول من كتب في هذا العلم ابن النديم الوراق البغدادي، ولولا هذا الكتاب لضاع كثير من آداب العرب. أما كتابه الموسوم بالفهرست، فهو يتضمن وصف لغات الأمم من عرب وعجم وخطوط وصور أمثلة منها. ثم كتب الشرائع المنزلة، ثم العلوم، فذكر النحاة واللغويين وتاريخهم وأسماء كتبهم وأصحاب الأخبار والسير والشعر والشعراء والكلام والمتكلمين والفقهاء والحديث والمحدثين والفلسفة والعلوم القديمة والخرافات والعزائم والسحر والشعوذة والمذاهب والمعتقدات والكيمياء وأصحابها، وفي كل باب تفاصيل في سيرة كل مؤلف وأسماء كتبه.
وهذا الكتاب نفيس جدا، بل هو مرجع لكل أديب. (5-6) العلوم الطبيعية
نبغ في هذا العصر علماء لا يشق لهم غبار، وقد أقبل الناس على الطب كثيرا حتى قيل: إن الذين امتحنوا لنيل الإذن بالتطبيب في عهد المقتدر بالله أول القرن الرابع، بلغ عددهم 810، وبلغ عدد أطباء النصارى في خدمة المتوكل 56 طبيبا، وكان يجلس مع سيف الدولة على المائدة 24 طبيبا، وكان أطباء للخلفاء وأطباء للجيش. وكان الامتحان يجري على الأطباء والصيادلة بالتدقيق، واشهر أطباء هذا العصر ابن سينا.
ابن سينا:
الشيخ الرئيس الفيلسوف الطبيب، أرسطو العرب وأبقراطهم. اسمه أبو علي الحسين بن عبد الله، أبوه من بلخ، سكن مملكة بخارى. نشأ ابن سينا في بخارى، حفظ القرآن وتعلم الفقه، وما بلغ السادسة حتى تعلم المنطق والهندسة والطبيعة والطب والفلسفة.
ألف في الحادية والعشرين من عمره، وتقلد بعض مناصب دولة بني سامان. كان قوي القوى عقلا وجسدا، ولكنه كان شهوانيا . مات في همذان في الثامنة والخمسين من عمره.
تأثيره:
ألف في كل فن من العلم والأدب، وكان لمؤلفاته تأثير كبير في نهضة أوروبا الأخيرة؛ لأنهم نقلوا أهم كتبه إلى اللاتينية، لغة العلم.
تآليفه:
القانون، 14 جزءا في الطب والعقاقير والتشريح، الشفاء 18 جزءا. من كتبه الفلسفية: الإشارات والنجاة، وله في التوحيد كتاب المبدأ والمعاد، الإلهيات، القصيدة العينية التي مطلعها: هبطت إليك من المحل الأرفع.
الصيدلية والكيمياء والنبات
تحقق الفرنج أن العرب هم أول من اشتغل في استحضار الأدوية والعقاقير، واستنبطوا كثيرا منها. فأول أقرابذين ألفه سابور بن سهل سنة 255، ثم أقرابذين ابن التلميذ سنة 560.
وتبع تقدمهم في الصيدلة تقدمهم في الكيمياء وعلم النبات. وهم مؤسسو الكيمياء الحديثة بتجاربهم واستحضاراتهم. راجع ما كتبناه عن جابر بن حيان والكندي والرازي.
ويرجح أنهم هم أول من ركب البارود. وأشار ابن الأثير إلى أن العرب استعملوا مادة في واقعة سنة 269 طلوا بها الخشب فامتنع احتراقه؛ ويعقوب أول من ألف في إبطال الكيمياء القديمة. أما علم النبات فلهم فيه السبق، أخذوا هذا العلم عن جالينوس وديسقوريدوس وعن الهنود.
نقلت هذه الكتب في أيام المتوكل، ترجمها أسطفان بن باسيل من اليونانية، ولما نبغ ابن البيطار، سافر إلى بلاد اليونان وبلاد الروم وشاهد كل نبات في مواضعه، وكذلك في بلاد المغرب، ودرس نبات الشام، ثم ذهب إلى الديار المصرية، وجعله الملك الكامل الأيوبي رئيسا على العشابين، وقد ألف كتبا في النبات اعتمد عليها الأوروبيون في نهضتهم الأخيرة.
وله كتاب المغني في الأدوية المفردة، وكتاب جامع مفردات الأدوية والأغذية، وكتاب ميزان الطبيب.
الصوري:
ومن أئمة علماء النبات رشيد بن منصور الصوري. هذا العالم هو صاحب كتاب الأدوية المفردة. درس نبات الشام في سوريا ولبنان، وصوره بالألوان كما يفعل علماء اليوم. (5-7) الفلسفة
اشتغل بالفلسفة من اهتموا بعلوم القدماء، وخصوصا الأطباء وفي طليعتهم ابن سينا. وكان الفلاسفة متهمين في دينهم، حتى أصبح اسم الفيلسوف مرادفا لاسم كافر. ونقم العرب على المأمون؛ لأنه سعى بنقل الفلسفة إلى لغة العرب، فتستر أصحابها وألفوا الجمعيات السرية، وأشهرها جمعية إخوان الصفا التي تألفت في بغداد في أواسط القرن الرابع.
اشتغل أعضاء هذه الجمعية في الفلسفة حتى صار لهم فيها مذهب خاص مستنتج من فلسفة اليونان والفرس والهند، معدل على ما يقتضيه الإسلام.
وأساس مذهبهم أن الشريعة تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، وأنه لا يغسلها إلا الفلسفة، وأنه إذا امتزجت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية حصل الكمال.
رسائلهم:
تعرف برسائل إخوان الصفا، عددها 50 رسالة، تنظر في مبادئ الكائنات وأصولها وماهية الأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد والآثار العلوية، وتكوين المعادن وعلم النبات وأوصاف الحيوانات، ومسقط النطفة وارتباط الناس بها، وتركيب الجسد والحاس والمحسوس، والعقل والمعقول، والصنائع العلمية والعملية، والعدد وخواصه، والهندسة والموسيقى، والمنطق وفروعه، واختلاف الأخلاق، وأن الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير، وماهية العشق، والبعث والنشور، وأجناس الحركات والعلل والمعلولات، والحدود والرسوم. وبكلمة، لقد ضمنوا هذه الرسائل كل علم طبيعي ورياضي وفلسفي وإلهي وعقلي.
وفيها بحث من قبيل النشوء والارتقاء، تناقلها العلماء؛ وخصوصا المعتزليين منهم، ونقلت على يد الحكم بن عبد الرحمن الكرماني، وهو قرطبي زار المشرق على عادة الأندلسيين للتبحر في العلوم، فانتشرت هناك ودرسوها وتدبروها. (5-8) النجوم
قال العرب: إن صناعة التنجيم خرافة، ومالوا إلى الحقائق العلمية فعنوا بعلمها، فرصدوا الأفلاك وألفوا الأزياج التي قاسوا بها العروض، وراقبوا السيارات. وأشهرهم في هذا العصر:
البيروني:
أبو الريحان، نسبة إلى بيرون بلد في السند، اطلع على علوم الهنود واشتغل في النجوم والرياضيات والتاريخ، وأشهر كتبه الآثار الباقية في القرون الخالية، التفهيم لصناعة التنجيم، رسالة في الأسطرلاب، كتاب الجماهر في معرفة الجواهر. (5-9) الرياضيات
كان للعرب شأن كبير في الجبر والهندسة والحساب، ومما أحدثه العرب في الهندسة أنهم طبقوها على المنطق، وقد فعل ذلك ابن الهيثم المصري في فجر القرن الخامس، وأدخل هذا في الجبر قواعد جديدة، وأساليب في استخراج المسائل الحسابية.
واشتغل العرب في أعوص المسائل الهندسية؛ كقسمة الدائرة إلى سبعة أقسام.
واخترع عباس بن فرناس الآلة المعروفة بالمثقال، يعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال. حاول هذا المفكر أن يطير فنسي الذنب فسقط على أزمكه.
أما الموسيقى، فبرعوا فيها وإن لم يؤلفوا فيها، واخترعوا آلات موسيقية، وحسنوا أخرى. وفي كتاب الأغاني قواعد كثيرة لهذا الفن مبعثرة هنا وهناك. (5-10) التاريخ
تطور التاريخ في هذا العصر، فألفت التواريخ الخاصة للمدن والأمم والأشخاص. وسبب هذا، التجزؤ الذي حصل في الدولة. أما تواريخ الأشخاص فكان بإيعاز منهم.
وتولد نوع جديد من التاريخ سموه علم الأوائل، بحثوا فيه أوائل الوقائع والحوادث بحسب الموطن. وأول من ألف به أبو هلال العسكري.
أما التاريخ العام، فاصطبغ بصبغة الرحلات، مع وصف الأماكن الجغرافية. وأكثر من أفاض في هذا، المسعودي، وهو من أهل الأسفار. أما النقد التاريخي فلم يكن في هذا العصر؛ لأن التواريخ كتبت تحت سيطرة الملوك والأعيان.
المسعودي
حياته:
هو علي بن الحسين المسعودي، نسبة إلى عبد الله بن مسعود الصحابي. ولد ببغداد وبها نشأ، ولما شب وأربت سنه على العشرين، استهوته الأسفار، فضرب في البلاد شرقا وغربا، وكانت رحلته لا تقل عن رحلات المختصين في هذا العصر. وقد سهل ذلك اتساع رقعة المملكة الإسلامية، فأخذ يجمع أخبار الأمم والشعوب، وتعرف على أحوال بلاد فارس والهند وسيلان ومدغسكر. وما عاد إلى بلاده عن طريق عمان، حتى استأنف سفره إلى شواطئ بحر قزوين وبلاد الروم وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر والسودان، وانقطع في آخر مطافه إلى التنقل بين مصر والشام، ولزم التأليف وأخذ يدون ما رأى وسمع.
وهو، لو محص ولم يقبل كل حكاية ورواية، لكان واحد عصره.
شخصيته:
حلو المحضر، لطيف المعاشرة، كثير النكات، يحب الفكاهة، وقد عرف من الأخبار ما لم تضمه صدور الكتب.
تآليفه:
أشهرها مروج الذهب، وهو يحتوي على أخبار الأمم التي عرفت في عصره قديمها وحديثها. وفي كلامه عن دولة العرب روى الوقائع وغرائب الأحاديث، فمثل أحوال المدنية الإسلامية وحياة أهلها بنوع جلي واضح تلذ مطالعته ويجذب قارئه. وله كتاب كبير في الرحلات سماه أخبار الزمان، ثم اختصره وسمي المختصر الكتاب الأوسط، ثم أراد إجمال ما بسطه، فوضع مروج الذهب، وهو الذي بقي. ويقال إن له كتبا أخرى قد فقدت.
أسلوبه:
عبارته قوية واضحة جلية، فيها جمال أدبي، وليست بغريبة عن الفن، ولا تخلو من النقد والتدقيق.
وله آراء خاصة، وإن لم تخل من خرافات وأوهام كأكثر ما كتب في التاريخ والجغرافيا وأساطير الأولين. أراد أن يفكه، فضل في تحقيقه التاريخي والجغرافي والأدبي، فكان غير الجاحظ الذي وضع كل شيء على محك العقل.
وله أيضا كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، وهو تاريخ أكبر من مروج الذهب مفقود.
وهناك مؤرخون عديدون كحمزة الأصفهاني ومسكويه والمرعشي وصاعد الأندلسي. (5-11) الجغرافية
بنى علماء الجغرافية علمهم في هذا العصر على الرحلات؛ لأن هذا العلم لم ينضج، ومع ذلك وصفوا أماكن لم يصفها أحد قبلهم؛ لأنهم عرفوا أصقاعا عديدة لم يعرفها أحد. وقد رسم العرب خرائط عدة، بدءوا بذلك في صدر الدولة العباسية. وأول من رسم الخرائط محمد بن موسى الخوارزمي في زمن المأمون، فعين مواقع المدن والبحور بالدرجات الجغرافية المبنية على علم الفلك.
أما الذين كتبوا في الجغرافية وألفوا فيها فهم: أبو زيد البلخي صاحب كتاب صور الأقاليم، والأصطخري صاحب كتاب الأقاليم، وابن حوقل صاحب كتاب المسالك والممالك، والمقدسي صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وهو أفضل الجغرافيات العامة في ذلك العصر. (5-12) الأدب
نضج العقل العربي في هذا العصر، فبحثوا في كل فن ومطلب وأفردوا لكل فن بابا. فبعد أن كان كل شيء يروى على علاته، مال العرب في هذا العصر إلى التدقيق والبحث، فمن شك في رواية، إلى معارضة شعر بشعر.
نبغ في هذا نقاد الشعر، كقدامة بن جعفر وابن رشيق الأصبهاني والثعالبي؛ فمنهم من انتقد الرواية، ومنهم من انتقد الشعر، وكل هذا نشأ فيهم من اطلاعهم على العلوم الجديدة؛ الفلسفة والمنطق، فنمت فيهم هذه الملكة وأصبحوا لا يقبلون شيئا على علاتة، فأخذوا ينقدون ويمحصون ويعارضون شاعرا بشاعر، ويدلون على أسبقية بعضهم على بعض، وسرقات المعاني والأفكار، ويحكمون بالأسبقية لمن أجاد إخراج الصور. كان جل اعتمادهم على الصناعة اللفظية ونقدها، وقلما تعرضوا للأفكار إلا في بعض أماكن. كان همهم أن يدلوا على مخالفات الفصاحة والقواعد والركاكة المخالفة لعلم البلاغة.
أهم من قام بهذا العمل، أربعة: الأصبهاني، الثعالبي، ابن رشيق، العسكري.
الأصبهاني
المبرد وأبو عبيدة والأصمعي والجاحظ وابن قتيبة وابن عبد ربه والقالي، ومن سبق ذكرهم، كل هؤلاء أدباء عنوا بالأدب جد العناية، ولكنهم لم يجمعوا كلهم على طريقة واحدة؛ فالجاحظ وغيره كتبوا مزيجا في الأدب وغيره، أما الأصبهاني الذي ندرسه فلم يكتب إلا الأدب وما تبعه من مقدمات ونتائج.
حياته:
عربي أموي، ولد في أصبهان، يتصل نسبه بمروان بن الحكم، شيعي، وإن كان أمويا، اسمه علي بن الحسين، وكنيته أبو الفرج.
نشأ في بغداد وكان من أفراد مصنفيها الأفذاذ، قوي الحافظة عالم بالأنساب، صادق الرواية، عارف بفنون كثيرة، وهو شاعر أيضا.
له كتب عديدة، أشهرها كتاب الأغاني الخالد الذي حفظ كنوزا أدبية خالدة كانت فقدت لولا عنايته واجتهاده.
شخصيته:
أديب ظريف، سليط اللسان، مخشي البادرة، ملم بعلوم كثيرة، عالم بالأنساب، عارف بالمثالب، ولذلك هابه الناس حتى الأمراء منهم، فقبلوه في مجالسهم وتوددوا له لظرفه وحسن حديثه، مع أنه كان قذر الثياب قلما يغسلها ويبدلها. حسن النقد لما يسمع، كان كاتبا أكثر منه شاعرا، يحسن التأليف والتصنيف. وكفى بكتاب الأغاني دليلا يمثل لنا الأدب الواقعي أصدق تمثيل. أسلوبه قصصي، يحسن القص إلى أبعد مدى، لا يكف عن موضوعه حتى يخرجه كاملا محيطا كافيا.
الأغاني:
ألفه في خمسين سنة، بناه على المائة الصوت التي اختيرت للرشيد وزاد عليها، وذكر سير أصحابها وتعرض إلى ما تعلق بها من حوادث، فجاء الكتاب تاريخ أشخاص ووقائع ومغاز وأيام وحوادث حب وحرب وشعر وفكاهة. هذا الكتاب هو بحق ديوان العرب، رفعه إلى سيف الدولة الحمداني فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. ويقولون إن الصاحب بن عباد استغنى به عن مكتبته الضخمة. طبع الكتاب في 21 جزءا، ووضع له فهرستا العلامة جويدي الطلياني فجاء في 4 أجزاء.
تأثر الأصبهاني بطريقة الجاحظ فكاد يدنو منه، ولكن اختلاف الشخصية لم يمكنه من ذلك، فظل بينهما فارق.
الثعالبي
حياته:
أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري الثعالبي نسبة إلى الثعالب؛ لأنه كان فراء.
خاتمة أدباء هذا العصر، في الترسل، وأكثرهم آثارا وأوسعهم مادة. وهو الذي جمع أخبارهم وأقوالهم، فجاء عمله هذا جزءا متمما لما فعله صاحب الأغاني، فكان زعيم المؤلفين والمصنفين. قال الشعر وأجاده، فهو ناثر مبدع وشاعر مجيد.
تعمد السجع فيما دون وكتب، أما صاحب الأغاني فأرسل الكلام على السليقة كما يتلفظ به العربي في بداوته، بدون سجع ولا تنميق.
وقد نظر في الشعر الذي رواه وانتقاه نظرة مدقق خبير، ففاضل وقارن وأحسن الانتقاء والاختيار. وكان يميل إلى شعراء الشام في حكمه، فحكم لهم في السبق في حلبة الشعر، وأيد ما قاله ببراهين وأدلة. الحق يقال إن لواء الشعر في عصره كان معقودا للشاميين.
اليتيمة:
لولا اليتيمة امحى ذكر شعراء كثيرين. فهذا الكتاب يحتوي على أخبار شعراء المائة الرابعة الهجرية، وهو أربعة مجلدات فيها عدة أبواب: باب لشعراء الشام، وخصوصا المتنبي وأبا فراس وغيرهما، وباب لشعراء المغرب ومصر، وباب لشعراء الموصل، وباب لآل بويه وشعرائهم وكتابهم، وباب عن شعراء البصرة وبغداد والعراق كافة، وبابان خاصان بابن العميد الصاحب، وشعراء أصبهان، والقادمين على الصاحب، وشعراء الجبل وفارس والأهواز وجرجان، ودولة بني سامان، ففضلاء خوارزم، وفصول عن أبي بكر الخوارزمي والهمذاني والبستي والميكالي، وشعراء خراسان والطارئين على نيسابور ... إلخ.
ولا عيب في كتابه إلا أنه مال إلى السجع كما قلنا، في حين أن هذا الإنشاء ليس بالأسلوب التاريخي.
وله غير هذا الكتاب كتب كثيرة، بعضها مطبوع والآخر محفوظ في المكاتب الكبرى في أقطار مختلفة، وقد أحصاها جرجي زيدان في كتابه فبلغت 36 مؤلفا.
ابن رشيق
حياته:
هو من أهل القيروان، واسمه أبو العباس الحسن بن رشيق من أهل القيروان. كان صائغا كأبيه، ثم تحول إلى الأدب، ورحل إلى القيروان وامتدح صاحبها واتصل به. وظل في القيروان حتى خربها العرب وقتلوا صاحبها، فانتقل إلى صقلية وأقام بمازر حتى مات.
تآليفه:
العمدة: كتاب يبحث في صناعة الشعر ونقده وعيوبه، قسمه مؤلفه ابن رشيق إلى أبواب: في فضل الشعر وأشعار الخلفاء والفقهاء ومن رفعه ووضعه الشعر، واحتفاء القبائل بشعرائها ... إلخ. وأوزان الشعر وحدوده، والبلاغة والإيجاز والاستعارة ... إلخ، وأنواع الفصاحة والأوزان وجوازاتها.
يتخلل كل أبحاثه طائفة منتقاة من جيد الشعر، وبحث تحليلي في الشعر ومعانيه على طريق الانتقاد. وقد قال ابن خلدون في هذا الكتاب: إن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.
العسكري
أبو هلال، صاحب كتاب الصناعتين: النظم والنثر. كتب في هذا الباب على نسق من تقدموه، وقد بين معايب الشعر ومحاسنه، وبحث علم البلاغة بحثا دقيقا، ونقد الشعر على طراز من سبقه، وكتابه هذا جزيل الفائدة، وهو مطبوع. (6) الأدب في الأندلس
فتح المسلمون الأندلس وجلا إليها العرب والبربر من شمالي إفريقية، ولحق بهم كثيرون من جميع قبائل العرب من مصر والشام، فتكون منهم بعد قليل جمهرة عظيمة مختلطة بطوائف من البربر، حتى توصلوا بفتوحهم إلى نهر اللوار في فرنسا.
هؤلاء الطارئون والفاتحون أصبحوا بعدئذ أصحاب السيادة في البلاد على القوط والإسبان واليهود وغيرهم من أهل البلاد، ثم امتزجوا بهم بالمصاهرة لإسلام جمهورة منهم، فنشأ من كل هذا الخليط شعب مؤلف من عدة عناصر، ذو صفات ومزايا جديدة، شاركه في بعضها من بقي في دينه من بقايا الإسبان واليهود.
ثم تنوعت هذه الصفات بتنوع العصور المختلفة، بما وقع فيها من الحوادث السياسية والاجتماعية والدينية التي تبقي أثرا بينا في اللغة وأدبها، يمكننا أن نقسمه إلى أربعة أطوار:
الأول:
عصر الولاة الأولين الذين كان يوفدهم الخلفاء الأمويون، وهو طور نصفه فتح، ونصفه فتن داخلية انتهت بعصبية ممقوتة، ختمت باستيلاء عبد الرحمن الداخل، وتأسيسه دولة عربية ثانية في الغرب ضارعت الدولة العباسية، وعدد ولاتها عشرون.
الثاني:
عصر رقي اللغة وآدابها، وهو عصر الدولة الأموية الغربية وملوك الطوائف، الذين استبد كل منهم بناحية واستقل فيها. يمتد تاريخ هذه الحقبة من سنة 138-484ه.
الثالث:
عصر جمود اللغة وتقهقرها ، وهو عصر دولتي البربر من المرابطين والموحدين، وهم الذين استولوا على ممالك الطوائف، وجعلوا الأندلس ولاية تابعة لسلاطينهم بمراكش وفاس، ومدته من 484-630ه.
الرابع:
طور يقظة الموت، وهو عصر الدولة العربية الثانية، من ابن هود بن الأحمر، ومدته 630-797ه. وهم الذين استطاعوا المحافظة على جنوبي البلاد أكثر من قرنين، ثم أجلاهم الإسبان عنها.
أما أرقى عصور هذه الدولة حضارة وأدبا فهو عصر بني أمية وملوك الطوائف. (6-1) اللغة في العهدين
كانت حالة اللغة في عصر الولاة، بين العرب ومستعربي البربر، كما كانت في عهد الأمويين في الشرق.
وفي زمن الدولة الأموية الأندلسية كانت تنهج نهج الدولة العباسية وتحاكيها وتنافسها في كل شيء، وفاقتها في البناء، وبلغت حضارتها ورقيها في العلوم والآداب غاية المجد زمن الخليفتين الناصر والمستنصر ابنه، وزمن الحاجب المنصور الذي استبد بأمر الدولة بعدهما.
ولما انتشرت الفتن في آخر عهد الأمويين انقسمت البلاد إلى عدة ممالك مستقلة، مدة نصف قرن، فقام في كل صقع منبر وأمير، حتى قال فيها الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
وقال شاعر آخر:
وتفرقوا شيعا فكل قبيلة
منها أمير المؤمنين ومنبر
لم تكن حال الحضارة والعلم والأدب فيها أقل منها زمن الدولة الأموية، إلا أنها تقهقرت عندما صارت الأندلس ولاية تابعة للملوك البربر في مراكش من المرابطين والموحدين، وانتعشت قليلا في زمن بني الأحمر، آخر دولة إسلامية في الأندلس.
الشعر:
نقل العرب إلى الأندلس أخلاقهم وعاداتهم وأدبهم وشعرهم، فاستخدموا الشعر فيما كانوا يستخدمونه في عصر بني أمية بالمشرق؛ من أنواع الحماسة والحض على الجهاد والدعوة إلى العصبية وإثارة الفتن. ولما خمدت الفتن وقر الملك في بيت عبد الرحمن، هب الشعراء ينحون مناحي الشعر التي فشت في الإسلام، فصار الشعر صناعة فئة من المتأدبين يتكسبون به بمدح الخلفاء والأمراء والقواد والانقطاع إليهم، وشجعهم هؤلاء أمويهم وعلويهم وبربرهم ببذل العطاء لهم وتقريب منازلهم منهم. فاتخذوهم بطانة وندماء، وأعوانا ووزراء، إذ لم تكن صناعة الشعر مزرية بعظماء الناس هناك، بل كانت حلية كل متعلم، فقلما عجز عن قول الشعر إنسان منهم، بل نظمه كثيرون منهم حتى الأميون، ولم يأنف من نظمه الخلفاء والوزراء والأمراء والفقهاء، فأولع به كل الطبقات حتى النساء، ومنهن من بارين الرجال فيه.
ولا نسمع بفقيه أو فيلسوف أو طبيب أو رياضي أو مؤرخ إلا نراه شاعرا بليغا له مطولات ومقطعات شعرية، في أغراض مختلفة؛ وذلك لجمال أرضهم وبيئتهم وطيب عيشهم وميلهم الفطري إلى الشعر؛ لأن أكثرهم من عناصر عربية.
وإذا لم يشتهر فيهم أمثال بشار وأبي نواس والمتنبي وأبي تمام والبحتري، فذاك لبعدهم عن المشرق مهد العربية وميدان التنافس العام فيها.
لقد نظم شعراء الأندلس في جميع الأنواع الشعرية والأغراض حتى الخمريات والمجون والموشحات والأزجال، ولكنهم فاقوا العباسيين في وصف مناظر الطبيعة ورثاء الممالك الزائلة. وأشهر هؤلاء أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، ثم نظموا قواعد العلم شعرا، وبعض الحوادث التاريخية، وقصروا عن المشاركة في الحكم التي تسير سير الأمثال.
كان شعرهم في الغزل غاية في الرقة، والخيال الشعري الجميل مادة معانيهم، وقلما أتوا في شعرهم بقضايا عقلية وأحكام فلسفية.
الموشحات:
وزادوا على شعراء المشرق في أوزان الشعر وقوافيه «فن الموشح».
وهو يتركب من طوائف من أبيات أو شطور تتغير فيها القوافي. وأشهر أصحاب الموشحات لسان الدين الخطيب وغيره.
وقد روي لابن المعتز من المشارقة موشح يمتاز بتماسك ديباجته ولا يقل رقة عن موشحات الأندلسيين.
ونظموا الموشح باللغة العامية فلقب بالزجل، ثم شاع هذان النوعان في المشرق فحاكوا الأندلسيين فيهما حتى وقتنا هذا.
ونبغ في الأندلس شعراء وشاعرات عديدون لا يحصون، أشهر مشهوريهم: ابن هاني - وقد سبق ذكره - وابن عبد ربه، وابن خفاجة، وابن حمديس، وولادة، وابن زيدون ... إلخ. وأخيرا ظهر الزجل الذي ينبع عندنا اليوم، وقد صار عاميا صرفا في لهجته، وقد خصصنا هذا الفن بكتاب يظهر إن شاء الله.
النثر:
كانت مناصب الكتابة في عصر الولاة وأول عصر بني أمية كما كانت عليه في المشرق يتولاها الأمير ممليا على كاتبه، أو الكاتب برأي الأمير. وإذا علت مرتبة الكاتب وناب عن الأمير أو الخليفة سمي حاجبا، وهو أشرف ألقاب الدولة. أما اسم الوزارة فكان يطلق على كل من يجالس الملوك ويختص بهم، ثم صار لقب الوزير الذي ينوب عن الملك في سياسة الدولة ويلقب بذي الوزارتين، يكون غالبا من رجال الأدب.
وكذلك كانت حالة الكتابة من جزالة اللفظ وفخامة المعنى وخلوها من السجع، إلا نادرا.
ثم حاكوا المشارقة في نظام الدواوين ورسوم الكتابات من تمييز أقسامها وتنويع بدئها وختامها، وتسجيع عباراتها، كطريقة ابن العميد في السجع القصير، واستمداد المعاني من الخيال، وحل المنظوم، ومن القرآن والحديث، وتضمين الأمثال، والتلميح إلى حوادث التاريخ.
وكتبوا في كل الأغراض التي طرقها كتاب المشرق، ولكن بلاغتهم لم تنحط في آخر أمرهم كما انحطت في مصر والشام، في العصور التركية، لقلة طروء العناصر الأعجمية عليهم ولتأصل عادة الاشتغال بالعلم فيهم.
كتابهم:
ابن شهيد أبلغ كتابهم، له في الوصف والمداعبات رسائل بديعة، وابن زيدون، والفتح بن خاقان.
التدوين والتصنيف:
ابتدأ التدوين والتصنيف في أواخر عصر الأمويين وصدر العباسيين، أما الأندلس في ذلك الزمان فكانت مضطربة، فلما وطد عبد الرحمن أركان ملكه ومهد طريق الحضارة والرخاء والأمن لأهلها، هبوا يرحلون إلى المشرق لأداء فريضة الحج واقتباس العلوم، فتابعوا رحلاتهم إلى الشرق برا وبحرا، ونقلوا إلى بلادهم علوم اللسان والدين؛ لأن الأندلسيين كانوا أشد أهل الأرض حبا للعلم، وتفانيا في تحصيله وتوقيرا لأهله، وساعدهم على ذلك بنو أمية وخلفاؤهم ببذل الأموال العظيمة في جمع الكتب ومكافأة العلماء، وأحلوهم أرفع منزلة، وسمعوا أمرهم وخضعوا لنهيهم، وأخصهم عبد الرحمن الناصر وابنه المستنصر «الحكم». وقد جمع الحكم هذا في مكتبته بقصر قرطبة مئات الألوف من الكتب.
وكذلك كان أكثر خلفاء بني أمية، وأعيان قرطبة، فما انقضى القرن الرابع حتى نبغ ألوف من العلماء، فضارعت الأندلس المشرق وفاقته في بعض العلوم.
ولم يقصر ملوك الطوائف عن الأمويين فآزروا العلم وقربوا العلماء، وكان من ملوكهم الأدباء أيضا مثل المظفر أحد بني الأفطس صاحب بطليموس، صاحب التاريخ المظفري في 50 مجلدا.
وفي عصر المرابطين هدأت حركة العلم قليلا؛ لأنهم اضطهدوا أصحاب الآراء والنحل المذهبية، حتى تساهل الموحدون في أمر مطاردة الفلسفة وعلومها، فنبغ من الحكماء والأطباء والكيمائيين جماعة أشهرهم: ابن رشد، والباجي، وابن زهر.
ثم قل الاختصاص في العلوم، وكانت تنتعش أحيانا الحركة العلمية ثم ترقد، حتى أباد الإسبان العرب وعفوا آثارهم وأحرقوا كتبهم، فلم يسلم منها إلا ما نقل قبل الجلاء أو جهل مكانه.
تأثير الأندلس:
للأندلس أبلغ أثر عربي في الغرب، فكلية قرطبة كانت تضم بين جدرانها اثني عشر ألفا من الطلاب، عرب وغير عرب.
الفن العربي في البناء تجلى بأبهى مظاهره في الأندلس من قصر الحمراء إلى جامع قرطبة.
جعلوا للغة العرب سيادة هائلة في الغرب فاندحرت أمامها جميع اللغات، حتى طلب رؤساء الدين المسيحيون من البابا أن يترجموا كتب الطقوس الدينية إلى العربية.
أدخلوا في لغات الغرب القافية في الشعر التي لم يعرفها الغربيون قبل العرب، ثم طوروا شعرهم إلى نوع الموشحات.
وأخذ الطرب عن العرب من الموسيقى الكمنجة «الرباب» والفليت «الشبابة» عدا الألفاظ التي ملأت لغات الأوروبيين. أما العلوم وفروعها فحدث عنها ولا حرج، فقد ظلت كتب العرب مصدرا لها، ولا يزال حتى اليوم المستشرقون يخرجونها كل عام. (6-2) شعراء الأندلس
شعراء الأندلس فئتان: فئة ظلت محافظة في شعرها على النمط الشرقي فلم تخرج على التقليد، فقالت قصيدتها على الطراز الذي ألفه الشعراء المشارقة في التفكير والتصوير، فلم تكن أفكارهم غير شرقية. وعندما قال الصاحب بن عباد كلمته - حين اطلع على العقد الفريد ولم يجد فيه ما كان ينتظر من أدبنا عبر البحار: هذه بضاعتنا ردت إلينا. جاءت تلك الكلمة في محلها. ولكن الفئة الثانية خرجت على العروضي.
فالعرب الأندلسيون في فجر هجرتهم كانوا مقلدين للمشرق في كل شيء، حتى الألقاب التي كان يتخذها ملوكهم، ولما طال الزمان وتأثروا بمحيطهم الجديد خططوا قصائدهم على النظام المعماري الغربي، فصارت قصائدهم غير ذات زوايا أربع كبيوتنا الشرقية.
ولما كان هذا الكتاب معمولا - كما قلنا في التوطئة - ليكون دليلا للقارئ في دنيا ثقافتنا الواسعة، اكتفينا بما قلنا حتى لا نخرج عن تخطيطنا؛ ولهذا نقول إن شعراء الأندلس ليسوا كلهم ممن وشحوا قصائدهم فنوعوا قوافيها ووحدوا موضوعها، ولعل أول المحافظين كان ابن عبد ربه الذي لقب بمليح الأندلس.
ابن عبد ربه
هو مليح حقا، وقد كان المتنبي محقا حين سمع شعره وأثنى عليه؛ فلهذا الأديب شعر متماسك خال من تلك الميوعة التي نجدها في شعر المتوسطين من شعر ذلك الشطر من الإمبراطورية العربية، فليس في شعر الأندلسيين الذين قالوا الموشحات شعر يماشي شعر المشارقة غير موشح لسان الدين الخطيب: جادك الغيث. والموشح الآخر المنسوب لابن المعتز.
فابن عبد ربه، وهو الشاعر المجيد الذي لم يتخل عن شرقيته، له شعر ذو حظ كبير من الخيال واعتماده على الاستعارة والتشبيه، والذي رأيته هو أن خياله أقوى من عاطفته.
ولد هذا الشاعر بقرطبة، وانكب على المطالعة، ثم لما اشتد ساعده ألف كتابه «العقد الفريد» الذي زين به جيد حسناء يعرب.
ابن زيدون وولادة
لا تغرك هذه الواو والنون، فالعرب قالوا هكذا، وابن زيدون من مواليد قرطبة وهو عربي أصيل من بني مخزوم، وهب ملكة شعرية رائعة فقال الشعر يقطر رواء وماوية. قال أشهر قصائده كما أوحاها إليه قلبه، فدارت على الألسن وظلت حتى يومنا هذا في دورانها، قالها حين حيل بينه وبين حبيبته ولادة بنت المستكفي، وهي شاعرة من طرازه، وقد كانت سافرة في ذلك الزمان، رغم أنها بنت الخليفة المستكفي.
أراد ابن عبدوس أن يشاركه في حبها ولكنها لم تمل إليه، ولما كان هذا من المقربين من أولياء الأمر دس الدسائس، فنجحت وشايته، فسجن ابن زيدون، ولما عجز عن استرضاء ابن جهور صاحب العرش، فر من سجنه ولجأ إلى المعتمد بن عباد.
واشتهر ابن زيدون بالرسالة التهكمية التي وجهها إلى ابن عبدوس، وهي من طراز رسالة التربيع والتدوير التي كتبها الجاحظ. والرسالة تشبه اليوم ما عرف «بطبق الأصل»؛ إذ كتبها عن لسان ولادة صاحبة الندوة الأدبية التي تقول في وصف نفسها:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكن عاشقي من صحن خدي
وأمنح قبلتي من يشتهيها
وقد كانت تكره ابن عبدوس ولا تخشى أن تتندر عليه. قد مرت عليه مرة وهو جالس أمام بركته الآسنة، فقالت له متمثلة:
أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكما بحر
وقد كانت ولادة شاعرة حرة التفكير، كأنها من نساء اليوم المتطرفات، وإذا لم تنظم الروائع فحسبها أن حبها أوحى إلى ابن زيدون قصيدته الباقية: أضحى التنائي بديلا من تدانينا. وسنقرؤها إن شاء الله في النصوص المختارة، وهي جزء تابع لهذا الموجز.
ابن عمار
ولد في بيت خامل، تأدب في قرطبة مدينة الأدب والعلم، ثم صار معلما للمعتمد ابن عباد ونجيه وسميره ووزيره. وابن عمار يجاري ابن زيدون، وأغلب قصائده في مدح المعتضد وابن المعتمد.
شعره:
يمتاز شعر ابن عمار بصوره كما امتاز شعر ابن زيدون بعاطفته الحامية الوطيس. ومن قول ابن عمار في مدح سيده:
أثمرت رمحك من رءوس ملوكهم
لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء كماتهم
لما علمت الحسن يلبس أحمرا
أما نهاية ابن عمار فكانت بشعة؛ تآمر على مولاه المعتمد وعصاه، فسجنه المعتمد ولم يعف عنه رغم القصائد التي قالها في طلب العفو، بل قتله بيده في سجنه وأمر بدفنه.
ابن حمديس الصقلبي
شاعر مبدع في الصور والتخيل، تعمق في وصف الطبيعة والعمران، وجد خياله مجالا واسعا، وكان له في محيطه مرعى خصيب، جنائن وارفة الظلال وأنهار تغني للغصون فترقص، بدائع وطرائف راح يصورها ابن حمديس بقلمه، فجاءت لوحات طريفة نادرة.
وقد مشى على خطى البحتري في وصف القصور والبرك، وسعى وراء التشابيه والاستعارات يتصيدها حتى ظهرت الصنعة وكثرت.
لم يهمل ابن حمديس شعر المدح فأغرق فيه، وعاش ميسورا.
ابن خفاجة
ولد بجزيرة شقر، وهو كابن حمديس في أغراضه الشعرية، حاكاه في صوره وإحساسه، وآفة الشعراء سيرهم خلف بعضهم كالقوافل على الطرق المعبدة، لكن ابن خفاجة لم يتكسب بشعره إلا نادرا، فقاله في الموضوعات الأخرى.
