إهداء الكتاب
مقدمة
1 - مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
2 - التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
3 - الحالة الحاضرة
4 - مناقب ثروت باشا
إهداء الكتاب
مقدمة
1 - مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
2 - التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
3 - الحالة الحاضرة
4 - مناقب ثروت باشا
أبطال مصر
أبطال مصر
تأليف
محمد السباعي
إهداء الكتاب
إلى مليكنا المفدى صاحب الجلالة أحمد فؤاد الأول، خلد الله ملكه وأدام سلطانه.
في عهدك الميمون استروحت مصر نسمات الحرية، وذاقت حلاوة الاستقلال، وفي ظل رعايتكم الظليل وفق رجال عاملون إلى خدمة قضية البلاد، وإنما بمددك وعونك وفقوا، وبحولك وقوتك اعتزموا وصمموا، وبهمتكم العالية خاضوا الغمار وساوروا الأخطار، وبعزيمتك الماضية ابتدروا في سبيل رفعة الأوطان غاية المجد والفخار. فإن كان لهم في ذلك فضل فمن معين مواهبك الغزيرة مغترفه ومستقاه، ومنك وإليك في كل حال مبتدؤه ومنتهاه.
فإليك يا مليك البلاد أتقدم بإهداء هذا الكتاب المضمن كلمات صدق وإخلاص عن أولئك الرجال أبطال دولتك، حاملي رايتك، ومنفذي مشيئتك، ولابسي مطارف فضلك ونعمتك.
وإني أضرع إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يصون دولتك، ويحوط سلطانك، ويبقيك لرعاياك المخلصين ذخرا عتيدا، وظلا مديدا، وروضا مريعا، وكهفا منيعا، وأن يقر عينك وعيون المصريين جميعا بولي عهدك المفدى الأمير فاروق كعبة آمالنا ومطمح أمانينا.
ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول وولي عهده الأمير فاروق ورجال دولته المخلصون.
عبدكم الخاضع
محمد السباعي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن عصور النهضات في كل أمة لا تزال مملوءة بعظائم الحوادث، مزدانة بعظماء الرجال، والحقيقة أن كل حركة أو نهضة تعتري الشعوب الساكنة المطمئنة فتحدث فيها تطورا أو انقلابا، إنما هي في الحقيقة نوع من الزلزال، فلا عجب إذا رأيت هيكل الأمة قد تفجر عما يستكن في جوفه من ملكات ومواهب وفضائل ومناقب، وتفتحت كنوزه فباحت بخفايا بدائعها وأبرزت خبايا ودائعها، وهنالك يقذف المنجم ياقوته وعقيانه، ويلفظ اللج لؤلؤه ومرجانه، وهنالك تظهر فحول الرجال وعظماء الأبطال.
أولئك الفحول والعظماء من جلة رجال الأمة، يبرزون على مسرح النهضة فيلعب كل دوره الذي أعدته له الفطرة والطبيعة، وهيأته لتمثيله الظروف والأحوال.
لكل رواية دورها المصيب المسمى في الاصطلاح التمثيلي أزمة الرواية أو «قمتها»، حيث يبلغ السيل الربى، ويصعد الترمومتر إلى درجة الغليان، ويجلس القدر على منصة الحكم، وينصب الميزان، وإذ ذاك تتشوف أبصار وتشرئب أعناق، وتخفق أفئدة، وتبهر أنفاس، ويلوي القلق والإشفاق أوتار القلوب، ويقوم الشعب بين الخوف والرجاء على سراط الشك المرهف الذليق، الأملس الزليق، المعلق فوق هاوية التلف والخسار، يؤمون لدى نهاية هذا السراط وادي السعادة والنعيم، مسترشدين في مأزق هذه الرحلة الخطرة المخوفة بكوكب الأمل الدائم الخفق واللمعان.
تلك هي حالنا بالدقة في دورنا الحالي الخطير، وإن كنا قد اجتزنا بعد من مناطق هذا السراط أشدها خطرا وأوعرها مسلكا، ودخلنا فيما نستطيع أن نجعله بفضل الحكمة والحزم منطقة سلامة وخطة نجاة.
