بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب. الحمد لله الذي حكم على أهل الوجود بالعدم، وقدره عليهم بالقدم، وقضى به على الخلق فما أفاد معه محاذاة حذر ولا مناداة ندم، وأورد الموت على فناء أعمارهم فانهد وبناء أبشارهم فانهدم. نحمده على نعمه التي فسحت مدة الأجل، ومنحت تراخي المهلة ولم تؤثر العجل، ونزحت القلوب إلا من الأمن، ودفعت ما عظم وجل من الوجل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي الذخر يوم الفاقة، والحق أن لا ترد يوم المحاقة، والفارط الذي قدمناه ونحن نرجو لحاقه.
ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي حذر معاطب الغرور، وبصر عواقب السرور التي تليها الشرور، وأظهر كواكب الحق فهي في فلك البدور تدور، فهو الذي.
لم أجر غاية فكري منه في وصفة ... إلا وجدت مداها غاية الأبد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
1 / 35
الذين كانوا شجى في لهوات من كفر، وكان الباطل بهم دجى حتى جلوا الحق فلاح صباح الفالح بهم وسفر، وراضوا الزمان فاستقاد لهم من بعد ما تقاعس ونفر، ورآهم الزمان جمال هذه الأرض في الحياة، وبعد الممات جمال الكتب والسير، فهم الذين سجع الحمام بمدحهم وصدح، وشرح الخاطر وصفهم لما جال في سرد مناقبهم وسرح، وإياهم أراد ابن الرومي لا من خاطبه ومد المدى لما مدح، إذ يقول:
آراؤكم ووجوهكم وحلومكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
صلاة لا يمل الزمان دوامها، ولا يرى الدهر انصرافها وانصرامها، ما نبت في رياض الدياجي نرجس نجوم، وراحت أطيار الدراري على نهر المجرة وهي تحوم، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الوقوف على أخبار من تقدم، وخرب ربع عمره بالموت وتهدم، ووصف في حياته أو غادر للشعراء في رثائه لما تردى ما تردم مما تتشوق النفوس إلى الوقوف عليه، وتتشوف بجملتها إليه، فإنه: في الذاهبين الأولين لنا بصائر. وفي آثار من درج وأخباره أدلة للتأسي وأمائر، وفي التفكر في مصارعهم
1 / 36
ما يصلح الظواهر والضمائر، وقد حض القرآن على مثل هذ وحث، ورم بوعظه ما رق من القسوة ورث. والتاريخ فن لا يمله طرف مطالع، ولا يسأمه سمع مصغ ولا مراجع، ولا يخلو من يقف على التواريخ من فائدة، ولا يطوي صحفها إلا وقد حصل منها على صلة وعائدة، ولا تمر به كائنة إلا تنبه لها وأجراها على ما في ذهنه من القاعدة، وما كان التراجم في التواريخ إلا كتاب ورد من غايب، أو خبر جاء به نجاب إما بالمحاسن أو بالمعايب:
فلا تبخلوا مع بعدكم بوجوهكم ... علينا ألا إن الوجوه هي الكتب
فكم قد سمعنا بموجود ولم نتبين حاله، ولا عرفنا حقه ولا محاله، ولا علمنا ما تصف به من ذم أو مدح، ولا ما لاتحف به من موجب شكر أو قدح، وربما كان للإنسان قريب وقد درج، أو لزم وقد دخل هذه الدار وخرج، ولا علم له بما عامله به زمانه، ولا ما أحدث له حدثانه:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
فإذا راجع التواريخ كان كمن شاهد من مضى، وعاين ما جرى به عليه القدر وقضى، وأنا أرى التأريخ والترجمة معادًا ثانيًا في المعنى لا في الوجود، ونشرًا أول قبل نشر الرفات إلا أنها لم يفض عنها ختم اللحود.