ابن سعيد
شاعر أندلسي، هاجر إلى مصر فأصابه داء الحنين إلى وطنه، فقال شعرا جيدا في ذلك، متذكرا غرناطة التي ولد فيها.
لسان الدين الخطيب
ولد بلوشة، وتضلع من جميع علوم زمان حتى صار فيها حجة، ولما اجتمع أشده خلف أباه ووزر لبني الأحمر، وظل ينعم في ظل العز الوارف، حتى خلع مولاه فاعتقل وعذب، واتهم بالإلحاد والزندقة عملا بالكلمة المشهورة: من تمنطق فقد تزندق. ثم كانت الفتوى وإباحة دمه، فهاجموا السجن فخنقوه وطرحوا جثته فدفن، ثم أخرج من لحده وأحرق.
كان لسان الدين شاعرا مجيدا وكاتبا وخطيبا وفيلسوفا مشاركا في جميع علوم زمانه، وله مؤلفات، منها: كتاب الإحاطة في تاريخ غرناطة، وكتاب الإشارة إلى آداب الوزارة، وبستان الدول.
تآليفه:
وقد أوصل المقري تآليف لسان الدين الخطيب إلى الستين، وأشهر موشح اتبع حتى قلده المشارقة والمغاربة، هو موشح لسان الدين الذي مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
وله غيره موشحات كثيرة وشعر وافر.
المعتمد بن عباد
سيرة حياته:
أبوه المعتضد العبادي ملك إشبيلية، مات أخوه الذي كان صاحب الحق في ميراث العرش، فانتهى الأمر إليه. اتخذ الشاعر ابن عمار وزيرا لدولته، ثم قتله بيده كما مر.
استولى على قرطبة، وبلغ مرسية، ولما اتسعت رقعة ملكه وخاف عليه من ملك قشتالة ألفونس، استنجد بابن تاشفين ملك مراكش فلباه. وأخيرا انقلب عليه وأشعل نار الفتن، فاستولى على قرطبة وإشبيلية وأسر المعتمد ونفاه وأهله إلى أغمات، وهناك مات بعد عذاب شديد وفقر ليس فوقه فقر.
هذا الملك هو أحد الذين صورهم أحد شعراء عصرهم حين قال:
وتفرقوا شيعا فكل قبيلة
منها أمير المؤمنين ومنبر
إنه شاعر، وقد وصف لنا سوء مصيره في شعره الذي هو أبلغ معبر عن آلامه ونكبته الفظيعة. قال يصف موقفه من العيد في أغمات:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتلسيم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءته
وكان فطرك للأكباد تفطيرا
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات بالأحلام مغرورا
وخوفا من أن تتساءل كما تساءل العقاد عن التين والعنب في قصيدة أبي تمام البائية فتقول منتقدا: متى كان المسك والكافور للموطئ؟ فإننا نقول لك كما قلنا لذاك العلامة في غير هذا الكتاب.
حكاية المسك:
زعموا أن زوجة المعتمد أعجبها مشهد النسوة الفقيرات يحملن جرارهن ويخضن في الوحل، فتمنت أن تفعل مثلهن، فأبى المعتمد، ولكنه حبا بتلك الملكة عمل لها وحلة من مسك، فحملت جرتها مثلهن وفعلت هي وبناتها كما فعلن.
ويقال إنها حينما جاءت زائرة زوجها الملك في زندانه، تذمرت وقالت إنها لم تشاهد يوما أبيض في حياتها معه.
فأجابها المعتمد: ولا يوم الطين ...!
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات بالأحلام مغرورا
وفي قصيدة ثانية يصف صورته في الأسر، فقال يخاطب قيده ويستطرد إلى وصف حالة صغاره:
قيدي أما تعلمني مسلما
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
هشمته، لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني والقلب قد هشما
ارحم طفيلا طائشا لبه
لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيات له مثله
جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئا فقد
خفنا عليه للبكاء والعمى
والغير لا يفهم شيئا، فما
يفتح إلا لرضاع فما
كم كنت أتمنى لو كان نابغتنا جبران قد صور المعتمد مستلهما قصيدتيه هاتين بدلا من ذلك الشكل الملكي الذي صور ابن عباد فيه.
إن الرجل في مصيبته أروع منه وهو على عرشه وفي أبهة ملكه.
المعتمد وأبو فراس:
المعتمد أبو عيلة، ولذلك جاء تفجعه مؤلما، أما أبو فراس فكان برا بأمه فما ذكر غيرها حين قال:
لولا العجوز بمنبج
ما خفت أسباب المنيه
فبعد هذا الذي نقلناه لك من شعر المعتمد، أقول: تعطلت لغة الكلام فقابل أنت بين الشاعرين، فكلاهما منكوب، وقد صح فيه قول من قال:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
فلو تذكر المعتمد في سجنه بأية صورة وحشية قتل شاعره ووزيره ابن عمار، لهانت عليه مصيبته، وعندما تقرأ رثاء أبي البقاء الرندي للأندلس، ستهون جميع المصائب. وهذه هي:
رثاء الأندلس لأبي البقاء الرندي
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة
إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو
كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن
وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم
وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب
وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له
حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك
كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله
وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب
يوما ولم يملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة
وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها
وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له
هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت
حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم
من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه
ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة
إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يلهيه موطنه
أبعد حمص تغر المرء أوطان!
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة
كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة
كأنها في ظلال النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة
لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث صناديد الرجال وهم
قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
وأنتم يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم
أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم
أحال حالهم جور وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم
لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج عند السبي مكرهة
والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
أطوار العمر لصالح بن شريف الأندلسي
ابن عشر من السنين غلام
فره زول ثغره بسام
عتل غافل سريع حراك
دأبه الغيظ والرضى والخصام
وابن عشرين للصبا والتصابي
ليس يثنيه عن هواه ملام
حبب الأكل والشراب إليه
وصنوف اللذات وهي حرام
يتمنى المنى ويطلب جدا
فهو مقدام في الوغى وهمام
والثلاثون قوة وشباب
وهيام ولوعة وغرام
فإذا زاد بعد ذلك عشرا
فكمال وشدة وتمام
وابن خمسين مر عنه صباه
فيراه كأنه أحلام
وابن ستين صيرته الليالي
هدفا للمنون وهي سهام
وله الفضل والفخار وشاح
وسكون وهيبة واحترام
وابن سبعين لا تسلني عنه
فابن سبعين ما عليه كلام
لا يبالي على اخترام الليالي
وهو عنها لاه به استصمام
خرق ساهم حريص على المال
كثير الإهتار وغد عبام
فإذا زاد بعد ذلك عشرا
بلغ الغاية التي لا ترام
وابن تسعين عاش ما قد كفاه
واعترته وساوس وسقام
فإذا زاد بعد ذلك عشرا
فهو حي كميت والسلام (7) العصر العباسي الرابع
في سنة 422 تولى القادر، فظهرت في أيامه الدولة السلجوقية وانقرض بنو بويه، فساد السلجوقيون في الدولة العباسية زمنا. وفي أيام المستظهر 490، ظهرت دولة بيت خوارزم وبدأت الحروب الصليبية، التي ظلت زهاء قرنين. وسنة 512، تولى المسترشد فطمح إلى استرجاع حقوق الخلافة واتخذ عسكرا، وجرت حرب بينه وبين السلطان محمود ثم تصالحا، وفي أيامه ظهر عماد الدين زنكي وحارب الخليفة ثم تصالحا، وأسر الخليفة في حرب مع السلطان مسعود ثم قتل 529. وفي أيام المقتفي ظهر نور الدين زنكي وملك البلاد الشامية ثم مصر.
وفي أيام الناصر، اشتدت الحروب الصليبية وحدثت الحروب التترية، وانقرضت الدولة السلجوقية، وزحف جنكيزخان إلى البلاد الإسلامية، وفعل فيها الفظائع، فقاومه ملوك الإسلام دون جدوى.
وفي أيام المستنصر المتوفى سنة 641، تمكنت التتر من أكثر البلاد. وفي ولاية المستعصم ظهرت دولة المماليك الجراكسة في مصر، وزحف التتر على بغداد فقتلوا أعيان بغداد وفي جملتهم الخليفة وأولاده، وارتكبوا الفظائع في بغداد أربعين يوما. وبموت هذا الخليفة انقرضت الدولة العباسية من بغداد سنة 655، وعدد خلفائها 37 خليفة ومدة ملكهم 524 سنة.
انقطعت الخلافة ثلاث سنوات ونصف، حتى جددها المستنصر في مصر وحارب التتر، إلى أن تولى بعده الحاكم الذي ظهرت في أيامه الدولة العثمانية. وظلت الخلافة العباسية في مصر 255 سنة حتى انتقلت من آخر خليفة منهم إلى بني عثمان سنة 922ه. (7-1) الشعر
إن ما حل بخلفاء الدولة من المصائب، وما أصاب المملكة الإسلامية العربية من التضعضع بسبب الحروب والفتن التي توالت - كما رأيت - قد أقل الذين يهتمون للشعر والشعراء، ويأخذون بناصر الأدباء والعلماء، وإذا كان المتنبي شكا وقال: وما تفلح عرب ملوكهم عجم، فماذا يقول شعراء هذا العصر الذين أصبح ملوكهم لا يفهمون لغتهم! فلهذا انصرفت الشعراء إلى الفقه والتصوف، وغير ذلك من الأغراض.
إلا أنهم ظلوا يتحدون أسلافهم الشعراء وينسجون على منوالهم. نظموا في الفخر تقليدا لمن تقدموهم، والفرق بين الفريقين أن المتقدمين فخروا بأشياء اندفعوا إلى الافتخار بها، أما هؤلاء فافتخروا ليقال إنهم افتخروا ! وبماذا يفخرون، وقد صاروا إلى الانقراض؟!
وقس على ذلك المدح؛ فالأولون مدحوا ملوكا هابهم زمانهم، أما هؤلاء فالميدان أمامهم ضيق. وأما لغة الشعر فضعفت عما قبل لبعد العهد بالعرب وفصاحتهم، وتسربت الركاكة إلى الصناعة اللفظية كما فعل المنشئون، فامتلأت أشعارهم بأنواع البديع. وإمام هذه الطبقة الصناعية ابن الفارض الذي بلغ حد الإعجاز.
بهاء الدين زهير
حياته:
ولد بوادي نخلة على مقربة من مكة، ونقل إلى مصر حيث نشأ وتأدب. اتصل بالملك الصالح ابن الملك الكامل من دولة بني أيوب، ورافقه إلى الشام والجزيرة، ولما غلب هذا الملك ابن عمه الناصر وأسره، أقام البهاء بنابلس، حتى عاد سيده إلى الملك واسترد الديار المصرية، فصار البهاء وزيره، وظل كذلك حتى مات الملك الصالح، فانزوى البهاء إذ ذاك وظل كذلك حتى مات بالوباء سنة سقوط بغداد في أيدي التتار.
شعره:
كان البهاء دمث الأخلاق، رقيق الطبع، لين الجانب، عذب الكلام، فأثر ذلك في شعره، فكان من السهل الممتنع. شعره صورة محيطه وصورة أخلاقه وطبعه. لم يقلد أحدا فيه، ولم يلتجئ إلى غير شعوره لإخراج صوره الشعرية.
عبر بلغة عصره وأساليبها، فخلا من كل تعقيد وغرابة، يفهمه كل قارئ، وإننا لنستطيع أن نقول فيه: إنه حلقة الاتصال بين العامية واللغة الفصحى العالية الأسلوب.
أجاد في الغزل والرثاء؛ لأنه لغة العاطفة، وألحق بهما العتاب الذي هو ضرب من الغزل. ترجم ديوانه المستشرق بلر الإنكليزي في مجلدين، وعلق عليه الحواشي.
كان يعول على الأوزان الخفيفة شأن شعراء بغداد الماجنين. مدح ولكنه لم يبرز في المدح، ولم يكن شأنه فيه شأنه في الغزل.
أغلب نظمه في وقائع معلومة بينه وبين أحبابه، وقد كان نزاعا إلى الخروج على المألوف في اللغة كقوله:
بروحي من أسميها بستي
فينظرني النحاة بعين مقت
عمد إلى الصناعة اللفظية، ولكنه لم يكثر منها إلا في مناسبة، بل لا يعتمدها. (7-2) النثر
ميزته:
تمكنت السيادة للأعاجم، فأصبح العرب وغيرهم من رجال القلم مضطرين للتملق ، فنمقوا العبارة وبالغوا في الإطراء والمديح، فتأنقوا في إنشائهم، وزينوا عبارتهم بأنواع البديع والسجع، فتخطوا الحدود التي رسمها من تقدمهم، حتى تعمد هذا السجع كل الكتاب من مؤرخين وغيرهم، فأصبحت كتبهم أحجية لا تدرك إلا بالجهد العظيم.
ومن أئمة إنشاء هذا العصر القاضي الفاضل مقلد بن العميد.
القاضي الفاضل
هو فلسطيني، ورد مصر وكتب أولا في ديوان الظافر، ثم استوزره صلاح الدين أيوب، فساس ملكه، ووزر من بعده لابنه ثم لأخيه حتى توفي.
أسلوبه:
مزيج من أسلوب الكتاب قبله، كالصاحب، وخصوصا ابن العميد. إنما امتازت كتابته في الإغراق في التورية والجناس، فأكثر السجع جدا، وظل مذهبه شائعا حتى عهد ابن خلدون.
الحريري
أبو محمد القاسم بن علي بن عثمان الحريري البصري، اشتهر بمقاماته المشتملة على أكثر كلام العرب وأمثالها ولغاتها. كان في أول أمره يبيع الحرير، ثم تحول إلى الأدب فطارت شهرته، وقربه الأمراء وقصده المتأدبون للاستفادة من علمه.
أخلاقه:
كان دميما، قصير القامة، بخيلا قذرا، أن تسمع به خير من أن تراه، كما قال هو عن نفسه لذلك الذي قصده ثم استبشع منظره.
نثره وشعره:
مكثر في النثر، مقل في الشعر، متبع بديع الزمان، ممهد للأسلوب الفاضلي. قلل من البديع وبالغ في الصنعة، فقلت معانيه وكثرت ألفاظه، وشعره كنثره تنميقا وصنعة.
مقاماته:
وضعها على طريقة بديع الزمان، ويقول إن سبب وضعها أنه كان في مسجد بني حرام، فدخل شيخ عليه طمران، فسأله الحاضرون: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج. فسألوه عن كنيته، فقال: أبو زيد. وجعل الراوي الحارث بن همام مريدا نفسه، ثم زادها حتى بلغت الخمسين بناء على طلب الملك الأشرف.
طبعت هذه المقامات وترجمت مرات عديدة.
تآليفه:
وللحريري غير المقامات، كتاب درة الغواص في أوهام الخواص، بين فيه أغلاط الكتاب الكبار. وكتاب ملحة الإعراب في النحو، وهو أرجوزة. والرسالة السينية؛ أي إن أول كل كلمة فيها سين. ورسالة أخرى في الفرق بين الضاد والظاء.
وظلت المقامات متبعة حتى آخر العصر التاسع عشر، وقد يكتب فيها بعض كتاب اليوم ولا يلتزمون السجع. (7-3) علوم النحو واللغة
وكثر في هذا العصر علماء النحو واللغة، وقام منهم في كل قطر رجال عديدون كالجرجاني.
الجرجاني:
مؤسس علم البيان، وأشهر تآليفه أسرار البلاغة. وضع هذا العلم على قواعد راسخة، وهو يقول إنه اندفع إلى كتابة هذا التأليف عندما رأى الكتاب انصرفوا عن المعاني إلى الألفاظ. وعلى منواله نسج المؤلفون فتوسعوا في هذا العلم، ثم جاء بعده السكاكي والميداني وهو من علماء اللغة أيضا، جمع أوفى كتاب في الأمثال. والزمخشري، وأشهر كتبه المفضل في النحو، وكتاب أساس البلاغة، وهو نسيج وحده يبحث في استعمال الألفاظ ومواضعها من الجمل.
وله أطواق الذهب، وهو كتاب وعظ وأدب على طريقة المقامات، إنما لا قصة فيه. وله كتاب المستقصي في الأمثال، مرتب على الحروف الهجائية.
ابن الحاجب:
وفي هذا العصر ابن الحاجب. كان والده حاجبا للأمير عز الدين الصلاحي بمصر. تأدب في مصر، وانتقل إلى دمشق وعلم في جامعها، ثم انتقل إلى الإسكندرية ومات فيها.
تآليفه:
الكافية في النحو. الشافية في النحو أيضا، وهو مختصر الأمالي النحوية. (7-4) التاريخ الطبيعي
لم يكن هذا العلم مرتبا ودقيقا كما هو اليوم، ولكن العرب كتبوا في هذا كتبا درسوا فيها الحيوان والنبات وما يتبع ذلك من المواد التي تعرف اليوم بالتاريخ الطبيعي. فقد علمنا أن الجاحظ كتب في الحيوان كتابا جليلا درسناه في محله، أما في هذا العصر فقد كتب في الحيوان، كمال الدين الدميري.
الدميري:
كتب «كتاب حياة الحيوان الكبرى» وهو معجم مرتب على أسماء الحيوانات، وصف فيه كل حيوان وأصل اسمه، وما جاء من الحديث والأمثال بشأنه، مع خصائصه الطبية وتفسيره في الأحلام. وفي الكتاب أيضا - على عادة ذاك الزمان - ترجمة من يأتي على ذكرهم من المشاهير والأعيان والخلفاء والشعراء والأدباء ... إلخ. (7-5) الرياضيات
من المؤلفين في هذا العلم، في هذا العصر، الشيرازي. له كتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك. ابن البناء المراكشي كتاب تلخيص أعمال الحساب. (7-6) الفلسفة
القزويني، له كتاب الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية. وله كتب غير هذا الكتاب . (7-7) التاريخ والجغرافية والأسفار
نضجت في هذا العصر مواد التاريخ، وعرف الناس كيف يكتبون فيه، وتعددت الملوك في كل الأقطار، وكل ملك يرغب في تاريخ عهده، فكثر الذين كتبوا فيه، فمنهم من كتبوا التاريخ العام، ومنهم من كتبوا التاريخ الخاص، فتعددت كتب التاريخ في هذا العصر من سير إلى تواريخ دول إلى تراجم مشاهير وتواريخ مدن ... إلخ.
وكذلك جرى في كتب الجغرافية والرحلات والأسفار، فبتعدد العواصم والديار كثرت الأسفار، فدون الكتاب ما رأوا وشاهدوا.
الإدريسي:
أبو عبد الله محمد بن إدريس الصقلي. تثقف في قرطبة، ألف كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، لصاحب صقلية روجر الثاني. بدأ في كتابه بصورة الأرض التي رسمها، وأخذ في وصف أشكال الأرض وطبيعتها واستدارتها وأطوالها. كانت جغرافية الإدريسي هذه عمدة هذا العلم في أوروبا لتقويم البلدان أجيالا، فرسموا خرائطها وترجموها للغاتهم.
يظهر أن الإدريسي كان عارفا في منابع النيل فصورها بحيرات عند خط الاستواء كما يقول عنها علماء هذا الزمان. وفي هذا الكتاب خرائط ورسوم قيمة.
ابن جبير:
هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي. رحل رحلات عديدة إلى مصر والشام والحجاز والعراق وصقلية، فوصف كل هذه الأقطار وما فيها من الغرائب والآثار.
ياقوت الحموي:
هو رومي الجنس، حموي المولد، بغدادي الدار، أشهر جغرافي عربي وأغزرهم مادة وأجلهم نفعا. أسر صغيرا فابتاعه تاجر بغدادي اسمه عسكر الحموي، وعلمه لينتفع به في ضبط تجارته. أشغله مولاه في أسفاره التجارية، فاستفاد بالمطالعة. جاء دمشق وكان متعصبا لعلي، فثار عليه الناس ففر وتنقل في بلاد كثيرة حتى ألقى عصا الرحيل في خوارزم، وفيما هو هناك خرج جنكيزخان على البلاد الإسلامية ففر ياقوت وظل هاربا حتى استقر بظاهر وهناك مات.
ميزته:
مؤلف محقق، حسن الترتيب والتبويب، كما يظهر من كتبه.
كتبه:
معجم البلدان: معجم جغرافي كبير، حافل بأسماء مدن وقرى البلاد حتى أسماء الجبال ... إلخ.
وفي هذا الكتاب، فوق الجغرافية، أدب كثير؛ فهو يروي شعرا كثيرا، وتاريخ كل من أنجبته البلدان التي كتب عنها؛ من شعراء وعلماء وفقهاء وأدباء وخلفاء ... إلخ.
معجم الأدباء:
وهذا كتاب آخر وهو المعجم، تاريخي أدبي، أوسع من كتابه الآنف الذكر. ذكر فيه سير النحويين واللغويين والمؤرخين والكتاب، وكل من ألف في الأدب.
المقريزي:
بعلبكي الأصل، عرف بهذا الاسم نسبة لحارة المقارزة. كان جده من كبار المحدثين في بعلبك، تحول والده إلى القاهرة فولد له تقي الدين المقريزي. تعلم فنونا كثيرة ونظم ونثر، وتولى النيابة في الحكم، وكتابة التوقيع والحسبة والخطابة بجامع عمرو، واتصل ببرقوق الملك، إلى أن انصرف إلى العلم واشتغل بالتاريخ، وكتب فيه كتبا قيمة هي مرجع الناس في شئون مصر تاريخيا واجتماعيا وسياسيا.
خطط المقريزي:
فيه جميع أخبار الديار المصرية وأحوال سكانها وآثارها من باق وبائد. وعند الكلام عن أثر بقيض في تاريخه يسرد ما توالى عليه من الحوادث والنكبات.
وله غير هذا الكتاب كتاب تاريخ مصر «السلوك لمعرفة دول الملوك». وله أيضا تاريخ الدولة الفاطمية. وهناك كتب عديدة لا نستطيع عدها في هذا الموجز.
المقري:
ولد في تلمسان وسمي المقري نسبة إلى قرية نسب إليها آباؤه.
تعلم في فاس ومراكش، ثم نزل القاهرة وزار القدس وحج خمس مرات، وأقام في المدينة وأملى الحديث، وعاد إلى القاهرة ومات فيها فجأة.
تآليفه:
نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، يحتوي تاريخ الأندلس وفتح المسلمين لها ومن حكمها من أمراء وخلفاء. وترجم لمئات من أدبائها وشعرائها، وذكر من أشعارهم، خصوصا لسان الدين بن الخطيب الذي أسهب جدا في وصفه ورواية أدبه. وخلاصة الكلام، أن كتابه هذا يصور الأندلس من كل مناحيها. (7-8) النقد الأدبي
أول من تصدى للنقد كان الجاحظ، وهو أبو الأدب العربي، وجاء بعده ابن قتيبة في كتابه أدب الكاتب، ثم عالج هذا الموضوع كثيرون؛ كالخوارزمي والثعالبي وأبي هلال العسكري، بيد أن انتقادهم لم يكن المقصود من كتبهم. أما انتقاد الألفاظ وغلط العوام فتصدى له كثيرون، وهذا دفع إليه امتزاج العرب بالعجم، ولكن نقد الإنشاء من حيث هو فن مستقل بنفسه، فكتب فيه الجرجاني الذي تقدم ذكره، واضع علم البلاغة.
واستحسن المنشئون هذا العلم فتوسعوا فيه وزادوا عليه، فكان من أئمة هذا العلم ابن الأثير صاحب المثل السائر، فاستوفى هذا العلم وأشبعه بحثا وقتله درسا.
ابن الأثير
هو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله الجزري، المعروف بابن الأثير. ولد في جزيرة ابن عمر. انتقل مع والده إلى الموصل، وهناك حصل العلوم وحفظ من شعر العرب شيئا كثيرا أعانه على الإبداع في النظم والنثر، اتصل بصلاح الدين ثم بابنه الملك الأفضل نور الدين، ولما توفي صلاح الدين واستقل ابنه بمملكة دمشق، استقل ابن الأثير بالوزارة وردت أمور الناس إليه، فأساء معاملتهم فكرهوه. ولما تقلص ظل وليه، هم الناس بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن بن عجم في صندوق مقفل عليه، فلحق بمولاه وصحبه إلى مصر. وفي مصر أساء معاملة الناس أيضا، ولو لم يهرب لكانوا قتلوه. وظل يسيء معاملة الناس ويتنقل من مكان إلى آخر حتى أدركته الوفاة.
أخلاقه:
متكبر، مدع، شرس الأخلاق، مطبوع على حب الاستبداد.
كتابه: «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». مؤلف نفيس، وافر المادة، محكم الوضع، جمع أصول علم الإنشاء وفروعه، لم يترك مسألة إلا شرحها، ولا فائدة إلا سجلها، ولا بحثا إلا جال فيه، مبينا محاسنه، كاشفا عن معايبه، فجاء كتابه هذا جامعا لكل فنون الكتابة مبوبا مرتبا بكل دقة، يشهد لصاحبه برسوخ القدم في هذا الفن، وغزارة علمه في هذا الفرع، إلا أنه - سامحه الله - بدأ بالادعاء المشين من مقدمته إلى خاتمته، فلا تمر صفحة إلا نرى فيها إلفات نظر إلى ما استنبط ابن الأثير، أو إلى ما نظم، أو إلى ما أدرك، وهلم جرا، حتى يخيل إلى القارئ أنه وضع هذا الكتاب ليبين لنا اقتداره وتقصير كل من تقدموه.
موضوع الكتاب:
صناعة الإنشاء لفظية ومعنوية، وفي آخره فصل في النقد دل فيه على سرقات الشعراء، وقسم السرقة إلى ثلاثة أقسام: نسخ وسلخ ومسخ، وقسم كل نوع إلى أبواب.
لقد أجاد في كل ما كتب في هذا السفر الذي لا عيب فيه إلا ادعاء صاحبه. (8) عصر الانحطاط (8-1) المغول
سقوط بغداد:
زحف جنكيزخان بجيشه فاكتسح خراسان ففارس، وأعمل سيفه في كل بلد نزل فيه، فما كان يترك مملكة إلا قفرا يبابا. وبعد ثلاثين عاما ونيف، زحف ابنه هولاكو فعبر نهر جيحون، قاصدا بغداد، فاستولى على قلعة «ألموت» وذبح من فيها من الجنود.
وفي سنة 655، نشب خلاف بين الشيعة والسنة كان أشبه بحرب داخلية قتل فيها عدد من الشيعة، فغضب لذلك الوزير ابن العلقمي فشجع التتار على غزو العراق والاستيلاء على بغداد، فملكوها وقتلوا الخليفة المستعصم بالله، وأعملوا السيف في بغداد 34 يوما، فما نجا إلا من قدرت له النجاة.
فدالت دولة العرب ولم يبق لهم من صورة الملك إلا دويلات لا شأن لها ولا قيمة.
رجال العلم:
وقف رجال العلم تجاه هذا الحدث الخطير وقفة حائر، نظروا إلى بغداد ملجأ العلماء فإذا نار الإرهاب والفتك مضطرمة بها، رأوا كل شيء عربي معرضا للفناء، فعلمهم وأدبهم يقذف به إلى نهر دجلة، ففكروا إلى أين يهربون ويلجئون؟ فلم يروا أمامهم إلا مصر والشام. (8-2) مصر المماليك
كان المماليك رجال حرب وفتك لا يميلون إلى الترف واللهو، بعضهم متمسك بالدين، إنما الدين الذي تصوره له فطرته وتلونه بيئته ونشأته، فكانوا يمزجون الدين بالسياسة إذا اضطروا إليه لجذب قلوب الناس، ولهذا أنشئوا الجوامع والمدارس والملاجئ والمصحات، وحبس المال على عمل البر، وتقريب العلماء وتشجيعهم على نشر العلم بالمدراس والتأليف. وقد يكون الدين عندهم لإذكاء نار الحرب كما وقع لهم إذ رأوا أنفسهم حماة الإسلام، وملجأ الأمم العربية المهزومة؛ فالملك الظاهر بيبرس حمى خلافة بني العباس وتقبل ولاية الحكم من المستنصر بالله العباسي الذي فر من وجه التتار إلى مصر.
هجرة العلماء:
أخذت القاهرة مكان بغداد فأصبحت دار العلم لما فيها من مدارس ومجالس، فشرعوا يؤلفون ويكتبون وينثرون وينظمون، ثم فر علماء الأندلس أيضا إلى مصر؛ لأن ما حل بالعباسيين حل ما يشبهه بالأندلسيين.
ولكن هجرة العلماء إلى مصر والشام لم تترك أثرا بينا في الحياة في هذين القطرين، بل لم تتعد غيرهما من بلاد المشرق ، ولم تحدث أي حدث اجتماعي؛ لأنها كانت علمية أدبية دينية ليس غير؛ فمقدمة ابن خلدون، نزيل مصر أيام السلطان، لم تحدث أقل تأثير مع أنها تتضمن كثيرا من الآراء الاجتماعية الناضجة، وتحتوي على آراء سديدة في سياسة الممالك وإنهاض الشعوب. وما السبب إلا جمود الناس وتمسكهم بالقديم، وخمول الشعب وجهله.
ضعف النثر:
ضعف النثر لشغف الكتاب بتزيين اللفظ وتجميله بالسجع، وتحليته بالبديع، وانصرافهم عن المعاني والأفكار، فإذا قرأت لكاتب مقالة في هذا العصر رأيت أنها لا تشتمل على معنى باهر أو فكرة بعيدة؛ لأن الكتاب كانوا يفكرون في الألفاظ قبل المعاني، وفي هذا مقاومة للعقل؛ فلهذا جاء الإنشاء متكلفا خائرا.
وهذا الضعف بدت بوادره قبل سقوط الدولة العباسية بزمن غير يسير، غير أن الكتاب في هذا الزمان نسجوا على منوال القاضي الفاضل، فالتزموا السجع والتورية وغالوا في ذلك جدا، حتى أتوا بما ينافي الذوق.
ضعف الشعر:
وبدت على الشعر آثار الضعف والتقهقر؛ لأنه لم يرسل مع الطبع والسليقة، كما كان شأنه في العصر العباسي الأول. ضعفت الملكة الشعرية والخيال والابتكار والتوليد، وأحس الشعراء ذلك فلجئوا إلى العناية بالألفاظ، فجعلوها براقة خلابة، ولكنها لا تخلو من براعة، وكادت تكون جميلة لولا خلوها من الأفكار التي يهتز لها الفكر الإنساني أكثر من الكلام. لقد كانوا كاللاعب على الحبل يدهشك بلباقته، ويؤسفك أن يضيع وقته بأمور تافهة كهذه.
وقد ظل الشعر أرقى بكثير من النثر؛ لأن تقيده بالوزن والقافية لم يفسح للمحسنات اللفظية لتلجه بسهولة وكثرة، كما كان شأنها في النثر.
ولا تنس جهل أكثر هؤلاء السلاطين بفنون الأدب وذوق العربية، فلو كانوا يتذوقون الأدب والشعر لانصب الشعراء على عملهم الفني وأتقنوا نظمهم وجودوه؛ فلهذا لم يكن للملوك في هذا العصر شعراء مجيدون إلا في «حماه» حيث بقيت هذه العادة ردحا من الزمن، ولهذا لم يكن الشعر هناك صناعة لفظية.
ومما يدل على انحطاط الشعر تصدي معظم الفقهاء والعلماء والكتاب لنظمه من غير هيبة ولا خشية. وإليك مثالا من ذلك الشعر، قاله أحدهم في السلطان برقوق:
سلطان مصر دام فضل علائه
قد عمنا بالفضل والإحسان
لم أنس يوم السبت حسن مهمه
قد كان يوما جاء بالسلطان
الحلي:
هو صفي الدين أبو البركات عبد العزيز بن سرايا الحلي. ولد ونشأ في الحلة، أيام كانت العراق تعج بالبلايا وتنهل عليها الدواهي. هجر الشاعر مسقط رأسه وأم الملوك الأكراد آل أرتق أصحاب ماردين، فأحسنوا وفادته وأجزلوا صلته، وصانوا مهجته من الاعتداء. فرتع في ظلهم، فقال فيهم شعره الجيد ويعرف بالأرتقيات، منها 29 قصيدة كل منها 29 بيتا على حرف من حروف المعجم، يبدأ به البيت ويختم به من الهمزة إلى الياء. ووسم هذا المجموع بدرر النحور في مدح الملك المنصور، وورد الحلي مصر ومدح ملكها الناصر بقصيدة غراء ليس فيها هذه الصنعة، ثم عاد إلى ماردين، وحن إلى وطنه، فعاد إليه وهناك مات.
شعره: أغراضه:
لم يدع الحلي بابا من أغراض الشعر إلا ولجه، وقد بنى ديوانه على أحد عشر بابا ولجها كلها وغالى في المجون والإحماض.
أوزانه وضروبه:
نظم القصائد مطولات، ومقطعات، ومخمسات، ومشطرات، ومواليا، وزجل، وقوما، وكان كان ... إلخ.
قيمته:
إن هذا الشاعر يعد إماما للصناعة اللفظية في الشعر، فنسج على منواله كثيرون ممن جاءوا بعده، فصرفوا عنايتهم إلى الجناس والتطبيق والتنسيق، فأصبح الشعر صورة جامدة لا تجري فيه ماوية الحياة والعاطفة، ثم تدرج شيئا فشيئا حتى صار لا تشتهي أن تسمعه، وإذا رأيت صاحبه فلا تستحي تصفعه ...
بيد أن له صورة أخرى لا تقل رواء عن الشعراء المجيدين، وذلك حيث لم يتعمد التكلف، كما في قصيدته البائية التي مدح فيها ملك مصر السلطان الناصر.
وكقصيدته الرائية التي حرض فيها الملك الصالح على الاحتراز من المغول ومنافرتهم عند إقبالهم، ومطلعها: لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ... إلخ.
وكقصيدته الفخرية في الحماسة: سلي الرماح العوالي عن معالينا.
الخلاصة:
إن الحلي هذا زعيم شعراء عصر الانحطاط، وشعره متفاوت في الجودة، فآونة يسف دون الشعراء، وحينا يسمو إلى ما فوق أفقهم. وعلى كل فلا تزال في شعره رائحة الشعر البليغ من فصاحة لفظ ورشاقة أسلوب.
وشعره في جملته سهل الألفاظ حسن المعاني، إلا ما تكلفه منه للمعاياه وإظهار الحذق والمقدرة اللغوية والفنية، فإنه جاء رديء النسج، ثقيلا على السمع، ومن هذا في ديوانه شيء كثير. وهو أول من نظم في المدائح النبوية.
ابن الوردي: حياته:
هو زين الدين عمر، ولد في معرة النعمان ومات بحلب، برع في الأدب والنحو واللغة والتاريخ والفقه، له مؤلفات تاريخية: تتمة المختصر في أخبار البشر. وله في النحو: اللباب في الإعراب، وشرح ألفية ابن مالك. وترك في الأدب ديوان شعر، ومقامات كالحريري، وقصيدته الحكمية المعروفة بلامية ابن الوردي. وقد طبع أحمد فارس الشدياق هذا الكتاب في مطبعته بالأستانة.
شعره:
بسيط الأسلوب، وسط في جودته، كان يحسنه بالأنواع البديعية متبعا عصره في ذلك. هذا الشاعر الذي ينهى عن قول الغزل ويأمر بمجانباته، نرى في ديوانه مقاطع غزلية لها قيمة وقدر.
ابن نباتة:
ومن شعراء هذا الزمان ابن نباتة. في شعره رقة وسهولة وإيراد ونكتة مستملحة. ولا غرو فهو مصري المولد والمنشأ.
الشاب الظريف:
وهو شاعر مصري أيضا، رقيق الكلام منسجم العبارة.
ومن الشعراء أيضا: التلعفري، والبوصيري، وهذا شاعر اشتهر بقصيدته: «البردة» في مدح النبي، يعرفها عدد لا يحصى من البشر، وطبعت طبعات مختلفة.
وله أيضا قصيدة نبوية همزية، لا تقل عن البردة الميمية رونقا وجلالا، أما شعره في غير هذا الغرض فليس بالشعر العالي. (8-3) التأليف والمؤلفون
في هذا العصر كثر التأليف في كل الفنون والعلوم، ولعل من أقوى الأسباب كثرة المدارس، وميل ملوك القاهرة إلى اقتناء الكتب النادرة، وإنشاء الخزانات لأنواع عديدة من المؤلفات.
ولكن التأليف في هذا خلو من الابتكار، وما هو إلا جمع من آثار المتقدمين، هذا إذا استثنينا تاريخ ابن خلكان وخطط المقريزي.
علوم اللغة والتاريخ:
من أئمة علم النحو في هذا العصر ابن مالك الطائي، دمشقي المولد، اشتهر في تسهيل الفوائد في النحو. والألفية، وهي النحو، يعرفها الكثيرون بابن عقيل لأنه شرحها. واشتهر أيضا بكتاب الكافية، ولامية الأفعال، وهاتان أيضا منظومتان في النحو كالألفية.
ابن منظور:
صاحب لسان العرب، وهو أكبر معجم عربي يقع في 20 مجلدا، مرتب على أواخر الكلم، ويعد دائرة معارف في اللغة والأدب والتفسير.
ابن هشام:
صاحب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وهو كتاب درس فيه النحو درسا عميقا دقيقا، وخصوصا معاني الحروف.
ابن خلكان:
كان قاضيا مدرسا. أشهر تآليفه كتاب وفيات الأعيان، وهو معجم تاريخي يدل على ابتكار وتدقيق، ومرجع في التاريخ واللغة والأدب.
ابن خلدون:
تونسي المولد، تنقل بين المغرب والأندلس كاتبا ومشيرا لأمرائهما، ثم رحل إلى مصر واتصل بالسلطان برقوق، فولاة قضاء المالكية، ومات في مصر.
مقدمته:
أشهر كتاب يحق للعرب الافتخار به؛ لأنه بحث جامع في علوم الاجتماع والسياسة وفلسفة التاريخ. بحث كل ذلك في أسلوب سهل شائق لم يشب بصناعة، واستنباط منطقي صحيح.