وبديهي أن مثل هذا الدور العصيب من أدوار رواية الجهاد الوطني جدير أن يحرك بعظيم أحداثه من نفوس الكتاب ما لا تحركه العصور الخاوية الفارغة، وأن يثير من خواطرهم بما يبديه من مآثر الرجال، ومفاخر الأبطال ما ليس تثيره الأوقات الساكنة الوسنى بأشخاصها الصغار العاديين. أجل، إن عصر النهضة خليق بفضل حوادثه وأبطاله أن يهز جدران النفوس من أرسخ أساسها، ويثير لجج الأرواح من أعمق أعماقها حتى تفعم الأذهان من مزدحم الأفكار والعواطف بما يأبى إلا التدفق على أسلات الألسن والأقلام؛ لعجز أربابه عن حبس طوفانه في أوعية صدورهم، ودفن نيرانه في حنايا ضلوعهم.
وكذلك الكلمة الحارة هي كالدمعة الحارة إن نفثت أراحت وفرجت، وإن كتمت أمضت وأرمضت، فهي مدفونة في الجنان أخبث داء، ومنطلقة من اللسان أنجع دواء، ورب كلمة خزنت في الضمير فكانت منية صاحبها وآخرين، وكلمة لفظت فكانت حياة صاحبها ومنجاة ملايين.
فبديهي بعد ما تقدم أن أصبح - كغيري ممن تصدوا للكتابة عن عصور النهضات - يأبى ضميري إلا نفث ما يجول به ويزدحم من سوانح الفكر والخواطر عما يبدو لي من حوادث هذا العصر ومآثر رجاله وأبطاله.
وسأتوخى في كتابتي - إن شاء الله - وصف الواقع لا أقل ولا أكثر، ونعت الحقيقة جهد طاقتي، محاولا أن أكون في ذلك كالمرآة المنبسطة تعكس صورة الأشياء كما هي دون أدنى تحوير أو تبديل - ليس كالمرآة المحدبة أو المقعرة التي تعكس شبح الشيء مفرغا في قالبها المشوه - وأن أجعل من مخيلتي مجازا ومعبرا للحقائق ليس إلا، تدخل من أحد طرفيه وتخرج من الآخر ثابتة على حالها لم يخالطها مزاج ولم تشبها شائبة، متحاشيا أن أجعل من مفكرتي وعاء طيب وغالية تمر به الحقائق فتخرج مضمخة بذكي نشره وعاطر أريجه. ولكني سأجعل من يراعتي معزفا ترتل عليه الطبيعة ألحان الحقائق خالصة حرة صريحة، لم يتعرض لها ملحن الأنانية فيطبعها بألحان الأغراض ويوقعها على نبرات الحب والبغضاء والسخط والرضى.
والله أسأل أن يجيء هذا السفر غير خال من النفع والفائدة، وأن يجعله وسيلة هداية وإرشاد في ظل صاحب العرش الكريم المحفوف بالعناية والتأييد، جلالة ملك مصر والسودان فؤاد الأول، أدام الله ملكه وسلطانه، وأغدق على رعاياه المخلصين بره وإحسانه، وأرتعهم من جنانه الفسيح في أخصب واد وأطيب منتجع ومستراد، وأحلهم من ركنه الوطيد في أسمى ذروة وقمة، وأمنع ملاذ وعصمة، ما هبت نسمة ولاحت نجمة، والله سميع الدعاء.
محمد السباعي
الفصل الأول
مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
ليست حياة الأمة الناهضة الساعية إلى استقلالها بالحياة السهلة الهينة، ولا مسيرها إلى غايتها المجيدة بالنزهة الجميلة بين الحدائق والبساتين في سنا رونق الساعات الذهبية، وعلى شجا ترتيل النغمات الشهية، ولكنها حرب طاحنة ضروس، وجهاد شاق في أوعر المسالك وأضيق المآزق، ولا تزال مثل هذه الأمة تتنقل في تاريخ نهضتها من طور إلى طور، وتتحول عن دور إلى دور، وكل أدوارها وأطوارها صعب شديد وإن تفاوتت في درجة الشدة والصعوبة تبعا لتغير الظروف والأحوال، على أنها لا تلبث أن تصل يوما ما إلى ذلك الدور الذي يصح لنا بحق أن نسميه عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث يخيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص ولا مستروح ولا متنفس، وأن متن الرجاء قد انبتر ، وظهر السعي قد انبت وانحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وأن القلم الأعلى قد سجل حكم الشقاء على الأمة في صحيفة الأبد.
مثل هذه الأزمة العصيبة والساعة السوداء لم تكد تخلو منها سير الأمم الناهضة أثناء حركاتها الثورية، وقد أصيبت بها الحركة المصرية الحالية في أول ديسمبر سنة 1921 وذلك حينما رمتنا السياسة الإنكليزية بمشروع كرزن، ومذكرة اللورد النبي الإيضاحية التي شفع بها ذلك المشروع.
