الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية

كيليب إفريت ت. 1450 هجري
117

الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية

تصانيف

5

إن مثالي أرانب حذاء الثلوج البرية والزيزيات، يوضحان أن الكميات المنتظمة تظهر في سلوك الأنواع غير البشرية، ومنها الحشرات. غير أنهما يوضحان أيضا أن ظهور هذه الكميات المنتظمة، لا يستلزم أن تتمتع الحيوانات الأخرى بقدرات الإدراك العددي. وفي العديد من الحالات يمكننا أن نفترض أنها لا تتمتع بها، وذلك على سبيل المثال، بسبب المحدودية المتأصلة في الأنظمة العصبية للحشرات. على سبيل المثال، نحن نعرف أن بعض أنواع النمل لديها القدرة على التمييز الميكانيكي لعدد الخطوات التي قطعتها لكي تصل إلى مكان محدد، لكن ذلك الإدراك لا يشير بشكل مؤكد إلى أن النمل يستطيع استيعاب الكميات.

6

بالرغم من ذلك، فحين يمتد نقاشنا لكي يشمل كائنات أكثر تعقيدا مثل السمادل وأنواع متعددة من الأسماك، فإننا نجد أن العديد من الأنواع التي تقع على أغصان بعيدة من شجرة الحياة تتمتع بقدرات إدراكية لتمييز الفرق بين الكميات الكبيرة والصغيرة. غير أنه لا يتضح لنا في مثل هذه الحالات ما إذا كانت هذه القدرات الظاهرية في تقدير الكميات، تعود إلى بعض العوامل غير المحددة مثل الحجم الكبير أو الكثافة أو الحركة المرتبطة بالكميات الكبيرة. فلننظر في حالة السمادل؛ في إحدى الدراسات، خير الباحثون السمادل بين أنبوبين مملوءين بوجبة شهية، وهي ذباب الفاكهة، وبين ثلاثة أنابيب مملوءة أيضا بها، وتلقائيا، اختارت السمادل الاختيار الذي يحتوي على عدد أكبر من ذباب الفاكهة. بالرغم من ذلك، في دراسة أخرى، اكتشف الباحثون أن اختيار السمادل لوجبة شهية أخرى، وهي الصراصير الحية، كان يتوقف على كمية الحركة التي تقوم بها الحشرات التي يرونها. وعند الحد من هذه الحركة، بدا أن اختيار السمادل لكمية الصراصير التي يرونها، كان عشوائيا، أي إن السمادل تميز الكمية المتواصلة لشيء ما (الحركة الكلية) حين تقوم بمثل هذه الاختيارات، لكنها لا تميز الكميات الفردية، مثل 2 و3 وما إلى ذلك. لقد أوضحت الكثير من الدراسات التي أجريت في البرية أن أنواعا كثيرة يمكن أن تكون انطباعات عن الكمية الأكبر من شيء ما، غير أن الدراسات التي تجرى خارج المختبرات لا تستطيع التحكم في متغيرات هي ضرورية لفهم مقدار ما يعود من قدرة الحيوانات على إدراك كميات الحيوانات الأخرى، إلى القدرة على التمييز بين الأكثر أو الأقل من «الأشياء»، أو الحركة المستمرة، مقارنة بقدرة الحيوانات على التمييز بين الكميات على نحو منفصل.

7

إن الفئران، التي لا ننظر إليها عادة على أنها أحد أنواع الثدييات القريبة لنوعنا، تشترك في جزء كبير مع السلالة البشرية، وهي قادرة على تمييز الكميات. لقد ثبت هذا الأمر منذ أكثر من أربعة عقود الآن؛ ففي دراسة أجريت عام 1971، اكتشف الباحثون أنه يمكن تدريب الفئران على الأعداد التقريبية؛ فالفئران التي كانت تتلقى مكافأة على الضغط على ذراع رفع لعدد محدد من المرات، كانت تقترب من بلوغ هذا العدد بعد التمرين. فعلى سبيل المثال، عند مكافأة أحد الفئران بعد الضغط على ذراع الرفع لخمس مرات، وكانت تتوفر أمامه الفرصة لدفع الذراع بعد ذلك، فإنه كان يدفعه لخمس مرات تقريبا. وكلمة «تقريبا» هنا أساسية للغاية؛ فالفئران لا تتذكر أنه يجب عليها دفع الذراع لخمس مرات على وجه التحديد، لكنها تستطيع أن تتذكر أنه يجب عليها دفع الذراع حوالي خمس مرات. وفي مثل هذه الحالات، فسوف يكونون أقرب إلى دفع الذراع خمس مرات من دفعه ثماني مرات، على سبيل المثال. بالرغم من ذلك، فإن نطاق الأخطاء في عدد المرات التي يرفع فيها الفئران الذراع، يزداد مع زيادة الكمية المستهدفة. وبالرغم من أن استجابات الفئران في دراسة عام 1971، كانت فوضوية، فقد كانت تتوزع بصورة طبيعية حول الكمية التي دربوا عليها. وهذه الاستجابات ذات الصوت المزعج، والصحيحة في معظم الأحيان، تشير إلى أن الفئران كغيرها من العديد من الأنواع الأخرى، وكالبشر الذين لا يعرفون الأعداد؛ غير قادرة على التمييز بدقة بين الكميات؛ غير أنها قادرة على تحديد الكميات بصورة تقريبية، وحقيقة أن هذا النوع من الثدييات بعيدة الصلة بالبشر، يستطيع تمييز الكميات بصورة تقريبية، تقترح أن الحاسة العددية التقريبية لدى البشر كانت موجودة في سلفنا المشترك مع الفئران. وقد كان ذلك النوع موجودا قبل ستين مليون عام على الأقل.