القلقشندي:
نبغ في الإنشاء. وله كتاب: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، اشتهر به، وهو يضم إلى صناعة الإنشاء تقويم البلدان.
الصفدي:
هو صلاح الدين أبو الصفاء بن أيبك الصفدي، ولد في صفد، وتلقى العلم عن ابن نباتة في دمشق. تولى ديوان الإنشاء في صفد وحلب والقاهرة.
قيمته:
من أعاظم كتاب العصر المغولي وأوسعهم علما وأكثرهم عملا. ألف في مواضيع شتى. حسن الأسلوب، وأغلب كتاباته في التراجم التاريخية.
تآليفه:
الوافي في الوفيات، وهو معجم في التراجم. وله نصرة الثائر على المثل السائر، وهو نقد لكتاب ابن الأثير، انتقد عليه إعجابه بنفسه، واستدرك عليه أشياء فاتته. وله كتب عديدة غير هذه الكتب لا مجال لعدها هنا، وأكثرها محفوظ في مكاتب الغرب.
أبو الفداء:
هو الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي الأيوبي. ولد بدمشق التي لجأ أبوه إليها عند اكتساح المغول حماة قاعدة ملكه. تأدب أبو الفداء على علماء عصره فبرع في العلوم اللسانية والدينية والفقه والتاريخ والطب والأدب والشعر وعلم الهيئة. كان فارسا شجاعا، حضر مع أبيه حصار قلعة مرقب وحصار طرابلس وعكاء.
تقرب من الناصر بن قلاون فسر به وولاه نيابة حماة، ثم جعله ملكا عليها، فكان الملك المحبوب المحمود الأثر.
آثاره:
لأبي الفداء نظم ونثر وتصانيف، منها: «المختصر في أخبار البشر»، اختصره عمن تقدمه؛ كالطبري وابن الأثير المؤرخ لأصحاب المثل السائر، وتممه إلى سنة 730ه. وقد نقله الإفرنج إلى لغاتهم. وله في الجغرافية كتاب تقويم البلدان، جمع فيه كل مفيد. ويمتاز بضبط الأسماء وتحقيق العروض والأطوال، مع ذكر ما تجب معرفته من الأراضي والبحار والأقاليم العرفية والحقيقية على مذهب القدماء، فكان لكتابه هذا شأن عند الفرنج للوقوف على الجغرافية العربية.
ابن العبري:
هو أبو الفرج غريغوريوس بن أهرون الملطي. درس الطب على أبيه، ثم على غيره من المشاهير، وتضلع أيضا من سائر العلوم والفنون. كان يحسن العربية والسريانية واليونانية.
ولما انقض المغول على ديارهم هرب مع والده إلى أنطاكية، وانقطع ابن العبري عن العالم معتبرا بمصائب الأمم ونكبات الدول، فلجأ إلى كهف يتعبد فيه، فاهتدى رئيسه البطريرك إليه، وعرف تقواه وسامه أسقفا في العشرين من سنيه، وأوفده إلى طرابلس، ثم ولاه رئاسة أساقفة حلب. واعتبره هولاكو ملك المغول لفضيلته وعلمه، فأطلق هذا يده، فاستخدم هذه الحرية التي كان يتمتع بها في خدمة القريب والعلم.
آثاره:
له مؤلفات كثيرة في السريانية، تشهد له بالعمق وبعد الغور في الفنون.
مختصر الدول:
وضعه تلبية لأحد أفاضل العرب، وهو تعريب تاريخه السرياني ملخصا، ولكنه أضاف إليه ما يتعلق بدولتي المسلمين والمغول، وقسما لأخبار الأطباء والرياضيين.
القزويني:
مؤرخ شهير اسمه زكريا بن محمد، يتصل نسبه بمالك بن أنس، كان إماما فاضلا وعالما فقيها، أتقن فنون الأدب وتفقه في الدين، عينه المعتصم قاضيا على واسط والحلة، وفي دمشق تعرف على ابن العربي الصوفي الشهير.
أشهر كتبه هو كتاب عجائب المخلوقات في وصف الكون، وله في هذا الكتاب آراء جليلة وأخبار طريفة. وله كتاب آخر عنوانه «آثار البلاد»، وهو مثل كتابه الأول.
ابن بطوطة:
هو الرحالة الشهير شمس الدين أبو عبد الله الطنجي. ولد بطنجة ونشأ وتأدب فيها، ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره قصد مكة ثم جاب العراق ومصر والشام واليمن والهند، ودخل مدينة دلهي عاصمة البلاد، وولاه ملكها خطة القضاء المالكية، ثم ساح في الأقطار الصينية وأسر وتملص من أسره، فدخل بلاد التتار، وتوغل في القارة الأفريقية إلى تمبكتو، وطاف في بلاد الأندلس، ثم عاد إلى بلاد الأندلس.
تحفة النظار:
في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وتعرف برحلة ابن بطوطة، كتاب ضمنه المؤلف أخبار كل ما رآه وشاهده. طبعت في باريس ومصر.
اهتم الإفرنج لهذه الرحلة كثيرا، عندما اهتموا بالشرق والسفر إليه، عولوا عليها وانتقدوها وعلقوا عليها ونقلوا بعضها إلى اللاتينية ونشروه، وترجمت للغات عديدة.
السيوطي:
هو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال السيوطي، إمام أئمة المسلمين، وزعيم العلماء الأعلام. ولد بأسيوط، ونشأ يتيما بمصر، وحفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين.
أتقن في قليل من الزمن فنون عصره، وتبحر في التفسير والحديث والفقه والنحو والبيان والبديع على طريقة العرب.
ساح السيوطي في بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور حيث كان في كل مكان يتذاكر مع العلماء ويباحثهم. وتولى تدريس الفقه في المدرستين الشيخونية والبيبريسية، فطار صيته وانتهت إليه رئاسة العلوم الدينية في عصره.
أخلاقه:
كان حادا نزقا، ثقيل الوطأة على الكتاب الذين يعتقد أنهم اقتبسوا من مؤلفاته، فيشهرهم. أما هو فكان يعبث بتآليف المتقدمين فينتحل وينسخ. كان سريع الخاطر غزير المادة سيال القلم. له 300 مؤلف بين بسيط ووسيط ووجيز.
قيمته:
أفاد كثيرا بإبرازه طائفة من المؤلفات كانت امحت آثارها لولاه.
ولو لم يكن له إلا كتاب الإتقان في علوم القرآن، والمزهر في أصول اللغة، والأشباه والنظائر في دقائق النحو وأصوله، والهمع على الجمع، في فروع النحو والصرف وأصولهما، لكفى. (8-4) الأدب
الأبشيهي:
هو محمد بن أحمد الخطيب الأبشيهي، صاحب كتاب المستطرف في كل فن مستظرف، وهو من الموسوعات الأدبية، يشتمل على 48 بابا في مباني الإسلام، والعقل والذكاء، والحمق، والقرآن وفضله، والعلم والأدب ... إلخ.
وبحث في الملك والسلطان وطاعة ولي الأمر ... إلخ، وفي العمل والكسب وأخبار العرب ... إلخ، وفي الدواب والحشرات، مرتبة على أحرف الهجاء، وفي البحار وعجائبها والأنهار ... إلخ، وهو يتضمن أيضا فوائد تاريخية واجتماعية وأدبية وسياسية ... إلخ .
ترجمه الإفرنج إلى الفرنساوية، وطبع في باريس وترجم إلى التركية.
ومن علماء اللغة الذين لم نذكرهم: الفيروزابادي، اشتهر بقاموسه «المحيط»، مرتب على أواخر الكلم.
المدارس:
ذكرنا أن المغول تغلغلوا في العراق واستولوا على ما جاورها، ففر العرب العلماء من تلك الديار إلى الشام والقاهرة حيث كانت دولة عربية اللسان.
فدولة المماليك كانت تسير على خطى الأمراء والملوك العرب بتقريب العلماء والشعراء، ورغبوا في اقتناء الكتب فنشأت في عهدهم.
وأول من اهتم بالتدريس على نفقته من السلاطين هو المعز الفاطمي، عمل ذلك في الأزهر، ثم عمل مجلسا في جامع عمرو بن العاص، ثم بنى الحاكم بأمر الله دار العلم في القاهرة، ولما انقضت الدولة الفاطمية بنى صلاح الدين لكل طائفة مدرسة.
وفي هذا العصر كثرت المدارس وكثر المدرسون والطلاب، فتنافس الملوك والأمراء وسراة المصريين والسوريين في إنشاء المدارس، يتقربون بذلك إلى الله لنشر علوم الدين أولا، ثم غير ذلك من العلوم.
وتكاثر الطلاب من أقطار مختلفة، فكانوا ينامون في تلك المدارس وينفقون من مال المحسنين، وكان في هذه المدارس خزانات علم كبيرة تضم عشرات الألوف من المجلدات.
وأشهر هذه كانت في القطر المصري، وهي: المدرسة الفاضلية، والمدرسة الصاحبية البهائية، أنشأها الوزير الصاحب بهاء الدين سنة 654.
والمدرسة الظاهرية بناها بيبرس «الظاهر» سنة 662، كان بها خزانة كتب تشتمل على أمهات العلوم. (9) العصر العثماني
نشأت الدولة العثمانية في آسيا الصغرى، أثناء العصر المغولي، ولما رسخت قدم الترك في تلك المنطقة، قطعوا البحر إلى أوروبا ففتحوا القسطنطينية سنة 857ه، ونشروا لواء الإسلام في شرقي أوروبا، ثم تحولوا إلى المشرق فافتتحوا مصر والشام، على عهد السلطان سليم الثاني، فأصبحتا ولايتين عثمانيتين سنة 923ه.
أصبح الشرق الإسلامي في يد ثلاث أمم: الفرس في إيران وخراسان، والمغول من أفغانستان إلى أقصى الهند، والأتراك في مصر والشام والعراق وتونس والجزائر.
العثمانيون أتراك خلفوا المماليك وهم أتراك أيضا، ولكن العالم العربي لم يشعر في عهد المماليك بما شعر به في العهد العثماني للأسباب الآتية: (1)
المماليك كانت عاصمتهم مصر وهي قلب العالم العربي . (2)
كانت العربية لغة دولة المماليك وكانوا يحبون العلماء ... إلخ. (3)
بعد عاصمة العثمانيين عن البلاد جعلهم يخافون على ولاياتهم العربية، ففرقوا الناس واستبدوا واختلسوا أموال الرعية وأرهقوا النفوس.
انحطاط اللغة:
لم تنحط اللغة إلا في آخر العصر المغولي؛ لأن ما ظهر في أوائله كان من نتاج الأعصر السابقة، أما في هذا العصر ففسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح، ولم نعد نرى من التآليف غير الشروح والحواشي، وكثر التأليف بلا نظام كالكشكول، وانحط الأسلوب الإنشائي حتى كاد يكون عاميا.
وانحطت الأخلاق باستعمال المخدرات والانعكاف على المسكرات، وكثر السفه في المجون، وتأليف الكتب المملوءة بالفحشاء والخلاعة.
السلطان سليم:
كان هذا السلطان مدمرا هداما، أغار على خزائن دور العلم فنهبها، واختلس كثيرا من آثار البلاد؛ وخصوصا مصر، حتى إنه انتهب مال الأوقاف، فكسدت سوق العلم وأصبحت التركية اللغة الرسمية، وظلت اللغة العربية لغة الدين، وصارت لغة التخاطب، في مصر خصوصا، مزيجا من العربية والتركية. أما في هذه الديار الشامية فبقيت أسلم؛ لبعدها عن الأتراك ولاختلاط أهلها بالقبائل العربية المنتشرة فيها.
النثر الفني:
بلغ النثر الفني في هذا العصر أقصى الركاكة، وفسدت اللغة أسلوبا وإعرابا. عجز كتاب هذا العصر عن مجاراة من تقدموهم حتى في الصناعة اللفظية التي قبحناها.
الشعر:
أما الشعر فلم ينج من هذه البلية ففسدت نواحيه ولم ينج منها إلا القليل. ومن أشهر شعراء هذا العصر البعيد عن التكلف وفي شعره انسجام ولطف وخلو من التعمد هو: ابن النحاس الحلبي، مات بالمدينة.
وعبد الله بن شرف الدين الشبراوي من أساتذة الأزهر، رقيق الشعر سهله، مات سنة 1172.
ومن هؤلاء المجيدين ابن معتوق الموسوي.
وظهر شعراء غير هؤلاء تغلبت الركاكة على شعرهم، ولولا أن العربية لغة الدين، لسادت الركاكة وكانت البلبلة أعم ولم نر كلمة تمت إلى اللغة الفصحى بنسب.
علماء اللغة:
في هذا العصر هما: الخفاجي والصبان. ومن المؤرخين: (1)
محمد بن طولون:
تعلم في القاهرة وعلم في المدرسة الصالحية بالشام وألف كتبا نفيسة. (2)
عبد الغني النابلسي:
زعيم المتصوفين وإمامهم في هذا العصر، ولد في دمشق سنة 1640، له تآليف عديدة، منها شرح ديوان ابن الفارض قطب صوفية زمانه. توفي سنة 1731، ويقال إن أول كتاب طبع في دمشق هو كتابه «الأوراد». (3)
محمد بن عبد الوهاب:
توفي سنة 1787، وهو رأس الوهابيين وإمامهم، نجدي، حنبلي المذهب، ترمي تعاليمه إلى التوحيد فقط، وترك كل شيء ما عداه. عنف مسلمي زمانه واتهمهم بالكفر فهموا بقتله، فانتصر له الأمير ابن سعود.
عصر النهضة
(1) النهضة اللبنانية
الجذور:
إن شجرة الأدب أبعد الأشجار جذورا؛ لأنها مغروسة على مجاري ذات الإنسان العظمى منذ الأزل، وسيظل ظلها يتنقل من حال إلى حال، من آلهو إلى الماهو، حتى يقع الجنس البشري تحت ضربة نورية من ضربات بعض المجانين من بني البشر. عن ذاك ينتقل الأدب إلى نوع آخر يبدعه كر ملايين السنين، وتكونه النواميس الأزلية على هواها الهدام البناء، وهو لا يفنى.
الأدب زرع عقلي جرثومته في دماغ كل منا ينبت ويستوي على ساقه، ويتغذى من تلافيف أدمغتنا إلى أن يصير صالحا غذاء لغيره. والحركات الفكرية تتبع ناموسا لا محيص لها عنه، فبينا ترى العلم يزدهر في منطقة ما، إذا به يذبل وينتقل وينمو في منطقة أخرى لم تكن تخطر على بال.
الرها:
فالرها التي كانت عاصمة دنيا العلم تشع منارتها وتضيء المسكونة إذا بالإنسان هذا الخالق العجيب الغريب يتهافت عليها من كل فج عميق. فثقافتنا الرهاوية الأصل لسانا وعلما وفلسفة تغيرت وتبدلت وتحولت في أعراقنا كما تتحول المواد الغذائية وتجري في الأجساد لتعمل واجبها في خدمة الحياة التي لا تحول ولا تزول، وإن تبدلت الأشكال تظل هي إياها في الجوهر.
عندما كان يأتينا السرياني قبل الحرب العظمى مشردا طالبا القوت كنا لا نأبه له، بل نزدريه، لا نعلم أنه حفيد مدينة الرها عاصمة العلم ومنبت المفكرين؛ حيث كان يعلم أشهر فيلسوف شاعر: مار أفرام السرياني.
فالرها هي ذات الحظ الأوفر من ثقافتنا العربية، نصارى ومسلمين، وقد ظلت قرونا على كرسي مجدها الثقافي تصنع المدنية وتزرع المعرفة بإخراج شباب الدنيا إلى عالم الضياء، وقد مرت بك في أول هذا الكتاب الفتوى التي تقول: يحل لنا أن نعلم أبناء المسلمين العلوم العالية.
فتيوفيل بن توما الرهاوي الماروني هو تلميذ الرها، جامعة ذلك الزمان العظمى، وقد أهله علمه إلى رئاسة ديوان المنجمين في عهد المهدي.
والرها التي انتسب إليها تيوفيل هذا كانت مدينة العلم في تلك القرون المظلمة. فتحها العرب سنة 639 ودخلها البيزنطيون سنة 942، ثم الصليبيون 1098، ثم ملك الموصل عماد الدين، فالأتراك عام 1637.
وتلك الأيام نداولها بين الناس، وعلى هذا الناموس يسير البشرية من يدبر الأمور ويفصل الآيات. أنا لا أجزع إذا رأيت شر النكبات يستفحل؛ لأني أعلم أن ذاك الشر يحمل في منقاره بزورا خيرة، يأخذ هو القشرة واللب وتبقى النواة لتصير فيما بعد شجرة تعشش النسور والعقبان في أغصانها.
فالذي نقل فتياننا من مغارة قنوبين وكهف دير قزحيا إلى الفاتيكان وقصور عواصم أوروبا، ودور مكاتبها التي بنتها يد الفن لا يد الجن الذين بنوا تدمر بالصفاح والعمد، هو الذي قضى بهذه النقلة، وليس لقضائه مرد.
الصليبيون:
نكب الصليبيون وغيرهم مدرسة الرها مدينة الثقافة في ذلك الزمان، وتوالى عليها غزاة فاتحون آخرون فطارت نسور الثقافة من أوكارها إلى لبنان مزودة بما تستطيع حمله من زاد العلم، وفي العش اللبناني الممنع استقرت طيور العلم على مفرق الشرق والغرب، وبقيت الحملات الصليبية تتوالى على الشرق منذ سنة 1096 حتى كانت الحملة الثامنة سنة 1270، وفي سنة 1291 تقلص ظل آخر صليبي غريب عن البلاد.
نعم جاءوا باسم الدين وذهبوا أخيرا مكسورين بعد نضال قرنين إلا خمس سنوات، ولكن تلك الحملات العصبية تركت في لبنان آثارا حضارية أفاد منها جميع سكان المشرق، وخصوصا لبنان الذي امتزج بهم باسم الدين ولأجله. وقد وصف شوقي هذا الموقف بقصيدة دالية سنقرئك بعضها حيث نتحدث عن هذا الشاعر العظيم.
وقبل أن نفارق هذا الموقف يجب أن نعطيك مؤقتا هذه الحبة المسكنة استعدادا لتناول الجرعات الكبرى. قال شوقي بعدما وصف عرضا الحملات الصليبية:
لولا ضلال سابق لم يقم
من أجلك الخلق ولم يقعد
لقد أحدثت تلك الحروب الدينية خرابا وهيجت بعض الناس على بعض، ولكن الحروب كدلاء الناعورة يفرغ واحد ليمتلئ الآخر. خربت الرها فملأت ديورة لبنان ثم خزائن أوروبا كتبا.
كان لبنانيو شمالي هذا الجيل يعرفون السريانية لسانا وكتابة وترتيلا، فاطلعوا على ثقافة جديدة. واللبناني منذ كان، لا بد له من لغتين، فشكرا للمغول، فلولا بغيهم لم نتعلم اللغة العربية. فما أطل القرن الخامس عشر حتى عرفنا العربية ثم حملنا بزورها فيما بعد إلى جميع أقطار المسكونة، وإليك قصة الثقافة عندنا من أولها.
جاء الصليبيون وفي نيتهم أن ينجدوا المسيح، فإذا بهم يعرفون إخوته، وهم جميع الناس على بعضهم، ثم يخدمون الثقافة والعلم حتى زالت إشارة الصليب اليوم إلا من الأماكن الخاصة بالعبادة. فاللبناني، وإن كان متدينا، يهمه العلم والثقافة؛ ولذلك دفع إخوانه في الوطن إلى اقتباس المعرفة.
إن نهضتنا في بدئها كانت ثقافية لا لغوية بيانية. عرفنا الغرباء الذين نزلوا في ربوعنا فأخذنا منهم وأعطيناهم، وكانت هذه المعرفة لخير الإنسانية جمعاء، وفي مقدمتهم أبناء عمنا العرب الذين كانوا في حالة حرب مع الحملات الصليبية، فنبنا نحن عنهم في الاقتباس، وكان ذلك خيرا لنا ولهم. وقد بانت النتيجة بعد ذهاب الصليبيين الذين تأثروا بنا، وتعلموا منا وعلمونا، مغربونا ومشرقناهم. ثم تابعنا هذه الرسالة في جميع أقطار الدنيا، ولذلك قال حافظ إبراهيم في اللبنانيين ونهضتهم الباسلة:
سعوا إلى الكسب «محمودا» وما فتئت
أم اللغات بذاك السعي تكتسب
فحيث كان «الشآميون» كان لها
عيش «جديد» وفضل ليس يحتجب
كان ظل الصليبيين في تقلص حين جاء عهد التتر الذي اجتاح ملك العرب، فقتل وهدم وخرب، فلم تجد طريدة هولاكو حجرا تلجأ إليه آمن من ديورة جبل لبنان، وما تلك الديورة غير مغاور وكهوف لم تكن تؤخذ في زمن الخوف والفزع.
فتحت تلك الأطناف التي تحرسها شماريخ الجبال، وفي جوار الوجوه التي عرفتها في الرها من أصحاب الغنابيز والزنانير الذين جعل لهم النبي محمد حرمة بقوله لأنصاره : تجدون رجالا حبسوا أنفسهم في الصوامع فلا تمسوهم. وهكذا تركوهم بجوار قناديل المعرفة منكبين على كتبهم يؤلفون وينقلون إلى العربية كنوزا خالدة.
أفزع هولاكو وجنكيزخان لغة الله، ولكنها أمنت واستراحت حقبة في جوار أولئك المشايخ فكانوا لها مؤنسين ومشجعين، ولما اطمأنوا واطمأنت راحوا يبحثون ليروا ما ترك لهم الذين عرفوهم في الرها حين احتلوها.
جاء أولئك من أوروبا وبقوا في لبنان قرنين كما ذكرنا، ثم ذهبوا وبقيت قلاعهم وحصونهم وقصورهم وكاتدرائياتهم زينة لأرضنا، وكان من نتائج حملاتهم الغواشم التعارف والتفاهم بين الشعوب، ونشر المدنية بمقدار ما كانت تسيغ العقول. وأحكموا بمقدار أيضا الصلات التجارية والعمرانية بين المشرق والمغرب. أما أشهر صفحات تاريخهم التي لم تندثر حتى اليوم فهي تلك البنايات الشاهقة القائمة على رءوس روابي لبنان وربى جبال العلويين وجميع البلدان التي أخذوها.
وهناك صناعات تعلمناها منهم، وهذا كله معين على انتشار الثقافة؛ فالثقافة لها شوط في كل ميدان، والفن المعماري والصناعي يلهم المثقفين. أما المهم فهو العلم، وهذا ما نسعى إليه قبل غيرنا. قال علامتنا الدويهي المؤرخ الصادق: يهم اللبناني أن ينسخ كتابا، ويكتسب علما، ثم يبني ديرا في جواره مدرسة.
قبل نابليون بقرنين:
خلفاء الرهاويين وأحفادهم، كانوا خميرة العجنة الثقافية في لبنان، فرفعوا اسم لبنان علما فوق العلم الأشم، فأشبهوا السمكتين والخمس خبزات.
قالوا: عرق الأصل نزاز، فكل هؤلاء الطلائع الذين سنذكرهم، كان العلم في دمهم، يجري في عروقهم، فطعموا العربية ولم تحبط هممهم الكلمة المأثورة: أبت العربية أن تتنصر.
لم تعد عقلية ناس هذا العصر مثل عقلية ذلك الزمان، فالثقافة لا تدين بدين حتى نقول عرفناها قبل غيرنا، فهي كما جاء في الآية الكريمة:
زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار .
هذا مثل العقلية اللبنانية التي افتتحت مغالق الدنيا مفتشة عن الكلمة أم المعرفة، تعلمت العربية في القرن الخامس عشر عن طريق النسخ، ثم تقدمت. زحفت أولا كالطفل كما ترى في صقر لبنان، ثم دبت على يديها ورجليها، وأخيرا عدت وما زالت تعدو. كان عقلها بورا فانكبت عليه تحرثه حتى خالطت أكابر المفكرين وصارت منهم. حسب لها الغرب والشرق حسابا وما يزال، فهي لها في كل ميدان فرسان.
فهذه الثمار جناها جدودنا وقدموها على طبق من ذهب هدية لأم اللغات التي حدبنا عليها في طور ضعفها، وظللنا نداويها ونداريها حتى رأينا رجوع الشيخ إلى صباه. فلولا مساعدة بابا رومية والملك الشمس لم يكن شيء مما كان من هذا التجديد. فقد علمونا وعلمناهم؛ علمناهم لغة القرآن الشريف وثقفونا باللغات والعلوم الأوروبية، تعلمنا في مدارسهم وعلمناهم علومنا الشرقية بما نسخناه وترجمناه ولقناهم إياه من كنوز علمية وأدبية، ولم يطل بنا الأمر حتى جلسنا على كراسي جامعاتهم أساتذة نثقف ونعلم.
وتولينا تموين خزانات كتبهم فنسقناها وكنا من حراس الثقافة، ولولا ما فعلنا لذهب الكثير من كنوز المعارف. وسنفصل ما أجملنا، ونذكر الأهم من المآثر الجبارة التي دونت على ضوء الشمعة الراجف ونور السراج الشحيح. لقد دفعوا ثمن ذكرهم وشهرتهم هذه أضواء عيونهم.
فيا أيها الجنود المجهولون، إنني أعتذر لأرواحكم إذا أغفلت ذكر أحد منكم، فقد أكون جاهلا له لا مهملا.
وإلى إخواننا في اللسان نقول: كل فتاة بأبيها معجبة، فلا يؤاخذنا أحد من بني عمنا العرب إذا تغنينا بأمجاد أجدادنا الأولين، فقد تغنينا بأمجاد العرب حتى شبعنا، ومن قرأ شعرنا ونثرنا يعرف ذلك. والعربية حين لاذت بنا لم تر زيا غريبا ولا وجها عجيبا، فقد ألفت معاشرة علمائنا وألفت أزياءهم في قصور الخلفاء الأوائل حين كانوا يترجمون لهم ويطببونهم، فاللبناني كما قال الحجاج: مهاجر ليس بأعرابي.
إن نهضتنا ثقافية، علمية فلسفية، لا لغوية بيانية كما قلنا. رأى جدودنا أن الجنينة أمست بورا فحرثوها وطعموها، أطلوا من دياميسهم ومغاورهم ذات الهواء الرطب فانتعشت أجسامهم اليابسة وجرى الدم في عروقهم حين ضربتها الشمس، ولولا شدة حرارة شمس لبنان لما استطاع هؤلاء المجاهدون الحياة طويلا في دير قنوبين، وقزحيا، ومار سركيس، والقطين والمغاور الأخرى.
ألهم الله السلطان العثماني سليمان الثاني فأصدر إرادته الشاهانية بحمايتهم وإطلاق الحرية لهم في ممارسة شعائر دينهم، كان ذلك في سنة 957ه. في عهد البطريرك موسى العكاري، فانطلق عندليب «الطلائع» - المطران فرحات - بعد حين يغني ويرتل، لا يخشى غدر صياد.
إننا نعترف أنه كان قبلنا أناس أصح منا لغة يعربية، وأفصح تركيبا وأجمل تعبيرا. إن أبعد الأشجار جذورا هي شجرة الأدب، وإذا تعمقت في نبش تاريخ الديورة والهياكل رأيت جذورا عميقة للثقافة متشابكة في تربة الفكر اللبناني، فمن قبل الفينيقيين إلى حدود المسألة الشرقية ترى على درب الحياة آثار أقدام الثقافة. فهذه البقعة مرت بها جميع شعوب الأرض، تقاتلت ثم ذهبت وتركت عندنا مخلفات ثقافية كما يترك الجيش شيئا من عتاده، ومن هذه الأشياء كلها تكونت عقليتنا، فليس في الدنيا أمة مثلنا تشابك أفكار.
انظر تر في لبنان ديورة وهياكل وقلاعا وحصونا، كنائس وكاتدرائيات وجوامع ومدرجات وملاعب. فعلى كل قمة دير، وعلى كل تلة هيكل أو قلعة، وفي كل واد ملجأ حصين تعجز عن أخذه غارات طائرات هذا الزمان؛ فقد نحتت الطبيعة لجدودنا الجبال بيوتا فاستعمروها وسكنوها، فحول الينابيع قامت المدن والدساكر، فلو بنينا حول لبنان سورا لكان متحفا للعاديات.
إن الطبيعة هي المهندس الأعظم لهذا الجبل، وهي في كل يوم تتفتح لنا عن عجائب. الإنسان قبل أن يصير صاحب مخازن عظمى يكون أولا مستخدما أو سمسارا، وهكذا تدرج هذا اللبنان، ومشت ثقافته قدما، فمن مغارة قنوبين إلى قباب الفاتيكان وبرج إيفل وقصور كمبردج والكرملين. كان أعلامنا نقلة كتب نسخا وترجمة، ثم صاروا مؤلفين وعلماء أعلام، كما سنرى. وأميرا الجبل فخر الدين وبشير، كان أحدهما عمرانيا فقضت عليه الحال أن يرحل «مؤقتا» إلى توسكانا، فدرس مخطط العمران هناك، ولما عاد سهل للأجانب طرق الحياة، وكانت هذه من بشائر النهضة العمرانية.
كان الحاقلاني، وهو من مشاهير الطلائع، مدبره وهمزة وصل بينه وبين أمراء الغرب، فبشرت مساعيه بخير جزيل. ففخر الدين كمحمد علي بالنسبة إلى زمان كل واحد منهما، كلاهما مفضل وكلاهما عمراني.
والأمير بشير الشهابي:
كان عنده لكل شيء شيء، كان في الحرب قيدوم الجيش وأمير السرج ورب السيف والرمح، وفي السلم رب السرير تتألف حوله حلقة الشعراء ويطارحهم ويقترح عليهم الموضوعات ويجيز المحسن، ويناقش المناقشة الصارمة، ويقول الشعر وإن كان الشعر بالأمراء يزري.
إن المدنية أمواج، فتارة يكون البحر عجاجا، وطورا تنظر إليه فتحسبه مفروشا سطحه بالدماسكو. والعلم كالنور ينتشر على أبعد الأبعاد ويطلب في أطراف المعمور. أما جاء في الحديث الشريف: اطلب العلم ولو في الصين. وهكذا صار عندنا، فمن ضفاف ما بين النهرين إلى وادي قاديشا وظلال الأرز، ومن نهر التيبر إلى نهر السين إلى الهدسون إلى شلالات دفنه ونياغرا، سار اللبناني ومعه في حقيبته ثوب وكتاب ورغيف خبز.
لقد تناوب أبناء الخيام وأبناء المغاور على حمل أعباء أوسع اللغات وأمرنها وأبعدها تمددا. قد لا يعجب كلامي الصريح من يحبون المبخرة، ولكن الحكم على الأدب والآثار القلمية لا يكون منصفا إلا بعد جيل على الأقل، فهو والتاريخ في هذا سواء بسواء. (1) جغرافي و(2) ديني. فكما تعلم أن موقعنا كان ممرا يوم لم تك هذه الاختراعات، وديننا يقربنا من الجماعة، والذي يقول غير ذلك فأقول له: إذا تعددت الأحزاب اليوم في البيت الواحد صار أشبه ببرج بابل. قربتنا من الصليبيين وغيرهم من الزوار الفرنج، الرابطة الدينية، فأفدنا حضارة جديدة أضفناها إلى ثقافتنا السريانية. كنا ندرس كتب العلم القديمة والجديدة، كنا نتعلم عن طريق نسخ الكتب يوم لم تكن المطبعة، ولما ظهرت كنا أسبق الشرقيين إليها، وكانت أول مطبعة في الشرق بالقلم السرياني، والكرشوني، ثم العربي في القرن الخامس عشر؛ أي قبل ظهور نابليون على شط الإسكندرية بقرنين.
وكيفنا عبارتنا على هوى حديثنا، ففصلنا الثوب على القد، فسمونا مجددين وقد ضل من وصفنا بالشعوبية، وكيف يكون ذلك وزعيمنا مار مارون نشأ على ضفة نهر العاصي، وجاء لبنان من هناك.
أظن أن عقلية الصليبيين في ذلك العهد لم تكن أرقى من عقلية غيرهم، ولولا ذاك لما جاءوا بصلبانهم وأيقوناتهم إلى ساحة حرب شرقية، وما أبعد الشرق عن الغرب في ذلك الزمان!
وأصاب العرب بتنكرهم للعلوم الجديدة ما أصابهم حين تنكروا للفلسفة والمنطق، وقالوا: من تمنطق فقد تزندق، فغلبهم الزنادقة حتى قام الغزالي قبل أن يقول:
غزلت لهم غزلا دقيقا ولم أجد
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
وهنا نختم هذا الفصل بالقول: فليصدق رائد أهله.
اللهم اشهد أننا صدقنا. (1-1) الطلائع 1584
قبل محمد علي بقرنين ونصف وقبل مراسيم السلطان سليمان الثاني بقرن وقبل ميلاد فخر الدين المعني
كانت الثقافة عندنا. ورثنا الرها وجندي سابور ونصيبين، وأهدينا ذلك الميراث بعدما أغنيناه إلى الغرب والشرق فأنعشناهما بعد الذبول. لم يجد أميرنا فخر الدين من يدير شئون إمارته وعلاقاته مع الغرب غير كاهن لبناني هو الحاقلاني.
ولم يجد من ترجم له كتاب هندسة الأبراج غير الكاهن مخائيل بن عميرا الأهدني. وهذا الكاهن الذي ارتقى إلى السدة البطريركية قد صنف غراماطيقا مطولا برهن فيه أن لغتنا أقدم لغة، فعينت له رومية معاشا سنويا طول حياته.
أما فخر الدين المحسن إلينا فقد أمن لنا الحياة فعدنا إلى كسروان والجنوب واشتغلنا لإنماء الثقافة. كان فخر الدين رجل عمران أكثر منه رجل ثقافة يقدر العلم ورجاله، فأبدينا نشاطا علميا. احتجنا إلى سيفه ليحمينا واحتاج إلى علمنا فنفعناه به.
إن الثقافة احتمت بجبال لبنان، ومن يصدق أن البطرك موسى العكاري لم يعدم بين إكليروسه مطرانا يعرف العربية والتركية والسريانية وهو المطران أنطون فرحات الحصروني فأرسله البطرك إلى حلب ليؤدي واجب الخضوع لجلالة السلطان سليمان الثاني حين قدم إلى حلب، فأصدر السلطان مراسيمه التاريخية الخمسة فأنعشتنا وألقى عنا نير الاضطهاد.
مدرسة الموارنة برومية:
1584 ليس يعني كلامنا هذا أن اللبنانيين الموارنة لم يعرفوا الغرب وثقافته قبل أن أنشأ لهم البابا غريغوريوس الثالث عشر هذه المدرسة، بلى، وهاك التفصيل.
في عهد البطرك مخايل الرزي رفعت شكوى إلى بابا رومية على أن هذا البطرك يعقوبي المذهب، فأوفد الحبر الأعظم قاصدين الأب جوان باطيستا إليان والأب توما راديوس، وأمرهما بالتدقيق في الفحص عن اعتقاد الموارنة. أما رئيس البعثة جوان باطيستا فدعي إلى رومية وأطلع البابا على الحقيقة، وسأله أن ينشئ لهم مدرسة فأنشأها تحت رعاية البابا وخلفائه، وكان الكردينال كرافا مساعدا له في هذا المشروع الديني الإنساني. ولم يقف الكردينال كرافا عند هذا الحد، بل وقف جميع تركته عليها.
ومن هذه الخلية خرج عسل وشهد كثيران كما قال في وصفها العلامة المطران يوسف الدبس. ثم توفي الكردينال كرافا وكيل الموارنة وظلت المدرسة قائمة، ونبغ من تلامذتها علماء أعلام «طبق ذكرهم الخافقين فأناروا المغرب بتواريخ المشرق، وكانت كتبهم وما برحت كمرقاة للعلوم ومشكاة يستنار بنورها في أمور المشرق.»
لويس الرابع عشر:
ثم انبرى هذا العاهل الأكبر إلى نصرة العلم والثقافة وإذاعتها، فخص هؤلاء الطلائع بمدرسة في مدينة النور، وتسهيلا للمهمة أصدر خطا ملوكيا مؤيدا ببراءة رغب فيها إلى ممثل دولته لدى الباب العالي «أن يبذل لهم الحماية لدى أعتاب صديقنا الأكمل السلطان الأعظم، وأن يسيروا في المراكب الفرنسية أو غيرها إما لدرس العلوم، وإما لغير ذلك، ولا يكلفوهم إلا ما يمكنهم دفعه. أعطي هذا الخط في سان جهان بمدينة لاي في 28 نيسان سنة 1649 وفي السادسة لملكنا.»
ابن القلاعي
حياته:
ولد في لحفد وهي قرية قديمة مشهورة في بلاد جبيل تبعد عن قريتنا عين كفاع نحو ساعتين، ولحياته حكاية.
عرف بابن القلاعي نسبة إلى محلة من ضيعته ولد فيها وعاش حتى بلغ ورشد، فخطبت له أمه التي كان اسمها غورية فتاة جميلة من ذوي قرباه، وبعد الخطبة أصابه مرض نفرت منه عيناه واسترخت أهدابه فصار شكله بشعا ففسخت الخطبة، وهاجر جبريل إلى القدس ودخل دير رهبان مار فرنسيس، وأضاف إلى تعلمه السريانية والعربية أصول اللغة اللاتينية، ومهر في العلوم الإلهية والطبيعية؛ لأنه سافر إلى رومية سنة 1470.
وعاد جبرائيل إلى وطنه راهبا، وتجند لخدمة طائفته في النقاش والجدال والدفاع عن العقيدة المارونية، ثم رقي إلى درجة الأسقفية، وقضى حياته مجاهدا مناضلا حتى لقي وجه ربه سنة 1516.
فابن القلاعي، لقب خلعوه عليه، والقلاعي في لغتنا العامية معناها الصخور الضخمة، وعندما كنت شابا زرت ذاك المكان الذي نسب إليه هذا العلامة، فهو مزين بصخور ثابتة حيث وجدت إلى اليوم، وفي لحفد رابية تستريح على قمتها كنيسة مار أسطفان لحفد.