لقد كان لتلك المذكرة الإيضاحية أسوأ وقع في نفوس الشعب عامة، وآلم أثر في قلوبه، وأشد صدمة لآماله ومطامحه، وأدمى طعنة لعزته وكبريائه؛ ذلك أن الشعب المصري بعدما أتته دعوة المفاوضة من جانب الحكومة الإنكليزية في أجمل شكل وأحسن صيغة، مال إلى حسن الظن بتلك الحكومة، وقال في نفسه: «لا يبعد أن هذه الدولة الجبارة قد اهتدت أخيرا إلى أن أقصد السبل، وأنجع الوسائل إلى حل مشكلتنا وتسوية مسألتنا هي سياسة الصراحة والوضوح، والأخذ بمبدأ العدالة والحق بعد ما تبين لها فشل سياسة الختل والخديعة.» وبناء على ذلك فاوضت مصر إنكلترا على لسان وفدها الرسمي الذي كان يرأسه دولة الرئيس الخطير عدلي يكن باشا، فكيف كانت نتيجة المفاوضات؟ كيف كانت نتيجة ما ادعاه الإنكليز من سياسة الصداقة والوداد والمحابة والمصافاة والعمل على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه؟ كانت هذه النتيجة هي قطع المفاوضات من جانب وفدنا الرسمي بما شرفه وشرف الأمة جمعاء، وإعلان إنكلترا تلك المذكرة الإيضاحية المصرحة - بما لا يتفق مع ما ادعاه القوم من الميل إلى المسالمة والمصافاة، والنية على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه - من مظاهر الاستعباد الذي ليس دونه استعباد، وآيات الاستبداد الذي ليس وراءه استبداد. كانت نتيجة ذلك هي تلك المذكرة التي صورونا فيها بصورة شنيعة منكرة؛ تبريرا لما أعدوه لنا من أغلال الرق ونير العبودية، حتى قالوا إنهم يرون من واجباتهم حماية عرش سلطاننا، وحماية بعضنا من بعضنا كأنما الشعب المصري قد بلغ من همجيته وانحطاطه أنه صار عدو نفسه، وهي لعمري نقيصة يبرأ منها إلى الله أشد الأمم همجية وانحطاطا. كانت النتيجة أنهم لم يكتفوا بإعلان ذلك المشروع البغيض حتى كلفونا أن نرضاه ونقره بعدما علموا وعلم العالم أجمع رغباتنا ومطالبنا، واطلعوا على برنامج وفدنا. كانت النتيجة - وذلك أشنع فصولها وأنكر أركانها - أنهم أنذرونا وهددونا بتنفيذ مشروعهم على الكره منا، وعلى الرغم من أنوفنا بالقسر والقوة.
من أجل ذلك كله، نقول إن يوم 3 ديسمبر الذي أعلنت فيه هذه المذكرة الممقوتة كان أعصب يوم في تاريخ الحركة المصرية.
ما كان أكذب آمال الأمة المصرية يوم غرتها من مواعيد الإنكليز في الدعوة إلى المفاوضات لمحات السراب وبارقات الخلب! سحابات أبخرة الأباطيل تنقشها بأجمل الألوان كف الخديعة الخاتلة! ما أجملها في عين ناظر يشيمها بلحظ الغرور! وما أروحها لقلب ساع يهرع نحوها بسرعة الصب المفتون! وما أفرغها في النهاية! وما أخلاها من كل فائدة وطائل!