وكنت قد أنفقت مدة من العمر ما وجدت لها عوضًا، ولا حسبتها إلا لمعة برق
1 / 37
أومض لي ومضى، في جمع تاريخي الكبير الذي سميته الوافي بالوفيات، وسقت فيه ذكر جمل من الأعيان من زمن النبي ﷺ وإلى زماني، ونصبت فيه نفسي دريئة لمن طعن في أو رماني، إلا أنه جاء مطولًا، وأصبح وجه مضمونه عن الاقتصار والاختصار مخولًا، فأردت بعد فراغي منه أن أقتصد وأقتصر، وأختار مما أمتار وأختص وأختصر، وأجمع تاريخًا لمن أدركه عصري وجنى ثمر غصنه هصري، وضمتني وإياه دائرة وجودي أو نقطة مصري، وكان في زماني ولم أره، أو نقل الرواة الأثبات خبره:
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تداني
وتنظر للهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني
وما أحسن قول الآخر:
قال لي قائل لأية حال ... ترقب البدر ثم تهوى سواه
قلت إما لشبه من حجبوه ... أو لأني أراه وهو يراه
وابتدأت ذلك من سنة ست وتسعين وست مئة، وهي سنة مولدي، ونهلة موردي، وجذوة موقدي، وبدأة موعدي.
ورتبت أسماء من فيه على حروف المعجم، وأدمت غيث فوائده الذي انسجم وجعجعت بفارس الإطناب فيه، فكر وما فكر، وحج وما أحجم. وهو شيء جمعته لنفسي لا لأحد من أبناء جنسي، وجعلته لي رأس مال، وبضاعة ضمت الحلل المرقومة
1 / 38
والبرود الأسمال، فمن رآه كثيرًا وما حل من قبله محلًا أثيرًا، أو قابل صفحات وجهه بالإعراض، أو أرسل سهام نظره فما أصابت منه الأغراض؛ فذاك أمر به علي قضى الباري، وشيء جرى به القلم وما هو إلا كالجبانة أزور فيها قبور أصحابي، وأتردد منها إلى أجداث أترابي وحبابي، وألتف في أكفان شيبي الذي نزل بي وأقسم أنه ما يرحل إلا بي، فقد ذكرت فيه جماعة رأيتهم وما راءيتهم، ودانيتهم حق الصحبة وما داينتهم، ورثت حبال صبري التي ورثتها لما رثيتهم، ممن انتفعت بعلومهم، ورفعت بين نجومهم، وشركت بعضهم في ماله، وتركت النظر إلى البدر لأنه ما فاز بمثل جماله، ولا حاز مثل كماله:
ومعاذ الغله أن أتعزى ... عنه طول الزمان أو أتسلى
فكم فيمن ذكرته من جرعني ما غصص، وجرعني رداء الصبر وقلص، وتقدم أمامي وهو يقودني إلى حفرتي بزمامي، وغادرني بعده وحيدًا، وأخذ حظي معه وراح. وأهل هذا العصر يريدون شيئًا جديدًا، ولله أبو عبادة البحتري حيث يقول في رثاء المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان:
أأطلب أنصارًا على الدهر بعدما ... ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي
مضوا أممًا قبلي وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير والي منبج
والله أسأل أن يجمعنا في دار كرامته، ويمد علينا ظل لطفه ورحمته، ويجرينا على ما ألفناه وألفناه من نعمته:
وإن استطع في الحشر جئتك زائدًا ... وهيهات لي يوم القيامة أشغال
1 / 39
اعترضت بهذه الجملة، وزدت هم القلب هذه الحملة، فإنها من المصدور نفثة، واستراحة في نصف الطريق ممن أعيا ولبثة.
وأعود إلى ما كنت فيه، وأفي له بحقه وأوفيه، فأقول: وقد كنت رأيت فيما وقفت عليه من أخبار الوزير أبي الوليد أحمد بن زيدون المغربي أنه لما كان بقرطبة وزيرًا توفيت ابنته، ولما فرغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الموقف عبارة قالها لأحد.
قلت: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأراه أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء وأنه ما سمع منه كلمة فيها حرف راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله؛ أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة في معناها وليس فيها راء، وهو كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ: فرس قال: جواد أو سابح أو صافن، أو العدول عن لفظ: رمح قال: قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ: صارم، قال: حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه: إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها التشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون فقد قطعة من كبده:
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
1 / 40
وقد استعمل الحريري ﵀ هذا في مقاماته، فهو في كل مرة يجتمع فيها الحارث بن همام بأبي زيد ويحتاج إلى أن يقول: فلما أصبح الصبح، تراه يعبر بعبارة عن هذا المعنى بغير عبارته الأولى، فتارة قال: فلما لاح ابن ذكاء، وألحف الجو الضياء، وتارة قال: إلى أن أطل التنوير، وحسر الصبح المنير، وتارة قال: حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان، وتارة قال: إلى أن عطس أنف الصباح، ولاح داعي الفلاح، وتارة قال: فلما بلغ الليل غايته، ورفع الصبح رايته، وهذا كثير في مقاماته، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة رحمه الله تعالى ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدةً معناها من أولها إلى آخرها: يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه، فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عنه هذه النكتة فيه، وقد خطر لي أنا مثل ذلك عند ذكر وفاة كل من الأعيان الذين أذكرهم في هذا التأريخ، فإن اتفق لي مثل هذا فهو بحول الله وقوته، وإنقاذ الجبان من دحض هوته، وإلا فعذر المزلة في هذا المقام واضح، والإقالة من عثرته أمر راجح، وأعوذ بالله من إعجاب المرء بنفسه، وجره رداء الخيلاء وهو حقير في نوعه وجنسه.