ابن القلاعي الزجال:
كان هؤلاء الطلائع ضعاف اللسان العربي، وما قولك بسرياني مستعرب حديثا! ومع ذلك فإن لم تعجبنا عبارته فحسبنا فكرته. فابن القلاعي ذو ثقافات متعددة وهو متعمق فيها كلها.
لم تطغ الناحية الغربية فيه على الناحية الشرقية، فإذا قلنا إن أزجاله وثائق تاريخية لا نعدو الحق؛ لأنه لم يقل غير الحق، وإذا قلنا إن أزجاله مجتمعة هي ملحمة بلدية؛ ففيها عناصر وصفية موضوعية ترضي الذين يحافظون على تقاليد هوميروس، كنا صادقين. ففي بعض زجلياته يصور المعارك تصويرا كاملا، تشفع بركاكة عبارتها مراعاة القوانين الأخرى الملحمية، وإذا رأينا الروح السائدة فيها دينية كاثوليكية فلا نتنكر لها، أليست أغنية رولان كذلك!
بطرس المطوشي
أحد تلاميذ مدرسة رومية، وبعد أن أنجز علومه فيها صار راهبا يسوعيا، وقد عهد إليه البابا في سفارات دينية كبرى، وقد قال فيه دي لاروك: إنه لاهوتي مبرز، له غراماطيق سرياني لاتيني، وكتيب في اللاهوت الأدبي محفوظ في مكتبة مدرسة الموارنة برومية، وقد وقف مع الكردينال بللرمينوس على فحص كتاب الفرض الكبير «الشحيم».
نصر الله شلق
وهو من العاقورة، درس العلوم برومية وصار كاهنا. أقام بأوروبا زمنا، أما مؤلفاته فهي: تاريخ الكنيسة، وترجمة سفر أيوب من السريانية إلى اللاتينية، وفصولا أخرى.
جمع ثروة أوصى أن تنشأ بها مدرسة خيرية في مدينة رافانا بإيطاليا، فكان افتتاحها سنة 1639، وأقفلت أبوابها ونقلت تلامذتها إلى مدرسة الموارنة سنة 1664.
أنطونيوس الصهيوني
عشق اللبنانيون الكتب، فمن لم يكن مترجما أو مؤلفا كان ناسخا، فهذا الراهب رئيس الكهنة نسخ القسم الأول والثاني والثالث والرابع من فلسفة السريان الذي ترجمه حنين بن إسحاق، ونسخ أيضا مقالة في الحساب والجبر بالعربية لأبي عبد الله أحمد شهاب الدين الذي كان «في أواخر القرن 14»، ونقل مقالة في الخطوط الهندسية لأحمد بن علي.
القس جبرائيل الصهيوني
هذا العلامة العظيم ماروني لبناني من أهدن، عرف بهذا الاسم قبل مولد الصهيونية اليهودية. تعلم في مدرسة الموارنة برومية، وحاز بعد الامتحان لقب «ملفان» في اللاهوت، وأقيم أستاذا للغتين العربية والسريانية في مدرسة الساباينسا - الحكمة - الشهيرة، واشتهر حتى دعاه لويس الثالث عشر سنة 1614 ليكون معلما في المدرسة الملكية بباريس، ثم حمله لقب ترجمان ملكي. ولما اعتمدوا على نشر الأسفار المقدسة بعدة لغات عهد إليه بتعريب النسخة العربية، وتنقيح النسخة السريانية، ومعارضتها بنسخ عديدة، ثم ترجمة النسخة العربية والسريانية، وعهد معه بهذه المهمة الأخيرة إلى إبراهيم الحاقلاني.
آثاره:
قال والتن الذي عني بطبع البوليكلوتا: إن هذا الرجل العظيم؛ أي الصهيوني، قد بذل تعبا شاقا وكثير الفائدة لكل من يرغبون في التضلع من اللغات الشرقية والأسفار المقدسة. ومن لا يقر له بالفضل يكون ناكر الجميل والإحسان. ونرى أنه واجب على الجميع أن يؤدوا له الشكر الذي لا نهاية له.
آثار الصهيوني:
كثيرة، منها ترجمة كتاب الزبور من العربية إلى اللاتينية، طبعة رومية سنة 1684، وكتاب في نحو اللغة العربية طبع بباريس سنة 1616.
وترجمة جغرافية أبي عبد الله محمد الإدريسي من العربية إلى اللاتينية، طبع أيضا بباريس سنة 1619.
وكتاب في بعض مدن المشرق ودين أهلها وعاداتهم وخصالهم.
وله أيضا ترجمة الزبور ثانية عن الترجمة المعروفة بالبسيطة إلى اللاتينية، وطبعه بباريس سنة 1625 ... إلخ.
وقد ذكر دي لاروك خبر وفاته بباريس سنة 1648 وذلك في كتاب رحلته إلى سورية ولبنان.
إبراهيم الحاقلاني
حياته:
ولد في حاقل «جبيل» وتعلم بمدرسة رومية، ثم علم السريانية والعربية أولا برومية، واشترك مع الصهيوني والحصروني في طبع التوراة.
مؤلفاته:
كان من مشاهير علماء زمانه، ومن مؤلفاته ترجمة كتاب ابن الراهب المصري القبطي في التاريخ الشرقي، وأتبعه بترجمة مقالات طويلة في تاريخ العرب وأنسابهم، وقد طبعه بباريس سنة 1651.
وله ترجمة قصيدة عبد يشوع الصوباوي في المؤلفين البيعيين إلى اللاتينية مع شرح لها وحواش عليها، طبعت برومية سنة 1628.
وله أيضا ترجمة الكتاب: الخامس والسادس والسابع من تأليف أبولينوس في الهندسة من العربية إلى اللاتينية بناء على طلب دوق توسكانا.
وله مختصر الفلسفة الشرقية، طبع بباريس سنة 1641.
وترجم إلى اللاتينية كتاب الحيوان للسيوطي.
وترجم من العربية إلى اللاتينية مواعظ القديس أنطونيوس وأجوبته. وللحاقلاني كتاب الانتصار لسعيد بن البطريق.
وله أيضا ترجمة قوانين المجمع النيقاوي المعروفة بالقوانين العربية، وقد عارضها الحاقلي على ست نسخ عربية ثم ترجمها إلى اللاتينية.
وقد رقد الحاقلي برومية في 15 تموز سنة 1664، ونقلت كتبه إلى المكتبة الواتيكانية بعد وفاته.
موهج بن نيرون الباني
ولد في إحدى قرى جبة بشري، ويسميه علماء الغرب فاوسطوس. أخذه خاله إبراهيم الحاقلاني إلى رومية فبرز، وأقامه الكرسي الرسولي أستاذ اللغة السريانية في كلية السابيانسا خلفا لخاله العلامة.
له كتب محترمة في التاريخ.
نقح الأناجيل وأسفار العهد الجديد، وطبعت بالسريانية بمعاونة وتصحيح القس يوسف الباني، وتوفي مرهج سنة 1711.
يوسف بن جرجس الباني
تلميذ رومية، وهو كثير الإنتاج، عرب كتبه وصحح لغتها العربية المطران جرمانوس فرحات. يعد من المجلين في التأليف والتصنيف.
مؤلفاته:
أتقن معرفة اللغات العديدة، وتضلع بالفلسفة واللاهوت، وانكب على العمل فأخرج كتابه النفيس ميزان الزمان وقسطاس أبدية الإنسان، وقد طبع مرات.
ثم أتبعه بترجمة كتاب الكمال المسيحي في ثلاثة أجزاء، وكتاب علم الذمة، وغير ذلك من التأملات العقلية. وأشهر تآليفه تفسير سفر رؤيا يوحنا العويص.
وللباني أيضا ترجمة تفسير العهد الجديد إلى العربية. وقد توفي سنة 1721.
بطرس فروماج 1678-1740
كاهن يسوعي جليل، كان أشبه بسفير بابوي يمثل رومية في لبنان، عالم حضر المجمع اللبناني كمستشار لاهوتي يرد ذكره كثيرا في تاريخ هذه الحقبة الثقافية، ترجم هذا المستشرق كتبا روحية كثيرة، أشهرها الكمال المسيحي، وكتاب السنكسار؛ أي سير القديسين التي عربها جرمانوس فرحات.
إن هذا الأب لم يسئ إلى الموارنة بخلاف سواه من القصاد المرسلين، كما أشار إلى ذلك الأب أنديني المنتدب الرسولي، فقال: إن ما اتهم به قصاد البابوات الموارنة هو تجن عليهم ...
وقد كتب هذا في كتابه بعثة إلى لبنان.
الأب بطرس مبارك
ولد في غوسطا عام 1660، أتقن سبع لغات: العربية والسريانية واللاتينية واليونانية والعبرانية والطليانية والفرنسية، وبعد رجوعه من رومية سنة 1685، رسمه كاهنا البطريرك الدويهي وأعاده إلى رومية برتبة وكيل عنه، وزوده ببعض كتب ليترجمها وينشرها، فترجم إلى اللاتينية كتاب نسبة الموارنة، وكتاب رد التهم عنهم وسلسلة بطاركتهم.
وبعد عوده من المشرق دعاه إليه أمير توسكانا وأوقفه على طبع الكتب الشرقية، ثم أقيم مدرسا للعلوم المقدسة فأثرى ووقف ثروته على الخير الثقافي، فأحدث مدرسة عينطوره ومولها بعقار يقوم ريعه بتعليم 12 تلميذا، وعهد بتدبيرها إلى الآباء اليسوعيين بشروط قبلها الأب تارنز رئيس الرهبانية اليسوعية، وانصرف هو إلى تأليف الكتب النافعة وترجمتها.
مؤلفاته:
ترجمة مجلدين من تأليف مار أفرام السرياني مع مقدمات دالة على اتساع علمه.
وترجم قسما من المجلد الثالث، ثم أتمه المطران أسطفان عواد السمعاني. وله كتب أخرى مفيدة ومقالات نافعة.
يقول الدبس: إن اليسوعيين يعدون الأب بطرس مبارك من أكابر علمائهم.
البطريرك أسطفان الدويهي
حياته:
رجل فضيلة وعلم وجهاد، صان في كتبه التي ألفها أشياء كثيرة من أمجاد لبنان؛ فهو المجاهد الذي أقر بفضله التاريخ الوسيط. ولد في أهدن سنة 1630 وتعلم السريانية صغيرا، وعندما بلغ الثانية عشرة أرسله البطرك جرجس بن عميرا إلى مدرسة رومية، فأنهى دروسه من فلسفة ولاهوت وعلوم ولغات وعاد إلى الشرق. وبعد أن علم الأولاد ست سنين رقي إلى درجة المطرانية، ثم انتخب بطريركا فلقي اضطهادات ومشقات فطفر إلى بلاد كسروان والشوف، وكان بين هذه المشاكل يرتب ويصحح وينقح الكتب العديدة ويرتب السجلات وينسخ الوثائق. وأخيرا دعاه والي طرابلس إلى العودة إلى كرسيه آمنا، فعاد في 19 نيسان، ومات في 3 أيار سنة 1704.
أشهر كتبه (1)
منارة الأقداس. (2)
رد التهم. (3)
تاريخ الأزمنة، فيه تاريخ لبنان وسوريا. (4)
كتاب المنائر العشر. (5)
سلسلة بطاركة الموارنة.
هذه نقطة من بحر علم الدويهي الذي كانوا يدعونه في عصره قبة الحكمة ومعلم الشرق.
إن المعلم رشيد الشرتوني من المجددين في التأليف والتصنيف، وإننا نذكره هنا معجبين بتحقيقه وتدقيقه وبروحه العلمية ونزاهة قلمه، فهو الذي أخرج كتب الدويهي من الدياميس المارونية، فقد أودعوها فيها ليحفظوها للذرية، ولولا ذلك لذهبت آثارها وانطوت صفحات مجيدة من التاريخ العام والخاص.
وقد كان مولعا بحفظ المخطوطات، فرتب ما وجده منها أثناء انزوائه في دير مار شليطا مقبس.
بطرس التولاوي 1655-1745
حياته:
هذا اسمه الكهنوتي، أما اسمه العلماني فكان عبد الله بن بطرس بن إسحاق التولاوي.
دخل مدرسة رومية سنة 1668 وهو في الحادية عشرة. قال الدبس: وتخرج بهذه المدرسة بالعلوم والفنون، ورجع إلى لبنان ملفانا فسامه الدويهي كاهنا وأرسله إلى حلب واعظا، فاشتهر بعلومه حتى كان شيوخ العلماء يستفتونه؛ لأنه درس الفقه وكان فيه من المبرزين.
فيلسوف كانت أكثر آرائه مبنية على أساس علمي؛ لأنه كان أستاذا في العلوم الطبيعية.
أنشأ مدرسة تضاهي مدارس حلب المشهورة في ذلك العصر، وتتلمذ له كثيرون فنبغوا وعدوا من مشاهير العلماء؛ كالمطران فرحات والمطران عبد الله قره علي والشماس عبد الله زاخر والخوري نيقولاوس الصائغ. وكان إلى جانب كل هذا يؤلف ويعظ ويرشد.
من تآليفه:
كتابه المنطق الذي عرف باسمه.
وكتاب غراماطيق اللغة السريانية.
وكتاب مجموع المجامع المارونية، وكتاب ترجمة القديس توما الكمبيسي، وأخبار المجمع التريدنتيني، وكتاب مواعظ في مجلدين.
وكتاب في علم ما وراء الطبيعة، وكتاب في الفيزياء.
وكتاب منطق، وكتاب في اللاهوت 5 أجزاء، وكتاب مرآة النفوس، ومذكرات، وتأملات روحية، ورسائل.
وفتاوى في الفقه الكنسي والعالمي.
وهناك كتب أخرى لم نذكرها لئلا يطول هذا الموجز.
مات هذا العلامة الكبير بعدما شيخ وبلغ التسعين، وبحق نسميه أستاذ الطلائع.
السمعاني الكبير
السماعنة، أسرة علم وذكاء، مشاهيرها كثر، منهم المطران يوسف شمعون، وهو عم السمعاني الكبير، له كتاب علم الذمة. والبطرك يعقوب عواد وسمعان عواد.
فالسمعاني الكبير؛ أي يوسف سمعان، ولد في 27 تموز سنة 1687، ودخل مدرسة رومية وعمره ثماني سنوات، ولما أتم علومه وعزم على العودة إلى لبنان عهد إليه البابا أكليمنضوس الحادي عشر أن يعمل فهرستا لاتينيا للكتب الشرقية، ويلخص فيه فحاويها، ففعل وعلق على الكتب حواشي نفيسة أرت البابا أن يوسف سمعان السمعاني أهل لأن يكون مترجما للكتب العربية والسريانية والكلدانية التي في المكتبة الواتيكانية.
وفي السنة 1710 نال درجة الملفنة، وعين مستشارا في لجنة إصلاح الأسفار المقدسة التي يستعملها أبناء الشرق. وفي السنة 1715 أوفده البابا للبحث عن الكتب المخطوطة في الأقطار، فأحضر منها إلى رومية كتبا وافرة العدد من جميع نواحي المشرق، فكانت مادة لكتابه الشهير: «المكتبة الشرقية الواتيكانية».
وفي سنة 1730 سماه البابا حافظا لهذه المكتبة العظمى، ثم صار رئيسها.
ساعده على هذا العمل الجليل حذقه بضع عشرة لغة، فأخرج خلاصات الكتب الشرقية إلى اللاتينية.
بعض تآليفه (1) المكتبة الشرقية، 4 مجلدات. (2) التاريخ الشرقي، وقد ترجم هذا الكتاب العلامة الحاقلاني. (3) مؤلفات القديس أفرام السرياني، في 3 مجلدات. (4) غراماطيق اللغة اليونانية، طبع في جزأين. (5) تأبين ألفريدريك أغوسطوس الثاني ملك بولونيا. (6) تأبين ألقاه في كنيسة الواتيكان في جنازة البابا بناديكتوس 13. (7) محاضرة في انتخاب البابا ألقاها على الكرادلة في كنيسة الواتيكان. (8) براءة رسولية فيها نظام تدبير المكتبة الواتيكانية. (9) قوانين الرهبان الموارنة بالعربية واللاتينية، وتاريخ نشأة الرهبانية. (10) تاريخ مملكتي نابولي وصقلية، طبع برومية في أربعة مجلدات سنة 1751-53. (11) مكتبة القاموس الشرقي الكنسي والمدني، خمسة مجلدات. (12) المجلد الخامس من المكتبة الشرقية، وترجمة الأسفار المقدسة. (13) المجلد السادس، كتب السريان البيعية. (14) السابع، مجموعات المجامع السريانية. (15) الثامن، مجموعة المجامع العربية. (16) التاسع، ترجمات كتب المؤلفين اليونان إلى السريانية والعربية. (17) العاشر، المؤلفين العرب النصارى. (18) و(19) و(11) و(12) في المؤلفين المسلمين. كلندريات عديدة لجميع الطوائف تقريبا. (20) في صور القديسين الفسيفسية. (21) مجامع الكنيسة الشرقية، ستة مجلدات. (22) تسعة كتب في التاريخ الشرقي. الموارنة، الروم الملكية، الدروز والنصيرية، المسلمين، القبط، اليعاقبة، الأحباش النساطرة، الأرمن. (23) تسعة كتب في تاريخ سورية القديمة والحديثة. (24) غراماطيق سرياني مطول. (25) كتاب منطق بالعربية. (26) كتاب في ما وراء الطبيعة بالعربية. (27) كتاب لاهوت بالعربية. (28) كتاب تفسير الآيات الغامضة في العهدين.
وهناك كتب عديدة لم تدون في السجل الواتيكاني.
ليت المجال يتسع لنشر فقرات من رسالة البابا إلى معلم البلاط الرسولي يوسف سمعان السمعاني للدلالة على ما حازه هذا الشرقي اللبناني من إجلال لدى أعظم شخصية عالمية، بابا رومية، ولكننا نكتفي بما قلناه، ومن شاء الزيادة فليرجع إلى المطولات.
بولس عواد
ومنهم المطران بولس عواد (1855-1940) أقدم هذا المطران كأسلافه السماعنة فترجم الخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني، وطبع منها أربعة أجزاء ضخمة، كما لخص شرح بديعية الحموي المعروفة بخزانة الأدب.
نعمة الله أبو كرم
ويحصى مع هؤلاء المطران نعمة الله أبو كرم، فهو مترجم الفلسفة النظرية والجامعة ضد الأمم لتوما الأكويني.
المطران أسطفان عواد السمعاني
هو ابن أخت السمعاني الكبير، تلميذ مدرسة رومية، من مؤلفاته: كتاب شرح أعمال الشهداء الغربيين والشرقيين في مجلدين، وفهرست الكتب المخطوطة في المكتبة المادشية، وهو يحتوي على ذكر خمسمائة وسبعة وثلاثين كتابا مع خلاصتها.
وله كتاب فهرست الكتب التي بمكتبة كيجي في رومية، وله فهرست للكتب التي في المكتبة الفاتيكانية ألفه مع خالد السمعاني في ثلاثة مجلدات.
وله ترجمة تاريخ ابن العبري إلى اللاتينية.
وله تكملة ترجمة المجلد الثالث من كتاب مار أفرام إلى اللاتينية.
مات سنة 1782، بعد أن ملأ صيته الفاتيكان وغيره من المراكز العلمية.
يوسف لويس السمعاني
هو ابن أخي السمعاني الكبير، تلميذ مدرسة رومية. عينه البابا بناديكتوس الرابع عشر معلما للغات الشرقية في الكلية الرومانية - السابيانسا.
آثاره:
له كتاب الرتب والطقوس الدينية، ويخبرنا العلامة الدبس أنه غالي السعر، وأنه اشترى نسخة منه بست وعشرين ليرة ذهبية.
وله ترجمة الشحيم كتاب فروض السريان في أربعة مجلدات، وله ترجمة قداس الكلدان إلى اللاتينية.
القس شمعون السمعاني
هو ابن أخي يوسف لويس، ولد بحصرون ودرس في مدرسة الموارنة برومية.
آثاره:
فهرست للكتب الخطية الشرقية في مكتبة بادوا الثانية.
وله أيضا كتاب تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام.
وله كتاب في الكرة الفلكية. وجميع هذه الكتب باللغة اللاتينية.
الغزيري
هو ميخائيل الغزيري تلميذ رومية، وقد حضر المجمع اللبناني ووصف بأستاذ الفلسفة واللاهوت.
من تآليفه:
كتاب في مجلدين وصفه الدبس بأنه جزيل الفائدة، وهو فهرست للكتب العربية التي في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا.
وقد أوفد هذا العلامة مع الخوري إلياس سعد البجاني للاعتراض على بعض رسوم المجمع اللبناني والطعن بالعلامة الكبير السمعاني الأكبر، فعادا مخذولين. وهذا بعض ما جاء في رسالة البابا جوابا على تلك الشكوى.
المجمع اللبناني: «وقد أيدناه كل التأييد - أي المجمع اللبناني الذي انتزع فيه السمعاني أكثر حقوق البطرك الماروني وحصرها بالبابا، ولكنها تظل مقبولة عندما صرنا إليه اليوم - وأثبتناه بسلطاننا الرسولي، ورأينا من الصواب والإنصاف أن نمحو كل وصمة التحقت باسمكم، وأن ننزل التأديب بمؤلفيها، وأن نعلن أنها تستحق الحرق بالنار.»
ونحن نقول إننا فشلنا بسبب المجمع اللبناني مرتين؛ الأولى عند مولده والاحتجاج عليه، والثانية عند إعلان موته يوم مات عريضة آخر بطرك ماروني منتخب عام 1955.
وهكذا تكون قد استبدت رومية بنا مرة واحدة، جزاء تعلقنا بها، والعوض ببقاء السادة أحبار طائفتنا ...
أصحاب الكتاب والكتابين
عبد الله فراعلي:
ولد بحلب وتلمذ للشيخ سليمان النجوي. له مختصر الشريعة ومواعظ ومذكرات.
جبرائيل حوشب:
ولد في حلب وصار مطرانا، له كتاب الرموز ومفاتيح الكنوز.
يوحنا حوشي:
أول تلاميذ مدرسة رومية، نقل إلى العربية مؤلفات لاهوتية، مات في رومية سنة 1632.
سركيس الغمري: (1691-1745) من أهدن، تلميذ مدرسة رومية، له كتاب هدى الخطأة، تعريب مواعظ سنتيري، مختصر علم الذمة، ظهور الإيمان، غراماطيق لدرس اللاتينية.
سركيس سمراني:
وهو راهب كان في دير قزحيا، نسخ عدة كتب ونظم زجليات منها واحدة تصف فتح الأسطول التركي جزيرة قبرص سنة 1570.
أبو المواهب يعقوب الدبسي:
من مواليد حلب، طرابلسي ماروني، ترجم الإنجيل إلى العربية الفصحى، وهو عالم لغوي ونحوي، ذكره المطران فرحات في بحث المطالب ورجح رأيه.
المطران جرمانوس فرحات 1670-1732
حياته:
هو جبريل بن فرحات مطر، ولد في حلب سنة 1670، وتلقى أولا مبادئ اللغتين العربية والسريانية، وتاق إلى التعمق والتوسع في فنون اللغة العربية، فلزم إماما عالما هو الشيخ سليمان النحوي، فقرأ العربية عليه، وانصرف إلى الحفظ فحفظ شيئا كثيرا، وأتقن السريانية أيضا كالعربية، ثم الطليانية التي كانت تعلمها مدارس الموارنة، فأتقنها وترجم منها كتبا عديدة، ثم درس الفلسفة واللاهوت والمنطق والتاريخ المدني والكنسي، ثم هاجر من حلب وجاء لبنان حيث أسس رهبانية، ثم صار قسيسا فرئيسا عليها، وسافر إلى رومة، فحدا به ميله إلى لغة العرب إلى مشاهدة الأندلس فزارها ومتع نظره بآثار العرب.
وفي سنة 1725 سيم أسقفا على حلب، فكان مثال الراعي الصالح للرعية، وتوفي سنة 1732. وقد فهمت من سيره في الحياة صفاته الشخصية.
تآليفه:
بين كتبه نحو أربعين كتابا في علم اللسان والدين، أما معرباته ومختصراته ومصححاته فتربو على المائة، والمشهور منها هو: بحث المطالب، أول كتاب في النحو ألفه نصراني على الطريقة الحديثة. وله «الإعراب عن لغة الأعراب» وهو معجم اختصره عن الفيروزابادي وزاد عليه من عنده ألفاظا وفوائد. وله كتاب فصل الخطاب في صناعة الوعظ، والمثلثات الدرية.
المكتبة:
وقد وقفت بنفسي على جهود السيد فرحات؛ إذ اطلعت على المكتبة الأثرية المحفوظة بمدينة حلب في المطرانية المارونية، فهي لسان يخبر بجهود هذا العلامة المجاهد في سبيل إضاءة نبراس العلم في عصر الظلمة والانحطاط، ومن يطلع عليها يطلع على تاريخ الحقبة؛ ففيها قرآن كريم مكتوب على رق غزال، وفيها إنجيل حاول المطران أن ينحو فيه نحو القرآن فعجز عن مضاهاته حتى صحت فيه الآية:
فأتوا بسورة من مثله .
أستاذ الفصحى:
لم يذهب المطران إلى رومية طالبا، بل زائرا، وشاء الله ألا يتلقى علومه في الغرب فقويت ملكة لسانه العربية فصحت عبارته. وإتقانه العلوم اللسانية وانصرافه إلى الشيخ سليمان أستاذ العربية في ذلك العهد وانصبابه على مطالعة آثار العرب الأدبية جعل منه فارس حلبة العروبة وقائد الطلائع ومدربها. وهكذا تم تبادل الثقافة حين أنشأ الفيلسوف التولاوي أستاذ فرحات مدرسة خاصة في ذلك العهد بحلب يدرس فيها الطليانية واللاتينية والفلسفة والعلوم واللاهوت.
مجمع علمي:
بعد رجعة فرحات من الغرب وزيارته للأندلس خطر له مشروع علمي، فأنشأ إلى جانب المكتبة دائرة علمية كان من أعضائها التولاوي والباني وغيرهما، كانوا يؤلفون ويترجمون والمطران يصحح عبارتهم، وهكذا كان التطعيم الذي عاد على لغتنا بالخير. وهكذا كان التعايش العلمي، فلله در هؤلاء جميعا ما أجزل فضلهم وأكثر خيرهم! كانت الشهباء في عهدهم مدينة العلم، ومنها انتشرت النهضة العربية الجبارة التي طار قبسها فأنار المسكونة.
إن المطران فرحات جدير بأضخم دراسة وأدق الأبحاث؛ لأنه هو الذي عربنا وأخرج لغتنا الكنسية من ركاكتها، فهو الذي قدم العربية في الهيكل وأجلسها عن يمين مذبح البخور - كما قلنا في كتابنا صقر لبنان . لقد صحح الكتب جميعها، وترجم ما تجوز ترجمته بلغة صحيحة إعرابا ولغة.
فرحات الشاعر الأول :
إن أولية جرمانوس فرحات ليست في شعره المتين وعبارته الجاهلية فقد كان في عصره شعراء مسلمون أبلغ منه قولا، ولكن أوليته هي في كونه أول شاعر فصيح من مستعربي لبنان الذين لم يقولوا الشعر إلا زجلا سرياني اللحن (راجع صقر لبنان إذا شئت).
شعره:
أكثره في الزهد ووصف المناسك، وكما قال الأب توتل في المنجد الأدبي عنه: إنه أعاد الحياة النسكية إلى لبنان، أقول أنا: فامتلأت أوديته وكهوفه ترانيم وتسابيح. ومن قوله في الزهد:
إني بليت بأربع لم يخلقوا
إلا لشدة بلوتي وعنائي
إبليس، والدنيا، ونفسي، والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي
وكأن هذه الأفكار كانت تتراكم عليه في وادي قاديشا فيقول:
أحاول في عمري من الدهر راحة
وهل تطلبن العقل والظرف من زنجي
فأصبح دهري عاجزا عن سعادتي
كأني حرف الحلق والدهر إفرنجي
وصار رئيس أساقفة حلب، ولكنه ظل ناسكا وزاهدا لا يجد سعادة إلا في إنعاش أبناء أبرشيته، وإذا تبرم أو ضاق صدره طرد التجربة بالالتجاء إلى أمه مريم العذراء، وهتف:
لو كان للأفلاك نطق أو فم
لترنموا بمديحك يا مريم
ويمعن في الصوفية حتى يهتف:
الله الله أنت الفوز والوطر
في العاشقين وأنت الفوز والوطر
عشقتكم والهوى مني على صغر
يا حبذا واله قد زانه الصغر
جزاه الله خيرا ونفعنا به.
الخوري نيقولاوس الصائغ
حياته:
هو نيقولاوس بن نعمة الله الصائغ، ولد أيضا بحلب، تلقى دروسه الابتدائية على أستاذ كغيره، في ذلك الزمان، ثم انصرف يشتغل في مهنة أبيه - الصياغة - مطالعا كلما سنحت له الفرصة.
ثم درس الفلسفة واللاهوت والرياضيات استعدادا للكهنوت، وصادف إذ ذاك رجوع السيد فرحات من رومية فتتلمذ له.
ثم هاجر إلى لبنان وترهب في دير القديس يوحنا الصايغ بالشوير، وبعد أن صار كاهنا ترقى إلى منصب الرئاسة العامة فساس الرهبانية أحسن سياسة.
قيمته:
أخلاق فاضلة وتدبير بحزم ونشاط، وتقوى وفضيلة ممزوجان بالعلم، شاعر حسن التصور لطيف الطبع، ينزع في شعره إلى الإصلاح الديني، له ديوان شعر يعرف باسمه، وله بديعية طريفة بالنسبة لعصره.
إن ما قيل في شعر المطران يصح أن يقال في ديوان الخوري؛ فكلاهما ترهب وانقطع عن دنياه، وإن مدح الصائغ وهنأ، وتعجبني منه جرأته الرسولية حين يقول:
كثر العثار بعثرة الرؤساء
وغوى الصغار بغرة الكبراء
فإذا رأيت الرأس وهو مهشم
أيقنت منه تهشم الأعضاء
عفوا لم أذكر الرثاء؛ فلهذا الخوري الفاضل شعر في رثاء معلمه المطران فرحات هاك فقرة منه:
إمامي وذخري بل غنائي ومغنمي
غنمت به غنما تجل غنائمه
حلبت به وسع الإناء معارفا
يلازمني جنح الدجى وألازمه
أما الذين نظموا البديعيات بعد الحموي فقلما وفق واحد منهم.
البطرك يوسف أسطفان 1729-1793
هو من أنبغ تلاميذ مدرسة رومية المارونية، توفي سنة 1793 بعد أربع سنوات على تأسيسه مدرسة عين ورقة الشهيرة، وكأن إحداثها كان موحى به لتسد مسد مدرسة رومية التي صادرتها حكومة الجمهورية الفرنسية وباعتها من أحد الناس، وفي هذا الحدث يقول العلامة المؤرخ الشهير المطران يوسف الدبس: يظهر أن العناية الربانية تداركت الطائفة المارونية بإعداد خليفة لمدرسة رومة، فألهمت البطرك يوسف أسطفان أن يحول دير عائلته المعروف بعين ورقة إلى مدرسة عامة للطائفة، يستغني بها عن الغرب.
إن هذا البطريرك الجبار الاستقلالي النزعة صارع الفاتيكان سنوات وشغل دوائره زمنا حتى تدخل الأمير يوسف بواسطة الشيخ سعد الخوري وأعيد إلى البطرك المكفوفة يده سلطانه الرسولي، وعاد من جبل الكرمل بأبهة وجلال بعد أن ألانت الأمراض من عوده الصلب، فدخل عرينه وهو يرتل النشيد السرياني الذي ألفه هو لهذه المناسبة، ومطلعه: افتح يا لبنان أبوابك.
هندية:
إن قصة الراهبة حنة عجيمي، المعروفة في لبنان بهندية، كانت في الظاهر هي السبب الذي عكر صفاء عيش البطريرك، أما الحقيقة فهي أن رومية لا ترضى عن الاستقلال الطائفي، فهي تريد الكنيسة كما جاء في قانون الإيمان: كنيسة جامعة رسولية، أو كما جاء في الإنجيل: أن تكون الرعية لراع واحد.
والأسئلة التي أجاب عليها البطرك يوسف أسطفان، قبل أن أعيد إليه اعتباره، تلقي ضوءا على ما أقول، ومن شاء التوسع في هذا الموضوع فليقرأ كتاب «بصائر الزمان» للأب الملفان بولس عبود الغوسطاوي مواطن هذا البطريرك العملاق.
عين ورقة:
إذا كانت مدرسة رومية طائفية مختصة بالموارنة وحدهم فعين ورقة لم تكن كذلك، كان منهاجها التعليمي على غرار مدرسة رومية تعلم ست لغات والعلوم والفلسفة، وقد أعطت لبنان نوابغ علمانيين مثل الشدياق والبستاني وغيرهما حتى سميناها سربون الشرق. وهذا ما حملنا على حشر هذا البطريرك الجسور في هذا المقام، فهو يحق له أن يكون في طليعة الطلائع وإن جاء متأخرا عنهم في تاريخ وجوده. وفي مؤلفاته العربية، إن لهذا الحبر الجبار العنيد مواقف تشرف تاريخنا، فهو في حقل العلم مثله في الصفات الأخرى التي يجب أن يتجمل بها الراعي فلا يتراخى في صون الميراث الذي عهد إليه بالمحافظة عليه.
تآليفه:
كثيرة أغلبها في اللغة السريانية التي كان عارفا أسرارها وشاعرا فيها، وقد وضع كتابا في تربية الأولاد كتبه لسكان أبرشية بيروت حين كان مطرانا عليها. وله ميامر وأفراميات وبواعيث عديدة ترتل في الأعياد الكنسية.
رحم الله يوسف أسطفان ومن على الموارنة المطبوعين على الاستقلال ببطريرك غيور مثله يحرم عينيه النوم لأجل المحافظة على الأمانة، والمناضلة في سبيل استقلال كنيسته الشرقية.
انتهى حديث رجال نهضتنا الأولى. (2) النهضة المصرية 1798
الثورة الإفرنسية:
غيرت وجه العالم، ولا حاجة إلى سرد تاريخها في هذا الملخص، فهذا ما يعلمنا إياه التاريخ، فالذي يهمنا من أخبارها هو أن نذكر كلمة عن اتصال الشرق بها عندما دخل المشرق بطل أوروبا الجبار الذي استغل تلك الثورة، وهو الإمبراطور نابليون بونابرت.
القطر المصري:
إن الحرب التي أوقدت نارها الثورة الإفرنسية طارت شرارتها إلى الشرق بإغارة الفرنسيس على البلاد المصرية، فتوغلوا في البلاد شرقا وغربا، وتخطت جيوشها إلى ما وراء القطر المصري، فدخلوا سوريا وفتحوا عدة مدن منها، فهب الشرقيون فجأة من سباتهم العميق على دوي المدافع وصلصلة السيوف، فكافحوا مدة من الدهر، فكانت معارك هائلة، وكان احتكاك بالأقوام كما سترى. ثم اضطرت الأحوال السياسية الأجانب إلى الجلاء، فتقهقروا عائدين من حيث أتوا، تاركين في النفوس أثرا هو موضوعنا .
الاحتكاك:
كانت مصر في هذا العهد منقطعة عن الغرب؛ أعني به ذلك الانقطاع الذي يدعو إلى اقتباس شيء من حضارة الغرب وعلومه، أما التعليم العالي فكاد يكون محصورا بالأزهر، وهو يتناول علوم الدين من لغة وأصول وتفسير وحديث ونحو وبلاغة ... إلخ، وعلوم النظر من توحيد ومنطق ومناظرة وفلسفة قديمة، وحساب وهيئة، وعلوم أخرى.
إلا أن التعليم الأزهري، وخصوصا في اللغة العربية استحال إلى ضرب من الفلسفة اللفظية ومناقشات جدلية، ألفت فيها الكتب والحواشي، أما لباب العلم كما نفهمه اليوم فكان حظه قليلا جدا. إلا أن فضل الأزهر العظيم - وهو حفظ اللغة العربية وعلومها - في تلك الحقبة العظيمة لا ينكره أحد؛ ومن تلاميذه لا من سواهم كانت البعثة التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا، فعادوا عارفين بمبادئ علوم ذاك العصر، وكانوا أئمة الإصلاح كما سترى.
نابليون:
في سنة 1798 فتح نابليون بأسطوله الإسكندرية عنوة، ثم ضرب في مصر حتى بلغ الجيزة، وبعد موقعة مع المماليك لم يثبتوا فيها بوجهه اجتاز النيل واحتل القاهرة قاعدة البلاد.
تم لنابليون هذا الفتح بسهولة وحكم البلاد إلا بعض مماليك كانوا مستقلين بالصعيد في أطراف البلاد، فهؤلاء كانوا يشنون الغارة على الفاتحين حينا بعد حين، وكان سكان القاهرة أيضا يخرجون إلى الجيش بعصيهم ونبابيتهم فتصليهم مدافعه وبنادقه نارا حامية.
العلم:
جاء بونابرت معه بطائفة من العلماء والصناع لدراسة الحياة المصرية من جميع نواحيها، وتشييد المعامل والمصانع، وأنشأ مدرستين لتعليم أبناء الإفرنسيين، وأقام مكتبة جامعة، ودعا الإفرنسيون أعيان المصريين إلى الدار التي أعدوا فيها وسائلهم للعلوم والفنون، وأروهم الأدوات والآلات للطبيعة والكيمياء والأرصاد الفلكية وغير ذلك، فظنوها ضربا من السحر، ولكنها السحر الحلال، سحر العلم. فأحس المصريون الحياة الجديدة التي لا يألفونها، والعلم الذي لم يعرفوه.
