فقال خالد: «إن البسالة والقوة لا يكفيان للقيام بهذا العمل، يا حضرة الدهقان.»
فأدرك الدهقان أنه يلمح إلى المال فقال: «على كل منا أن يقدم مما عنده، وكما أننا لم نقصر في الماضي والدعوة لا تزال سرية، فلا تظننا نبخل الآن بشيء.»
فعاد أبو مسلم لإتمام حديثه فقال: «فجئت إلى خراسان وقمنا بالدعوة سرا، كما تعلم، وأنا أختلف إلى الإمام أحمل إليه ما يجتمع عندنا من المال وأتلقى أوامره، فلما كان هذا العام بعث يستقدمني إليه، فسرت ومعي النقباء الذين ذكرتهم، فاشتبه الحكام في أمرنا أثناء الطريق، فكنا إذا سألونا عن مقصدنا قلنا إلى الحج. ولما بلغنا قومس أتاني كتاب الإمام باسمي واسم سليمان بن كثير؛ وهو من كبار النقباء، ومع الكتاب راية النصر (وأشار إلى الحزمة المطروحة أمام القصر) وقد قال لي في ذلك الكتاب (وأخرج الكتاب من جيبه وقرأ): «قد بعثت إليك براية النصر ؛ فارجع من حيث لقيك كتابي وأظهر الدعوة؛ فإن الله ناصركم».»
الفصل الثامن
الظل والسحاب
فلما أشار أبو مسلم إلى الحزمة توجهت عينا الدهقان إليها، فأدرك أبو مسلم أنه يريد رؤيتها، فنادى الرجلين اللذين كانا يحملانها فأسرعا إليها وحملاها، فلم تسعها القاعة لطولها، فأدخلوها من أحد طرفيها، وظل الطرف الآخر خارجا، وكانت ملفوفة بقماش أسود ففكاه وأخرجا منه لواء أسود وراية سوداء. واللواء معقود على رمح طوله 14 ذراعا، والراية على رمح طوله 13 ذراعا، فوقف أبو مسلم احتراما للواء وقال: «إن هذا اللواء يسمى الظل، والراية تسمى السحاب، ولونهما أسود. واللون الأسود هو الشعار الذي اختاره الإمام إبراهيم لشيعته، فهم من اليوم يلبسون العمائم السود، والأقبية السوداء، وراياتهم أيضا سوداء، كما ترى.»
وكان الدهقان قد وقف حالما رأى أبا مسلم واقفا، ووقف خالد أيضا، فهمت جلنار بالوقوف فلم تساعدها ركبتاها لما غلب عليها من التأثر بعد ما شهدت من أبي مسلم وما سمعت، وأنه قائد هذا الجند، فأصبح همها الاطلاع على مكنونات قلبه من جهتها؛ لعله ينتبه لها فيرمقها بنظرة تفهم منها شيئا فيطمئن بالها، فوقفت وهي تستند إلى أحد الأعمدة، وتصدرت قليلا حتى انتبه لها خالد، فنظر إلى وجهها نظرة الإعجاب والدهشة. أما أبو مسلم فبالغ في التجاهل والإغضاء حتى كأنه لا يرى شيئا.
ولما فرغ أبو مسلم من كلامه قال الدهقان: «وما المراد باختيار السواد شعارا لبني العباس؟ ألعلهم أرادوا الإشارة إلى الحداد على قتل أهل البيت العلويين، ومنهم علي والحسين وغيرهما أم ماذا؟»
فجلس أبو مسلم وهو يشير إلى الرجلين أن يعيدا الحزمة كما كانت، وجلس خالد والدهقان، وظلت جلنار واقفة، ثم قال أبو مسلم: «إن السواد شعار أهل بيت النبي؛ لأن راية النبي كانت سوداء؛ وهي راية العقاب.»
أما الدهقان فقد وقر في نفسه ما علمه من أمر الشيعة، وخاف على نفسه من أبي مسلم إذا علم ما في ضميره، فيشك فيه، والإمام قد أوصاه إذا شك في أحد أن يقتله، فتظاهر بالتحمس وقال: «لقد أيقنت الآن بفوزكم وظهور الفرس، ولا بد من استنجاد سائر الدهاقين وترغيبهم في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزالون على المجوسية.»
صفحة غير معروفة