فابتسمت الماشطة وقالت: «جعل الله كل أيامك راحة وسعادة.» ثم نهضت وهي تقول: «وأنا أيضا أحسست بنفس الشعور، وأظن أن السبب واحد؛ وهو هبوب الرياح وتوقع المطر؛ فإني كثيرا ما أكون منقبضة النفس مغمومة، فإذا أمطرت السماء انبسطت نفسي وذهب عني الغم.» ثم وقفت هنيهة تجاه المرآة لغير غرض مقصود، ثم تحولت بغتة إلى سيدتها وهي تقول: «ولكن لسرورنا سبب آخر. هل أقوله؟»
قالت: «قولي.»
قالت وهي تضحك: «لأن الزوابع يعقبها المطر الشديد، وإذا اشتدت الأمطار كثرت الأوحال وسدت الطرق، فيتأخر ضيوفنا عن السفر يوما أو بضعة أيام. وبقية الحديث عندك.»
فابتسمت جلنار بعد أن طال انقباضها وقلقها، وهمت بالكلام فسمعت ضحكة غلبت قهقهتها على صفير الرياح، فعلمت أنه الضحاك، ولكنها لم تكن تتوقع أن يجعل لقدومه قرقعة وضوضاء وهم في حال تدعو إلى التكتم، فنظرت إلى ريحانة فرأتها في مثل حيرتها وهي تقول: «صدقت يا مولاتي. يبدو أنه أبله حقيقة.»
ولبثتا بعد تلك الضحكة تتوقعان وصوله، فإذا هو يقول بصوت عال: «صدقت يا مولاي الدهقان، إن الطقس قد تغير، ولا يلبث المطر أن يتساقط؛ لأن مطر الربيع قد يكون جارفا، وأنا لا أستطيع النوم في مثل هذه الليلة.» وضحك، فلما سمعتا ذلك علمتا أن الدهقان لا يزال ساهرا، فخشيت ريحانة أن يشعر بهما، فتقدمت إلى السراج وغطته بحيث لا يبدو نوره من شقوق الباب للخارج. فلما فعلت ذلك سمعتا ضحكة أخرى أبعد من تلك وقائل يقول: «ألم أقل لمولاي أن ما ظنه نورا خارجا من الغرف إنما هو من أثر البرق؛ إذ ليس في هذا القصر ساهر سوى مولاي وأنا. أما أنا فإني ذاهب إلى مخدعي بعد أن أكون في خدمة مولاي حتى يدخل فراشه؛ لأن سائر الخدم نيام، وإذا أحب أن أؤنسه بقية هذا الليل فعلت.»
فخفق قلب جلنار عند سماعها ذلك؛ لأنها أدركت منه أن والدها أساء الظن بريحانة، وبحث عن سبب النور الخارج من غرفتها، واستحسنت أسلوب الضحاك في إنقاذها من ذلك الخطر، على أنهما مكثتا صامتتين لا تتحركان، وتكادان تمسكان عن التنفس التماسا للإصغاء. فلما مضت مدة ولم تسمعا فيها صوتا أيقنتا أن الدهقان ذهب إلى فراشه، ولا يلبث الضحاك أن يعود إليهما، فأخذت جلنار تتأهب لسماع صورة الحكم على عواطفها؛ فإما إلى النعيم، وإما إلى الجحيم. ولم تكن تتوقع الإحساس بمجئ الضحاك أو سماع خطواته قبل وصوله للباب؛ لتعاظم هبوب الرياح، وحفيف الشجر، وقصف الرعد.
الفصل الرابع عشر
إبلاغ الرسالة
ولبثتا صامتتين كأن على رأسيهما الطير، حتى سمعتا قرع الباب قرعا خفيفا، فأجفلتا وأسرعت ريحانة إلى فتحه، فإذا بالضحاك يدخل مسرعا وهو في ذلك القباء المقلوب، وعمامته مشوهة، ونعلاه في منطقته، وشعر لحيته منتفش، وهيئته في غاية الغرابة. فلما وجد جلنار هناك أجفل وتأدب، وقام بإصلاح شعره، وتسوية عمامته، وهو يضحك بلا قهقهة، وأخرج النعلين من منطقته فوضعهما بالباب، ووقف متأدبا كأنه مارد لطوله. فابتسمت جلنار من منظره وحركاته، فقال لها: «اعذريني يا مولاتي على هذا المنظر؛ فإني لم أكن أحسبك هنا. والحق على هذه الملعونة.» وأشار بإحدى يديه إلى ريحانة، وباليد الأخرى إلى عمامته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك لأسلوبه في التخلص من غضب ريحانة. وأما ريحانة فغالطته وقالت: «إن الدهقانة مسرورة من همتك ونشاطك.»
فقطع كلامها بصوت منخفض وقال: «وطبعا أنت زعلانة؛ لأن العريس ليس لك.»
صفحة غير معروفة