الجلاء:
وفي سنة 1801 أجلي الفرنسيون عن الديار المصرية، فعاد إليهم حكم العثمانيين والمماليك، فأخذت البلاد تعاني من ضروب العناء والظلم ما لا يطاق، حتى سنة 1805 إذ نودي بمحمد علي باشا واليا على مصر.
محمد علي:
قدم مصر ضابطا في الحملة التركية التي وجهتها السلطنة لإخراج الفرنسيين من مصر. كان محمد علي شعلة ذكاء، واسع الحيلة، طموحا، شجاعا إلى حد التفوق، فوثب في رتب الجيش وثبا. خالط المصريين وكبار علمائهم فاستمالهم إليه وأعانوه عند الحكومة حتى ولته على مصر «واليا»، فكان ذلك وتركيا تكره ذلك.
كان أول أعماله أن فتك بالمماليك وأراح البلاد من ظلمهم، فأوقع بجمهرتهم في القلعة سنة 1811.
الجندية:
ثم أنشأ جيشا على الطراز الحديث في ذلك الزمان، فعلمهم ودربهم على أساتذة إفرنج. وفي سنة 1825 أنشأ في قصر العيني مدرسة حربية إعدادية، أما اللغة فكانت التركية وإلى جانبها تدرس العربية وغيرها، وأرسل طائفة من المماليك لدراسة فنون الجندية في أوروبا، ثم أنشأ مدرسة أركان حرب في ضواحي القاهرة ودعا لها بأساتذة إفرنسيين.
الطب:
كانوا يدعون الحلاقين ليضمدوا الجروح في ساحة القتال، وكان المصريون يلجئون إلى الدجالين ليتطببوا، فأنشأ محمد علي مدرسة طب ومستشفى كبيرا، ودعا بأساتذة إفرنسيين وغيرهم، ودعا أيضا بمترجمين من شاميين ومغاربة وأرمن يترجمون للتلاميذ ما يلقيه عليهم أساتذتهم الفرنجة؛ لأن معظم التلاميذ كانوا من طلاب الأزهر لا يعرفون لغة أجنبية.
جيش وأسطول:
وضم محمد علي إلى عنايته بالعلم عناية بكل ما تحتاج إليه دولة، فبنى أسطولا ونظم جيشا، وعني بالمسائل العمرانية كالري وغيره، فاستعانت به الدولة في حروبها مع الدول الأخرى. وفتح السودان ثم اقتطع شطرا من تركيا، وكاد يظفر بالعاصمة لولا تألب الدول الأوروبية عليه.
الخلاصة:
في كل ما تقدم وصل محمد علي مصر بالغرب، وظلت الحال سائرة في اطراد حتى العام 1849 الذي مات فيه محمد علي، فتولى بعده ابنه عباس فخبت نار تلك النهضة، فأغلقت المدارس والمصانع، وظلت كذلك في عهد سعيد بن محمد حتى صارت الولاية إلى إسماعيل فاقتفى أثر جده محمد علي، ففتح المدارس وأرسل البعثات العديدة إلى أوروبا، واستقدم خير الأساتذة، ووجه همة عظيمة إلى الزراعة، فبنى القناطر وشق الترع ... إلخ.
الترجمة والتأليف:
كان بدؤهما في مصر في عهد محمد علي، ثم استؤنف في عهد إسماعيل، وأول ما ترجم كان كتبا طبية، وقد قام بذلك الأطباء الجدد. إن التأليف والترجمة كانا ضئيلين في زمن محمد علي وحفيده إسماعيل شأن كل شيء في أول عهده.
المدارس:
أقامها محمد علي على اختلاف ضروبها، وعلى خطته مشى إسماعيل أيضا، أما المدرسة العالية التي أنشأها إسماعيل فمدرسة دار العلوم، وهذه كان لها اليد الطولى في بث صحيح اللغة العربية. أما الأزهر فأدخل فيه تعديل وسار على المنهاج الجديد بعد معارضة من رجاله.
المطابع:
جاءت أول مطبعة إلى مصر مع الحملة الإفرنسية مزودة بالحروف اللاتينية والحروف العربية؛ ليطبع عليها ما تريد الحملة إذاعته على الأهلين، ثم تركوها فيما تركوا بعد الجلاء، فكانت نواة لمحمد علي فأسس مطبعة عظيمة دعيت المطبعة الأهلية، ثم سميت مطبعة بولاق. وفي أيام سعيد باشا أنشأ القبط مطبعة أخرى، وفي هذه المطابع طبعت كتب أدبية قديمة.
الصحافة:
أول جريدة صدرت في الشرق هي بريد مصر والعاشور المصري، أصدرهما الفرنسيون في القاهرة، ولما آلت الولاية إلى محمد علي أصدر الوقائع المصرية سنة 1828 حتى ظهرت سنة 1867 جريدة وادي النيل، وبعدها ظهرت الأهرام في الإسكندرية أولا، ثم نقلت إلى القاهرة، وقبل هاتين الجريدتين ظهرت جريدة اليعسوب سنة 1866.
ثم قامت بجوار الصحف مجلات علمية أدبية ... إلخ.
تأثير الصحافة:
أحدثت الصحافة تأثيرا في اللغة تعبيرا وأسلوبا، فقاربت بين أساليب الكتاب المختلفة، وهي التي قضت على الأسلوب القديم، ذلك السجع المضنك، وهي التي سهلت سبل التجدد فقصرت مسافة البعد بين لغة الكتاب ولغة الأمة، وهي التي نفت تلك الكلمات التي تنبو الآذان عن سماعها، والفضل الأكبر في هذا الإحياء لأحمد فارس الشدياق حين عهد إليه في تقويم لسان جريدة الوقائع فأبعد عبارتها عن العجمة والرطانة، ولما ظهرت جوائبه في الأستانة، بعد تونس، تم العمل الأكبر.
التمثيل:
لم يكن له دار قبل أن بنى الخديو إسماعيل الأوبرا بمناسبة افتتاح ترعة السويس، فدعا إليها جوقة إفرنسية مثلت رواية عائدة باللغة الفرنسية.
أما التمثيل في اللغة العربية فكان أسبق الناس إليه شاعر كاتب من لبنان، فمارون النقاش هو أول من ألف فيه، ثم حول بيته مرسحا مثل عليه هو وجماعة أولى مسرحياته، وبعد حين تألف من هؤلاء أجواق، وكانت أولى الفرق التي ذهبت إلى مصر فرقة الشيخ خليل القباني ثم سليمان القرداحي. أما المصريون فلم يمارسوه إلا حين ظهر الشيخ سلامة حجازي، ثم تقدموا حتى برزوا فيه، وتخلف الشاميون ولا يزالون، فكان للبنان فضل البادئ. (3) في القطر الشامي
أما في الشام؛ وخصوصا في لبنان، فكانت الحالة على غير ما هي عليه في مصر، كان اللبنانيون أكثر امتزاجا واختلاطا بالغرب؛ وذلك لارتباط فريق من أهلها دينيا برومة وغيرها، ومن لوازم الدين العلم، فلذلك كان في هذه البلاد فريق يعرف الآداب الأجنبية ولغات الأجانب من طليانية ولاتينية وفرنسية ويونانية وإنكليزية لارتباط هذه اللغات بالدين، ولهذا قلنا آنفا إن محمد علي باشا اعتمد على الشاميين في الترجمة عندما أنشأ مدارسه الحديثة في مصر.
وللدين يد كبرى في نشر الثقافة كما سبق في كلامنا عن الحركة في مصر؛ فالأزهر كان هناك حمى اللغة، وهنا كانت المدارس التي أشادها رجال الدين أيضا منبتا لرجال العلم والأدب الذين كانوا في هذه الديار، وفي مصر رجال النهضة وحماة الفصحى.
المدارس:
كانت المدارس قبل هذا القرن في الجوامع والزوايا كمدرسة الجامع الأموي في الشام، وغيرها في دمشق وحمص وحلب وحماة، وكان المرجع الأعلى الأزهر في مصر.
أما المدارس النصرانية فأقدمها في لبنان للطائفة المارونية، فقد كانوا ينشئون عند كل دير مدرسة للصغار يتعلمون فيها القراءة والكتابة (تحت سنديانة الدير) وبين جدرانه، ومن مدارسهم المشهورة مدرسة أسسها غريغوريوس البابا سنة 1584، وكان أساتذة هذه المدرسة وغيرها من الكهنة والرهبان؛ لأنه لم يكن يحسن القراءة والكتابة إلا الكاهن والإمام وأبناء الأعيان، ولهم مدارس أخرى في المدن الكبرى ملحقة بالدير مثل مدرسة زحلة 1769، ودير القمر 1782، وعجلتون 1751 ... إلخ.
وأشهر المدارس المارونية التي أخرجت البستاني والشدياق والدبس وغيرهم من رجال النهضة هي مدرسة عين ورقة التي أسسها البطريرك يوسف أسطفان سنة 1789 على مثال مدرسة رومية، فحلت محلها حين اغتصبتها حكومة الثورة الفرنسية وباعتها.
وبعد 40 عاما قامت مدرسة مار عبدا هرهريا سنة 1830 ومدرسة مار يوحنا مارون كفرحي سنة 1832 ومدرسة ريفون ... إلخ.
وكان للروم الكاثوليك مدارس صغرى في عين القش وعين تراز، وللروم الأرثوذكس أيضا مدارس صغيرة أيضا في جوار الكنائس والديورة.
الأمير بشير:
وكان الجزار في عكا من أخصام الأمير بشير الشهابي، فدفعت هذه الخصومة الأمير بشير إلى الهجرة إلى مصر، فصادف إكراما من أميرها محمد علي، وتوافقت المشارب، فحين خرج محمد علي وولده إبراهيم على الدولة كان مما احتلوه من بلادها سوريا، فقرب هذا بين الأميرين، ومن ثمرات تلك الصداقة التي جناها لبنان تلك البعثات العلمية التي أوفدها الأمير بشير من شبيبة بلاده إلى القاهرة، حيث تلقت الطب في مدرسة قصر العيني المعروفة في هذه البلاد ببولاق. فليس الأمير الشهابي رب سيف وبطل ميدان، بل له في معركة الثقافة يدان تدلان على عرق أسرته القرشي الأصيل.
نشأة الطباعة:
أول مبطعة عربية وجدت في إيطاليا ببلدة «فانو» بأمر البابا يوليوس الثاني، ودشنها لارن العاشر سنة 1514، كان أول مطبوعاتها كتاب الزبور، وسنة 1530 طبع القرآن الكريم في البندقية. أما الأستانة فقد وجدت فيها الطباعة العربية أوائل القرن الثامن عشر.
في حلب:
ظهرت أوائل مطبعة في أوائل القرن الثامن عشر، وقد صنع أمهات الحروف العربية الشماس عبد الله زاخر الذي يقول فيه معلمه جرمانوس فرحات: كن يا ابن زاخر في الأنام فريدا. ومطبعة الشوير ومؤسسها عبد الله زاخر، ثم مطبعة القديس جاوريوس في بيروت 1753. (3-1) المستشرقون
أول من اهتم باللغات الشرقية البابوية الرومانية، فهي التي عنيت بالمطبعة العربية لطبع الكتب الدينية والتبشير، وقد جمعت كتبا كثيرة من الشرق بواسطة السمعاني، ثم حذت حذوها في أوروبا فرنسة أولا لغاية علمية لا دينية، فأنشأ الفرنسيون مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس سنة 1795، ومنها تخرج المستشرقون من ألمان وطليان وأسوجيين وروس، وانتشرت هذه المدارس في الأقطار الأوروبية كافة.
الجمعيات الآسيوية:
ثم أنشئت جمعية آسيوية في باريس سنة 1822، وفي إنكلترا سنة 1823، ثم في ألمانيا سنة 1844، ولكل جمعية من هذه الجمعيات مجلة علمية تبحث شئون الشرق، فكان لهؤلاء يد على آداب اللغة العربية وإحياء معالمها الدراسية.
أعلامهم:
من أعلام المستشرقين وأقدمهم بوكوك الإنكليزي، الذي مات سنة 1691، ومن آثاره تاريخ ابن العبري، طبعه في اللغة العربية مع ترجمته اللاتينية، ورسالة حي بن يقظان، وغيرهما.
دربلو:
مستشرق ظهر في أواخر القرن السابع عشر، من آثاره معجم في تاريخ الشرق وأدبه سماه المكتبة الشرقية، وهو أشبه بدائرة معارف تبحث في علوم الشرقيين وما إليها.
ثم ظهر ريسكي فطبع تاريخ أبي الفداء، والحريري، ثم كاريزي الإيطالي صاحب كتاب كدائرة المعارف في العربية والإسبانية، ثم كارليل الإنكليزي، وهو صاحب كتاب آداب العرب وأشهر هؤلاء العلماء في الإنكليزية وهو أستاذ الآداب العربية في كمبردج، مات سنة 1804. وسوزا البرتغالي صاحب كتاب الألفاظ البرتغالية المشتقة من العربية.
ولم يدخل القرن التاسع عشر حتى كان الإقبال على التمشرق عظيما، وتقدم المستشرقون في فنهم ووجهوا معظم عنايتهم في درس لغات الشرق إلى اللغة العربية وآدابها، فأقبلوا على النشر والترجمة والتأليف في الآداب العربية بلغاتهم.
مستشرقو النصف الأول من القرن التاسع عشر:
أول من عني باللغات الشرقية الفرنسيون وأتبعهم غيرهم من الأوروبيين، وأشهرهم الآتي ذكرهم:
دي ساسي:
توفي سنة 1838، تخصص بالعربية والفارسية، وكان أمهر أهل زمانه فيهما، صرف حياته في خدمة الآداب الشرقية؛ وخصوصا العربية، تأليفا ونشرا وتعليما، له كتاب في النحو العربي كتب ليتعلمه الإفرنج، وكتاب قراءة سماه الأنيس المفيد للطالب المستفيد. وله أيضا تاريخ العرب في الجاهلية، وكتب مقالات قيمة في المجلة الآسيوية، ونشر كتاب كليلة ودمنة وألفية ابن مالك، وهو مؤسس الجمعية الآسيوية، بالاشتراك مع تلاميذه ومريديه، وأنشئوا أيضا المجلة الآسيوية.
تلاميذه:
عمونيل سديلوا وابنه لويس، وقد خدما اللغة العربية، فلويس ألف كتاب تاريخ العرب وآدابهم، طبع في باريس، وكتاب المقابلة بين جغرافيي العرب واليونان، وله عدة مقالات في الأزياج العربية، نشرت كلها.
دي بريسفال:
توفي في سنة 1834، علم اللغة العربية، وكان أمين المخطوطات العربية في مكتبة باريس الأهلية، وله كتب عديدة في آداب العربية وتاريخها.
وابنه كان مستشرقا أيضا، وله كتاب العرب قبل الإسلام ، ثلاثة مجلدات، باللغة الإفرنسية.
جربير:
فرنساوي، نقل جغرافية الإدريسي، وله عدة مقالات.
فريستل:
توفي سنة 1852، له مقالات هامة في عرب الجاهلية.
دي فيرجه:
له كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام.
رينو:
خلف أستاذه دي ساسي في أمانة المخطوطات الشرقية، وتدريس اللغة العربية أيضا في مدرسة اللغات الشرقية التي صار رئيسا لها.
نشر كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء، مع ترجمة إفرنسية، وكتاب في فتوح العرب بفرنسا.
كاترمير:
من تلاميذ دي ساسي، وقد حاز شهرته وحل محله في إمامة الآداب الشرقية، صار عضوا في الأكاديمية الإفرنسية، وتولى تدريس اللغات الشرقية، وقد دهش الناس لأبحاثه القيمة ولتآليفه الكثيرة، ترجم تاريخ الممالك للمقريزي، ونشر مقدمة ابن خلدون وأمثال الميداني ... إلخ.
وهناك مستشرقون ألمان مثل روديغر وبولد وكوسغارين وكلنيتر، أصدروا المجلة الشرقية الألمانية، ولهم تآليف وكتب لا يتسع المجال لإيراد ذكرها. (4) في القرن التاسع عشر
قلنا إن أول مطبعة في مصر هي مطبعة بونابرت، وأول مطبعة في لبنان هي مطبعة قزحيا للرهبان الموارنة، أنشئت في أول القرن السابع عشر، وهي أول مطبعة في الشرق، كانت تطبع الكتب العربية بالحرف الكرشوني، وهو السرياني.
عبد الله زاخر:
وظلت كذلك حتى صب الحرف العربي الشماس عبد الله زاخر. وقد احتفلت الجمهورية اللبنانية بتمجيد ذكرى المائتين لهذه المطبعة عام 1942، فأحيت ذكر مبدعها الشماس عبد الله زاخر، وكان للبنان شرف السبق في الشرق بإخراج الحرف العربي إلى عالم الثقافة، فرأى النور في الشوير من لبنان.
مطابع كبرى:
ثم في هذا القرن أنشأ الإنكليز مطبعة في مالطة عربية الأحرف سنة 1822، ونقلت إلى بيروت سنة 1834، وهي التي تعرف بالمطبعة الأميركية.
وفي سنة 1848 أنشأ الآباء اليسوعيون المطبعة الكاثوليكية، كانت تطبع في أول نشأتها على الحجر، ثم صارت تطبع على الحروف، وهي أكبر مطابع هذه الديار وأغناها، وفي مطبعتي الأميركان والجزويت طبعت كتب كثيرة قيمة ذات شأن، ولا تزالان تصدران أنفس الكتب حتى اليوم.
وسنة 1857 أنشئت المطبعة السورية لخليل بك الخوري صاحب جريدة حديقة الأخبار، ثم مطبعة المعارف للبستاني سنة 1867، وهي التي صدرت عنها الجنان والجنة والجنينة ومحيط المحيط ... إلخ.
وأنشأ مطبعة لبنان الحكومية داود باشا أول متصرف على جبل لبنان 1861-1868، فكانت تطبع على الحجر، ومن مطبوعاتها المعلقات وشرحها. وتلتها مطبعة جريدة ثمرات الفنون، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس سنة 1874، ومنها يصدر لسان الحال. وبعد هذه المطابع ظهرت مطابع عديدة حتى عمت البلاد في هذا العصر.
المؤلفات المدرسية:
أخرجت هذه المطابع كتبا مدرسية لا تحصى، ولكن هذه التآليف كلها كانت كما وضعها الأقدمون، وظلت معاهد القرن التاسع عشر تعلمها كما وضعت «شعرية ونثرية» حتى فكر بعض المتأثرين بأدب الغرب وطرقه التعليمية فحادوا عن تلك الطرق القديمة العتيقة، ولا يعني كلامنا أن تطور كتب التعليم كان عظيما، فهي لا تزال إلى اليوم تحمل تحديد القدماء وتعريفهم وكثيرا من أمثلتهم التي وضعها العرب في فجر حضارتهم.
المعاهد الأجنبية:
للمدارس الأجنبية فضل على البلاد في نشر الثقافة الأجنبية فيها بواسطة مدارسهم التي أنشئت لنشر البشارة أولا، وإليك تاريخ نشأة هذه المدارس.
مدرسة عين طوره، وقد مر خبر تأسيسها، ثم صارت سنة 1834، للآباء اللعازاريين، ومدرسة اليسوعيين في غزير، ثم كليتهم في بيروت، التي تعلم كل العلوم بفروعها حتى الطب والحقوق والهندسة.
الجامعة الأميركية:
أنشئت سنة 1835 وأقفلت سنة 1840، ثم أعيد إنشاؤها في عبيه سنة 1847، ثم في بيروت، وهي اليوم جامعة بيروت الأميركية، تعلم كل العلوم بفروعها والطب، والمنافسة بين البروتستان واليسوعيين ملأت البلاد مدارس، فشكرا لهما.
وبعد سنة 1860 نشأت في البلاد معاهد كثيرة للصبيان والبنات، للراهبات والسيدات البروتستان.
ولا تزال قائمة إلى اليوم تهذب وتعلم، ومثلها فعلت مدارس الفرير في بيروت ومدن لبنان الكبرى.
المدارس الوطنية:
زهرة الإحسان للروم الأرثوذكس للبنات، المدرسة الوطنية للمعلم بطرس البستاني، وهي أقدم مدرسة وطنية، أنشأها سنة 1863، وأقفلت سنة 1876، بعد أن أخرجت للبلاد عددا من رجال العلم.
ومدرسة الحكمة أنشأها سنة 1865 المطران يوسف الدبس. المدرسة الداودية أنشأها داود باشا في عبيه وعرفت باسمه، والمدرسة البطريركية سنة 1865، مدرسة الثلاثة الأقمار للروم الأرثوذكس سنة 1866، ومدرسة اليهود سنة 1874، المدرسة الرشيدية أقدم مدارس المسلمين الحديثة، ومدرسة الكلية الإسلامية أنشأها الشيخ أحمد عباس الأزهري سنة 1900.
المدارس المجانية:
بقيت الرهبانيات وحدها تعلم بالمجان حتى جاء رستم باشا ثالث متصرف في لبنان وأنشا 72 مدرسة حكومية في أمهات القرى اللبنانية، فكانت الحجر الأول في صرح علمنة لبنان.
الصحافة:
الجرائد أولا: ذكرنا الصحف التي عرفتها البلاد أول عهدها بالصحافة، والآن نقول: إن أول صحيفة أهلية هي حديقة الأخبار لخليل بك الخوري 1858، ثم الرائد التونسي سنة 1860 في تونس، الجوائب لأحمد فارس في الأستانة، البرجيس في باريس لسليمان الحرائري 1865، وجريدة سورية في دمشق، والفرات في حلب، وهما جريدتان حكوميتان رسميتان سنة 1865، النشرة الأسبوعية للمرسلين الأميركان سنة 1870، والبشير لليسوعيين سنة 1870، وقد دعوها أولا المجمع الواتيكاني.
المجلات:
وظهر على أثر الجرائد الإخبارية المجلات العلمية؛ أولاها مجلة الجنان لبطرس البستاني 1870، ثم شفعها بجريدة سياسية اسمها الجنة، وبعد الجنان بسبع سنوات ظهرت المقتطف لصروف ونمر في بيروت أولا، ثم نقلوها لمصر بعد أن أصدرا منها عشرة مجلدات، وحين نقلوها أصدروا جريدة المقطم معها. ثم ظهرت مجلة البيان لليازجي إبراهيم وزلزل، والهلال لجرجي زيدان، والمشرق للآباء اليسوعيين، والضياء لإبراهيم اليازجي بعدما احتجبت البيان. وأخذت الجرائد والمجلات في الانتشار ولا تزال إلى يومنا هذا في نمو مستمر.
الجمعيات العلمية (1)
أول جمعية علمية قد أسست بمساعي الأميركان سنة 1874، وكان من أعضائها فانديك، والبستاني وناصيف اليازجي، ورتبات، مخائيل مشاقه. عنيت بالخطب أو المباحثات، وجمع الكتب ونشر العلم. (2)
الجمعية العلمية السورية، من أعضائها الأمير محمد أرسلان وسليم البستاني والمركيز موسى فريج سنة 1868، وجمعية شمس البر 1869، جمعية زهرة الآداب سنة 1873، وجمعية الحكمة التي أسسها الدبس في مدرسة الحكمة سنة 1881.
المجامع العلمية:
أنشئ في لبنان مجمع لم يطل عمره، أما أقدم المجامع العلمية العربية والذي لا يزال يعمل بنشاط فهو المجمع الدمشقي. تأسس عام 1921، وهو يصدر مجلته الفصلية طافحة بالفصول والأبحاث المفيدة.
كرد علي:
كان رئيسه الدائم العلامة الأستاذ محمد كرد علي، وظل على رئاسته حتى مات سنة 1953، ومن أشهر مؤلفات هذا الكاتب العامل: خطط الشام، وتاريخ أحمد بن طولون، وفلاسفة الإسلام، وكنوز الأجداد، ومذكرات في أربعة أجزاء كبيرة، وغيرها.
ولما مات انتخب الأديب الشاعر خليل مردم بك رئيسا للمجمع. ولم يطل عمره - رحمه الله - فحل محله الأستاذ الأمير مصطفى الشهابي وهو علامة مدقق.
وفي القاهرة أنشئ مجمع ما زال ملتئما، وقد بذل جهودا في سبيل هدفه، وهو المحافظة على صحة اللغة العربية وجعلها تماشي تقدم العلوم والفنون.
وفي بغداد أنشئ مجمع ثالث له - كأخويه المصري والسوري - جولات في خدمة الفصحى.
المكاتب العربية في أوروبا:
مكتبة برلين الملوكية، عدد مجلداتها 1450000، بينها كتب عربية خطية كثيرة. مكتبة الأسكوريال في إسبانيا، فيها 1686 كتابا عربيا. مكتبة لندن، مكتبة أكسفورد، وهي أغنى المكاتب باللغة العربية، ومكتبة باريس ومكتبة فيينا، ومكتبة الفاتيكان الحافلة بالآثار الأدبية.
وفي الأستانة مكاتب عديدة حافلة بالكتب العربية، وفي مصر المكتبة الخديوية، والمكتبة الأزهرية، ومكتبة الجامعة المصرية، والخزانة التيمورية، وفي دمشق المكتبة الظاهرية، وفي حلب المكتبة الأحمدية، والمكتبة المارونية التي أنشأها جرمانوس فرحات، فيها 700 كتاب خطي.
وفي بيروت المكتبة الشرقية، وهي غنية في المخطوطات، لا تقل مجلداتها عن 50 ألفا. مكتبة الكلية الأميركية فيها آلاف المجلدات. وفي العراق مكتبة السيد حسن صدر الدين، وفيها كتب خطية لا توجد في غيرها.
المعاجم:
وكثرت في هذا الطور التآليف على اختلاف أنواعها، ففي مصر كتب طبية وعلمية وزراعية، وفي هذا القطر كذلك، وخصوصا المعاجم، فبعد معجم فرحات الذي طبع في باريس ظهر محيط المحيط وقطر المحيط لبطرس البستاني، ودائرة المعارف التي ألف منها المعلم بطرس ستة مجلدات.
ثم قام بعده ابنه وأنسباؤه كسليمان البستاني فألفوا منها أجزاء حتى وصلوا إلى المجلد الحادي عشر، وظهر أيضا أقرب الموارد للشيخ سعيد الشرتوني، والبستان للشيخ عبد الله البستاني، ومعجم الشيخ عبد الله العلايلي الطريف، والمنجد للأب لويس معلوف، وأخيرا أتمه الأب توتل بمعجم أعلام شامل فجاء من أنفع الكتب. (4-1) الأدب عامة
لم يبزغ نجم هذا العصر إلا والأدب قد جف وذبلت نضارته وحالت بهجته، وانقطعت الصلة بين الأقلام والأدب القديم، فالنثر ركيك عقيم، حافل بالصنعة الشنيعة التي لا يقبلها ذوق، المواضيع بليدة والأفكار تافهة والصور مكروهة ممقوتة، يلوح فيها تعبير كبار الكتاب كرقعة جديدة في ثوب بال. أما الشعر فدارت مطالبه في أضيق الدوائر، غزل خائر ظاهر التكلف، ووصف بليد لا تتمثل فيه شيئا، وهجاء بارد، ومديح لا تشتهي أن تسمعه، فلا الديباجة تحببه إليك ولا البلاغة تستر عيوب المبالغة، لا هم للكتاب والشعراء إلا الصنعة واقتناص الألفاظ.
أما علوم البلاغة فضبطت في قواعد جافة منها شعرية ومنها نثرية، وكلها جافة لا تدني الطالب من مناهل البيان والفصاحة، ولا تقرب ما يتعلمه إلى فهمه، وقد زاد الشراح كتب البلاغة تعقيدا إذ خرجوا بها إلى التفلسف والتعليل، فأعلوا القلوب والأفهام.
ولم يكن يحرص أكثر الكتاب على قواعد الإعراب وصحة اللغة، ولذلك جاءت ترجمة الكتب العلمية التي احتيج إليها أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، إلى أن كانت النهضة الحديثة التي لم تعدم اللغة العربية فيها أنصارها مثل فرحات وكرامة والعطار والدرويش والطهطاوي.
فبدأ الناس يبحثون الأدب القديم ويحتذونه إذا كتبوا أو خطبوا حتى اقتربوا منه رويدا رويدا، مع تأثر بالأدب الغربي؛ لأن حضارة هذا العصر مبنية على أساس الحضارة الغربية الأوروبية، ففنونها وعلومها ولغاتها وآدابها قد خالطت نفوسنا لاطلاعنا عليها وتأثرنا بها، ولهذا نرى الأدب الحديث متأثرا كل التأثر بالأدب الغربي، في الأغراض والمنازع.
النثر:
كان الناس في هذا العصر يحذون حذو كاتبين، بل ينسجون على طراز كتابين: مقامات الحريري ومقدمة ابن خلدون، الأول يمثل الأسلوب الصناعي الأجوف المموه، والثاني يمثل الأسلوب المحكم، فقصر العقول عن البحث حمل فريقا على اتباع خطى الحريري، أما المفكرون - وما كان أقلهم في هذه الفترة - فكانوا يؤثرون ابن خلدون لجريانه مع الطبع وملاءمته لروح العصر، وظل الصراع مستمرا حتى انكسر قلم القاضي الفاضل والحريري في آخر صفحة من كتاب عيسى بن هشام للمويلحي، ومجمع البحرين لليازجي، وليالي سطيح لحافظ إبراهيم.
الأساليب:
إن الأقلام التي تحررت من رق المقامات لم تتبع كلها ابن خلدون، بل راح فريق منها يقلد الجاحظ وابن المقفع والإمام علي، بيد أن تأثر الكتاب بأساليب الفرنجة ولد فيهم الميل إلى الأساليب الدقيقة السهلة وترك السجع ومقته، ثم تعددت الأساليب في هذا العصر فكان لكل طبقة أسلوب؛ كالمحامين والصحفيين والمؤرخين والنقاد والقصصيين والمترجمين ... إلخ.
أثر الأدب الغربي (1)
أدخل على العربية تعابير جديدة لم تؤلف من قبل، وصيغا جديدة أيضا؛ وذلك لتأثر الكتاب بالأدب الإفرنجي؛ وخصوصا غير المطبوعين منهم على أساليب العربية، وقلة البضاعة من فقه اللغة. (2)
جعل المقام الأول للمعنى لا للفظ. (3)
الاقتصار على ما يؤدي المعنى ويصيب الغرض. (4)
تناول الموضوعات والأشخاص بألوان من التحليل لم تكن معروفة من قبل. (5)
تطور النقد الأدبي واتساع دائرته، على أسلوب الفرنجة، فبعد أن كان العرب لا يتناولون المعاني والصور بالنقد صار يشمل كل شيء حتى الأفكار وإيرادها.
نثر الصحف:
خدم اللغة أجل خدمة، وهو الذي مهد طريق الخروج على الأساليب القديمة وهجرها، ومن شروطه تعمد السهولة في اللفظ وعدم التعمق في المعاني؛ لأن الصحف تخاطب الجماعة، ولذلك ترى نثر المجلات العلمية والأدبية أعلى طبقة من نثر الجرائد، وأرصن وأوفى؛ لأنها كتبت للمتعلمين خصوصا، وهذا النوع من النثر بدأ أولا ركيكا ضعيفا ثم أخذ في الرقي حتى بلغ ما بلغه اليوم من الرقي، فللصحافة أجل خدمة في البعث والرقي الأدبي.
النثر الفني:
هو أقدم أنواع النثر على الإطلاق؛ لأن عهد العرب بالصحف جديد، كما أنهم لم يعالجوا البحوث الاجتماعية إلا في العصور المتأخرة.
والنثر الفني يحتاج إلى تضلع من بلاغات المتقدمين وألفاظهم التي تؤدي المعنى بتمامه، ومنها سعة الخيال والتفطن إلى تفهم الكلام على حقه، والتقاط النكتة مع مجانبة الاستكراه، وإدراك جمال العلم والفن. وقد كان هذا النثر ضعيفا في بدء عهده كما كانت أغراضه مقصورة على كتب المودات ورسائل التهنئات والتعزيات وشيء من الوصف، ثم أخذ يرقى ويتقدم حتى وصل إلى ما تراه اليوم.
جمهرة الكتاب:
ومن هؤلاء النثار المرصفي والليثي وفكري وأحمد فارس الشدياق وعبده، والمويلحي، واليازجي «إبراهيم» وإسحاق والحداد، والبستاني «سليمان» والمنفلوطي وجبران والريحاني ويكن وعمر فاخوري.
الأقاصيص والروايات:
قد ذكرنا سابقا عن حظ العرب من هذا الفن، فالقصة الصغيرة ، كما هي في المقامات، قد أخذت بحظ وافر من الفن لولا مغزاها، أما القصة الجديدة فأول من حاول كتابتها أبناء هذا القطر؛ لأنهم أسبق إلى مخالطة الفرنج ... أول من كتب فيها، فرنسيس مراش وسليم البستاني وفرح أنطون وجرجي زيدان، وليس هنا مجال البحث عن مقدار توفيقهم.
أما القصة الصغيرة كالمقامات، فآخر من كتبها نقولا الترك وناصيف اليازجي في لبنان، والمويلحي وحافظ إبراهيم في مصر، إلا أن المصريين احتفظا بالأسلوب وأسهبا في الموضوع، فجاء عملهما بين القصة والمقامة.
الخطابة:
ظلت الخطابة في أول هذا العصر كما كانت عليه في آخر العصر العباسي لا تتعدى الجوامع والبيع، حتى كانت الثورة العربية في مصر والحياة النيابية والدعاية الوطنية، أما في الشام التي هي في تأخر عن مصر في الحياة السياسية؛ لأنها ظلت تحت النير التركي، وقد كانت وطأة المراقب ثقيلة على الألسنة والأقلام، بيد أن الجمعيات الأدبية التي تقدم ذكرها ساعدت جدا على تقوية ملكة الخطابة، ولما انطلقت الألسنة تناولت الخطابة السياسة والاجتماع، وكان من مشاهير الخطباء عبد الله نديم ومحمد عبده وإسحاق والمطران الدبس ومصطفى كامل وزغلول والأفغاني، وفي المتأخرين أمين الريحاني والدكتور فياض وفليكس فارس، ومجاعص.
الشعر
كان الشعر خامدا ميتا فلم نسمع شاعرا يتغنى قبل هذا العصر إلا المطران جرمانوس فرحات والخوري الصائغ، وبعدهما ظهر الشعر أيضا على لسان بطرس كرامة ونقولا الترك، وفي مصر قاله السيد علي أبو النصر والشيخ علي الليثي على عهد إسماعيل، كما قاله الشاعران اللبنانيان في ظل البشير الشهابي، الذي كان يعطف على الأدباء ويجيزهم كأمراء العصور العباسية، فكان له فضل كبير على نهضة الأدب والشعر خاصة.
إلا أن هذا الشعر كان ركيكا باردا، كله تقليد وصنعة، ينحو نحو الأقدمين في الأغراض ويقصر عنهم في الديباجة والرشاقة والأفكار، وبالاختصار يقصر في كل شيء.
محمود سامي البارودي:
إلا أن الشعر طفر طفرة عظيمة تستقبل بالدهشة حين قاله محمود سامي البارودي المصري ، فهذا أعاد للشعر العربي رواءه، فقد ضاهى الشريف الرضي في الجزالة والمتانة والقوة، ولم يختلف عن المتقدمين في شيء من مطالب الشعر، قاله مثلهم وعلى نحوهم، وزاد عليهم شيئا من مظاهر الحضارة الجديدة، ووصف مخترعات العصر الحديث.
صبري:
ثم ظهر إسماعيل صبري الذي قال الشعر المحكك، وهكذا كان صبري والبارودي سابقين لظهور شوقي شاعر النهضة.
أما في لبنان فخطا بالشعر الشيخ ناصيف اليازجي، فقد كان فوق الذين تقدموه، ولكنه دون البارودي شدة أسر وتركيب وصفاء ديباجة، بيد أنه يمتاز بالسهولة، وهو في شعره من أضراب البهاء وأبي العتاهية في السهولة، أما اليوم فالشعر خطا خطوات واسعة حتى دنا من فصاحة الأقدمين ولهجتهم العربية، مع ترك زخرف اللفظ، والاهتمام بالمعنى وتصوير المشاهد ووصفها وصفا دقيقا، وترك الأساليب القديمة والأغراض العتيقة كالمدح والهجاء، إلا نفرا قليلا لا تزال عقولهم بخواتم ربها، يصفون ماء وجرة وعندهم الأنهار المتدفقة والينابيع المغردة، يرون ما يرون حولهم ولا يشعرون، يتغزلون حتى في المذكر كما تغزل أبو نواس، ذاك تغزل إرضاء لعاطفته، أما هم فلا أدري لماذا!
إن لشعر الغرب أثرا بليغا في الشعر العربي، خصوصا في شعراء هذه الفترة، فإنهم يختارون أغراضا بالأجنبية أشبه. وقصارى الكلام أن نهضتنا الحاضرة إذا ظلت مطردة فالأمل كبير، ولا يبعد أن نرى عصرا زاهيا يكون ذا شأن في تاريخ الأدب ويترك لمن يأتي بعدنا مجالا للبحث والدرس.
الشعراء والكتاب (1)
الترك:
هو نقولا الترك، ولد في دير القمر من أسرة قديمة فيها، يدل اسمه كما يقول التقليد أنهم من عائلة تركية توطنت دير القمر، أحب العلم من صغره وأكب عليه وأكثر المطالعة، فأمسى منشئا شاعرا، ولما جلس الأمير على كرسي إمارة لبنان في بيت الدين اتصل به نقولا وخدمه ومدحه في قصائد كثيرة، وزاد على الشعراء أنه كتب في التاريخ.
ومن مميزات نقولا المزاح في الشعر. وشعراء زمانه كانوا ينظمون في أغراض المتقدمين كلها، وزادوا عليها بابا جديدا يعرف بالتاريخ، وهو تضمين الأحرف الأبجدية للسنة التي قيل فيها الشعر، بعد كلمة تاريخ أو أرخ أو أرخت أو أرخنا ... إلخ. وقد تفرد في هذا الباب الشيخ ناصيف اليازجي الذي ضمن بيتا عشرات التواريخ (راجع كتابنا: رواد النهضة الحديثة).