كيف خبت كواكب الأمل المشرقة، واكفهر وجه السماء، وأنذرتنا من جانب الأفق طوالع النحس؟ فهل كان الرجاء انقطع بتة؟ وهل ضاع الأمل آخر الأبد؟ كلا، إنما أرجئ الأمل وسوف الرجاء. لم يمح الأمل ولم يزل، وإنه وايم الله بطبيعته غير قابل للمحو والزوال، وهو العنصر الأبدي في طبيعة الإنسان، وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه، وهو ميراث الإنسان وذخيرته الوحيدة حين تسلب منه سائر الذخائر. أو لم يسم الفلاسفة والحكماء هذه الدار الفانية التي يسكنها الإنسان «دار الأمل»؟
ما أقسى تقلبات الصروف السياسية بهذه الأمة المصرية المجيدة! وكيف لا يزال مصباح الأمل يستدرجها على سنا شعاعه البراق في أوعار السياسية العسوف وفي صعابها وأوعاثها! وكيف لا يزل يومئ إليها أن تتتبع شبحه المتلون في تلك المجاهل والمعاسف، مشرقا عليها تارة بابتسامة العطف والتشجيع، وتارة متأججا متوهجا بلهيب النذير والتحذير؟! ولكنه باق أمام عينها في جميع الحالات، وعلى كل التقلبات، لا يخبو مصباحه، ولا يخمد لماحه - حتى في أشد حالات اليأس والقنوط. وما هو اليأس، وما معناه؟ وهل اليأس سوى نوع من الأمل؟ وهل كان فرط اليأس وغلواؤه إلا مقياسا لمبلغ ما فينا من قوة وحياة ومقياسا أيضا لمقدار حقنا في الأمل والرجاء؟ وهل ترى دخان اليأس مهما اشتد سواده إلا مصيبا يوما ما من روح الله، ومن همة الشعب جذوة صدق، وجمرة حق تشعله ضراما وهاجا يملأ الأرض والسماء بضيائه؟
لا خوف على الأمة المصرية الكريمة مما أصابها من شديد الحزن لأسوأ ما حل بها أثناء جهادها المجيد - أعني لتلك المذكرة الإيضاحية التي مست صميم كرامتها، وجرحت كبرياءها وعزتها، وسخرت من مقدس أمانيها ومطالبها - لا خوف على الأمة المصرية مما أصابها من حزن وكمد في سبيل جهادها. بل لا خوف على الأمم عامة ولا على الأفراد من الحزن الشريف والكمد المجيد؛ فإن نيران مثل هذا الحزن لهي خير بوتقة لتصفية جوهر النفس وتنقية معدن الروح، وهي أقوى أداة لإشعال الهمم وإلهاب العزائم حتى تندفع في سبيل جهادها الشريف بإضعاف ما بها من قوة وحدة. فلتغتبط الأمة بأحزانها في سبيل قضيتها، أو ليس ذلك الحزن مقياسا لمبلغ ما عندها من شعور وإحساس ومن مقدرة وكفاءة، بل من غلبة وظفر وانتصار؟ ألا إن حزن الأمة المجاهدة ما هو إلا صورة معكوسة لمقدار ما لها من عزة وشرف ونبل؟ فلتغتبط الأمة المصرية الكريمة بأحزانها، ولتبتهج بأشجانها، ولتجعلها مصدر همة وعزم ومضاء.
ولتوقن أن هذا الاستعباد الإنكليزي إنما هو أبطولة وأكذوبة، وكل أكذوبة فإلى الزوال مصيرها مهما امتدت بها العصور وتراخت بها الأزمان. بذلك قضت نواميس الطبيعة، وحكمة هذا النظام المقدس، فإنه لا دوام للباطل؛ بل إن الحق ذاته لا يدوم على صورة واحدة، ولا بد له أن يغير صورته ويبدل شكله وصيغته من آن إلى آن، حيث يخلق خلقا ثانيا ويولد من جديد. أما الأكاذيب - وعلى الأخص أكذوبة استعباد الأمم والأفراد التي خلقها الله حرة طليقة - فلقد سجل عليها حكم الإعدام منذ الأزل في صحيفة الأقدار، فهي تسير بطيئا أو سريعا إلى ساعتها المحدودة - إلى حينها المحتوم، وحتفها المحموم، والسر في ذلك أن هذه الحياة لا يمكن أن تقوم على أساس الباطل، وهذا الإنسان (الذي هو صورة الله في الأرض، مهما شابت قداسة روحه شوائب الخبائث والدناءات) لا يمكن أن يقوم على أساس من الكذب والضلال، ولكن السياسة - تنفيذ لمآربها الأنانية وأغراضها الاستعمارية - تجهل ذلك أو تتجاهله، وليس بنافعها هذا الجهل أو التجاهل إزاء ناموس الطبيعة العادلة وسنة الله الحكيمة، واستبدادها العقيم مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالفناء مهما طال أجله وتراخت مدته.