8

بعض الأنواع الأبعد صلة بالبشر تتشارك معهم أيضا في القدرة على تحديد الكميات بصورة تقريبية، غير أنه ليس من الواضح في مثل هذه الحالات أن ذلك يعود إلى وراثتنا المشتركة للقدرات العددية الفطرية. ومعنى هذا أن الحيوانات الأخرى تتمتع بمهارات إدراكية «مماثلة» لا مهارات إدراكية «متناددة». والسمات المماثلة هي سمات مشابهة توجد على مستوى النوع؛ إذ تطورت بشكل مستقل للتغلب على تحديات بيئية متشابهة. وعلى العكس من ذلك، فالسمات المتناددة تشير للخصائص التي توجد في العديد من الأنواع لوجود أسلاف مشتركة بينها؛ على سبيل المثال، الأرجل الأربعة لدى الأسود والدببة سمة متناددة، أما أجنحة الفراشات، والوطاويط، والطيور، فهي سمات مماثلة.

بعض أنواع الطيور التي لا تجمعها بالبشر إلا صلة بعيدة، تتمتع بالقدرة على تقدير الكميات، غير أنه ليس من المؤكد مقدار ما يعود من هذه القدرة إلى العناصر الإدراكية المتناددة أو المماثلة، مقارنة بالبشر. ثمة قصص وأساطير عن طيور تستطيع العد بصورة دقيقة، لكن من الصعب أن نلغي تأثير العناصر الملفقة في مثل هذه الحكايات. علاوة على ذلك، فالعديد من البشر الذين يمتلكون طيورا أليفة، مقتنعون بأن هذه الطيور (أو غيرها من الحيوانات الأليفة على أي حال) تتمتع بقدرات رياضية. غير أن هذه الحكايات القصصية لا تدخل في نطاق نقاشنا هنا؛ وذلك بسبب عوامل كتأثير هانز الذكي، ونزعتنا إلى إسقاط السمات البشرية على الحالة العاطفية والحالة الإدراكية لحيواناتنا الأليفة، دون سبب مقنع. بالرغم من ذلك، ومع تنحية مثل هذه الحكايات جانبا، فإن لدينا أدلة تجريبية قوية توضح أن العديد من غير الرئيسات، ومنها الطيور والفئران، تستطيع تحديد الكميات على نحو تقريبي. غير أنه حتى في التجارب التي تجرى على حيوانات ذكية نسبيا (مقارنة بالسمادل على سبيل المثال)، فمن الصعب أن نضبط جميع العوامل المتغيرة لكي نضمن أن مهارة التقريب التي نكشف عنها لها طبيعة كمية بالفعل.

فلننظر في هذا المثال؛ حين قدم الباحثون إلى إناث الأسد في متنزه سيرينجيتي تسجيلا صوتيا لأنثى أسد أخرى تزأر، اقتربت الإناث في الغالب من مصدر الصوت لكي تدرأ الدخيلة المزيفة. وعلى العكس من ذلك، حين سمعت إناث الأسد تسجيلا لثلاث من إناث الأسد، لم تكن تقترب من مصدر الصوت في معظم الأحوال؛ فهل تستطيع إناث الأسد عد مصادر الزئير الذي تسمعه؟ ربما، ولكن من الصعب التأكد من مثل هذه المهمة؛ ربما كانت تحدد فقط السعة العامة للزئير، ربما لديها علاقة غامضة بين مقدار الزئير ومقدار الخطر، بدون التمييز بين كمية أي من المتغيرين بمصطلحات عددية مجردة. وبصرف النظر عن التفاصيل، فإن القدرات الإدراكية الحسية لدى إناث الأسد، تفيدهم في زيادة فرص البقاء؛ إذ تجنبهم المخاطر غير الضرورية، وهي تشير إلى أن إناث الأسود تستطيع تمييز عدد الأسود الأخرى التي تصدر ما تسمعه من زئير. وفي سياق مماثل ، فمن المعروف أن الحمام يستطيع دائما أن يختار الكمية الأكبر من الغذاء دون تدريب. وهذا الانحياز في الاختيار أيضا، يضفي مزايا واضحة على فرص بقاء الحيوان وتكاثره؛ فتجنب الخطر أو اختيار غذاء يحتوي على عدد أكبر من السعرات الحرارية، أو تقدير الكميات، كل ذلك يساعد الحيوانات على التفوق في بيئاتها المختلفة.

صفحة غير معروفة