وقد سميت الكتاب عندما أردت وضعه، وقصدت تأليفه وجمعه أعيان العصر وأعوان النصر، وبالله الاستغاثة والاستعانة، وطلب الإنابة إليه في الإعانة على الإبانة والعياذة مما نحن به في هذا الزمان من الزمانة، إنه ولي الخيرات في الدنيا والآخرة سبحانه، عليه توكلت وإليه أنيب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الأول
1 / 41
حرف الهمزة
أباجي
الأمير سيف الدين، النائب بقلعة دمشق
أول ما عرفته من شأنه وألفته من ترفع مكانه أنه كان في أعداد أمراء حلب، وصاب بعد ذلك مآله إلى دمشق والمنقلب. أظنه جاء إلى قلعة دمشق بعد موت الأمير علاء الدين مغلطاي المرتيني نائبها، وذلك في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وضبط أمر القلعة طبطًا تامًا، وحفظ أمرها حفظًا عامًا، خصوصًا في وقعة بيبغاروس ومن بغى معه من تلك الروس، لأنه حصنها، جمّلها بآلات الحصار وحسّنها، وصابر أولئك الغاوين، ولم يتحيز إلى فئة الباغين، فشكر لذلك مقامُه، وزاد في القلوب احترامه. وهو زوج أخت الأمير سيف الدين طشبغا الدوادارِ، وكان شيخًا طُوالًا ذا رواء، وقوامٍ يحاكي القناةَ في الاعتدال والاستواء. وقد قربَ منه الأجل
1 / 43
وتدلّى، ووصل إلى النقا ولم يبق إلا المصلى، ولم يزل على حاله إلى أن نزل من القلعة على ظهره، وانحطّ بعد الرفعة إلى قعر قبره.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت عاشر شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
إبراهيم بن أحمد بن هلال
القاضي برهانُ الدين الزرعي الحنبلي، ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بدمشق.
مولده سنة ثمانٍ وست مئة، ووفاته في نصف شهر رجب الفرد يوم الجمعة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
لم يحصد الموت من زرعٍ له نظيرًا، ولا اجتلى الناس من حوران مثله قمرًا منيرًا، أتقن الفروع، وبهر فيها من الشروع، وجوّد أصول الفقه وشغل فيها الناس، وأوضح لهم فيه ما حصل من الإلباس، وبرع في النحو وظهر، ومارس غوامضه ومهر، وقرأ الفرائض، وأتى فيها وحده بما لم يأتِ به ألف رائض، اشتغل في الحساب، وغني بذهنه الوقاد عن الاكتساب، وكتب المنسوب الفائق، وسلك فيه أحسن الطرائق، وكان الناس يأتون إليه بالمجلدات ليكتب عليها أسماءها، ويُزينَ بكواكب حروفه سماءها، رغبةً في حسنِ خطه ليقوم مقامَ الفواتح المذهبة، والأعمال التي هي لأهل الصنائع متعبة. ولقد كان قادرًا على حكاية الخطوط المنسوبة، والطرائق التي هي عند أرباب هذا الفن محسوبة، فكم قد كمّل من مجلد انخرم، وأخمد من نار
1 / 44
صاحبه الضرم، فإذا رآه العارف لم يُنكر شيئًا من أمره، ولا علم فاسده ولو بحث فيه مدة عمره، والمكاتيبُ الشرعية إلى الآن تشهد له بحسن العلائم، وتمد لعيونِ الكتاب منها موائد وتعمل لهم فيها ولائم.
