لا نعني بلغة الخطيب التي ينقل بها أفكاره إلى أذهان سامعيه مجرد ما يفوه به من الألفاظ والعبارات - وهذه أحقر وسائل تأديته، وأيسر وسائط إبلاغه - وإنما نعني ذلك التيار الروحاني المنبعث من ينبوع نفسه، والسيال الكهرباء المنبث من جهاز أعصابه، وكما أن القائد العظيم يحرز النصر لا بكثرة الوقائع والملاحم ولكن بفضل ما يدبره من الحيل والمناورات فكذلك الخطابة والمناظرة هي حرب أفكار وأرواح؛ فالألفاظ المنطوقة هي أضعف عناصر الخطبة وأقل أجزائها، وإنما الأساسي الجوهري الذي عليه المعتمد والمعول هو موقف الخطيب وما تنم عنه هيئته وصوته ونغمته وحركاته وشمائله من قوة رجولته وسمو همته، ومن أنه يحمل بين جنبيه روحا أجل وأعظم من روح المخاطب.
هكذا شأن فحول الرجال الذين يصولون في ميادين الخطابة والمناظرة بقوة شخصيتهم الهائلة، ويسيطرون على النفوس بسلطان الروح النافذة الباهرة، والطبيعة الغلابة القاهرة، وبهذه وتلك يحرزون الظفر وينالون الغنيمة، وقد روي عن روبسبيير - أحد الثلاثة الزعماء المعروفين في عهد الثورة الفرنسية - أن سامعي خطبه من الجماهير والجماعات كانوا لا يكادون يفهمون كلماته ولكنهم - كانوا على الرغم من ذلك يفهمون في خطبه الرنانة ما هو أعظم وأخطر من ألفاظها وعباراتها - كانوا يفهمون ما أودعت تلك الألفاظ من حرارة الوجدان ونارية الشعور والعاطفة، وكانت عدوى هذه الحرارة والنارية تنتقل إليهم وتسري في أعصابهم وتشيع في جوانحهم، وهل يريد الخطيب نتيجة أعظم من هذه أو أثرا أشد وأبلغ؟
مثل هذا النوع من الكلام والخطابة - وإن كان أثره الفعال مضمونا محتوما - قد يكون من الزور والباطل، وقد أريد به التمويه والتضليل، واتخذ سبيلا إلى الفساد ومطية إلى الشرور والرذائل. نقول: قد ينجح مثل هذا الكلام الخلاب المؤثر في النفوس بسلطان شخصية باهرة لكنها غير مخلصة، ولكن نجاحه لا يكون إلا مؤقتا؛ لأن الأكاذيب والأباطيل هي - كما قلنا غير مرة - رهينة بالزوال والفناء قد كتب لها الموت، وصدر عليها حكم الإعدام في محكمة الأزل مهما طال عمرها وتراخت مدتها. فأنت إذا بنيت خطابتك على أساس من الباطل، وكانت مقدمة قياسك المنطقي أكذوبة، فمهما استعملت بعد ذلك من خلابة اللسان وسحر البيان، ومهما أثرت في سامعيك بحرارة العاطفة ونارية الوجدان، وبهرتهم بقوة الروح القاهرة وغلبة الشخصية الباهرة، فإنك لن تصنع شيئا، ولن تحدث في عالم الحقيقة أثرا، وتكون إنما انتهيت من حيث ابتدأت، وما كان امرؤ قط ليستطيع بأكمل عدد الفصاحة، وأمضى سلاح البلاغة أن يرفع إلى ذروة الحق من فنون الباطل ما تراه يهبط بطبيعته إلى الوهدة ويهوي إلى الحضيض.
أما الفوز الدائم والنجاح النهائي فذلك نصيب البارعين المخلصين، والحاذقين الصادقين - أمثال الرئيس الجليل - ممن جمعوا بين رجاحة العقل ونزاهة النفس، بين حدة الذكاء وشدة الغيرة والتضحية، بين الملكات الذهنية والفضائل النفسانية، بين سمو الفكر والروح معا وصفاء الذهن والقلب جميعا.
