وسيكون من أبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف، يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي «بيجو» الذي فقدناه هناك.
وإني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوا من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل، وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. فكم من مبجل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا، وكم من محقر بينهم، ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار.
وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الجديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين. فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أياما في القاهرة، وأياما في الأسكندرية من كل أسبوع، ولم أصطحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الرحلة الثانية ، ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف؛ اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة، وأن أعود إليه كل أسبوع، ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها؛ لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في المرحلة الثانية، وزاده إصرارا على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد طاهينا القديم، الذي يعرفه قراء كتابي «في عالم السدود والقيود».
والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يكثر الصلاة والوضوء، ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار. وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى، فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا «يا شيخ أحمد»، فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد.
فلما استحال التوفيق بينهما، واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين في الذهاب والإياب، وأصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له يتألف منها تاريخ وجيز، ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم، الذي كان فاشيا فيها، واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكانا أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه.
وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي، وخدش يكاد لا يبين. ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعا في ركنه يرفع إلي رأسه بجهد ثقيل، وينظر إلي نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار، أحس المسكين وطأة الموت، فتحامل على نفسه وخطا من حجرته، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته، وفتحت له وهو لا يزيد على النظر والسكوت.
كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة لوجوده حتى وجد، وشاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة؛ ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به، وعطف عليه لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته. ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصحبها أكثر من سنتين.
سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى وسيزول منها ما يزول، ولكني لا أحسبني ناسيا ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل، يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذرا كافيا لإقلاق صديقه.
ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا ينسى، فإن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظا من الخلائق الإنسانية؛ لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيدا من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب ...» •••
هذه كلمة من مقال نشر بمجلة الرسالة الغراء (3 أكتوبر سنة 1938)، وفيها ما يصلح أن يكون مقدمة للقصيدة التالية. ولكنها مقدمة تفتقر إلى تتمة من مقال آخر نشر في الرسالة أيضا بعنوان «كلبي بيجو» قبل ذلك بنحو عام، وهذا هو المقال: ... أنا أكتب هذا المقال عن «بيجو»، وهو ينظر إلي ثم يذهب ويعود ليطل مرة أخرى، ولا يدري أنني أكتب عنه وأشيد بذكره. وكل ما يدريه أنني جالس في هذا المكان الملعون الذي يحب كل مكان في البيت غيره، وهو كرسي المكتب.
صفحة غير معروفة