وكان حسن الشكل والعمة، وافر العقل عالي الهمة، ندب في أيام الصاحب شمس الدين غبريال لنظر بيت المال، فأتبى وفكر في العقبى والمال، وكان بصيرًا بالفتوى، جيد الأحكام لا يقع منها في بلوى، يتوقد ذهنه من الذكاء والفطنة، ويدرك الغوامض التي مضى الأوائل وفي قلوبهم منها إحنةً، وكان يميل إلى التسري بالأتراك، ويقع معهن في الحبائل والأشراك، فكنت أراه جمعةً في سوق الجواري، وجمعة في سوق الكتب ليجمع بذلك بني الدر والدراري. وتعلم اللغة التركية من جواريه، وتكلم بها فقل من يؤاخذه فيها لما يجاريه. هذا مع براعة في عبارته، وفصاحة في كلامه، وبلاغة في إشارته.
أخذ الأصول عن العلامة كمال الدين بن الزملكاني، قاضي القضاة، وجلال الدين القزويني لما كان خطيبًا، وغصن برهان الدين المذكور من الشباب رطيبًا. ورأيته يحضر دروس العلامة ابن تيمية كثيرًا، ويأخذ من فوائده ما شادَ به مجدًا أثيلًا أثيرًا، يجلس منصتًا لا يتكلف لبحث ولا يتكلم، ويرى أنه يتعلقُ بأهدافه ويتعلم، إلى أن قضى نحبه وسكن تُربه، ولقي ربه، رحمه الله تعالى.
1 / 45
وكان قد درس في الوقف الجديد الذي أوقفه الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاة بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية، وكان درسًا حافلًا حضره الأعيان في خامس عشري شوال سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودرس بالحنبليّة داخل باب الفراديس عاشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وحضره القضاة والفضلاء، وأولي نيابة الحكم في مستهل جُمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وأعاد بالمدرسة الصدرية وبالجوزية والمسمارية.
إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء
القاضي صدر الدين بن الشيخ محيي الدين البصروي الحنفي.
درس وأفتى وأعاد وأعان الطلبة وأفاد، ولي قضاء حلب، وأقام بها مدةً يسيرة، فما بلغ ما طلب، ثم توجه إلى مصر وسعى سعيًا شديدًا وحصل بقضاء
1 / 46
حلب تقليدًا، وعاد فأدركه الأجل بدمشق، وبطل قلم حياته من الحظ والمشق، وتعجّب الناس من حرضه الذي بلغ النهاية مع ما كان له بدمشق من الكفاية.
وولد بصرى سنة تسع وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبعٍ وتسعين وست مئة، في حادي عشر رمضان.
إبراهيم بن أحمد بن حاتم بن علي
الفقيه أبو إسحاق البعلبكي الحنبلي، شيخ بعلبك.
أجاز له نصر بن عبد الرزاق، وابن روزبة، وابن اللتي، وابن الأواني وابن القبيطي، وعدة.
وسمع من سليمان الإسعردي، وأبي سليمان بن الحافظ، خطيب مردا. واشتغل على الفقيه اليونيني، وصحبهُ.
1 / 47
كانت له وظائف، ونسخ من العلم صحائف، كتب المغني بقلمه، وأدخله بنسخه تحت علمه، وتفقه لابن حنبل، وكان يرى أنه في مذهبه من غيره أنبل، مع تواضع، لا يترفع، ولا يتعرف إلى الكبر ولا يتفرع، يبدأ من يلقاه بالكلام، ويعامل الناس بالانقياد لهم والاستسلام، إلى أن وافاه حمامه وانمحق من بدره تمامه.
وكانت ولادته في سنة إحدى وثلاثين وست مئة، ووفاته - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
إبراهيم بن أحمد بن عيسى بن يعقوب
العلامة، شيخ القراء والنحاة، أبو إسحاق الإشبيلي الفافقي.
شيخ سبتة، حمل صغيرًا إلى سبتة، وسمع التيسير من محمد بن جوبر الراوي عن ابن أبي جمرة، وسمع الموطأ والشفا وأشياء. وأكثر عن
1 / 48
أبي عبد الله الأزدي سنة ستين، وقرأ بالروايات على أبي بكر بن مشليون، وقرأ كتاب سيبويه على أبي الحسين بن أبي الربيع.
