لماذا تدرس كتب الأطفال وكيف؟
يلخص أدب الأطفال نطاقا من الروايات التي تشكل أدب «الكبار» القصصي ويوسعه ويعدله، ولكن لا يستخدم دارسو أدب الأطفال المناهج النقدية والنظرية نفسها فحسب، بل يعدلونها ويضيفون عليها أيضا؛ فهناك - على سبيل المثال - مناهج تركز على الجمهور المستهدف، ومناهج أخرى تنشأ عن دراسة الطفولة، وأخرى تراعي التفاعل بين الصورة والنص. ومع ذلك فبوجه عام، تدرس الكتابة للأطفال بالطرق نفسها التي تدرس بها النصوص الأخرى، رغم حقيقة أن كتب الأطفال تصنف على أساس الفئة العمرية أكثر من الفترة، أو الجنس الأدبي، أو مؤلفيها، أو غيرها من أسس التصنيف المحتملة تعني النزعة لاستخدام بعض المناهج أكثر من غيرها. يتناول هذا الفصل النقاد والمناهج التي أثبتت فائدتها لدراسة أدب الأطفال بالتحديد أيا كانت أعمار القراء وأيا كانت الصيغة أو الوسيلة التي يصل من خلالها الأدب إليهم. لكن قبل تناول كيفية دراسة أدب الأطفال، يستحق الأمر أن نلقي نظرة على ما تقدمه هذه النوعية من الأدب للباحثين، وما يمكن تعلمه من قصص الأطفال في الماضي والحاضر.
الكبار يقرءون الكتابة المخصصة للأطفال
عندما يقرأ الكبار الكتابات المخصصة للأطفال لأغراض الأبحاث والتدريس، يمكن أن تكون النصوص المخصصة للأطفال تنويرية على عدة مستويات؛ فحيث إن كل الكبار كانوا أطفالا في مرحلة من حياتهم، وإن كتب الأطفال تخاطب القراء من الأطفال وعادة ما تتضمن صورا للطفولة، فيمكن لكتب الأطفال على المستوى الشخصي أن تعيد إنشاء الصلة بين الكبار وأنفسهم في مرحلة الطفولة. وقد يزداد تأثير هذه العملية إذا ما كانت النصوص التي يقرءونها هي نفسها التي قرءوها خلال طفولتهم، فالكثير من الناس يشعرون بشيء من الإثارة عندما يقع بين أيديهم النسخة نفسها من كتاب كانوا يقرءونه خلال طفولتهم. وعلى الرغم من أن العودة إلى الكتب التي كنا نقرؤها ونحن صغار قد تثير في البداية بعض ردود الأفعال العاطفية والحنين للماضي، فإن أغلب الكبار يتغلبون على هذه المشاعر بردود فعل انتقادية مدروسة أكثر، وقد تصيبهم بعض النصوص بالإحباط بسبب أسلوبها الركيك أو تفاهتها. وفي حين أن هذه النصوص قد تحتوي على بعض المعلومات الثقافية الشائقة، فقد تتسبب أيضا في إثارة الشك في أن الاهتمام بالكتابة للأطفال أمر طفولي في حد ذاته، وأن أدب الأطفال هو أمر يجب التخلي عنه عند الكبر وتركه كجزء من الماضي بدلا من أن يكون أمرا يستحق الدراسة الجادة. لكن لا يقتصر أسلوب الكتابة الركيك أو التفاهة على أدب الأطفال، وليس من الغريب على الكبار أن ينتجوا كتابات رجعية أو طفولية عن الأطفال وإليهم. وهذا هو الاتهام الذي وجهه تي إس إليوت لاستحضار هنري فون لذكريات الطفولة، حيث قال : ... يمكننا - إذا ما اخترنا أن «نسترخي إلى هذا الحد» - أن «نغرق» في «ترف» ذكريات الطفولة، ولكن إن كنا وصلنا لمرحلة النضج والإدراك، فإننا سنرفض أن ننغمس في هذا الضعف لدرجة الكتابة أو نظم الشعر عنه. إننا نعلم أن الطفولة أمر يجب دفنه ونسيانه، رغم أن جثمانها يمتلك العزيمة لأن يظهر على السطح من وقت لآخر.
قد يكون تصوير إليوت للطفولة على أنها جثمان مدفون صادما، ولكن إدراكه أن هذا الجثمان يمكنه أن يجد طريقه للظهور بصورة دورية يمثل اعترافا منه بأن طفولتنا تستمر في الوجود داخلنا حتى بعد النضج، وهو سبب وجيه لإعادة فحصها، وكذلك لاستخدام المناهج النقدية القائمة على التحليل النفسي باستمرار في قراءة الكتابات المخصصة للأطفال.