الترك المنشئ:
ولنقولا الترك مقامات قلد بها الحريري، عددها عشر، محدثها الحازم وبطلها أبو النوادر يرمي بها إلى مدح الأمير، وقد طلب فيها دارا يسكنها فمنحه ذلك الأمير بشير، وقد كان يفعل ذلك في الشعر فيطلب الكسوة وغيرها من الأمير.
وللترك تاريخان؛ الأول تاريخ نابليون والثاني تاريخ أحمد باشا الجزار، والكتابان يدلان على فكرة وروية وتأمل وتبصر، والركاكة في نثر الترك أقل منها في شعره. (2)
كرامة:
هو بطرس بن إبراهيم كرامة الحمصي، ولد ونشأ وتأدب بحمص، قال الشعر في حداثته، ومدح أعيان بلده، ثم هاجر ووالده إلى بلاد عكار، واتصل بحاكمها ومدحه، ثم اتصل بالأمير بشير فكان له شاعرا ومدبرا، وتولى رئاسة ديوان وأمانة سره لمعرفته التركية، وكان معلما لولده الأمير أمين، ففاضت عليه النعمى فأصبح أميرا.
ولما نفي الأمير إلى مالطة بعد انهزام إبراهيم باشا المصري، رافقه بطرس في منفاه، وظل في خدمته حتى مات الأمير في الأستانة. وعين بطرس كاتبا في المابين الهمايوني، وظل في وظيفته تلك حتى مات.
شاعريته:
شاعر مطبوع، فياض القريحة، قوي العارضة، متصرف في المعاني، وهو أعلى شعراء عصره كعبا، وأرسخهم قدما، مدح غير الأمير من كبار حكام ذلك الزمان أخصهم داود باشا حاكم العراق وركن النهضة الأدبية فيه. قال فيه قصيدته الخالية المشهورة التي أحدثت ضجة أدبية كبرى ودارت حولها مناقشة حامية كان بطلها التميمي الشاعر العراقي (راجع كتابنا: رواد النهضة في باب شعراء الأمير). (3)
اليازجي:
هو ناصيف بن عبد الله اليازجي، ولد بكفر شيما، تلقى مبادئ العلوم على أحد القسوس، ثم علمه والده الطب على الطريقة القديمة، وهي مهنة الأب، فوعى الطب ونظم فيه أرجوزة. حفظ ناصيف كثيرا ووعى أكثر من مأثورات العرب، ثم قصد الأمير بشير فقربه إليه وجعله من كتاب ديوانه، وبعد سقوط عرش الأمير عاد ناصيف إلى بيروت ينظم ويكتب ويراسل أدباء عصره ، ويعلم في المدارس العالية.
تآليفه:
لم يترك بابا مما طرقه الأقدمون إلا طرقه، ففي مجمع البحرين نحا نحو الحريري، وفي الأرجوزة نحا نحو ابن مالك، وفي ديوان المتنبي نحا نحو ابن جني، وفي كتب النحو والصرف والبيان نحا نحو الجماعة، وفي شعره أيضا نحا نحو الشعراء الأقدمين. وله ديوان فاكهة الندماء، ونفحة الريحان، وثالث القمرين.
شعره:
متأثر بما حفظ، رقيق الديباجة، مطبوع اللهجة، سريع البديهة، ناصع اللفظ، قلد الحريري فوفق والمتنبي فأخفق، قال الحكم فلم يأت بجديد، وكل تآليفه تدل على سعة اطلاع وإتقان لعلوم اللسان. وقد برز في نظم التاريخ الذي تقدم ذكره، والتفصيل في رواد النهضة أيضا.
حكمته:
بدائية زهدية لا إبداع فيها، ومدحه على غرار السابقين، وغزله ناعم رقيق ككل شعره.
النثر
ركاكة وغموض ومحسنات لفظية إلى ضعف تركيب وقلق؛ أي أن يؤتى باللفظة عمدا لتوضع في الجملة مرغمة ... إلخ. (1)
الجبرتي:
عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، نسبة إلى جبرت، وهي مدينة في الحبش، ولد سنة 1754، ومات سنة 1822، تخرج في الأزهر وأتقن علوم زمانه، واتصل بالفرنسيين عندما فتحوا مصر، وعين كاتبا في الديوان، وبعد ذهابهم انصرف إلى التأليف، فكتب تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، وهو يحتوي حوادث القرنين الثاني والثالث عشر، جمعه على حوادث الأيام يوما فيوما، ولا سيما أيام نابليون وفجر حكم محمد علي، وفيه تراجم كثيرة لمن كانوا يموتون من مشاهير العلماء والأعيان ... إلخ.
إنشاؤه جاف بيد أن روايته صحيحة، ومع ذلك هو في طليعة منشئي هذا العصر. (2)
البستاني:
هو بطرس بن بولس البستاني، ولد بالدبية - لبنان سنة (1819-1882)، تلقى علومه في مدرسة عين ورقة المارونية، وأحسن اللغات السريانية والعربية واللاتينية والإيطالية، ودرس الفلسفة واللاهوت، والحق القانوني والجغرافية والتاريخ والحساب، على نية أن يصير من خدام المذبح، ولكنه حول نفسه إلى خدمة العلم.
واتصل بالبروتستانت وتعلم اللغة الإنكليزية والعبرانية واليونانية، وتمذهب بمذهبهم وترأس مدرسة الأحد عندهم بعبيه سنتين ألف في خلالهما كتابه: كشف الحجاب في علم الحساب، ثم ساعدهم في ترجمة التوراة.
وبعدئذ أنشأ مدرسته الوطنية ، وأصدر مجلاته الجنان والجنة، وتفرغ في آخر حياته للتأليف فألف كتابه محيط المحيط، أخذه عن الفيروزابادي وزاد عليه كثيرا من الألفاظ الحديثة للمصطلحات العلمية والمنطقية وغيرها، ودل على أصول الكلمات الدخيلة.
ثم انصرف لتأليف كتابه الجامع دائرة المعارف فأصدر منه ستة أجزاء، فأتم السابع ابنه سليم وألحقه بالثامن، ثم تابع الورثة إصدار ثلاثة أجزاء فبلغ الأجزاء 11.
قيمته:
ركن النهضة ومنارة علم وأدب في عصره، عمل بنفسه ما تعجز عنه الجماعات، رجل عمل وثبات، تعلمنا آثاره أن الكد المقرون بالذكاء يأتي بكل عجيبة.
أما كتابته فكانت سهلة لا تعمل فيها ولا تكلف ترسل إلى السليقة، من أتباع ابن خلدون وإن قصر عنه في صحة التعبير، يهتم للمعني أكثر من الألفاظ، فهو يمثل النقلة السريان في عهد الخلفاء العباسيين. (3)
إبراهيم اليازجي:
ولد في بيروت ونشأ فيها، وأخذ العربية وعلومها عن أبيه، وبعد أن قال قصائد رائعة ودبج مقالات شائقة، اتصل بالآباء اليسوعيين فوقف على ترجمتهم التوراة منقحا عبارتها العربية فجاءت أفصح الترجمات، ثم علم في المدرسة البطريركية، وأنشأ مجلة الطبيب مع زلزل وسعادة، ثم انتقل إلى مصر فأصدر البيان أولا، ثم أصدر مجلة الضياء بدلا بها وماتت بموته.
أخلاقه:
أبي النفس عصبي المزاج، أنوف مترفع عن كل خساسة، وقد دفع ثمن هذه الخصال غاليا شأن كل أديب شريف أبي لا يبيع وجدانه.
قيمته:
تبحر في فقه اللغة على وجه خاص، شاعر متين، كاتب رصين، وهو أول من عالجوا النقد اللغوي في البيان والضياء، فرد الكتاب إلى العربي الصحيح، فكان أثره بعيدا في حمل الأدب على تحري صحة الألفاظ وتأليف الكلام على قوانين العربية الخالصة، والخلاصة أنه كان حجة جيله، إذا قضى يقال قطعت جهيزة قول كل خطيب.
في العلم والفن:
وله أيضا فضل آخر وهو إيجاد ألفاظ كثيرة لمصطلحات علمية، وله يد كبرى على الطباعة فهو صانع أمهات الحروف العربية الإسلامبولية، وله في علم الهيئة جولات حتى إنه اكتشف نجمة فعد بين علماء الفلك المكتشفين. (4)
إبراهيم الأحدب:
ولد في طرابلس سنة 1826، ومات سنة 1890، وأخذ العلم عن شيوخها ورحل إلى الأستانة وعرج على مصر، وتعرف إلى شيخ الأزهر وعلمائه ثم راسلهم بعدئذ، اشتهر بالفقه الحنفي، فكانت محاكم لبنان تعتمد على فتاويه، ثم تولى القضاء في بيروت ووظف في المعارف، وتولى تحرير ثمرات الفنون، وقد قال الشعر وله منه الجيد واشتهر بنظم الأمثال الشعرية، والحكم.
تآليفه:
عديدة. منها: مقامات، فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق، وهو مائة مقالة كأطواق الذهب نظما ونثرا، وله فرائد اللآل في مجمع الأمثال، مؤلف نفيس في مجلدين نظم فيه أمثال الميداني، وله كتب أخر غيرها، وقد اشتهر في الإكثار من النظم حتى بلغ ما نظمه ثمانين ألف بيت. (5)
يوسف الأسير:
ولد في صيدا عام 1814، ولم يتبع التجارة كأبيه فانصرف إلى العلم، تلقى علومه الابتدائية في صيدا، ثم خرج إلى دمشق فالأزهر حيث فاز بشهادته العالية، وعاد إلى صيدا ثم انتقل إلى بيروت، وتقلب في مناصب عديدة شرعية، ثم ذهب إلى الأستانة حيث وظف في وزارة المعارف، ثم عاد إلى بيروت فكان مرجع رجال اللغة والفقه الشافعي، وقد قال الشعر ولكن لم يجدد فيه.
تآليفه:
إرشاد الورى، رائض الفرائض، شرح كتاب أطواق الذهب، وديوان فيه الشعر الجيد. (6)
الكونت رشيد الدحداح:
ولد في عرمون كسروان، لبنان. درس في عين ورقة، ثم صار كاتبا لأمراء زمانه، ولكنه أبى هذه الحياة المقيدة فرحل إلى باريس فاشتغل بالتجارة ثم انصرف إلى العلم، فأنشأ جريدته، برجيس باريس، واتصل بباي تونس، ومدحه فقربه وجعله ترجمانه الخاص، وبعد مدة عاد إلى فرنسا فابتنى قصرا وعاش عيشة العظماء وانصرف إلى التأليف كالمستشرقين.
تآليفه:
قمطرة طوامير، مقالات أدبية وفوائد لغوية. سيار المشرق في بوار المشرق «تاريخ»، وقد طبع معجم المطران فرحات. (7)
الألوسي:
محمود شهاب الدين الألوسي من أشراف العراق السادة الحسينيين، نسب لألوس جزيرة في وسط الفرات، كان قطب علماء العراق وتولى إفتاء السادة الأحناف، له تلامذة كثر، رحل إلى الأستانة وحظي بمقابلة السلطان عبد الحميد وأجزل عطاءه أدبيا وماديا فعاد إلى العراق غانما.
تآليفه:
نزهة الألباب، وهو كتاب رحلة جامعة لتراجم العظام وأبحاث جرت بينه وبين شيخ الإسلام، روح المعاني في تفسير القرآن ، رحلة إسلامبول، شرح درة الغواص، كتاب المقامات الخيالية، وله غير هذه كتب كثيرة لم يطبع منها إلا 17 كتابا. (8)
الطحطاوي:
من رجال بعثة محمد علي الكبرى إلى باريس، تولى الترجمة في العلوم المختلفة، ثم ولي نظارة مدرسة الألسن التي أنشأها محمد علي للترجمة وعلمها.
وقد عانى كثيرا من الأتعاب؛ لأن اللغة العربية كانت في ذلك الزمن منقطعة عن لغات الغرب فجاهد كثيرا في إخراج المصطلحات لأداء المعاني الفنية، وله كتب عديدة في فنون مختلفة منها.
تآليفه:
تاريخ مصر، رحلته إلى فرنسا، تعريب تلماك، هندسة ساسير، وغيرها. (9)
الحرايري:
هو تونسي الأصل واسمه سليمان الحرائري عاون الدحداح في برجيس باريس، وكان قبلا رئيس كتاب الباي التونسي وله كتاب عرض البضائع العام في وصف معرض باريس. (10)
الدبس:
هو المطران يوسف الدبس، ولد بكفر زينا، وتعلم في عين ورقة العلوم واللغات والفلسفة واللاهوت وكل علوم الدين، وبعد أن سيم كاهنا علم في مدرسة مار يوحنا مارون، ثم سيم أسقفا لأبرشية بيروت المارونية، له تآليف عديدة وأولها مربي الصغار ومرقي الكبار، ثم مواعظ الدبس، وكتاب سفر الأخبار، وروح الردود، وأعظمها تاريخ سوريا الضخم وهو عشر مجلدات ضخمة، وله غيره كتب عديدة أهمها الجامع المفصل الذي عولنا عليه في كتابة تراجم طلائع النهضة اللبنانية.
وهو منشئ مدرسة الحكمة كما سبق، ومؤسس الجمعية الأدبية فيها، والخلاصة أن حياة هذا الأسقف كانت حياة جد وعمل. توفي سنة 1907.
قيمته:
خطيب مفوه، فصيح بليغ، إنشاؤه من نوع إنشاء عصره، مرسل لا كلفة فيه ولا بلاغة. (11)
الأب لويس شيخو:
ولد في ماردين، ثم اتصل بالآباء اليسوعيين فتعلم في مدرستهم بغزير، وسافر إلى أوروبا وعاد ليدرس الآداب العربية في كليتهم، ثم انقطع إلى التأليف فخدم الآداب العربية بما ألفه من الكتب القيمة، التي له الفضل في إخراجها بأحسن ترتيب وتبويب، وطبع متقن عرفت به مطبعة الآباء اليسوعيين.
وقد كانت مجلة المشرق ميدان الأب لويس اليسوعي ينشر فيها كل ما يعن له نشره، وقد عني بنشر الآداب العربية، وكان جل همه موجها للبحث في النصرانية وشعرائها قبل الإسلام وبعده.
مؤلفاته:
كتاب علم البيان والخطابة جزآن، وله جزآن آخران هما مقالات تشرح الكتابين وتفيض في البحث، وميزة كتابه أنه نهج في علم البلاغة منهج أدباء الفرنج.
مجاني الأدب 6 أجزاء، وله ثلاثة أجزاء شرح، وهو مختارات من خير أقوال العرب، وهو الأول من نوعه في وفرة الأغراض وحسن التبويب.
شعراء النصرانية، كتاب ضخم في ستة مجلدات، يزعم فيه الأب شيخو أن معظم شعراء الجاهلية نصارى، وفي هذا الزعم من المغالاة ما فيه، بيد أن للكتاب قيمة أدبية كبيرة.
آداب النصرانية بين عرب الجاهلية، ذكر فيه كلمات وعبارات وأمثالا أدخلتها النصرانية في عرب الجاهلية.
تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر. أحيا شيخو في هذا الكتاب ذكر كثيرين من الأدباء والشعراء في كل الأقطار.
وله أيضا يد كبرى على المكتبة الشرقية، بما جمع من الكتب، وقد جعل لها فهرستا كفهرست أمهات الكتب العالمية.
القصص
كان حظ العرب من القصص والشعر القصصي قليلا، بيد أن هذا الفن اقتبس عن الأجانب؛ فهم الذين جعلوا شأنا عظيما للقصة، اقتبسها العرب عنهم بقواعدها ومناهجها حتى موضوعاتها، وكان الأسبقون إلى هذا الشاميين لمخالطتهم الأوروبيين، والأخذ عنهم، ومن هؤلاء: فرنسيس مراش الحلبي، وسليم البستاني، وجرجي زيدان، وفرح أنطون. بيد أن قصص هؤلاء لا تنطبق على الفن القصصي الحديث تمام الانطباق، فهم القصصين اليوم، تحليل الشخصيات وتصوير المشاهد بكل دقة، في حين أن قصصنا تعنى بسرد الحوادث كواقعة حال، وكان يهمهم المفاجآت، والإتيان بالغريب منها الذي يدهش له القارئ. (1)
سليم البستاني:
هو ابن المعلم بطرس البستاني، ولد سنة 1847، ومات عام 1884. نشأ في حجر أبيه وأخذ عنه العربية وعن اليازجي الأب. كان مساعدا لأبيه في أعماله الأدبية والعلمية وألف بعد وفاة أبيه الجزء السابع من دائرة المعارف، ولم يطل عمره فلحق بأبيه بعد سنة من وفاته. كان يحرر الجنة والجنان، ويضع الروايات التمثيلية والقصصية.
أهم رواياته:
قيس وليلى، ورواية الإسكندر ، والهيام في جنائن الشام، وزنوبيا، وغيرها. هو أول من ألف في هذا الفن، أما لغته الكتابية فأصح من لغة أبيه ومقالاته وافرة التخيل. (2)
زيدان:
جرجي زيدان منشئ الهلال، وصاحب الروايات التاريخية، ومؤلف كتاب الأدب العربي الحديث مرتبا حسب العصور، ولد ببيروت وتعلم أولا في مدرسة كمدارس القرى البسيطة، واضطر إلى العمل مع أبيه الفقير، وحاول أن يتعلم اللغة الإنكليزية في مدرسة ليلية ففعل، ومال إلى تعلم الطب في كلية بيروت الأميركية فمكث فيها سنة واحدة، وخرج وذهب إلى مصر ليتم علمه هناك فلم يستطع لضيق ذات يده فغادر المعهد الطبي وكتب في جريدة الزمان، ثم رافق الحملة النيلية سنة، وعاد إلى بيروت حيث طالع العبرانية والسريانية ووضع كتابه الفلسفة اللغوية، ثم عاد إلى مصر حيث ساعد في تحرير المقتطف، وتركها وألف كتابه تاريخ مصر الحديث، ودرس في المدرسة العبيدية، إلى أن أصدر مجلة الهلال.
قيمته:
دمث الأخلاق، لين المعاشرة، لطيف الحديث، متوقد الذكاء، صادق العزيمة صبور، لم يكن يتعمد في كتابته أسلوبا خاصا، بل كان يرسل عبارته على السليقة بلا تكلف ولا تصنع، فإذا صح أن يكون لبطرس البستاني أسلوب فهو هذا، فكلاهما طبعا على غرار واحد، ورميا إلى هدف واحد وهو تعليم الجمهور.
آثاره:
أما آثاره فهي: مجلة الهلال، تاريخ مصر الحديث، تاريخ التمدن الإسلامي، تاريخ الأدب العربي، العرب قبل الإسلام، مشاهير الشرق، اثنتان وعشرون رواية تاريخية، وقد كان ملما بعلوم شتى للمطالعة الكثيرة والأبحاث التي كانت تتطلبها منه مجلته. أما هلاله فصبغته تاريخية كما أن صبغة المقتطف علمية تطورية. والضياء لغوية، والمشرق أثرية أدبية دينية جدلية، والجامعة مجلة فرح أنطون اجتماعية فلسفية حرة الفكر.
الصحافيون
تقدم الكلام عن تاريخ الصحافة في بابه، والكلام عن الإنشاء الصحافي في كلامنا عن النثر، فالأسلوب الصحافي هو - كما علمت - أسلوب كان خاليا من الفن في أول عهده، بل كان الإنشاء بسيطا ركيكا لا يعلو عن اللغة العامية إلا أنه معرب، ولكن الصحافة أخذت ترتقي وتنمو وتتحسن لهجتها وتبعد عن العامية حتى بلغت ما بلغته اليوم من علو اللهجة ومتانة التركيب وفصاحته. ونعيد القول إن الأسلوب العربي الحاضر مديون للصحافة، فهي التي نفرتهم من السجع الذي ثار عليه أحمد فارس الشدياق. (1)
أحمد فارس الشدياق:
هو فارس بن يوسف الشدياق، قيل إنه اعتنق الإسلام، ولد في عشقوت كسروان لبنان (1804-1887)، وتلقى علومه في مدرسة عين ورقة الشهيرة. نشأ نبيها ذكيا، أولع منذ الصغر بمطالعة تآليف البلغاء، وأشعار العرب الأقدمين، فأدرك أسرار اللغة، ثم رحل إلى القطر المصري فأتم دروسه وحرر في الوقائع المصرية، واشتهر بين علماء عصره وشعرائه.
ودعاه المرسلون الأميركيون إلى مالطة فتولى إدارة مطبعتهم وتصحيح مطبوعاتها، ثم سافر إلى أوروبا فزار باريس ولندن وغيرهما. وفي باريس تعرف إلى باي تونس ونظم فيه قصيدة عارض بها لامية كعب بن زهير «بانت سعاد» وبعث بها إليه بعد عودته إلى تونس، فأرسل يدعوه إليه على سفينة حربية خاصة، وأكرم وفادته جدا وقلده المناصب الرفيعة، وكان يكتب المقالات الطنانة في الرائد التونسي.
وطلبته الصدارة العظمى من الباي فقدم الأستانة وأنشأ الجوائب، جريدته الشهيرة، فملأ صيته الأسماع، فكان ذاك الكاتب البليغ والسياسي المحنك والمنشئ الأخلاقي والاجتماعي، وكان لرأيه السياسي تقدير وشأن في أندية أوروبا السياسية.
تآليفه:
الواسطة في أحوال مالطة، كشف المخبأ عن أحوال أوروبا، الجاسوس على القاموس، سر الليال في القلب والأبدال، منتهى العجب في خصائص لغة العرب، اللفيف في كل معنى طريف، الساق على الساق في ما هو الفارياق، وهذا الأخير كتاب طريف وهو مذكرات وسيرة حياة. وله مجموعة مما نشر في جريدته الجوائب من مقالات، وهو أربعة أجزاء ... إلخ.
قيمته:
متضلع من فنون الأدب، بصير بمذاهب البيان، متفنن في الإنشاء، غني بالمفردات اللغوية إلى حد غريب، شاعر ناثر، أسلوبه منسجم التراكيب، متساوق المعاني كثير الإطناب والاستطراد، يبالغ فيما يكتب، مقلد في شعره، مجدد في نثره، وقد أجاد في الصناعتين وكان رائد النهضة الأدبية والسياسية (طالع كتابنا صقر لبنان لتعرف قصته). (2)
أديب إسحاق:
ولد بدمشق 1856 ومات في لبنان 1885، تعلم في مدرسة الآباء اللعازاريين العربية والإفرنسية، غادر المدرسة صغيرا واستخدم في الجمرك فتعلم أثناء ذلك اللغة التركية، وقدم بيروت فخالط الأدباء والشعراء وأهل العلم، فكان طلق اللسان بارعا في النظم والنثر فأعجبوا به، فانقطع إذ ذاك إلى الكتابة واحترف الصحافة، فعرب بعض الروايات الإفرنسية، وألف بعضها، وكانت رائحة الحرية الثائرة تنبعث من خلال سطوره، فضاقت به الديار الشامية، فرحل إلى مصر وأنشأ هناك جريدة مصر، ثم جريدة التجارة، فأطلق فيها العنان لقلمه السيال الجريء فخرجت مقالاته يملأ صداها وادي النيل، فأعجب الناس بلغته الصحافية البليغة الخالية من كل ركاكة وتعقيد وغموض، فراجت كتابته حتى عدت الحكومة جريدته خطرا، فصدر الأمر بإقفالها، وقد سجن في ثورة عرابي باشا لتطرفه وحريته، وكان فوق ذلك يلقي الخطب المهيجة الطافحة بالروح القومية والوطنية.
ثم رحل إلى باريس، وداخل جماعة من كتاب الفرنسيس والأتراك، واختلف إلى مجلس الأمة الإفرنسي فأعجب ببلغاء خطبائها، وظل يعالج السياسة والكتابة حتى أعياه داء الصدر فعاد إلى وطنه لبنان، وظل يكتب حتى قضى في التاسعة والعشرين من عمره.
قيمته:
منشئ بليغ، وخطيب مفوه، فصيح اللهجة، سريع البديهة، يرتجل المقالة والخطبة ارتجالا، أسلوبه شديد الأسر متراص التركيب، مليح الاستشهاد الذي أكثر منه؛ تارة يسجع وطورا لا، فهو أشبه بالطائر، يسجع متى طاب له. في كتابته حياة قوية يشعر بها القارئ فيندفع مع كاتبها، ويغلب على مقالاته أسلوب الخطابة، وهذه مجموعة مقالاته تشهد على ما أقول. وبكلمة نستطيع أن نقول إن أديب إسحاق خرج بالصحافة إلى طور جديد من حيث الأسلوب والروح (طالع رواد النهضة). (3)
محمد عبده:
ولد بمحلة نصر من إقليم البحيرة بمصر 1849-1905، نشأ نشأة الأوساط من القرويين، فاستظهر القرآن في كتاب القرية، ثم أرسل إلى الجامع الأحمدي فجامع الأزهر، ثم تتلمذ لجمال الدين الأفغاني وهو أكبر تلاميذه. عالج الكتابة في الصحف عندما كان طالبا في الأزهر، فكان على عادة أهل زمانه يلتزم السجع، والتمهيد بين يدي الموضوع بالمقدمات الفلسفية، ثم ما برح قلمه يرقى ويعلو بتثقيف أستاذه وبازدياد حظه من العلم حتى بلغ ما بلغ، وقد تأثر بنهج البلاغة الذي شرحه فجرى قلمه على أسلوبه وشبه فصاحته.
آثاره:
العروة الوثقى، أصدرها مع أستاذه الأفغاني، شرح نهج البلاغة، الإسلام والنصرانية، رد على هانوتو، وقد دار نقاش بينه وبين فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة حول ابن رشد وفلسفته (طالع كتابنا: جدد وقدماء).
أخلاقه:
حاد البصر، بليغ العبارة، فصيح اللسان، ذكي القلب، شديد العارضة، قوي الحافظة، كبير النفس عالي الهمة، نزاع إلى الإصلاح، وقد عانى في سبيله ما عانى.
أثره الديني:
فسر القرآن بلسان العلم والعقل، قرب العقائد من الأفهام، وكشف ظلال الإبهام.
أسلوبه:
يسجع أحيانا كابن العميد فيتكلف الصنعة، وينحو نحو الجاحظ أحيانا في التأليف فتتراصف فقره وتتساوق أغراضه، يلبس المعاني لبوسها من الألفاظ الملائمة لها، وقد كان علماء الأزهر المتمسكون بالقديم غير راضين عن آرائه، ولذلك قال قبل أن يحتضر:
ولكن دينا قد أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
المرسح
لقد ذكرنا عن المرسح في بدء الكلام عن هذا العصر وقلنا إن لبنان كان أسبق العرب إلى فن التمثيل، وها نحن نذكر ثلاثة منهم، وأولهم، بل أول من مارس هذا الفن في الشرق: مارون النقاش. (1)
مارون النقاش:
ولد في صيدا 1717-1855، ونشأ في بيروت، كان تاجرا ولكنه ميال إلى الموسيقى، أتقن العربية والإفرنسية والإيطالية، سافر إلى مصر وإيطاليا فأعجب بالتمثيل، فلما رجع إلى بيروت ألف فرقة تمثيلية وألف رواية البخيل، وهي أول درامة عربية، مثلها في منزله ودعا لحضورها قناصل الدول وأعيان بيروت فصادف قبولا، ثم ألف رواية هارون الرشيد ودعا إليها والي بيروت وبعض الوزراء ورجال الدولة، ثم أنشأ مرسحا بجانب بيته تحول بعد موته إلى كنيسة.
وله أيضا رواية الحسود وغيرها، وقد احتفلت مصر بالذكرى المئوية لنشأة المرسح ودعت لبنان إلى الاحتفاء معها بهذه الذكرى، ذكرى ابنه النابغ. (2)
نجيب الحداد:
ولد في لبنان 1867-1899 وقال الشعر صغيرا، ثم ذهب إلى مصر حيث زاول الصحافة فتولى رئاسة تحرير جريدة لسان العرب، وكان يحرر في غيرها ويترجم الروايات التمثيلية، وقد مات بداء الصدر الذي فتك بزميله إسحاق.
شعره:
كان شاعرا مطبوعا كجده الشيخ ناصيف اليازجي، سهل الديباجة مهلهلها، من غرر قصائده وصف القمار ووصف القمر، وهذه الأخيرة متأثرة بمقالة خاله الشيخ إبراهيم، وله وصف حريق سوق الشفقة في باريس، ووصف القطار وغيرها من الشعر الجيد.
نثره:
نثره كشعره رقة وأناقة ديباجة، يكثر من التشابيه والاستعارات، بحث كثيرا من المواضيع التي تلابس الحياة الاجتماعية.
مسرحياته:
صلاح الدين، السيد، المهدي، حمدان، روميو وجوليت، الرجاء بعد اليأس، الفرسان الثلاثة، ثارات العرب، غصن البان، البخيل. وله عدا هذه المسرحيات مجموعة مقالات، وديوان شعر.
النقد الأدبي
تاريخ الأدب العربي كما هو اليوم على الطريقة المدرسية حديث العهد في معاهدنا، فقد كان على المتأدب أن يعمد إلى الأغاني ومعجم الأدباء ووفيات الأعيان ويتيمة الثعالبي وغيرها من الكتب التي جمعها المصنفون العرب من الرواة وغيرهم، وقد قال ابن خلدون إن عمدة الأدباء أربعة كتب: البيان والتبيين، وأدب الكاتب، والنوادر لأبي علي القالي، والكامل للمبرد.
وفي هذه شيء من النقد لا يتجاوز الألفاظ والمعاني والسرقات الشعرية، وكان النقد لا يتعدى قولهم إن فلانا أجاد أكثر من فلان، وفلان سبق إلى هذا المعنى، ثم تطور النقد عندما ظهر كتاب ابن رشيق «العمدة» والمثل السائر لابن الأثير، بيد أنه ظل على نسق القدماء ولم يخرج عنه إلا بمقدار قليل.
تاريخ الأدب
أول من اهتم بكتابة تاريخ الأدب العربي على الطريقة الحديثة هو جرجي زيدان، وله فضل على تاريخ الذين لم يترجم لهم القدماء من أدباء وشعراء متأخرين ومستشرقين.
ولما قامت الجامعة المصرية والمعارف المصرية على الطريقة الحديثة ألفوا في هذا الموضوع كتبا مدرسية على نمط جديد، مماشين الطريقة الأوروبية الحديثة بتحفظ تام.
أما النقد على الطريقة الأوروبية الحديثة فقام به عصبة من الأدباء المتأثرين بأدباء الغرب المستشرقين، وبنقدهم الحديث، فخطوا خطوهم وحذوا حذوهم في النقد الحديث. وإنني أرى أثر النهضة في النقد أظهر منه في تأليف تاريخ الأدب.
وللبكالوريا اللبنانية فضل على طبع ملكة النقد في الطلاب، بهذا النص الذي أدخلته في منهاجها، وهو أوروبي بحت كما يفعل الذين يكتبون تاريخ الأدب، إنما ما نؤاخذ عليه المؤلفين في تاريخ الأدب، إنما هو إقلالهم حتى الندرة من كتابة تحليل ونقد نصوص تكون نماذج للطلاب.
المستشرقون (أ) الفرنسيون
برون:
له بحث في الآداب الجاهلية قبل الإسلام وأخلاقهم، وكتاب نساء العرب قبل الإسلام، وترجم بعض أشعار جاهلية وبعض كتب قديمة.
دي سلان:
ترجم مقدمة ابن خلدون، وترجم تاريخه للبربر أيضا.
دي مينار:
ترجم مروج الذهب، وكتابا في الشعر الفارسي.
كليمان هيار:
له تاريخ بغداد الحديث، وتاريخ آداب اللغة العربية، وتاريخ العرب، وترجم كتاب الخليقة للبلخي، وأنيس العشاق لشريف الدين الرومي، وله مقالات عديدة في المجلة الآسيوية وانتقادات وأبحاث، ثم صار أستاذ اللغة العربية في باريس. (ب) الألمانيون
المستشرقون الألمان في النصف الأخير من القرن التاسع عشر أكثر المستشرقين إنتاجا، وهؤلاء أهمهم:
فرايتاغ:
تلميذ دي ساسي، له كتاب في اللغة العربية في الجاهلية والإسلام، ونشر حماسة أبي تمام باللغة اللاتينية والعربية، وأمثال الميداني مع ترجمتها اللاتينية.
كرسغارين:
تلميذ دي ساسي أيضا، نشر كثيرا من مخطوطات مكتبة باريس، ولخص كتاب الجبر والمقابلة للفخري.
فلايشر:
أستاذ مدرسة ليبسك، ألف كثيرا وله مقالات في لهجات اللغة العربية، ونشر تفسير البيضاوي في ثلاثة مجلدات، وبعض كتاب ألف ليلة وليلة، وشيئا من تاريخ أبي الفداء.
ديبتريستي:
له يتيمة الدهر فيما يتعلق بسيف الدولة والمتنبي، ورسائل إخوان الصفا، وديوان المتنبي وإلهيات أرسطو، وفلسفة الفارابي.
وايل:
له تاريخ الخلفاء خمسة مجلدات، وسيرة ابن هشام ترجمها إلى الألمانية.
وستفيلد:
نشر كثيرا من الكتب العربية، ويزيد عدد منشوراته ومؤلفاته على مائتين؛ منها سيرة ابن هشام ووفيات الأعيان وكتاب الاشتقاق لابن دريد وعجائب المخلوقات للقزويني. (ج) النمسويون
بورجشتال:
أشهرهم، له تاريخ الآداب العربية في سبعة مجلدات، ودائرة معارف شرقية تشتمل على آداب الشرق، ترجم أيها الولد للغزالي، وديوان المتنبي. (د) الهولنديون
جونبول:
له من المتنبي ومعاصريه ما قالوه في سيف الدولة، ومختصر معجم البلدان، وكتاب الخراج لابن آدم.
دوزي:
كتب كثيرا عن الأندلس، له كتاب تاريخ الدول الإسلامية في اللغ الفرنسوية، وكتاب آخر في آداب الأندلسيين، وله معجم عربي ذكر فيه الألفاظ العربية التي لم ترد في معاجمنا ، وله غير هذه كتب أخرى.
دي غويه:
له كتب كثيرة وقف على طبعها وضبطها، منها: فتوح البلدان، ديوان مسلم بن الوليد، تاريخ الطبري 15 مجلدا، وألف مذكرات في التاريخ والجغرافية للشرقيين. (ه) الإنكليز
كورتن:
انصرف للغة السريانية، ونشر كتاب الملل والنحل، وكتاب عقيدة أهل السنة للنسفي، ومنتخبات من طرقات الأدباء.
إدوار لين:
ترجم ألف ليلة وليلة، وترجم منتخبات من القرآن، وله مقالات وكتب بالإنكليزية عن الآداب الإسلامية.
بالمر:
من أساتذة كمبريدج، نشر ديوان البهاء زهير مع ترجمته للإنكليزية، وترجم القرآن.
رايط:
نشر الكامل للمبرد، ورحلة ابن جبير، ومنتخبات شعراء الجاهلية، وقسما من نفح الطيب؛ أي القسم التاريخي منه.
مرجليوت:
مستشرق معروف عند العرب، نشر كتبا عربية منها: معجم ياقوت، ورسائل أبي العلاء مترجمة إلى الإنكليزية، وله كتاب في السيرة النبوية.
براون:
انصرف إلى الفرس وآدابهم.
نولدكي:
ألماني، وهو إمام المستشرقين المعاصرين، صرف همه للتأليف، له تاريخ القرآن بالألمانية، وتاريخ عروة بن الورد، وتاريخ الفرس والعرب، وتاريخ الغسانيين، والمعلقات الخمس.
هوتمن:
ألماني، له كتاب في العرب، وفي الإسلام والمسلمين والآداب الإسلامية، له ديوان الحطيئة وكتاب في الإسلام، وله غير هذا كتب كثيرة تبحث في الشرع والحديث.
جويدي:
إيطالي، عين أستاذا في الجامعة المصرية، كان يلقي فيها محاضرات قيمة باللغة العربية، نشر كتاب الأفعال لابن القوطية، والاستدراك على سيبويه.
فضلهم:
للمستشرقين فضل النشر والتدقيق، فقد بعثوا آثارا كثيرة من مدافنها؛ فهم الذين دلوا أدباء العرب الجدد على البحث والتنقيب، وهم الذين حببوا آدابنا إلينا، وأرشدونا إلى مجدنا الضائع، وتراثنا المقسم، وهم الذين عرفوا الأمم الأجنبية إلى أمتنا العربية، وأظهروا ما في خزائنها من الكنوز النفيسة، المجهولة منا.
هنري لامنس اليسوعي:
علامة بلجيكي من أعلام المستشرقين المشهورين في الشرق والغرب، عاش في لبنان وأحب تاريخه وجغرافيته، فعرفنا على آثار وتاريخ بلادنا تعريفا دقيقا في كتابه «تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار».
وله أيضا شهرة بعيدة في بحوثه عن عرب الجاهلية، والعصر الأموي.
تآليفه: الإسلام، والجزيرة العربية الغربية قبل الهجرة، وخلافة يزيد الأول.
ويظهر أن هنري لامنس أديب قبل أن يكون عالما أثريا حتى كتب روايته حبيس بحيرة قدس التي ترجمها لمجلة المشرق العلامة رشيد الشرتوني ونشرت في سنتها الخامسة.
وكتب أيضا رواية خريدة لبنان التي نقلها الأديب نجيب حبيقه ونشرت في السنة الأولى من المجلة عينها.
إن لامنس لم يحرم بلدنا من دراسة عميقة لجميع مرافقه.
كراتشكوفسكي وجب:
من كبار مستشرقي الروس، له كتب لا تحصى، وهو مختص بآثار أدبائنا المعاصرين؛ وخصوصا الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر. وهذا اللون الأدبي؛ أي القصة المعاصرة، قد انفرد بدرسه البروفسور جب فخص النهضة الحاضرة بدروس عميقة دلت على قدرته فيما انفرد له.
