في ذلك العهد أزهر نشاط الأستاذ في الإصلاح الديني والعلمي والاجتماعي، ووصل الشيخ محمد عبده كما يقول قاسم بك أمين في تأبينه: «إلى مقام الإمام بأوسع معناه، مقام مكنه من أن يمسك بيده زمام أمة، ويحركها نحو الخطة التي رسمها، ويسوقها في طريق المستقبل الذي هيأه لها.»
وظل الأستاذ الإمام يجاهد في سبيل الإصلاح والرقي، غير منهزم أمام جمود الجامدين، وظلم الظالمين، وكيد الكائدين، حتى ذهب إلى ربه يوم 8 جمادى الأولى سنة 1323ه/11 يوليه سنة 1905م رحمه الله تعالى.
وقد كتب الشيخ محمد عبده بقلمه في ترجمته لنفسه، ملخصا سيرته وأعماله بقوله: «ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم باعثا على البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل، وكل هذا أعده أمرا واحدا، وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم.
وأما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كان ذلك في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشأ أو مترجما من لغات أخرى، أو في المراسلات بين الناس، وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب.
وهناك أمر آخر، كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه؛ وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت ممن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنا.
دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول والفعل.
جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس عبيد له وأي عبيد.
نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني كنت روح الدعوة، وهي لا تزال في كثير مما ذكرت قائمة.
ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة فقد تركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره؛ لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن، والله المستعان.»
وقد نعته أكثر الصحف العربية والإفرنجية وأفاضت القول في رثائه، واحتفل بتشييع جنازته رسميا في الإسكندرية والقاهرة، واشترك فيها ألوف من مختلف الطوائف والهيئات.
صفحة غير معروفة