ويتمثل أحد طرق العودة للطفولة في قراءة الكتب والقصص المصورة والمجلات وغيرها من الأعمال الأدبية التي قرأناها آنذاك، ولكن هذا لا يعني أن نحاول قراءتها من المنظور الذي كنا نقرؤها منه ونحن أطفال؛ فلا شك أن دراسات أدب الأطفال تعمد إلى تجنب هذا النوع من الترف الانتكاسي تحديدا. إن من ينظرون إلى أنفسهم أو إلى أطفال آخرين كأمثلة للقراء من الأطفال، إنما يفعلون هذا في محاولة منهم لاكتشاف سبب أن بعض الكتابات تكون ذات تأثير كبير في مرحلة الطفولة وما يمكن لهذا الأمر أن يكشفه؛ فكتاب «الصيادون المسحورون» (2010) لماريا تاتار - على سبيل المثال - يهتم بالطريقة التي ينسى بها الأطفال أنفسهم أثناء قراءة الكتب، فما الذي يميز الأطفال كقراء والكتب المعدة للأطفال والشباب لدرجة تجعلها شديدة الفاعلية في جعل الأطفال يهيمون بعيدا عن العالم من حولهم؟ في كتاب «الطفل الذي ربته الكتب» (2002)، يكشف فرانسيس سبوفورد - وهو يسترجع ذكريات طفولته، وهو طفل محب للقراءة - عن أنه كان تحديدا من نوعية القراء من الأطفال الذين يثيرون اهتمام الكاتبة تاتار؛ فهو يتذكر أنه كان «ينغلق عن العالم الخارجي حتى تتمكن (ذاته القارئة) من الانفتاح على العالم الداخلي»؛ مما تمخض عما يطلق عليه هو اسم «القراءة الفصامية».
وفي حين يهتم كل من تاتار وسبوفورد بتأثير الكتابات على القراء الصغار منفردين، فإن أغلب من يعملون في هذا المجال - باستثناء بعض التربويين (انظر الجزء الخاص بنقد استجابة القارئ فيما يلي) - يهتمون أكثر بما تكشفه هذه النصوص للأطفال عن موعد أو مكان أو جهة إصدارها. وقد يعني هذا إلقاء الضوء - على سبيل المثال - على المواقف من حركة الاستكشاف والاستعمار في قصص المغامرات التي نشرت بالقرن التاسع عشر، أو اشتراك شخصين من نفس الجنس في تربية الأطفال في الكتب المصورة في القرن الحادي والعشرين. وكما أظهرت النظرة التاريخية الشاملة في
الفصل الأول ، يمكن للنصوص الموجهة للأطفال أن تساعد على نشر أفكار عن «طفولة» الدول بالقدر نفسه الذي تنشر فيه أفكار عن الطفولة الفردية. وفي حقيقة الأمر، بعض خصائص أدب الأطفال التي حددت أثناء مناقشة ماهيته (خاصة في الفترة السابقة للمراهقة) - تحيزه تجاه البنى البسيطة نسبيا، وكذلك صلته بنظام التعليم على سبيل المثال - تعني أن المواقف الأيديولوجية والأجندات الخاصة عادة ما تكون أكثر صراحة ووضوحا مما هي عليه في النصوص الموجهة للكبار. وهذا من شأنه أن يجعل الكتابة للأطفال مصدرا للمعلومات التاريخية عن كل شيء، بداية من الحياة اليومية - إذ تدور أحداث الكثير من كتب الأطفال وأشعارهم وقصصهم في المنازل ودور الحضانة والمدارس، وتتضمن تلك الأنشطة البسيطة مثل التسوق والقيام بالأعمال اليومية الروتينية - ووصولا إلى الجدل حول أمر ما في أي وقت؛ ومن ثم، فإن دراسة كتب الأطفال يمكن أن تكون طريقة للتأمل في شخصياتنا أثناء الطفولة أو حتى ماض جماعي لفترة ما، ولكن هذه فقط بعض من الأسباب التي تجعل دراسة أدب الأطفال مثمرة ومجزية للغاية.
إرساء المعايير وخرقها
نظرا لأن الوسيلة الرئيسية للكتابة للأطفال هي اللغة، وحيث إن الأطفال خلال مشوار تعلم القراءة يكتسبون الكثير من المفردات والمفاهيم التي يستخدمونها للتفكير في أنفسهم وفي العالم من حولهم، فإن الكتابة للأطفال لديها إمكانية كبيرة للتأثير على ما يعتبره القراء المستهدفون أمرا طبيعيا أو جيدا أو مقبولا أو مهما أو غير عادل أو يجب الخوف منه. وهذا من شأنه أن يجعل كتابات الأطفال مصدرا قيما للمهتمين بالتحولات الأيديولوجية والتغيرات الثقافية. على الرغم من أنه في النصف الثاني من القرن الماضي تسبب دور أدب الأطفال في تثبيت الأنماط التقليدية الخاصة بالجنس والمنزلة الاجتماعية والعرق في إثارة جدل محتدم وحملات قوية لمقاومة هذه النزعات، فإن المدى الذي يمكن لأدب الأطفال أن يصل إليه في تشكيل شخصيات الأطفال عقليا واجتماعيا غالبا غير معترف به. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تستغل فيها الكتابة للأطفال في مساندة حملات متطرفة النزعة.
صفحة غير معروفة