ساد أهل المغرب في لسان العرب، وبلغ من النحو غاية الأمل وأقصى الأرب، وألف كتابًا في شرح الجمل، وانتهى فيه إلى ما رامه من الأمل، ووضع مصنفًا في قراءة نافع، ونفع بذلك كل كهل ويافع، واصبح قلبُ أهل الشرق وهو خافق من التطلع إلى شيخ غافق، وسكن لما ظعن من بلده في مدينة سبتة، وقطع بها جمعه عمره وسبته، حتى قضى نحبه، وكدّر الموت من الحياة شربه.
وولد سنة إحدى وأربعين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة عشرة وسبع مئة.
إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن أحمد
الشيخ الفقيه، الإمام الصالح، الخير المعمر، عز الدين العلويّ الحسيني الغرافي، ثم الإسكندري، الشافعي الناسخ.
1 / 49
سمع بدمشق سنة اثنتين وخمسين من حليمة حفيدةِ جمال الإسلام، ومن الباذرائي ومن الزين خالد.
وسمع بحلب من نقيب الشرفاء، وأجاز له الموفق بن يعيش النحوي، وابن رواج، والجميزي، وجماعة.
وحدث وهو ابن بضعٍ وعشرين سنة، وأخذ عنه الوجيه السبتي.
كان يرترق بالنسخ، وعنده في ذلك ثبوتٌ ورسخٌ، مع زهد ونزاهة، وتقدم عند أهل الخير ووجاهة. وكان أصغر من أخيه الشيخ تاج الدين الغرّافي بعشر سنين. ولما توفي أخُوه صار هو في المشيخة مكانه، وأسمع الحديث وشيد أركانه، وولي مشيخة دار الحديث النبهيّة مكان أخيه، وسلك طريقه في تأنّيه وتراخيه.
قيل: إنه حفظ وجيز الغزالي، وأحرز ما فيه من اللآلي، وحفظ
1 / 50
إيضاح أبي علي، وأصبح يسردُ ما فيه وهو مليّ، وكان معين الدين المصغوني يقوم بمصالحه، ويعينه بقضاء حوائجه ودفع حوائجه، إلى أن فرغ مدى عمره ووصل نهاية أمره.
ولد بالثغر سنة ثمانٍ وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر المحرّم سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة. وهو من ذريّة موسى الكاظم ﵁.
إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي
الشيخ الإمام القدوة المذكر القانت، أبو إسحاق الرقي الحنبلي، نزيل دمشق.
تلا بالروايات على الشيخ إبراهيم القفصي، وصحب الشيخ عبد الصمد ابن أبي الجيش، وعني بالتفسير والفقه والتذكير، وبرع في الطب، وشارك في المعارف، وله بالوعظ إلى القلوب أيادٍ وعوارف، وكان يشير في كلامه إلى لطائف مُحركة، ويُهدي بعبادته إلى السامعين فوائد بين النفوس والتقوى مشركة، طالما أجرى دمعًا، وخرق بالموعظة سمعًا، وجر لمن انتصب له رفعًا، يهز الأعطاف إذا لفظ، ويحرك القلوب الغافلة إذا وعظ، على رأسه طاقية وخرقة صغيرة، ونفسه غنية
1 / 51
عن الملوك وإن كانت حالته فقيرة، صُنع له منزلٌ تحت المئذنة الشرقية بالجامع الأموي من دمشق، فلازمه إلى أن شالت نعامتُه، وسكنت بعد ذلك التذكار نامته.
وله نظمٌ يترقرق، ونثرٌ بالبلاغة يتدفق، وربما كان يحضر السماع، ويجد الناسُ به مزيد انتفاع، وحضوره بأدب ووقار، وسكون لا تحرّكه نشوة العقار. وألف تفسيرًا للفاتحة، وأتى فيه بكل فائدةٍ سانحة، وله تواليفُ ومختصرات، وتصانيف على المحاسن مُقتدرات.
ولد سنة نيفٍ وأربعين وست مئة، وتُوفي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاثٍ وسبع مئة في خامس عشر المحرم، ومن نظمه:
يزورُ فتنجلي عني هُمُومي ... لأنّ جلاءَ همِّي في يَديهِ
ويمضي بالمسرةِ حين يمضي ... لأنّ حِوالتي فيها عليهِ
ولولا أنّه يعدُ التلاقي ... لكنتُ أموتُ من شوقي إليه
ومنه أيضًا:
لولا رجاءُ نعيمي في دياركمُ ... بالوصلِ ما كنتُ أهوى الدارَ والوطنا
إن المساكن لا تحلو لساكنها ... حتى يشاهدَ في أثنائها السكنا
1 / 52
إبراهيم بن أحمد بن ظافر
القاضي برهان الدين البرلسي، بضم الباء الموحدة والراء وتشديد اللام وبعدها سينٌ مهملة.