مؤرخو لبنان
الأمير حيدر الشهابي:
صاحب تاريخه الذي عرف باسمه. تحدث فيه ساردا الحوادث الكبار تبعا لتواريخها سنة سنة. وقد خص أمير لبنان الكبير بشيرا الشهابي بالجزء الأخير من هذا المجلد الضخم، فجاء هذا الكتاب جامعا أخبار الدهور من مولد النبي وأعماله وغزواته إلى الخلفاء واحدا واحدا، حتى نهاية عمر الأمير بشير.
والذي ترك لنا هذا التاريخ يجب علينا أن نؤرخ حياته ولو تأريخا موسوعيا، فنقول إنه ولد في دير القمر (1761-1835)، وتوفي في دير القرقفة، وقد قضى حياته كما أخبرنا أحمد فارس الشدياق يدون الحوادث المعاصرة له أول بأول، وكان الأمير بشير يعتمد عليه.
وإذا قرأت الفارياق وتساءلت أين ذكر أحمد فارس المير حيدر نقول لك اقرأ كتابنا صقر لبنان ففيه النقد الكافي لتاريخ المير حيدر ولتاريخ أعيان لبنان الذي ألفه طنوس الشدياق شقيق أحمد فارس.
نشر تاريخ الأمير حيدر الأستاذ نعوم مغبغب في القاهرة سنة 1900، ثم اقتطع منه الدكتوران أسد رستم وفؤاد البستاني الجزأين الثاني والثالث لإعادة الطبع.
تاريخ أعيان لبنان:
وهذا تاريخ آخر وقف عليه قبل ظهوره المعلم بطرس البستاني كما صرح مؤلفه الشيخ طنوس يوسف الشدياق بما ذيل به الكتاب عند نهاية طبعه سنة 1859.
إن تاريخ أعيان لبنان معروف من اسمه أنه لبناني محض، وأن تاريخ المير حيدر أوسع مدى، أما النسق والتفكير فواحد تقريبا. وقد نقد أحمد فارس تاريخ أخيه طنوس بدقة شديدة، وعنفه، بل وبخه لأنه ماشى السلطة الروحية واتهم أخاه الشهيد أسعد بالوسوسة (عد، إذا شئت، إلى: صقر لبنان).
لبنان لإسماعيل حقي بك:
متصرف لبنان سنة 1915. ومع أنه لم يثبت على كرسيه إلا أقل من سنة فقد سعى لإخراج كتاب عن لبنان من الوزن الثقيل. يقول فيه صاحب منجد الأعلام: إنه كتاب عزيز الوجود. أما أنا فلم أحصل عليه في حينه؛ لأننا كنا في تلك الأيام السوداء نفتش عن رغيف خبز ولو من شعير لنفك ريقنا.
القرن العشرون (5-1) سليمان البستاني 1856-1925
سيرته:
سليمان بن خطار سلوم البستاني. ولد في بكشتين لبنان عام 1856. لقنه عمه المطران عبد الله البستاني العربية والسريانية فشغف باللغات، ودخل المدرسة الوطنية للمعلم بطرس البستاني فأتم دراسة العربية والسريانية وأتقن الإنكليزية والفرنسية، وكان من معلميه الشيخ يوسف الأسير والشيخ ناصيف اليازجي.
كان قوي الذاكرة فتمكن من معرفة خمس عشرة لغة مع جميع علوم زمانه.
ثم علم في المدرسة الوطنية وساهم في تحرير الجنان والجنة. وما عرف حتى صار ترجمانا لقنصلية أميركا، ورأس جمعية زهرة الآداب مرتين.
وحنت نفسه إلى الأسفار فأم العراق وطاف في جزيرة العرب، واستدعاه الزعيم قاسم باشا لإنشاء مدرسة وجريدة، فأدار تلك المدرسة سنة، ثم عين مديرا للشركة الخديوية، ومديرا أيضا لمعمل حديد أنشأه مدحت باشا، واتصاله بمدحت باشا مكنه من التنقل في نواحي البلاد العربية جميعها، وهناك تعرف إلى الأماكن الوارد ذكرها في الشعر العربي.
وكانت عودة البستاني من الجزيرة عام 1885 لينصرف إلى إتمام دائرة المعارف التي ألف منها أجزاء المعلم بطرس، ثم سافر إلى مصر عام 1887.
وخطر له أن يترجم الإلياذة شعرا إلى العربية، فاطلع على الملاحم المختلفة، ولما كانت يونانيته ضعيفة راح يدرسها على أحد الآباء اليسوعيين. وبعد ذلك ترك القاهرة عام 1888 قاصدا العراق فالهند فأطراف العجم، حيث درس عادات الفرس وآدابهم لتكون له المواد اللازمة لمقدمة الإلياذة وشرحها، فصقلت تلك الرحلات ذوقه الفني الأدبي، وعاد إلى بغداد حيث تزوج، وأقام في بغداد سنتين تابع فيها التعريب وكتابة مؤلف عنوانه في تاريخ العرب.
ثم ذهب إلى أسطمبول حيث أقام سبع سنوات، وانتدب لتولي إدارة القسم التركي في معرض شيكاغو، فغادر الأستانة إليها حيث أنشأ جريدة تركية لم تعش غير عام. ثم عرف مواطن حوادث الإلياذة وكنوز أمثالها وأجواء قصصها، ووقف على آراء أدباء اليونان فيها.
وعاد إلى قريته بعد أربعين عاما ثم هجرها إلى مصر حيث اشترك مع أنسبائه في تأليف الجزأين العاشر والحادي عشر من دائرة المعارف. وفي عام 1904 أتم تعريب الإلياذة وطبعها، وأقيمت له حفلة تكريم في فندق شبرد، وتناولت الصحف والمجلات عمله الجبار.
سقوط عبد الحميد:
وبعد أربعة أعوام بعث الدستور العثماني من قبره عام 1908، فنشر سليمان كتاب عبرة وذكرى، وهو كتاب يدعو إلى نبذ التعصب والاتحاد، وفيه ذكريات وعبر ترمي إلى الإصلاح، وعلى إثر صدور هذا الكتاب انتخب عضوا لمجلس المبعوثان.
وهناك ظهرت مواهبه السياسية، فحضر الجمعية العمومية سنة 1909، واشترك في تقرير خلع السلطان عبد الحميد، فأفلتت الشعراء والخطباء كالنمور من أقفاصها. ثم انتخب البستاني نائبا لرئيس مجلس المبعوثان فرأس عدة وفود إلى عواصم أوروبا، حيث كان يخطب فيهم بلسانهم، وفي حضرة ملوكهم؛ كإدوار السابع وغيره. وأوفدته السلطة إلى لبنان بمهمة رسمية، ولما عاد سنة 1911 عين سفيرا فوق العادة في أكبر عواصم أوروبا؛ كروما وبرلين ولندن وباريس.
وفي عام 1913 عين وزيرا للتجارة والصناعة والزراعة والغابات والمعادن فأصلح كثيرا، وهو الذي تولى عقد الصلح بين تركيا وبلغاريا. وظل في منصبه حتى كانت حرب 1914. وساءت صحته فاستقال وذهب إلى سويسرة حيث قاسى آلاما شديدة جدا. وصف بشعر رائع رقيق طرق معالجته وآلامه متذكرا وطنه حانا إليه، ولكنه شفي بعد ذاك العذاب ونقله أخوه سليم إلى مصر. وذهب إلى الولايات المتحدة حيث عمي ثم مات في أول حزيران عام 1925 في نيويرك. وما أجمل ما قاله إيليا أبو ماضي شاعر المهجر في رثائه:
فتح الموت حين أغمض جفنيه
عيون الورى على حسناته
فهو ماض له جلالة آت
من فتوحاته ومن غزواته
والفتى العبقري يولد إذ
يولد في مهده ويوم وفاته
وفي الخامس عشر من آب وصل جثمانه إلى بيروت ونقل إلى مسقط رأسه ليعرض في الغرفة التي أتم فيها شرح الإلياذة العربية. (5-2) مقدمة الإلياذة
تقع في مائتي صفحة من طبعة الإلياذة ذات الحجم الكبير، وهي مؤلفة من أربعة فصول وخاتمة. يتكلم في الفصل الأول عن نشأة هوميروس الذي أنكر بعضهم وجوده. ومعنى اسمه ابن النهر. ثم بحث نظم الإلياذة وصحة نسبتها إلى هوميروس، فأثبت أنها له مخالفا رأي العالم الألماني ولف الذي أنكر ذلك؛ موافقا في ذلك عالما ألمانيا آخر اسمه ميلر، وقد يكون هذا الرأي له. أما حجته فهي وحدة الإلياذة وصفات أبطالها، ثم أوصاف أماكنها الواحدة، فلا اضطراب في تسلسل حوادثها ولا معانيها.
وروى بعد ذلك حكاية تعريبه الإلياذة وكيف خرج على القصيدة القديمة فنوع القوافي والأوزان، واهتم بالملائمة بين الوزن والموضوع حتى خص الأبحر بما يوافقها من مواضيع، وكان نصيب بحر الخفيف أنه وزن يصلح للقصص.
ثم تحدث عن موضوع الإلياذة فأرخ الشعر العربي تأريخا مجملا، وقابل بين جاهليتنا وجاهلية اليونان في التفكير والتعريب، ثم بين أن الشعر العربي خال من ملحمة كبرى كالإلياذة وغيرها من ملاحم الأمم.
موضوع الإلياذة:
حرب قامت بين الطرواديين واليونان الأقدمين أثناء حصار طروادة، وطروادة مدينة محصنة مسورة من مدن آسيا، قدر الباحثون موضعها في جنوبي مضيق هللاس «الدردنيل» وزمنها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
زار بارس بن بريام ملك طروادة ملك مدينة أسبارطة اليونانية فأكرم الملك ضيفه، وفتن بارس بهيلانة امرأة الملك وخطفها فارا بها إلى طروادة.
وسمع اليونان بالخبر، فقاموا إلى السلاح، واحتشدت الأبطال تحت إمرة أغاممنون شقيق الملك، وزحفوا بحرا على طروادة وطوقوها محاصرين. وكان أعظم هؤلاء الأبطال: فطرقل وعولص وآخيل، صديق فطرقل.
وطال الحصار، وسطا اليونان على قرية سبوا منها فتاتين جميلتين، فكانت إحداهما لأغاممنون والثانية لآخيل.
كانت فتاة أغاممنون بنت كاهن أبولون، فطلب إعادتها فلم يعدها له أغاممنون، فصلى إلى أبولون إلهه، فسمع الإله صلاته من الأولمب فدارت الدائرة على اليونان وفشا فيهم الوباء ورماهم الإله أبولون بسهامه.
فأوحت هيرا امرأة زفس إلى آخيل فقال لقادة اليونان: فلنبحث عن سبب غضب أبولون.
فقال أحد الحكماء: على أغاممنون أن يعيد البنت إلى أبيها وإلا هلكنا.
فامتعض أغاممنون، وطلب حصة من الغنائم بدل البنت. فقال له آخيل: ومن أين؟ أعد الفتاة ومتى فتحنا طروادة نعطك ثلاث حصص.
فأبى أغاممنون وقال لآخيل: إذا أعدتها لا أقبل بها بديلا غير فتاتك.
فأنبه آخيل: أيتها الوقاحة المجلببة بجلباب الملوك! تتهددني بأن تسلبني ما منحني الجيش؟ أنا أقوم بأكبر قسط من القتال، ونصيبي من الغنائم دائما دون نصيبك. سأعود إلى بيتي.
فقال أغاممنون: انصرف، لن أستعطفك لكي تبقى.
فاستعرت نار غضب آخيل وهم بأغاممنون ليقتله ولكن الآلهة نهته.
فاكتفى بالقول لأغاممنون: أيها السكير، الأحمر العينين كعيني الكلبة، اسمع هذه اليمين: سيأتي يوم تطلب فيه الأمة آخيل ولا تجده، ستعجز أنت عن درء الخطر عنها ويتساقط أبناؤها أمام هكتور الظامئ إلى الدم.
وكان ذلك، فاعتزل آخيل الحرب. وهكذا بدأ البستاني معربا مطلع الإلياذة:
ربة الشعر عن آخيل بن فيلا
أنشدينا واروي احتداما طويلا
وكان أن صال هكتور بطل الطرواديين على اليونان، وقتل الكثير من أبطالهم، فالتجئوا مضطرين إلى آخيل يسترضونه، فلم يقتنع ولكنه أذن لصديقه فطرقل أن يلبس درعه ويذهب لمقاتلة هيكتور. بيد أن هيكتور صرعه، فحمي غضب آخيل ونزل يريده، فقتله وربط جثته بعربة وطاف بها حول أسوار طروادة.
وحزن الشيخ بريام على ابنه هيكتور، وحمل الهدايا إلى آخيل ملتمسا تسليمه جثة ابنه، فسلمه إياها وأقاموا له مأتما أنشدت فيه المراثي.
وتنتهي الإلياذة، ولا تستسلم طروادة، ثم تمر عشر سنوات ويموت آخيل ولا تستسلم. حتى كان سقوطها أخيرا بحيلة ابتدعها عولص.
بنى حصانا خشبيا وأقعد في جوفه جماعة من اليونان، وتوارى اليونانيون عن الأنظار، فأقبل عليهم الطرواديون ظانين أن فيه غنيمة. ففتحوا باب المدينة وجروا الحصان إليها، فدخل المحاربون الذين كانوا في جوفه وقتلوا الحراس، وتبعهم المحاربون، وهكذا استولوا على المدينة وأحرقوها.
شرح الإلياذة:
لم يكتف سليمان بالتعريب، بل عمد إلى شرح الإلياذة وتحليلها وجلاء غوامضها، وقابل بين المعاني اليونانية والعربية كما قابل بين الشعرين والأوزان. ثم وصف العتاد الحربية وما إليها، ونبه إلى المقابلة بين قصة عنترة وحرده وحرد آخيل، ولم يحرم الفلسفة واللاهوت من درس العقائد والعادات، ومنها أن الرجل الجاهلي كان يحلف برأس زوجته. ومنهم من يحلف برأس شيخه أو زعيمه، ولكنه إذا كذب يقتل حالا، أما إذا حلف بالله فما عليه بأس الآن، بل يؤجل ويوضع في كتاب فيدخر كما قال العم زهير.
وقد دل البستاني على الأثر الفينيقي في الإلياذة وعلق عليه، وفسر كلمة قدموس أن مادتها في العربية كمادتها في الفينيقية؛ أي القدم. ثم فسر الرموز الفينيقية فسهل الفهم، وأشار إلى ذكر أرز لبنان.
شاعرية البستاني:
شعره من الطراز العباسي، وهو هنا يترجم فلا يستطاع الحكم على بعد مدى خياله، ولا مجال للحكم على ديباجته وتفاوتها في الإلياذة؛ لأنه لا يستطيع أن يحذف ما يشاء من أسماء أعلام تشوه الشعر. وهو في كل حال لم يقصر، وإن كان شعره الوجداني الذي نظمه إبان مرضه في سويسرا أنقى ديباجة وأقوى عاطفة، وكذلك جاء في مواقف الإلياذة الوجدانية التي تلائم شعرنا العربي.
إنشاء البستاني:
يتصف إنشاؤه بالرصانة، تغلب عليه الصبغة العلمية، ولا يسجع ولا يتأنق ولا يتخيل. يهمه أن يفصح لنا عما في فكره بتدقيق في اللفظ، وبعد عن الحشو والزيادة. البستاني وإن كانت موضوعاته بعيدة عن التجميل والتحسين فقد كان في أسلوبه طلاوة أدبية تخفي تحتها شيئا من جفاف العلم، وإن لم يكن كله فجله. أما البستاني الناقد فكان أحرى أن يسمى البستاني الباحث؛ لأنه في المقدمة بحاثة أكثر منه ناقدا. (5-3) فرح أنطون
بزغ نجمه الأدبي مع هلال القرن العشرين، وانطفأ ذاك الشهاب الثاقب بعد أن عد ثالث اثنين: المقتطف للعلم والهلال للتاريخ، وجامعة فرح للثقافة الحديثة، فكان رائد النهضة الفكرية وداعي دعاة الفلسفة الحديثة.
حمل على القديم حملات كان لها ما بعدها، وظل يناضل في الشرق والغرب حتى قضى قبل نهاية الربع الأول من هذا القرن.
يصح فيه قول خليل مطران: وفيت قسطك «للنهى» فنم.
أسلوبه:
لم يكن فرح من أصحاب التعابير الجوفاء، أسلوبه سهل هين تعنيه من الفصاحة الإبانة والظهور، وهو مؤلف ومترجم، وفي كلا الحقلين يفتش عن غرض سام هو إنارة الأذهان في تلك الظلمات التي رافقت عصره.
آثاره:
24 كتابا منها: أورشليم الجديدة، ومريم قبل التوبة، والدين والعلم والمال، والوحش الوحش الوحش، وترجمة حياة يسوع لرينان، وابن رشد وفلسفته.
في جامعته:
لم يترك أثرا خطيرا إلا تصدى له، وهو أول من عرف الشرق بنيتشه وغوركي، وترجم للأول: هكذا تكلم زاراتوسترا، وللثاني رواية مشهورة، ولكن يا للأسف! فإنه كما لم يتم رواية المجدلية قبل التوبة كذلك لم يتم ترجمة كتابي نيتشه وغوركي.
كان الرجل يفتش عن معاشه فانصرف إلى تأليف المسرحيات، فأطعمته خبزا ولكن دون الشبع وراحة الفكر.
هذه كلمة وجيزة عن رائد القصة والأدب الحديث، أما دراسة فرح فتجدها مفصلة في كتابنا «جدد وقدماء». (5-4) جبران 1883-1931
حياته:
ولد في بشري، وهاجر مع أمه إلى بوسطن، ثم رجع إلى بيروت ودرس العربية في مدرسة الحكمة.
وقصد بعد ذلك باريس وتعلم هناك التصوير، فتفوق فيه، وعرف هناك أشهر الرسامين؛ وخصوصا رودان.
تآليفه:
عدة كتب بالعربية: الأرواح المتمردة، وعرائس المروج، والأجنحة المتكسرة، ودمعة وابتسامة، والعواصف، والبدائع والطرائف، والمواكب قصيدة شعر منظوم.
وكتب بالإنكليزية:
النبي، والمجنون، ورمل وزبد، والسابق، ويسوع ابن الإنسان، وآلهة الأرض.
كان متصوفا ولكن صوفيته مادية، والحب عنده قطب الوجود، والشوق خالق الكائنات.
أسلوبه:
إنشاء جبران منمق حافل بالألوان، يندغم بالطبيعة إلى أعمق أعماقها، ولعله أن يكون شاعرنا العالمي في القرن العشرين إذا اعتبرنا النثر شعرا غير موزون. وجبران مصور فيما يكتب، فكأنه يفكر بالصور والألوان ثم يعبر بالكتابة عما يتخيل. أما آراؤه الاجتماعية فقائمة على المحبة كما نرى في كتابه النبي الذي هو قمة الفكرة الجبرانية، أو خلاصة آراء جبران. وضعه على نمط كتاب نيتشه، ولكنه بناه على الحب بعكس نيتشه الذي يقوم كتابه على بغض الإنسان وتمنيه له الانقراض، لعله يخلق بعده إنسان أسمى من الإنسان الحاضر.
إن جبران اكتسب بنبوغه شهرة عالمية لم يدركها كاتب عربي قبله، فهو والريحاني صنوان.
فلسفته:
وإذا تعمقنا رأينا أن عصارة الفلسفة الشرقية موجودة في كتب جبران. إن أدباءنا المهجريين عاشوا غرباء عن محيطهم الجديد، لم يفكروا بغير الشرق، وجبران خصوصا كان أشدهم حبا للبنان. والحياة اللبنانية أوحت إليه بفكرته الثوروية؛ لأنه قضى صباه في محيط ذي إقطاعيتين إكليريكية وعلمانية، وهذا ما يصوره لنا في قصة خليل الكافر وغيرها؛ كمضجع العروس ويوحنا المجنون.
إن العرق اللبناني الفينيقي الوثني يتمثل في كتابات جبران، وقد كتبت كثيرا عن الريحاني وجبران فليراجع ذلك في كتبي فالمقام هنا أضيق من أن يسع.
تأثيره:
كان لجبران أعظم تأثير في جيله، وقد اتبع أسلوبه وأسلوب الريحاني زمنا، ولا يزال وإن ضعف تقليده، وهذا الشعر الجديد غير الموزون خلقه الريحاني وجبران متأثرين بأسلوب أنبياء التوراة والشاعر الإنكليزي وتمان.
صاحب مدرسة:
جبران إمام متبوع، والأمريكتان مديونتان له بعروبتهما، فهو ذاك الشرقي الطائر الصيت الذي تقرأ كتبه الإنكليزية بلذة وشوق.
الرابطة القلمية:
عميدها ومؤسسها جبران، ولكنها لم تعمر طويلا فماتت بموت جبران، وأجهزت عليها عودة مخائيل نعيمة إلى لبنان. إننا نأسف لتواريها لأنها أدت أجل الخدمات للأدب والفكر، ولا يزال أثرها ماثلا للعيان في أساليب كتاب القرن الحاضر. (5-5) أمين الريحاني 1876-1940
ولد بالفريكة من لبنان وتعلم مبادئ العربية والفرنسية في الفريكة بمدرسة أنشأها نعوم المكرزل، ثم في مدرسة قرنة شهوان.
هاجر إلى أمريكا، وهناك درس مبادئ الإنكليزية ثم أتقنها، وانخرط في جوقة للتمثيل، وانصرف إلى دراسة الحقوق، ثم انقطع عنها، وتحول أخيرا إلى الأدب فتفوق فيه.
نقل لزوميات المعري إلى الإنكليزية فطارت شهرته؛ نظرا لشاعريته وصفاء لغته، ثم كتب في الرحلات عدة كتب أشهرها: ملوك العرب، وهو أخلد آثاره؛ لأنه سبق فيه غيره، وقد ترجمه للإنكليزية.
ترك كتبا كثيرة بالعربية والإنكليزية؛ منها تاريخ نجد الحديث، وقلب لبنان، وسياحة إلى المغرب. وله روايات قصصية وتمثيلية، عدا الريحانيات، وهو مجموعة خطب ومقالات وشعر منثور أدخله الريحاني إلى الآداب العربية . وله مجموعة رسائل نشرها حديثا أخوه ألبرت، وهي عندي في مقدمة تركته الأدبية.
كان الريحاني نزاعا إلى الإصلاح، فحمل على الاستبداد ونفخ في بوق الحرية، وقاوم الانتداب فنفي مرة.
كان خطيبا مفوها، بل أمير المنابر، تحب سماعه ولو كان يحمل عليك. دعا الشرق إلى النهوض والاتحاد وعرف العرب بعضهم ببعض، وهو أول من فكر بالجامعة العربية قبل أن تكون، فاجتمع بملوك العرب وأمرائهم داعيا إلى الوحدة.
إن كتب رحلات أمين خالدة بما فيها من حقائق وجمال حديث، وبها عرف العربي بأخيه العربي بعد أن كاد بعضهم يجهل بعضا. (5-6) ولي الدين يكن 1873-1921
ولد في الأستانة من أم جركسية وأب تركي، ثم عاد به والده إلى مصر وطنه، تعلم في مدرسة الأنجال المختصة بتعليم أولاد الأمراء، فتعلم العربية والتركية والإنكليزية، ثم درس الإفرنسية وألم باليونانية وتزوج من امرأة يونانية.
انصرف في أول عهده بالكتابة إلى تحبير المقالات السياسية، وكان أهله لا يرغبون فيما يرغب فيه. سافر إلى الأستانة في عهد السلطان عبد الحميد، فأقام فيها سنة وعاد إلى مصر فأصدر جريدة الاستقامة، وكان يناهض فيها رجال السياسة في الأستانة، فأقفلت جريدته وأخذ ينشر أفكاره الحرة في الجرائد الأخرى، ثم أعاد الكرة على إسلامبول فذهب إليها، وعين عضوا في ديوان المعارف، وكانت الجواسيس تحدق به؛ لأنه وضع في لائحة الأحرار، فحبس ونفي إلى سيواس، حيث بقي ست سنوات، حتى أعلن الدستور فعاد إلى مصر، وصار سنة 1914 سكرتيرا عربيا في ديوان الأمناء، وما ارتاح في حياته حتى عاجله الداء فقضى في حلوان سنة 1921.
أخلاقه:
حر الفكر جريء، ميال إلى الإصلاح، أنوف أبي، مات فقيرا.
آثاره:
الصحائف السود، التجاريب، ديوان شعر، المعلوم والمجهول، خواطر نيازي.
أسلوبه:
شديد العبارة، قوي التركيب، حاد اللهجة، لا يتقيد بأسلوب، قوي الخيال، ثائر العاطفة. (5-7) المنفلوطي 1876-1924
هو مصطفى لطفي، ولد في منفلوط من أعمال مديرية أسيوط، وإليها نسب، أسرته وجيهة.
التصق بالأزهر بعد أن تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، فحصل صدرا من العلوم، وكان به شغف شديد للأدب، فعكف على كتب البلغاء ودواوين الشعراء يقرأ ويحفظ، ولازم من فتائه رجال الأدب وأعيان كتاب الصحف، فكانت له فيه ملكة وطبيعة، فنظم الشعر سهلا جزلا رصين القافية، وأرسل النثر حلوا سلسا محبوكا، وقد شغله هذا بقدر ما عن الكدح في مطالعة كتب الأزهر ومعاناة دروسه، على أنه واظب على حضور دروس الشيخ محمد عبده إلى غايتها.
وفي أثناء طلبه في الأزهر نسب إليه أنه هجا الخديو عباس حلمي بقصيدة نشرها في إحدى الصحف الأسبوعية، فحكم عليه بالحبس، فقضى في السجن مدة العقوبة، ثم عفا الخديو عن جرمه بشفاعة من لهم عنده كريم منزلة. فلما صارت نظارة المعارف إلى زغلول باشا عينه محررا عربيا لها، ولما تحول زغلول إلى نظارة الحقانية حوله معه وولاه فيها مثل هذا المنصب، حتى إذا قام البرلمان عين في سكرتاريته، على أن الموت عاجله في العقد الخامس فمات سنة 1924.
والمنفلوطي - رحمه الله - كان دقيق الحس، رقيق العاطفة، رحيم القلب، يغمره الشعور بالأسى من كل ما يحل في هذا العالم من ضروب الويل والشقاء؛ ولهذا ترى قلمه أجود ما يكون في صفة مدنف عان أو يتيم محروم أو متهم مظلوم، ونحو هذا من مآسي الحياة.
آثاره:
وهو بعد رشيق القلم، سهل البيان، حلو العبارة، متين نظم الكلام، إذا أتته السجعة فذاك وإلا فلا يتكلف طلبها بتعمل. شديد التذوق لبلاغات العرب، يحتفل للجمل البارعة، وللصيغة الرائعة، فيفسح لها في خلال نثره مكانا، وقد جمع قدرا عظيما من مقالاته في كتاب دعاه النظرات، وأخرى في كتاب آخر سماه العبرات، وله منتخبات بديعة من أشعار المتقدمين ومقالاتهم دعاها مختارات المنفلوطي، وهي تدل على حسن ذوقه ودقة اختياره، ترجم له بعض أصدقائه عن الإفرنسية رواية مجدولين فجود في العربية صياغتها وصقلها صقلا جميلا، وكذلك فعل في رواية بولس وفرجني التي أخذها عن ترجمة فرح أنطون.
لقد عالج المنفلوطي الشعر أولا ثم انصرف عنه إلى النثر، فكان شأنه في هذا شأن كثيرين من كتاب أوروبا المشهورين، فأكثرهم عالجوا النظم أولا ثم انصرفوا إلى النثر، ما عدا الشعراء الكبار الذين استطاعوا أن يبرزوا. أما كتابة المنفلوطي من حيث الموضوع فتعول على الحقيقة أكثر منها على الخيال، واختراعه في التعبير لا في الفكر، يعول كثيرا على التشبيه والاستعارة وكل ضروب المجاز، ويكثر من المترادفات. (5-8) يعقوب صروف 1852-1927
حياته:
من مواليد قرية حدث بيروت بلبنان سنة 1852. تلقى علومه أولا في مدرسة الأميركان بعبيه، ثم انتقل إلى الجامعة الأميركية حيث لم يتم دروسه وأخرج منها بعد ثورة طلابها تأييدا لأستاذهم فان ديك.
وفي سنة 1876 أنشأ مجلة المقتطف حيث ظهر منها عشرة مجلدات، ثم نقلها من بيروت إلى مصر وظل يديرها ويشرف عليها ويكتب فيها إلى آخر حياته، فكانت دائرة معارف ثقافية ومدرسة علمية تدخل كل بيت يتكلم العربية، فسلح العقل العربي بالعلوم الحديثة في كل فن ومطلب، فكان كل ناطق بالضاد تلميذا لصروف الكاتب والفيلسوف المؤمن بالعلم وحده، وقد أيد مذهب دارون، مذهب النشوء والارتقاء، بكل قواه العقلية مساندا رفيقه الدكتور شبلي الشميل.
آثاره:
أهمها المقتطف في 52 مجلدا، وكانت أكثر مقالاته العلمية والفلسفية والفنية حافلة بكل جديد، فجارى تطور العلم في جميع مراحله، وقد عرف الشرق بنوابغ العرب والإنكليز؛ إذ ترجم لهم وقابل بينهم، وقد عرب كتبا كثيرة وألف كتبا كثيرة وجال جولات موفقة في دنيا القصة، فكتب أميرة لبنان وفتاة مصر وغيرها.
قد كان صروف من أركان مدرسة النهضة الحديثة، فكان يدبج مقالاته حتى العلمية منها بأسلوب بياني رشيق رصين من طراز كتاب الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وزاد عليهم تعريب الألفاظ للأغراض العلمية والفلسفية.
وأعار صروف الرياضيات اهتماما كبيرا، وكتب في علم الفلك كتابة بسائط علم الفلك، فاحتوى أحدث الأنباء عن النظام الشمسي والسيارات والثوابت والبقع الشمسية والنجوم المذنبة، حتى بلغ مقام العلماء الكبار، وكان في ذلك بعيد المرام ناصع البيان، واضح المأخذ.
وفي الطبيعيات والكيمياء والفلسفة كان صلة الوصل بين الشرق ورجالها في الغرب؛ إذ بسط آراء العلماء تبسيطا أوضح غامضها .
وله في التاريخ وعلم الآثار غرر الفصول والكتب، وقد أسعفه الحظ أنه نشأ في بلد تاريخي أثري، ثم انتقل إلى بلد حافل بأعظم الآثار، فطاف بين أطلال قصورها يتحدث عنها معتمدا على أحدث الآراء. (5-9) وديع البستاني
الشاعر المجيد وديع فارس البستاني، سليل بيت علم في عصر النهضة، يحق لأفراده النابغين أن يرددوا: إذا مات منا سيد قام سيد، ويحق لشاعريه سليمان ووديع أن يقولا: نحن فرسان الملاحم.
فالأستاذ وديع هو أول من شق طريق العروبة إلى بيت الشاعر الفيلسوف عمر الخيام، فعرب رباعياته تعريبا لم يوفق أحد من معربي الخيام إلى شعر أنقى ديباجة من نظمه، وقد يكون جارى الخيام وتحداه.
مؤلفاته:
معنى الحياة، السعادة والسلام، مسرات الحياة، محاسن الطبيعة، رباعيات الخيام، رباعيات الحرب، البستاني لطاغور، خمسون عاما في فلسطين؛ وكلها معربة إلا ديوان الفلسطينيات.
شاعر المهبراته:
ولد في الدبية، ومات فيها (1888-1954) قضى حياته يطوف في الآفاق فسميناه السندباد الأدبي، وناضل لأجل فلسطين مكافحا الصهيونية، وما كان أمر خيبته حين قال عن نفسه:
غنى العروبة عمرا
وعاش حتى رثاها
فهو ممن أخرجوا من ديارهم بعد عناد ضار ولكن المقدر كائن.
إن المهبراته هي أعظم أثر أدبي عالمي، صرف شاعرنا المجاهد على نظمها أربعين عاما حتى أخرجها بهذه الأناقة الفنية، ولكن أسماء الأعلام لا تروض ترويضا تاما وتوضع في قفص الخليل.
جزاه الله خيرا، وأفسح في أجلنا لندرس هذا الأثر الذي قال فيه البنديت نهرو حينما أطلعه عليه الأستاذ إميل البستاني ابن شقيق الشاعر: إن هذه الملحمة المعربة هي خير ما يستطيع العرب إهداءه للهند. (5-10) أحمد شوقي 1868-1932
نشأته:
ولد بالقاهرة سنة 1868، جده كردي مغربي، جاء مصر يحمل وصاة إلى محمد علي باشا والي مصر فأدخله في معيته، ثم صار أمينا للجمارك المصرية، فجد شوقي لأبيه جمع ثروة بددها ابنه أبو أحمد شوقي.
أما جده لوالدته فاسمه أحمد حليم بك، يعرف بالنجدلي نسبة لنجدة إحدى قرى الأناضول، وفد على مصر فتيا فاستخدمه إبراهيم باشا وزوجه بمعتوقة جلبت من الموره أسيرة حرب لا شراء، وهذه الجدة كانت كالمربية والأم لشوقي، وقد ذكرها في شعره، وهي التي جاءت به إلى قصر إسماعيل طفلا يحبو، وكان نظره لا ينزل من السماء - كما روي - فطرح له على البساط بدرة دنانير هوى إليها بصره ... إلخ.
تعلم في الكتاب أولا، ثم أوفده توفيق باشا إلى فرنسا فدرس الحقوق في مونبيليه، وخالط الأوروبيين وعرف أخلاقهم وعاداتهم وآدابهم ... إلخ.
مثل مصر في مؤتمر المستشرقين سنة 1896، ونظم قصيدته المشهورة: همت الفلك واحتواها الماء.
شاعر الأمير:
لزم قصر الأمير عباس حلمي وكان شاعره، وقد قال:
شاعر الأمير وما
بالقليل ذا اللقب
وفي الحرب العظمى اعتقل ونفي إلى إسبانيا التي اختارها، وسبب اعتقاله سقوط عباس حلمي ولي نعمته وقيام حكومة السلطان حسين كامل.
عين عضوا في مجلس الشيوخ سنة 1924.
أربعة أصول:
قال شوقي عن نفسه إن أربعة أصول اجتمعت فيه؛ فهو عربي تركي يوناني شركسي بجده لأبيه؛ إذن هذا شاعر جديد من الموالي يعيد به التاريخ نفسه فيبز شعراء العرب الأقحاح في عصرنا هذا كما بزهم الكثيرون من الموالي في عصور مختلفة.
ظل الملوك منابت الشعراء: نشأ شوقي بنعمة، وعاش بنعمة، ومات بنعمة، لم يتمتع بها شاعر عربي في كل العصور.
نشأ مقربا من العائلة المالكة، فجاء شعره مصقولا، بعيدا عن التغني بالسيف والرمح، كما فعل البارودي، ولم يذكر التعاسة والشقاء كحافظ.
شوقي ومولاه:
كان سريع الخاطر واسع الاطلاع شديد الإخلاص للبيت العلوي المصري، وقد قال:
أأخون إسماعيل في أبنائه
ولقد ولدت بباب إسماعيلا
سرعة خاطر:
وكان أشد إخلاصا لعباس حلمي الذي أسماه وأغناه، ويروى أن شوقي كان راكبا حمارا فلمح الخديوي مطلا من شرفة قصره فترجل، فطلبه الخديو وتظاهر بتوبيخه قائلا له: ألا يحق لي أن أطل من شرفة قصري بملء الحرية؟
فأجابه شوقي: وهكذا أدبنا السلف: وإذا المطي بنا بلغن محمدا.
وبعد أن أنال خديو مصر شوقي لقب شاعر الأمير، جافاه مرة، فأنشد شوقي:
أليس من العز المؤثل أن يرى
أمير القوافي في فنائك جانيا
فلولا هوى العرش الذي أنت ربه
لما أنزلتني حالة من مكانيا
وكان شوقي واقفا في حفلة، وحرارة الشمس شديدة، فناوله مولاه عباس مظلته فارتجل:
مولاي عباس أهداني مظلته
يظلل الله عباسا ويرعاه
ما لي وللشمس أخشاها وأرهبها
من كان في ظله فالشمس تخشاه
هكذا ترعرع شوقي، وهكذا نشأ في قصور الأمراء، فأصبح أميرا ثانيا في قصر كرمة ابن هانئ، يلجأ إليه ذوو الحاجات مهما سموا، ثم جلس على عرش الأدب الخالد، بينما عرش مولاه عباس تزعزع، وصار أمره شريدا طريدا.
أخلاقه:
كان شوقي حييا جدا، حتى إنه لم يجرؤ على صعود منبر لفرط حيائه، فكان ينشد قصائده سواه، وكنت تكاد تسمع حديثه إذا تكلم.
وكان جوادا بفنه لم يكلف بنظم قصيدة لجمعية أو معهد ورفض.
كان عف اللسان لم يهج ولم يذم، ومع شدة خوفه من النقد وبغضه لناقديه، كان يلاطفهم إذا اجتمع بهم، ويقول بعضهم إنه كان يحرش الناس بهم ويقيم القيامة عليهم. وتمثلوا على ذلك بقول شوقي:
إن الأراقم لا يطاق لقاؤها
وتنال من خلف بأطراف اليد
كان يوصي ولده دائما أن يكون لطيفا مع الجميع ويحسن ما قدر.
قوميته: لم يقم في شعراء العصر الحاضر شاعر قومي مثل شوقي، بل لم يشبهه شاعر في رثاء المجد الضائع إلا أبا البقاء الرندي باكي مجد الأندلس.
