لم يكن في ذلك العصر معاهد علمية تمنح من الدرجات العلمية ما تمنح معاهد اليوم، وإنما كانت هناك المساجد وحلقات الدروس فيها، وكل حلقة يتصدرها أحد الشيوخ ويختلف من يحضرونها قلة وكثرة بحسب منزلة صاحب الحلقة.
إلا أن ما للعلم من جلالة، وما لمجلس التعليم من هيبة، يقتضينا القول بأن الأمر لم يكن متروكا بلا ضابط أو تقاليد؛ بل لعل نظام «الإجازة» يعطيها الشيخ لمن يراه أهلا لها، هذا النظام الذي كان معروفا في الأزهر - وأمثاله من المعاهد العلمية - قبل أن يعرف نظام الامتحانات والدرجات العلمية التي تمنح حسب نتائج هذا الامتحان، قد عرف في ذلك العصر بصورة عملية.
وهذا أبو حنيفة نفسه نراه يلازم حماد بن أبي سليمان طويلا، ثم يتشوق للرياسة في حياة شيخه؛ ولكنه وجد نفسه بعد الاختبار ليس بهذه المنزلة، فعزم ألا يفارق شيخه حتى يموت، وكان ذلك فعلا.
17
ويذكر حماد بن سلمة أن حماد بن أبي سليمان كان مفتي الكوفة والمنظور إليه في الفقه بعد موت إبراهيم النخعي، وكان الناس به أغنياء، فلما مات خاف أصحابه أن يموت ذكره، ويندرس العلم، وكان له ابن حسن المعرفة، فأجمعوا عليه وصاروا يختلفون إليه، إلا أنه لم يصبر على القعود لهم؛ لأن الغالب عليه كان النحو وكلام العرب.
فسألوا أخيرا أبا حنيفة فجلس لهم وصاروا يختلفون إليه، ثم صار يختلف إليه من بعدهم آخرون، منهم أبو يوسف وزفر بن الهذيل، فلم يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه الأمراء وذكره الخلفاء.
18
ومن بعد أبي حنيفة نجد مالك بن أنس يقول: بعث إلي الأمير في الحداثة أن أحضر المجلس، فتأخرت حتى راح ربيعة (هو ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن فروخ المديني، وكان من شيوخ مالك) فأعلمته وقلت: لم أحضر حتى أستشيرك، فقال لي ربيعة: نعم، فقيل له: لو لم يقل لك احضر لم تحضر؟ قال: لم أحضر، ثم قال: لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس لها أهلا.
19
وبعد ذلك ينقل صاحب الديباج المذهب أن «مالكا» قال: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للأحاديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلا لذلك جلس. وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني أهل لذلك.
صفحة غير معروفة