كان فقيهًا وبينَ أهلِ العلم وجيهًا، يُعين في قضاء القُضاة، ويُحبه كلّ من أهلَ مذهبه ويرضاه، وتجمّل به مذهب مالك، وتكمل به نور القمر في الليل الحالك.
وكان ناظرَ بيت المال بالقاهرة، ونجوم أموال النجوم به زاهرة، ولم يزل على حاله إلى أن لقي ربّه، ونوله ما أحبه.
ووفاته في شهر رمضان صفر سنة ثمانٍ وسبع مئة، وولي مكانه في نظر بيت المال القاضي نور الدين الزواوي نائب المالكي.
إبراهيم بن أحمد بن أبي الفتح بن محمود
القاضي الصدر شرف الدين ابن الشيخ العالم الكاتب كمال الدين ابن العطار.
كان قد باشر جهاتِ أخيه عندَ موته، وهي نظر الأشراف، ونظر البيمارستان
1 / 53
الصغير، ونظر المدرسة الظاهرية، وبقي على ذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى في تاسع الحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده بالكرك في الجفل سنة سبع مئة، وكان شكلًا حسنًا.
إبراهيم بن أحمد القاضي
الرئيس الكبير جمال الدين، رئيس الأطباء بالديار المصريّة، المعروف بابن المغربي، وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في مكانه.
لم يكن لأحدٍ مكانه عند السلطان الملك الناصر، ولا عُقدت على مثل سعادته الخناصر، يدخل إلى السلطان في كل يومٍ على الشمع، فيشتمل عليه بالبصر، ويصغي إليه بالسمع، ويحكي له ما جرى في بارحته عند الحريم، وما اتفق له مع آرامِ وجرة وغزلان الصريم، ويُفضي إليه بأسرارٍ لا يُودعُها سواه، ويقضي له كل ما وافق آفاق غرضه ولاءم ولائم هواه.
وكان فخر الدين ناظرُ الجيش يضيق منه ذرعُه، ويذوي من سُموم تعديه عليه زرعه.
وكانت إشاراته عند سائر أهل الدولة مقبولة، وطباعُهم على ما يراه من العزل والولاية مقبولة، وقل أن يكونَ يومُ خدمة وما عليه تشريف، ولا لهُ فيه أمرٌ في تجدد السعد ولا تصريف.
1 / 54
وحاول جماعة ممن هو قريب من السلطان إبعاده، وتعبَ كلّ منهم فما بلغه الله قصده ولا أتم له مراده:
إذا أنت أعُطيت السعادةَ لم تُبَل ... ولو نظرت شزرًا إليك القبائلَ
ولم يزل على حالهِ إلى أن حشرج، ولم يكن له من ذلك الضّيق مخرج، ووصل الخبرُ إلى دمشق بوفاته في أواخرِ ذي القعدةِ سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وكان مليحَ الوجهِ ظريف اللباس، متمكنًا من السلطان، أراد القاضي شرف الدين النشو أن يُنزله من عين السلطان بكل طريق فلم يتجه له فيه عمل، فعمل أوراقًا بما على الخاصَ من الدّيون من زمان من تقدمه وذكر فيه جملًا كثيرة باسم القاضي جمال الدين ابن المغربي، من ثمن رصاصٍ وبرّ وحرير وغيره، ودخل وقرأ الأوراق على السلطان، ليعلم أنّ له أموالًا متّسعة يتكسّب فيها ويتّجرُ على السلطان، وأعاد ذكر جمال الدين مرّات، فما زاد السلطانُ على أن قال: هذا القاضي جمالُ الدين، لا تؤخر له شيئًا أطلع الساعة وادفع له جميع مالهِ.
وكان قد توجه مع السلطان إلى الكرك، وأقام عنده يخدم حريمه، وحظاياه وخواصّه من مماليكه وجواريه في أمراضهم.
وكان يدخل إليه كلّ يوم على الشمع قبل كل ذي وظيفة راتبة من أرباب الأقلام، ويسأل عن مزاج السلطان وأحواله وأعراضه في ليلته، ثم في بقية أمراض
1 / 55