وعند ذلك صاح الصحافي قائلا: لقد أحسنت يا باكيتا، فإنك تقصين علينا أحسن القصص.
قالت: إن خير القصص ما كان حقيقة كهذه الرواية، ثم عادت إلى إتمام حديثها، فقالت: وما زلنا نسير حتى تجاوزنا منزل أبيه فسكن رعبه، وعدت إلى محادثته فقلت له: لماذا لقبك أهل القرية بالمنحوس؟
قال: لأني منكود الطالع منذ خلقت، فقد ماتت أمي وأنا لا أزال طفلا، وأبي يضربني في كل حين، وما تسلقت شجرة إلا وسقطت عنها، وما وثبت من فوق حفرة إلا وقعت فيها؛ مع أني أمهر أترابي في الوثوب، ولكني منكود الطالع - كما قلت لك - وكل ذلك بسبب «صاحب الكلب الأسود.»
قلت: من هو صاحب الكلب الأسود؟
قال: هو رجل رآني يوم مولدي، فكتب لي الشقاء في هذه الدنيا، وهذا الذي يقوله أبي حين يكون غاضبا، وكذلك أهل القرية، فلا حديث لهم إلا عن صاحب الكلب الأسود.
وقد لبث الغلام يحدثني بهذه الأحاديث البسيطة إلى أن وصلنا إلى منزل خولي المزرعة، فأحسن الرجل استقبالنا، وأعد لنا فرشا من القش وذبح لنا أوزة، وبعد الطعام أخذنا نتحدث عن الغلام.
فتنهد الخولي مظهرا تأسفه عليه، وقال: من أعظم مصائب هذا المنحوس أن أباه لا يحبه، ولو لم يلجأ إلينا لما بقي إلى الآن في قيد الحياة. قلنا: لماذا؟
قال: إن لهذا الرجل حكاية غريبة لا تحتمل التصديق، ولكنه مختل العقل بدليل أنه أقام في مستشفى الأمراض العقلية مدة عامين، فلما خرج منه كان صوابه قد رجع إليه، ولكن نوبات الجنون كانت تعاوده أيضا، ومع ذلك فقد لبث هادئا ساكتا إلى أن ماتت امرأته، وكان اسمها مادلين، فظهر كرهه لولده، وجعل يقول: إنه ليس بولده بل هو ابن الكونت، فذهلنا لما سمعناه وقلنا: كيف ذلك؟
قال: إن حنا - والد هذا الغلام - وامرأته مادلين كانا بستانيين في حديقة الكونت، وقد ولدت الكونتيس ومادلين غلامين في يوم واحد، ففي ليلة العماد مات ابن الكونت، فاشتد وقع ذلك على حنا، وفي الليلة التالية احترق قصر الكونت، فأصيب حنا على أثر هذه الحوادث بالجنون، ونقل إلى المستشفى، وبعد أن خرج منه جعل يروي حكاية غريبة محصلها أن ابن الكونت لا يزال حيا، وأن ولده هو الذي مات، فاستبدله بولد الكونت الحي؛ كي لا يقتل الحزن زوجته مادلين. ولم يثق أحد بهذه الرواية بالطبع؛ لأن الرجل كان مجنونا ...
وكان الكونت قد باع قصره والأرض الملحقة به بعد نكبته، وسافر إلى باريس. فاشتدت نكبة حنا وامرأته؛ إذ لم يعد لهما عمل يرتزقان منه، ومرضت مادلين مرضا مبرحا أفضى إلى موتها، فبدأ كره حنا لولده من ذلك اليوم لاعتقاده أنه سبب كل مصائبه، وجعل يضربه دون رحمة كلما التقى به، إلى أن هرب يوما من عنده ولجأ إلينا فآويناه، ومع ذلك فهو يصاب كل يوم بأشد ما يصاب به الإحداث حتى لقبه الناس بالسيئ البخت، مع أنه يدعى ضد لقبه أي «فليكس» ومعناه «السعيد».
صفحة غير معروفة