وقال رئيسهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري، وهو ثقة عند القوم لصلاحه وزهده: «لو لم أجد إلا بني هؤلاء - وكان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم. وقد أعطاني وما قبلت عطاءه إلا لأتقوى به.»
والتهبت نار الثورة بالألم المكظوم والدعوة الموصولة، فأخرج المدنيون والي يزيد وجميع من بالمدينة من الأمويين ومواليهم وأعلنوا خلعهم للبيعة.
وصدق ابن حنظلة النية، فكان يقدم بنيه واحدا بعد واحد حتى قتلوا جميعا، وقتل بعدهم أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد وولاته.
وبدا في ثورة المدينة أن يزيد لم يستفد كثيرا ولا قليلا من عبرة كربلاء؛ لأنه سلط على أهلها رجلا لا يقل في لؤمه وغله وسوء دخلته، وولعه بالشر والتعذيب، وعبثه بالتقتيل والتمثيل، عن عبيد الله بن زياد، وهو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام إن لم يبادروا إلى طاعته، وكان شرطه الذي سامهم إياه بعد اقتحام المدينة وانقضاء الأيام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم «أنهم يبايعون أمير المؤمنين على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء».
وإذا كان شيء أثقل على النفوس من هذا الشرط، وأقبح في الظلم من استباحة الأرواح والأعراض في جوار قبر النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور على الغل والضغينة مثل مسلم بن عقبة، كأنه يلقي على الناس وزر مرض النفس ومرض الجسد ومرض الدم الذي أبلاه، ولم يبل ما في طويته من رجس ومكيدة. «فاستعرض أهل المدينة بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم، حتى ساخت الأقدام في الدم وقتل أبناء المهاجرين والأنصار».
وأوقع كما قال ابن كثير: «من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف» ولم يكفه أن يسفك الدماء ويهتك الأعراض حتى يلتذ بإثارة الآمال والمخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم على السيف، فلما جاءوه بمعقل بن سنان صاحب رسول الله هش له وتلقاه بما يطمعه، ثم سأله: «أعطشت يا معقل؟ حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين.» فلما شربها قال له: «أما والله لا تبولها من مثانتك أبدا.» وأمر بضرب عنقه.
ويروي ابن قتيبة أن عدد من قتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه ألف وسبعمائة، وسائرهم من الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.
وحادث واحد من حوادث التمثيل والاستباحة يدل على سائر الحوادث من أمثاله، دخل رجل من جند مسلم بن عقبة على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبي لها. فقال: «هل من مال؟»
قالت: «لا، والله ما تركوا لنا شيئا.»
صفحة غير معروفة