لقد بلغ ثروت في براعة الخطابة والبيان منزلة أصبح معها مليئا أن يقتاد أعنة قلوب سامعيه فتذعن إليه وتعنو، فهو المسيطر على نفوسهم المتحكم في عواطفهم ووجداناتهم، وقدما قيل: ليس الأمير من لبس التاج وجلس على الأريكة، إنما الأمير من عرف كيف يحكم النفوس ويسيطر على الأفئدة، وكأني بالرئيس الجليل يستطيع بحدة ذكائه أن ينفذ إلى أعماق القلوب عليما بذات الصدور، مطلعا على مكنوناتها، طبا بأدواء النفوس خبيرا بأمراضها وعللها، قديرا أن يداوي هذه العلل والأدواء بخلابة القول، لديه - لكل جرح بلسم من فتنة اللفظ، ولكل كلم مرهم من روائع الكلم - فنون شتى من البيان تعالج بها فنون شتى من آلام النفس والجنان، ولا عجب فلقد يؤثر عن «أنتيفون» اليوناني - أحد الخطباء العشرة الذين روى «بلوتارك» أنهم أقطاب الخطابة في العالم - أنه نشر في أتينا إعلانا عن نفسه قال فيه: «إني مستعد لتطبيب أمراض الذهن بالكلام، ومداواة علل النفس بالألفاظ.» وليس ذلك بمستحيل، وقوة سلطان الكلام معروفة مجربة في كل زمان ومكان منذ كان الإنسان، وآثار الألفاظ في التسلط على الأمزجة والعواطف والإحساسات، وفي العقائد والأفكار والمذاهب وتكييفها وتشكيلها حسب أميال المتكلم، وفي قلب كيان الأذهان والنفوس في الأفراد والجماعات، بل قلب كيان الدول والممالك، تعد من قبيل الخوارق والمعجزات، وهل ترى - أصلحك الله - ما يسمونه الرقى والتعاويذ والنفث في العقد - الذي نزلت فيه آية الكتاب الحكيم إذ يقول جل شأنه:
ومن شر النفاثات في العقد - وغير ذلك من ضروب السحر وفنونه، شيئا سوى الألفاظ والكلمات؟ وهل رأيت رجلا بلغ من النعيم أقصاه، ومن الصفاء والرغد منتهاه، فوثق بالحظ وأمن من طوارق الحدثان، وأخذ على القدر الميثاق ومن الدهر الأمان، إلا كان في استطاعتك - إن كنت ممن أوتي سحر البيان - أن تبدد ثقته وتذهب طمأنينته، وتورثه القلق والإشفاق باللفظة تنبذها في سمعه، والكلمة تلقيها في روعه؟ أفلم يرو لنا التاريخ أمثال هذه الحال عما كان يحدث بين الملوك ووعاظهم من العباد والنساك، إذ كان يطلع الناسك على الملك العظيم وهو منغمس في غمار اللذات والملاهي فيرميه بالكلمة من الوعظ فإذا هو قد أفاق من غمرته، وهب من رقدته، ثم أطرق فاعتبر، وارعوى فازدجر؟ ألم نقرأ أمثال هذه الأخبار عن كسرى والسائح، وعن النعمان وعدي بن زيد، وعن المنصور وخالد بن صفوان؟ وعلى العكس من هذه الحال، أي كارثة عظيمة أو فاجعة أليمة تنوب الفتى فلا يكون في مقدرة المنطق الخلاب أن يشرع في تسكين حدتها وتلطيف سورتها. وقد عرف أفلاطون البلاغة بأنها «فن سياسة العقول، وتدبير حركات النفوس.» أليس في استطاعة البلاغة أن تغير في ظرف سويعات ما شيدته الحقب والأجيال من العادات والأخلاق والعقائد؟
وكذلك قد يبلغ من سيطرة الخطيب العظيم - مثل ثروت باشا - أن يصبح جمهور السامعين بين يديه كالآلة الموسيقية بين يدي المطرب البارع - فهو يعزف على أوتار القلوب كما يعزف المطرب على أوتار آلته، ويستثير من أفانين الإحساسات والعواطف من جمهوره أمثال ما يستثيره المطرب من أفانين الأصوات والألحان من معزفه - فتارة يسكن ثائرة غضبهم ويطفئ نيران وجدهم ويرد شارد حلمهم وعازب رشدهم بتهدئة خواطرهم وطمأنة قلوبهم، وأخرى يهيج حميتهم ويجرد عزيمتهم وهمتهم، يبكيهم آنا وآنا يضحكهم، إذا شاء لوى بالطرب أعناقهم وشق بالفكاهة أشداقهم، وإن شاء استذاب بالعظات عبراتهم واستثار بالحكم والأمثال زفراتهم، وكذلك تراه يستولي على قلوبهم، ويستحوذ على شعورهم، ويتملك إرادتهم