سياسته:
لم تكن له وجهة سياسية خاصة، وسياسة شوقي تتجلى بقوله:
إذا الفتنة اضطرمت في البلاد
ورمت النجاة فكن إمعة
فاسمعه يمدح الإنكليز:
أو ما ترون الأرض خرب نصفها
وديار مصر لا تزال جنانا
يرعى كرامتها ويمنع حوضها
جيش يعاف البغي والعدوانا
واسمعه يذمهم:
اليوم أخلفت العهود حكومة
كنا نظن عهودها الإنجيلا
دخلت على حكم الوداد وشرعه
مصرا فكانت كالسلال دخولا
هدمت معالمها ودكت ركنها
وأضاعت استقلالها المأمولا
وقوله:
أمن سرق الخليفة وهو حي
يعف عن الملوك مكفنينا
أرستقراطيته:
كان شوقي شاعر الأمير، لا يتكلم إلا بالمناسبات الرسمية وغيرها من المواقف الرسمية السياسية، وكان يهتم لما يقول؛ وخصوصا في الشئون السياسية المصرية والإسلامية، فيعتبرونه معبرا عن فكر أميره، وهذا الموقف «الرسمي» أسر شاعرية شوقي وأبعده عن الشعب، ولولا سقوط العرش وبعده عن القصر لما قال ما قال من الشعر الخالد، فشوقي مديون لعباس بأمرين، مديون لعرشه ومديون لسقوطه.
قسم العرب شعراءهم في كل عصر إلى ثلاثة، وقد أصاب شوقيا وحافظا ما أصاب جريرا والفرزدق، فإنهما ماتا بعام واحد.
أطواره:
كان لا ينظم إلا أهم أبيات القصيدة بعد نصف الليل، ثم يتمها في الغد أو ما يليه، وكان مولعا بالسينما يشهدها دائما، وهو كابن المعتز في حب الطيوب، وكان يكره أن يتصور. كان محبا للموسيقيين، فاتصل أول عهده بعبد الحي حلمي وعبده الحمولي ثم بعبد الوهاب في آخر حياته، وهو الذي أدناه من الملوك والأمراء، كما أن عبد الوهاب كان بوقا صارخا يسمع الأقطار العربية صوت شوقي، وكان عبد الوهاب منه كمعبد والغريض من ابن أبي ربيعة.
شأنه:
كانت إشارة شوقي حكما في عهد عباس، وطاعته عند أكثر الحكام من بعض المغانم، وعظم شأنه حتى في الأستانة، فكان في كل صيف يسافر إليها فيلقى فيها إجلالا وتكرمة، وقد نزل في ضيافة عبد الحميد صيف إحدى السنين، وأنعم عليه بالرتبة الأولى وأوسمة عديدة، وكانت حفلة تكريمه سنة 1927 تحت رعاية الملك فؤاد، وحفلة تأبينه كانت ملكية أيضا قامت بها وزارة المعارف.
ولهذا ترى الترف شائعا في شعر شوقي؛ فهو في هذا كابن المعتز وصاحبه حافظ كابن الرومي.
شاعريته:
خلق شوقي شاعرا، فقال الشعر صبيا، وأطلقته قريحته الخصبة سامي المعاني فخم الألفاظ متلاحم الديباجة مصقولها منتقى الألفاظ، وله في التعبير جولات بعيدة.
كان الشعر في الفترة الأخيرة ضعيفا ركيكا مسفا لا أثر للعاطفة فيه، يقال في أغراض الأقدمين فكأن الشاعر يتكلم بلسان غير لسانه.
وكان من حسن حظ شوقي أن تقدمه شاعران هما: البارودي وإسماعيل صبري، فهذان رفعا مستوى الشعر ونهجا به نهجا جديدا، فحذا حذوهما شوقي ونهج نهجهما في تجويد الشعر لفظا ومعنى وصياغة وغرضا، وبعدا عن الصناعة اللفظية «البديع»، حتى كان في بادئ أمره يعرض كل قصيدة على إسماعيل صبري كما كان يفعل الشعراء في العصور القديمة.
وكان شوقي مكبا على المطالعة بوجه عام، يقرأ كتب الأدب بوجه خاص ودواوين الشعراء على وجه أخص، نخص منهم: أبا نواس - الذي أسمى بيته باسمه - وأبا تمام والبحتري والمتنبي، فظهر أثر هؤلاء الأربعة في شعره، ففيه حلاوة أبي نواس ودقة وصفه وغزله ووصف الخمر ومجالس اللهو إلا العبث، وفيه عناية أبي تمام بالمعاني الرفيعة وتعمدها مهما كلفه الأمر، وفيه هلهلة البحتري وإحكام نسجه وبراعة نظمه، أما أثر المتنبي ففيما ترى من حكمة ومعان ومثل. وبكلمة، إن المتنبي كان هدف شوقي الذي يرمي إليه في شاعريته ويقلده في كل شيء، خلقا ونظما وأنفة وادعاء وطعنا في الحساد.
ولا يعني هذا أن شوقي شاعر لا شخصية له، بل نعني أنه متأثر بهم كل التأثر، وقد تكون من كل هذه العناصر شاعر هو شوقي، كما يتولد من عدة عناصر كيمائية عنصر آخر ليس هو تلك العناصر وإن نشأ عنها، والدليل على ذلك أننا إذا عرضنا على خبير بأساليب الكلام شعرا لشوقي لا يتردد في أن ينسبه إليه.
ومن العناصر التي عملت عملها في شعر شوقي حذقه اللغة الإفرنسية، فقد أخذ منها معاني كثيرة، ولكنه أبرزها بصورة عربية خالصة فتنكرت كل التنكر.
وللسياسة أثرها الظاهر في شعره، فقد حذقها في قصر الأمير، وبرز فيها كما برز الأخطل في زمانه.
وللسياحات في الأقطار الغربية والشرقية عمل عظيم في فنه وإخصاب لقريحته، فمثل هذه السياحات تذكي الإلهام وتعين الشاعر وتمد قريحته أيما مدد، إن الشاعر مصور للطبيعة، وفي تغير مناظرها إلهام جديد وتشويق وإغراء.
فشوقي يعد بحق من أعظم شعراء العالم العربي كله. لقد تصرف في كل فن وجال في كل غرض ومطلب، وعارض متقدمي الشعراء ومتأخريهم، وسنتكلم عن هذا في بابه. قال الشعر نصف جيل، كان في أول عهده إقليميا ثم صار لسان كل الأقطار العربية يشاركها في كل ما تشعر به، كما سيأتي أيضا.
ومن خصائص شوقي أنك تراه يمدح ويرثي أو يقول في غير هذين الفنين، بيد أنه ينحرف دائما إلى سرد حكمة أو ضرب مثل، وتلك سجية الشاعر الأكبر المتنبي.
ولشوقي طويل النفس كابن الرومي، حتى ليبلغ بالقصيدة المائة أو يزيد دون إسفاف، وهذا يدل على أنه كان كثير التهذيب ولا ينظم بفترة واحدة.
وقصيدته همت الفلك 290 بيتا، وكلها من جيد الشعر، وله قصيدة على الباء في حرب الترك واليونان طويلة كهذه.
له مقطوعات شعرية يتغنى بها، وله أبيات كثيرة سائرة يستشهد كثير من الكتاب بها حتى فتنت هذه الظاهرة شاعرنا، على فتونه، فقال:
رواة قصائدي فاعجب لشعر
بكل محلة يرويه خلق
تآليفه:
ديوانه يقع في أربعة أجزاء، طبع منه اثنان، وله غيره في الشعر «عظماء الإسلام»، وقصائد سهلة للأطفال، وله في النثر كتاب أسواق الذهب قلد فيه الزمخشري.
رواياته:
علي بك الكبير، وكليوبترا، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعنترة، كلها شعرية.
وله روايات نثرية، منها: لادياس، ورقة الآس، مذكرات بنتاءور، أميرة الأندلس. من هذا تعلم خصب الرجل وجده، رحمه الله.
أثرته:
كان لمولده ونشأته اليد الطولى في أخلاقه، فنشأ عزيزا محبا للنفس مترفا منعما، حتى كان يخيل إليه أن كل شيء مسخر له، وأنه خلق لينعم في الحياة، والمحيط الذي تعلم فيه - فرنسا - زاد في هذا الخلق، ولم يعلمه شيئا من ديمقراطية الفرنسيس، فهو منذ نشأ ترافقه النعم فقد كان ينعم حتى في المدرسة، ولم يفكر في الغد، ولم التفكير والمنصب واللقب والثروة والشرف في انتظاره؟!
التجديد:
حاول شوقي في مطلع فنه أن يكون مبتكرا مجددا، وصرح بذلك وتمدح به، بيد أنه لم يأت بشيء من هذا، بل بالعكس، فإنه إبان نضوجه كان مثله الأعلى تقليد الأقدمين أو معارضتهم - سم ذلك ما شئت.
إن شاعرا كشوقي تيسر له ما لم يتيسر لسواه، كان في استطاعته أن يكون رسول التجديد والتطور في الأدب العربي، ولكن الأحوال السائدة التي كان خاضعا لها سدت عليه الطريق، فقد كان يجدد بتحفظ ويثور بمداورة، فهو لا يريد أن يغضب أحدا، وذاك كان شأنه مع الأحزاب المصرية، ولا غرابة في ذلك، فمن عاش في قصور الأمراء هكذا يجب أن يكون ليحفظ نفسه.
التقليد:
حاول شوقي أن يجدد - كما قلنا - فلم يفلح، وظل في طريقه تلك، حتى إذا كانت الفترة الأخيرة من عمره كانت كل قصائده مطبوعة على غرار القدماء بلا تحفظ، فلا تكاد تقرأ قصيدته حتى تتراءى لك القصيدة التي احتذاها أو عارضها.
فشوقي أشبه بطائر يستطيع محاكاة كل الطيور وهو يقول عن نفسه:
وتر في اللهاة ما للمغني
من يد في صفائه أو ليانه
ويرى طه حسين أن شوقي لو قرأ الإلياذة والأوديسا وفهمهما حق فهم، وتحرر من قيوده لأنشأ شعرا عربيا قصصيا، وكذلك لو قرأ تمثيل اليونان والمحدثين في العرب في شبابه، لأعطى اللغة العربية فنا تمثيليا له قيمته الصحيحة، وكذلك قل عن الشعر العصري الأوروبي.
ويقول أيضا إن معارفه بهذه الآداب العليا كانت ضئيلة على نحو ما يتعلم الذين يكتفون بدوائر المعارف أو ما يكتب للتلامذة في الكتب المدرسية.
المدح:
من يقرأ ديوان شوقي القديم، يرى في مقدمته أن شوقي يكره المديح وينكره على المتقدمين، وتمنى لو خلا الأدب العربي منه ولو لم يكن غرض الشعراء في الأزمنة الخالية، ولكن سرعان ما رأينا شعره يعج بالمديح، كيف لا وهو يريد أن يكون شاعر الأمير تشبها بالمتنبي وأميره، وقد رأيناه بعد ذاك يترسم خطى الشاعر العظيم خطوة خطوة حتى في الفخر في موقف الرثاء، إلا أنه يظهر لي أنه كان راغبا عن شعر المناسبات، فلا يشير إليها بقصائده إلا بأبيات، أما ما بقي من القصيدة فينزع فيه إلى شئون خاصة أهمها الحكمة التي كانت وجهته.
التأثير الأجنبي:
كان يحسن التركية ويتقن الإفرنسية، وقد طالع كثيرا وهضم ما طالعه وتمثله، من أدب إفرنسي وتركي وعربي، عرف أخلاق العرب من انكبابه على أدبهم وتاريخهم، فكان ذا ثروة أدبية وافرة. عاشر الأتراك في حياته واشتد اتصاله بهم فقوي العنصر التركي فيه.
أما الأدب الإفرنسي فكان متصلا بشعرائه وأدبائه مطالعة، ولكن بالذين يعرفهم كل المتأدبين مثل لامرتين وهوغو ولافونتين وجيل سيمون، وأما الذين أتوا بعدهم فلم نر لهم أي أثر في شعره ينم عن تعرفه إليهم. ولهذا كان تجديده بقدر ما كان عند أساتذته هؤلاء من تجديد، مع أن جديدهم كان قد صار قديما في بلادهم. لا أظن أن شوقي كان يجهل ذاك الجديد، ولكن انصرافه إلى السياسة كيفه ووضع التخوم لحدود تجديده، فما تجاوزها في زمن استطاع فيه التجدد، أما عندما أطلقت السياسة سراحه فلم يكن وقت تجديد.
الأسر والحرية:
لا نعني المنفى، بل شيئا غير هذا، صرف شوقي زهاء ربع قرن من عمره كان فيه شاعر مناسبات، ليس مناسبات طليقة، بل مناسبات ذات برنامج لا يمكن الرجل أن يتعداه، طائر غريد سجين في قفص مذهب، يقول ما يجب أن يقال لا ما يجب أن يقول، حتى سقط عرش مولاه، فأفلت الطائر وانطلق في الأفق البعيد يطرب ويشجي ويغرد وينوح.
وكان لأدبه من نفيه إلى الأندلس حظ كبير، فبكى المجد العربي الدارس الخالد بقصائد كان لها صدى في العالم العربي، كلها شوق وحنين وندب وبكاء للمجد المفقود، وكيف لا يبكي شاعر مفجوع بعرش أميره!
ثم عاد إلى الوطن، بعد الحرب العظمى فإذا مصر وطنه غيرها، وإذا العالم كله قد تبدل، نفوس تنزع إلى الحرية المطلقة، وألسن تتغنى بالاستقلال، وشعب يقتل في سبيل كل هذا، وشاعر أفلت من قيود السياسة الرسمية، أرخى لقريحته العنان، فشعر بما لم يشعر به من قبل؛ شعر بنبضات قلب الشعب الذي كان يريده ألا ينبض عندما كان في ظل العرش، فهاج شاعريته هذا الإحساس، فكان لسان العرب والوطن يترجم عن أماني الأمة المصرية والأقطار العربية كلها، لم تلم بالأمة ملمة إلا اهتزت لها عاطفة شوقي، فكان ترجمانها شعرا رائقا مؤثرا يشكو ويشكر، وفي هذا يقول: كان شعري الغناء في فرح الشرق.
رجلان:
قال هيكل في مقدمته لديوان شوقي: تشعر حين مراجعتك أجزاء ديوانه كأنك أمام رجلين مختلفين لا صلة بين أحدهما والآخر، كليهما شاعر مطبوع يصل من الشعر إلى أعلى سمواته، وإن كليهما مصري يبلغ حبه مصرا حد التقديس والعبادة ، أما فيما سوى هذا فأحد الرجلين غير الرجل الآخر، أحدهما مؤمن عامر الإيمان، مسلم يقدس أخوة المسلمين ويجعل من دولة الخلافة حرما يفيض منه الشعر وإلهامه، حكيم يرى الحكمة قوام الحياة، محافظ يرى العربية تسع كل صورة ومعنى وخيال.
والآخر رجل دنيا يرى في المتاع بالحياة ونعيمها غاية الحياة، متسامح تسع نفسه الدنيا، ساخر من الناس وأمانيهم، مجدد في اللغة لفظا ومعنى، وهذا الازدواج ظاهر في شعر شوقي في شبابه واليوم، وإن كان لتأثره بالقديم الغلبة اليوم.
وترى في شعر شوقي صورتين من صور الحياة، تستقل كل واحدة منهما عن الأخرى كأنما صاحبها غيره، فإذا قرأت: رمضان ولى هاتها يا ساقي، تشعر أنك بحضرة شاعر مغرم بالحياة، ولذاتها.
وإذا قرأت: ريم على القاع بين البان والعلم، وولد الهدى فالكائنات ضياء، تشعر أنك في حضرة شيخ متهجد حتى الوسوسة، يفيض قلبه إيمانا ويقينا، والغريب أنه في الحالتين غير متكلف ولا متصنع.
فالحالة الأولى وليدة الشباب، وما يتقد فيه من عواطف أذكتها الحضارة الأوروبية بمشوقاتها ومهيجاتها، والصورة الثانية أردها إلى النشأة والتربية الأوليين، فإن اختفى أثرهما وتغلبت عليهما عاطفة الشباب، فلا بد أن تظهرا في الكهولة، وفي شوقي روح قومية تجعله يقدس كل ما يرى فيه جامعة لتلك القومية.
فشوقي يمثل مصر فالمسلمين فالعرب فالشرق، فإذا تصفحت شعره تراه يفيض بهذه الروح فيضا، ويؤثر مصر في كل شيء ما خلا الدين، فبينا نسمعه يتغنى بمجد الفراعنة وعظمة دولتهم تراه يخاطب الفرعون الأكبر قائلا:
فؤاد أجل بالدستور دنيا
وأشرف منك بالإسلام دينا
إسلاميته:
إلى جانب عاطفة شوقي الوطنية، عاطفة أشد اتقادا، تلك هي العاطفة الإسلامية، فلهذه العاطفة قبلتان؛ الأولى صوب مكة حيث نشأ السلف الصالح، والثانية صوب الأستانة، وهكذا كان شوقي يستمد وحيا كثيرا من العرب ومكة والقرآن والإسلام والرسول والإرث المفقود، وفي كل ما قاله من الشعر في هذه الأغراض يتجلى الإيمان الحي، بيد أن شعوره كان أشد وأقوى عندما يتكلم عن الترك والخليفة، ولعل في ذلك قوة دم الجنس، أو لأن تأثير الترك في سياسة القصر كان أشد، وشوقي ولوع بها إلى حد بعيد، وهو لسان أميره.
الحكمة:
أحب شوقي الحكمة في شعره، ولا غرو، فأبو الطيب كان مثله الأعلى، فهو يميل إلى الحكمة العامة أشد ميل، حتى ترى عنوان قصيدة ولا تجد إلا قليلا منها يدخل في العنوان، وما بقي فحكمة وغزل ووصف! وفي هذا ترى شوقي شرقيا عربيا غير متأثر بالحياة الغربية إلا قليلا.
لغته:
ترى شوقي يغلو في شرقيته وعربيته، فيتعمد ذلك في لفظه ومعناه، وقد مال إلى إحياء ألفاظ قديمة، ففعل وأحيا كثيرا منها وبعثها من مراقدها، فكأنه يرى ذلك شيئا من التجديد، وقد تابعه في استعمالها كثيرون من شعراء عصره، وله تعابير خاصة به، أحسن استعمالها ووضعها، فصاهر بين ألفاظ عديدة وحسن اقترانها، وزادت شعره رونقا وروعة.
وغلو شوقي في عربيته وشرقيته أوضح في جانب اللغة منه في جانب المعاني، فمعانيه فيها من أدب الغرب كل ما يسيغه الطبع الشرقي والحضارة الشرقية، ودليلنا على ذلك الألفاظ التي نفخ فيها روحا جديدة فأحياها، فوصل بها المدنية الدارسة بالمدنية المنبعثة الحديثة، من أقدس واجبات الخلف المحافظة على ميراث السلف، وهذا أشد ما تحتاج إليه اللغة العربية، فعسى أن يقوم فينا كثيرون مثل هذا الشاعر، وما أشبه هذا بعمل الأثري الذي يحيي ميت الفن بعد عشرات الأجيال، ويدل على مواضع الحسن فيه بعد أن ينفض عنه غبار الدهور، ويحببه إلى الناس الذين قد يمرون به ولا يشعرون بما فيه من روعة وحسن.
تطوره:
قال الرافعي يصف تطور شوقي: «يكبر شعره كلما كبر الزمن، فلم يتخلف عن دهره ولم يقع دون أبعد غاياته، وكأنه مع الدهر على سياق واحد، وكان شعره تاريخا من الكلام يتطور أطواره من النمو، فلم يجمد ولم يرتكس، وبقي خيال صاحبه إلى آخر عمره في تدبير السماء كعراض الغمامة سحابه كثير البرق ممتلئ ممطر ينصب من ناحية ويمتلئ من ناحية.
الناس يكتب عليهم الشباب فالكهولة فالهرم، ولكن الأديب الحق يكتب عليه شباب فكهولة فشباب؛ إذ كانت في قلبه الغايات الحية الشاعرة ما تنفك يلد بعضها بعضا إلى ما لا انقطاع له ، فإنها ليست من حياة الشاعر التي خلقت في قلبه، ولكنها من حياة المعاني في هذا القلب.»
شعره السياسي:
بأحمد شوقي آلت زعامة الشعر لمصر في هذا العصر، ولم تكن فيما سلف من العصور ذات شأن نابه - إذا استثنينا عصر البهاء زهير الذي لا يعد من أمراء الكلام.
أما شعر شوقي فانساق مع الزمن والحوادث - وأعظم العصور انقلابات كان هو عصر شوقي - فمن خلافة تركية إسلامية، إلى وطنية مصرية، إلى نزعة فرعونية، إلى جامعة إسلامية، فكان هذا مادة خياله وغذاء نبوغه وسبب مجده الشعري، أعانه على ذلك انصرافه للشعر 44 سنة متصلة غير منقطعة لا يشوبها بلبال، رزق وجاه، يحل ويرتحل، أين شاء ومتى شاء.
المبالغة:
في شعر شوقي كثير من المبالغة اكتسبها من عنصره التركي الفارسي - إن صح النسب.
الإضافات:
لشوقي إضافات غريبة أملاها عليه عنصره التركي أيضا، مثل قوله: عيسى الشعور، عمرو الأمور.
الأعلام:
يكرر كثيرا من الأسماء المقدسة والأعلام التاريخية مثل: عيسى وموسى ويوشع وخالد وبدر وسينا وجبريل وحاتم وكعب ... إلخ. تراها مقحمة إقحاما.
التكرار:
أكثر من تكرار بعض المعاني مثل بيته في الأخلاق، فقد ورد ذكره بمعناه أكثر من عشر مرات، وكذلك غيره من المعاني كما يراها المدقق في شعره.
الوصف:
أقوى ناحية في شعره، ولكنه لشدة تأثره بالمتقدمين يصف حرب وجنود اليوم بما كان يصفهم به شعراء العرب دون مراعاة للزمان والمكان والعتاد والاختراعات الحديثة.
الاجتماع:
لم يتعرض شوقي في شدة لمسألة اجتماعية مختلف عليها، فهو يساير القديم ويلاطف الجديد دون أن يتعرض لما بينهما من خلاف - وهذا خلقه السياسي كما تقدم - فما رأيناه بحث تقليدا أو قضية اشتد الخلاف حولها وحاول المجددون هدمها، فكأنه لم يحس ما قام حوله من الثورات الاجتماعية، والنزاع بين القديم والجديد في مصر، إلا أنه قال شيئا في موضوع المرأة لكن دون أن يجرح الحجابيين إذ عمد لسرد واقعة تاريخية لا يستطيع إنكارها المحافظون، كما أنه لم يتعرض للحجاب، قال:
هذا رسول الله لم
ينقص حقوق الأمهات
العلم كان شريعة
لنسائه المتفقهات
رضن التجارة والسياسة
والشئون الأخريات
ديباجته:
بحترية أندلسية، ألفاظ منتقاة لا تنافر بينها، رنة موسيقية تطرب لها، فكأن الجيد من شعره موقع إيقاعا، فاز كثيرا بالمعنى الجيد وأداه في اللفظ الرشيق.
خياله:
غني بصوره الرائعة، له في قصائده المشهورة جولات يحلق بها تحليقا ثم يعود إلى مستواه ولا يسف. إن هذه الوثبات تميز الشاعر عن الشاعر، فالعادي يقوله كل إنسان.
شاعر جامع:
نظم شوقي في كل أغراض الشعر وأجاد فيها، ولا نخطئ إذا قلنا تعمد بعضها تعمدا ليقول فيها، وزاد على من تقدموه الشعر التمثيلي. لا نعني أن الشعر التمثيلي لم يكن قبل شوقي أو كان معدوما، بل نعني أن شوقي زاد فيه ورفعه إلى مستوى عال قرب به من الفن الروائي وإن لم يدركه تماما.
وكأنه كان يباري شعراء الأقدمين، فعارض مشاهيرهم، ونظر إلى شعراء الغرب العظام فشاء أن يكون له ما لهم، ففي حكاياته الصغيرة اقتفى خطوات لافونتين، وفي ديوانه الخاص: «عظماء الإسلام» نحا نحو هوغو في ديوانه أساطير الدهور، وفي تفلته من قيود القافية نحا نحو هوغو أيضا في هرنني، ولكن بتحفظ وحذر، فلم يغضب الناس كما أغضبهم هوغو.
وحيث يتعذر على شوقي المعنى الفريد النادر يلجأ إلى تعبير جديد يغنيك به عنه. استغل التاريخ الإسلامي وحوادثه الخطيرة، فكان كالبستاني الحاذق في استثمار الأرض الخصبة.
أما تمثيلياته فقد لخصنا رأينا فيها في كتابنا الرءوس. (5-11) آجيا صوفيا
نموذج وعدنا به بمناسبة كلامنا عن الحروب الصليبية:
كنيسة صارت إلى مسجد
هدية السيد للسيد
كانت لعيسى حرما فانتهت
بنصرة الروح إلى أحمد
كانت بها العذراء من فضة
وكان روح الله من عسجد
عيسى من الأم في هالة
والأم من عيسى لدى فرقد
فمن ملاك في الدجى رائح
إلى ملاك في الدجى مغتدي
ومن نبات عاش كالببغا
وهو على الحائط غض ندي •••
وناب عما كان من زخرف
جلالة المعبود في المعبد
فيا لثأر بيننا بعده
أقام لم يقرب ولم يبعد
باق كثأر القدس من قبله
لا ننتهي منه ولا يبتدي
فلا يغرنك سكوت الملا
فالشر حول الصارم المغمد
لن يترك الروم عباداتهم
أو ينزل الترك عن السؤدد
فإن يعادوا في مفاتيحه
فيا ليوم في الورى أسود
يشيب منه الطفل في مهده
ويزعج الميت من المرقد
فكن لنا اللهم في أمسنا
وكن لنا اليوم وكن في الغد
لولا ضلال سابق لم يقم
من أجلك الخلق ولم يقعد (5-12) تحليل النص ونقده
ماذا يجب علينا أن نفعل؟
أولا:
الإشارة إلى المكان الذي أخذت منه القطعة - إذا أمكن - وبعد قراءة العنوان يشار باختصار إلى المقام الذي تشغله القطعة من الكتاب.
إن التلميذ لا يستطيع دائما هذا التعيين ولا يجب دائما أن يسأل عنه إلا حيث يمكنه ذلك؛ كتعيين مشهد من رواية أو قطعة مشهورة، فالمهم تعويده ذلك. وهذه المسألة مسألة تدريب عقلي ليس إلا. فلينم الأستاذ فيه محبة الجد في طلب القطعة، ليعرف مكانها، جهده، وليطرح عليه أستاذه السؤالات مستعينا باختباراته الشخصية ليضطره إلى الرجوع إلى كتاب آداب اللغة ومعاجمها، بل إلى الكتاب كاملا إذا كان لديه هذا الكتاب.
ليس على التلميذ أن يعرف الكاتب فقط وكتاباته، بل عليه أيضا معرفة المحيط الذي نشأ فيه حتى كتب ما كتب. وتفسير هذا هو: (1)
هل أوحى إليه الموضوع داع من دواعي حياته الخاصة أو السياسية؟ (2)
هل أوحى ذلك حادث تاريخي قبله أو معاصر له؟ (3)
هل دفعته إلى الكتابة مطالعته التي أثرت به وهل وهل ... إلخ؟
وهكذا تنمو في الطالب معرفة المقابلة والتاريخ. ويجب تجنب إيقاعه في الإعجاب المفرط بشيء من القطع ظاهرها أدبي فيتوغل في انتقادها كثيرا ويحسبها شيئا مهما في حين أنها تتضاءل فجأة عندما ترجع لتاريخ أو حدث. إننا لا نريد أن نجعل من تلاميذنا متصنعين ومدعين ولكن نريد أن نجعل فيهم عقولا صحيحة. علينا أن نتفهم أن الانتقاد الصحيح يرتكز على قاعدة كالقاعدة الحسابية التي يختلف فيها اثنان.
ثانيا:
قراءة القطعة: قد يقرأ تلميذ واحد القطعة المعدة للشرح وأحيانا توزع على الطلبة، فإذا كان التلميذ قد استعد عليها كتابة، فعلى المعلم أن يتطلب منه قراءة تقرب من الكمال - نعني بهذا قراءة تتلون وتتنوع مع المعنى كأنها نوع من البحث الانتقادي - ولكننا لا نسلم أبدا بدفع التلامذة إلى الإلقاء، إنما يكفينا منهم اللفظ الصحيح المحكم جيدا. وإظهار نبرات الكلمات المهمة؛ لأن الصف غير مسرح للتمثيل.
ثالثا:
الرسم: «مصور القطعة. خريطتها» يظهر لنا أن هذه النقطة هي أهم أجزاء التحليل، فيجب أن نحمل التلاميذ على أن يسألوا أنفسهم متى قرءوا شعرا أو قطعة خيالية أو قصة أو رسالة ... إلخ، عن سياق الأفكار والبراهين والإسهاب وغير ذلك.
فكل كاتب له سياق خاص ورسم خاص. وما الإنشاء إلا نظام وحركة أفكار الكاتب، وعلى هذا النظام يجب أن نفتش لنجده. إن التحليل والتركيب ينمي الذكاء جدا، وإننا بهدم وبناء صفحة واحدة من الشعر أو من النثر ندرك فائدة لا تقدر، فبهذا التحليل نكون كمن يحل خيوط قطعة منسوجة نسجا محكما فيفهم خصائص كل خيط منها. فعملنا هذا يؤدي بنا إلى فهم آلة دماغ أو قلب ما كنا لنفهم أسرارها لولا تفكيكها قطعة قطعة.
إن هذا التمرين نافع جدا لتلونه؛ لأنه لا يوجد نظرية واحدة تطبق على كل الكتاب، فكل كاتب يريك شيئا جديدا بل صعوبة جديدة في تحليله. فرسم الجاحظ أو نظامه يظهر كالفوضى إذا قابلته بغيره من الكتاب، ومع ذلك فعدم نظامه هذا هو نظام خاص له.
ولو بحثنا كاتبا خياليا يظهر لنا أنه لا يهتم للنظام والترتيب في سياق أفكاره، نجد بعد البحث أن له نظاما خاصا؛ أي نظام تأثراته وشواعره، والقصد من ذلك تسلسل الأفكار مجتمعة. والمناقشة وحدها في موضوع الترتيب تؤلف أحيانا بحثا كافيا.
رابعا:
البحث: بعد التعيين التاريخي والقراءة ودرس الرسم تراجع القطعة جملة جملة للبحث فيها - وهنا اختلاف الطرق - في النوع والنظام والنسبة، وكلها نقط تظهر لنا ذوق الأستاذ؛ أي الذوق الشخصي ونوع الدراسة الذي ينم عن أخلاقه. فالمعلم الفلاني يهتم كثيرا للنحو، والآخر بالبيان، وغيره يتعمق بالعواطف والأفكار والنظريات، وغيره في درس الإنشاء والفن، ولهذا نرى من المناسب أن يدرس الصف الواحد عدة أساتذة، ولتكن دروسهم كل سنة ذات صلة بدروسهم السابقة.
يختلف البحث باختلاف الأذواق، ولكن هناك أشياء لا بد من مراعاتها وهي: (1)
المنع المطلق لمراجعة المترادفات؛ أي أن نفسر الجملة بجملة ركيكة، أو أن نبدل لفظة بلفظة على حد قول الشاعر العربي: وفسر الماء بعد الجهد بالماء.
فالتلميذ إذا ترك وشأنه فإنه يهيئ مترادفين أو ثلاثة فيبدلهما بكلمات القطعة فيعطيك نثرا كريها بدلا مما يقرؤه، وهذا كل الشرح في عرفه. فمن المهم ملافاة هذا العيب منذ الابتداء، وأبسط الطرق لملافاته هي أن يسأل المعلم بنفسه السؤالات ويوقف التلميذ على الكلمات المحتاجة إلى التفسير. فيسأل مثلا: لماذا استعمل الشاعر أو الكاتب تلك الكلمة المجازية بدلا من الكلمة الحقيقية في حين أنه كان في وسعه استعمالها؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يراها مناسبة حتى يتعود التلميذ أن يتساءل ويفسر تفسيرا منتجا، ويفسر عوضا من أن يعيد الكلمات عينها أو يأتي بما يكره سماعه من الإنشاء. (2)
هذه القاعدة تشتق من التي سبقتها، وإننا نؤكد أن الأساس المهم للشرح هو البحث والمناقشة في تأدية التعبير للمعنى المقصود، ويحسن أن نفسح للتلميذ مجال البحث ولو بالغ فيه بشرط أن لا يتجاوز الحد. فبهذا نجعل التلميذ يزن ويقدر قيمة الأسماء والنعوت والأفعال والظروف، وذلك بمساعدته على إيجاد القوة الاشتقاقية. وليبحث في نوع كتابة الكاتب وطبيعة القراء في عصره وميولهم التي اضطرت الكاتب لإرضائهم باتباع ما اتبع من الأساليب والأفكار لإرضائهم. وعلينا أن ندفع التلميذ أيضا ليميز بين معاني الكلمات في العصر الذي استعملت فيه وبين معانيها في العصر الحاضر. (3)
من جهة قواعد اللغة لا يجب بحث إلا ما خرج عن الاستعمال المألوف، هذا إذا لم تكن القطعة منتقاة خصيصا للتمرين على قواعد اللغة. (4)
في الإنشاء، يجب أن نهتم خصوصا بتحليل وبحث الصور، ولا يجب أن نعلم التلامذة لائحة (ليستة) بصور الأفكار وصور الكلمات لتقيدهم بأفكارنا ونظرياتنا، بل لنحملهم على التفكير وخلق الصور التي يرونها بأنفسهم عند الكاتب.
وعلى الأستاذ أن يعود التلاميذ وقت الشرح والتفسير على الانتباه إلى الحركات المختلفة؛ كالنداء والاستفهام العادي والإنكاري وتكرار الألفاظ والتعجب والصور البيانية والصور الكثيرة الاستعمال من البديع ... إلخ. إننا لا نستطيع درس الشعراء وتذوق ما يكتبونه إلا إذا اعتمدنا على هذه الطريقة في درسهم. (5)
استخراج النتائج، بعد تحليل القطعة ونقدها يبقى علينا استخراج النتائج الأدبية والفلسفية. هنا يجب اتقاء خطر فاضح وهو كثرة الكلام الفارغ (الحشو واللغو). علينا أن نستخرج الملاحظات والنتائج من القطعة نفسها؛ أي من منطوقها لا من نظرياتنا الخاصة، إذ يجب أن تكون القطعة الحد الأقصى لبحثنا فلا نتعداها إلى آرائنا الخصوصية. ولنحتم على تلميذنا ألا يخرج كذلك عن القطعة التي أعطيها للبحث - كتابة أو شفويا - بل فليحصر بحثه في القطعة ويبدي الملاحظات التي رآها فيها ليس إلا.
إن ما نتساءل عنه هو لماذا نشرح ونفسر ونبحث؟ الجواب طبعا: لكي نفهم. إذن ليست الغاية الأولى من الشرح والتحليل فهم الصور البيانية لأنها صور بيانية لذيذة، بل لنتوصل بواسطتها إلى الفهم إلى ما يرمي إليه الكاتب تماما. وقصارى الكلام أن الغاية من الشرح والتحليل والبحث هي فهم الفكر والشعور فهما دقيقا كأننا نحن ذاك الكاتب نفسه.
تطبيق (1) مصدر النص. (2) صفاته العامة: خيالي، تأمل، رؤيا، وصف، هجو، قصف ...إلخ. (3) المدخل؛ أي سبب الكتابة. (4) الرسم، وتتفرع منه الفكرة العامة ووحدة الموضوع. (5) تبيين المحاسن والعيوب وبيان الصور البديعة والمستهجنة. (6) اللغة وما يتبعها، كما إذا كان هناك مخالفة لغوية أو نحوية أو بيانية. (7) نوع الإنشاء، أهو من الإنشاء العالي أو المنمق أو البسيط. (8) النتائج الأدبية والفلسفية وما يرمي إليه الكاتب أو الشاعر.
تنبيه:
في الشعر المنمق يلتجأ إلى رده إلى النثر، وإذ ذاك يعرف مبلغ الأفكار؛ أي إذا كان الكاتب ممن يعنون بالألفاظ والتعابير أكثر من المعاني والأفكار.
شعر رنان:
كلمة نسمعها كثيرا، فللاهتداء إلى هذا السر انظر إلى الاهتزازات التي يحدثها استعمال بعض ألفاظ موسيقية في اللغة، وانتبه إلى استعمال الأفعال والأسماء والكلمات المشددة وبعض الحروف التي لها تأثيرها.
ملاحظة هامة
سر هكذا في ترتيب نقدك: (1)
كلمة مختصرة عن الموضوع كمدخل له أو تمهيد. (2)
قسم نقدك هكذا:
الإيجاد:
وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
عمل الحس، وهو ما أحس به الشاعر أو الكاتب حتى كتب ما كتب، وهذا ما يعبرون عنه اليوم بالتجربة.
عمل الخيال، وينتج عن الحس؛ أي إن الشاعر يحس أولا ثم يتخيل.
وبعد الحس والخيال يأتي عمل الذهن فهو الخزينة الواعية.
التنسيق:
ظيفة الذهن ترتيب المعاني التي تجتمع بالإيجاد، والذهن أيضا يقرر النسبة والوحدة بين أجزاء القصيدة، وهذا ما نسميه التنسيق، وهو يقسم إلى ثلاثة أقسام: (أ) الوحدة: وهي تكون بوحدة العاطفة والفكر وما يرمي إليه الكاتب من غرض. (ب) الرسم: وهو ما تتألف منه القطعة من أجزاء رئيسية. (ج) تنسيق التفاصيل: وهو تفصيل ما تألفت منه الأجزاء الرئيسية وحسن ترتيبها وتنسيقها.
البيان:
وهو ثلاثة أقسام أيضا: (أ) اتساق الأبيات أو الإنشاء؛ أي جلاؤها ووضوحها. (ب) صفات الإنشاء العمومية يبين فيه كل شيء من محاسن وعيوب. (ج) الأشكال البديعية والمجازات؛ تذكر منها المستحسن والقبيح وما يلفت نظرك من جمال فني.
هذه آراء معلمي النقد الأجانب وقد لخصناها لك تتميما للفائدة.
صفحة غير معروفة