أدب الدنيا والدين
الناشر
دار مكتبة الحياة
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٠٧ هجري
مكان النشر
بيروت
تصانيف
التصوف
يَسْتَعْطِفَ بِهِ الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ، وَيَخْدَعَ بِهِ الْعُقُولَ الْوَاهِيَةَ، فَيَتَبَهْرَجَ بِالصُّلَحَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَتَدَلَّسَ فِي الْأَخْيَارِ وَهُوَ ضِدُّهُمْ. وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُرَائِي بِعَمَلِهِ مَثَلًا فَقَالَ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَا يَمْلِكُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الْأَجْرِ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] . قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] أَيْ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا، فَجَعَلَ الرِّيَاءَ شِرْكًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: ١١٠] . قَالَ: لَا تَجْهَرْ بِهَا رِيَاءً، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا حَيَاءً. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ﵀ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠] . أَنَّ الْعَدْلَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْإِحْسَانَ أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ عَلَانِيَتِهِ، وَالْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ. وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ: الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ الصَّبْرُ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى صِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ يَعْنِي الزِّنَا، وَالْمُنْكَرِ الْقَبَائِحَ، وَالْبَغْيِ الْكِبْرَ وَالظُّلْمِ. وَلَيْسَ يَخْرُجُ الرِّيَاءُ بِالْأَعْمَالِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَبَائِحِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الرِّيَاءُ الظَّاهِرُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
1 / 104