ومشيئتهم فتكون طوع بنانه، ورهن إشارته فمهما أمرهم به يأتمرون، ومهما كلفهم يتحملون ويتجشمون، ولو كان اقتحام النار وخوض اللجج والغمار. أو لم يأتك نبأ بونابرت حينما ترك منفاه في جزيرة «ألبا» قافلا إلى باريز حتى إذ نزل أرض فرنسا، وسار يؤم العاصمة في نفر قليل من محبيه وبطانته، لقيتهم جيوش عدوه لويز الثامن عشر الذي كان قد تبوأ الأريكة الفرنسية بعد اعتزال نابليون، فما هو إلا أن رأت تلك الجيوش الجرارة شخص بونابارت وسمعوا صوته حتى خضعوا له وأذعنوا، وحيوه تحية الإكبار والإجلال يدعونه إمبراطورهم ومالك رقابهم وأرواحهم، ثم انضموا إليه وانضووا تحت لوائه وساروا في قيادته يؤمون باريز، وإذ ذاك بهت لويز الثامن عشر وزلزل به وسقط في يديه وفر من وجه نابليون «يحتث أنجى مطاياه من الهرب»؟
مثل هذه السيطرة الخطابية والتسلط بقوة البيان على أرواح الأفراد والجماعات - شبيهة بما يؤثر عن سلطان الموسيقى وتأثير النغمات وتحكمها في شعور سامعيها وفي عواطفهم وإراداتهم - كالذي يروى عن «أورفيوس» وداود وغيرهما من نوابغ الموسيقيين أنهم كانوا يجتذبون إليهم بقوة عجيبة من قبيل قوة الجاذبية الطبعية جميع الكائنات ما بين حي وجماد من إنسان وحيوان داجن ووحشي، ومن سبع ضار وضيغم فراس وحشرة وهامة، ومن شجرة ونبات وصخرة وجلمود. أو كالذي يروى عن المطرب «ميودون» كيف لما حرك برخيم النغم أوتار مزهره في بعض المآتم استطاع أن يسحر عقول حملة النعش، ويفتن ألبابهم بقوة تأثيره حتى ذهلوا عما هم فيه وبعرضه من شعائر الجنازة، وانبروا يرقصون حول نعش الميت.
إن الخطيب البارع والمحدث الرائع لا يحتاج إلى جرس يلفت إليه الناس وينبههم إلى مكانه، ويشعرهم بنفاسة أقواله، كما أنه لا يحتاج إلى بوليس يقوم بمهمة توقيف الناس حوله وتثبيتهم ثمة بالقوة الجبرية ومنعهم من الانصراف قبل تمام الحديث أو الخطبة؛ ذلك لأن الحديث العذب والخطاب الشيق يجذب بطبيعته الخلائق ويحجزهم بلا واسطة تشويق أو ترغيب، وكأني بالوزير الجليل ثروت باشا - من ملك أعنة البيان وفقه أسرار الخلابة - إذا انبرى يتحدث أو يخطب استدرج الشيوخ من مجالسهم، والفتيان من ملاهيهم، والصبية من ملاعبهم، والمرضى من مضاجعهم، وأثبتهم حوله مغلولين بأوثق قيود من الفتنة والطرب فسلبهم أرجلهم حتى لا ينصرفون، وسلبهم ذاكرتهم حتى لا يتذكرون أهم أشغالهم وأقدس واجباتهم فتشغلهم عن كلماته وتلهيهم، وسلبهم عقائدهم حتى يكون إيمانهم بأقواله خالصا صريحا لا يشوبه رأي مخالف، ولا تعارضه أفكار منافية أو نظريات مضادة.
وقد حدثنا المؤرخ اليوناني العظيم «بلوتارك» قال: «لما سأل «أرخيداموس» ملك إسبرطة «ثيوسيد يدس» عن صراعه مع «بيريكليز»: أيهما كان أشد بأسا وأصعب مراسا وأقهر لخصمه وقرنه؟ قال «ثيوسيد يدس»: «إني كلما صرعت بيريكليز ووسدت جنبه الثرى أنكر ذلك وجادل فيه وتمارى، واستطاع بخلابة لسانه أن يحمل الناظرين والشهود على تصديق مزاعمه مروجا لديهم الزور ومحقا الباطل.» ولما سمع فيلب ملك مقدونيا وصف إحدى خطابات «ديموسطين» وقوة تأثيرها قال: «أما والآلهة لو كنت شاهده لاستطاع أن يحملني على إعلان الحرب ضد نفسي وتجريد السلاح لقتالها.» ولما قام الخطيب البريطاني «بيرك» في البرلمان الإنكليزي فألقى خطبته الطنانة في اتهام «ورين هتستن » حاكم الهند إذ ذاك قال ذلك المتهم مع اعتقاده براءة نفسه من التهمة: «لقد بلغ من فرط تأثري بكلمات «بيرك» أني لبثت أثناء خطبته أعتقد أنه ليس على وجه الأرض آثم أشنع مني جريمة وأفظع جناية.»
صفحة غير معروفة