لقد يخيل إلى زمرة الساسة والاستعماريين أن استمرار سياسة الظلم والجور في أرض الله بلا قامع ولا مبيد، وتمادي دولة الاستبداد والاستعباد دون أن يصدر وينفذ عليها ما تستحقه من حكم العدالة الإلهية؛ دليل على خلو هذا العالم الأرضي من قانون العدل والإنصاف، ولكنهم في ذلك مخطئون غافلون، فإن حكم العدالة الإلهية في هذه الحياة الدنيا قد يؤجل اليوم واليومين بل القرن والقرنين، ولكنه حقيقة مؤكدة لا ريب فيها ولا مناص منها، حقيقة محتومة كالحياة نفسها وكالموت ذاته. ولا جرم، فإنك إن أنعمت النظر في زوبعة الحياة الدنيا - تلك الزوبعة المضطربة العاصفة الهوجاء البادية لعينك كأنها كلها هرج ومرج وتشويش واختلاط - وجدت أنه في أعماق أعماقها يستقر، وينطق إله منصف عادل، وألفيت أن روح هذه الدنيا إنما هي الحق والعدالة. فهذه الحقيقة الهائلة التي ما برحت منذ كان الإنسان تبدو لعينه ناصعة باهرة - سواء كان مسلما أو كتابيا أو بوذيا أو وثنيا، وسواء سكن قصور باريز أو غابات أمريكا أو زمهرير القطب أو سعير الاستواء - هذه الحقيقة الهائلة إذا جهلها الساسة فقد جهلوا كل شيء، وقد باعد الله بينهم وبين النجاح كما باعد بين الأرض والسماء، وأنى لهم بالنجاح وقد ظلوا يناوئون ويعادون ناموس الطبيعة وروح الوجود، ويكافحون الكون أجمع في معركة لن يخرجوا منها إلا مثقلين بأفدح أعباء الهزيمة والخسران.
ألا إن في كل شيء خيرا؛ وقد كان للأمة المصرية في تلك المذكرة الإيضاحية خير وإن بدا متلفعا برداء وهاج من لهيب الألم وضرام الحزن المتسعر. لقد كانت الأمة أصيبت من قبل ذلك بشر ما يصيب الأمم الناهضة المجاهدة من العلل والأدواء - أعني بداء الانقسام والتحزب - وكان ذلك الداء الخبيث قد فشا في جسدها، ونقض من أسباب ائتلافها وتماسكها، وفصم من عرى اتحادها وتضافرها، وهدد كيانها بالتهدم والانحلال، وكاد يمسها في صميم نفسها، ويذهب بما قد ملأ قلبها من روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فما هو إلا أن لطمتها السياسة الإنكليزية تلك اللطمة القاسية، وطعنتها تلك الطعنة الدامية حتى أفاقت من سكرتها، وهبت من رقدتها، ونفضت عن أعطافها غبار الفتور الذي كان جللها به ريح الشقاق والنزاع، كما ينفض الأسد الهصور غبار الكسل عن لبده - ثم تحركت ونشطت كأنما قد أفعم قلوب ملايينها العديدة روح واحدة لا تقبل الانقسام والتجزئة، وأعلنت بلسان واحد وبصوت واحد يملأ الفضاء الرحب، ويهز هيكل الأرض من أعمق جذورها ودعائمها، ويصدع أديم السماء «أنها حية يقظة متحفزة ناهضة.»
أجابت مصر على المذكرة الإيضاحية بذلك الجواب المفحم الحاسم - أعني بما كانت أعلنته قبل ذلك على لسان جماعة الكونتننتال حين شعرت بما أضمره لها الإنكليز من الشر وسوء النية - أجابت بذلك القرار الذي كان الموحي به في الحقيقة هو روح مصر المنبثة في فضائها، الطائفة في جوها، المرفوفة على مضاجع أهليها وعلى سوامرهم وأنديتهم، الحائمة على مهود أطفالها وأكنان عجائزها وشيوخها - على الأجنة في بطون أمهاتها وعلى الأموات في بطون أجداثها - الحدبة العطوف على أمانيها وآمالها، الحذرة القلقة المشفقة على ماضيها ومستقبلها.
بهذا الجواب المفحم الحاسم أجابت مصر إنكلترا بلسان واحد، وصوت واحد - علت من نبراته صيحة الإنسانية المتألمة، وتأججت في هزاته جمرة الوطنية المحتدمة، وما أعظم صوت الأمم والشعوب وما أقواه وما أقهر سلطانه وما أشد وقعه! ألم تر إلى صرخة الشعب الواجد الغضبان كيف تصم أذن الظالم وتقرع حبة فؤاده، بل كيف تكاد تشل خلجات روحه، وتكاد تحرق زهرة الحياة في مغارس نفسه ووجدانه؟!
قال توماس كارليل في كتابه «الثورة الفرنسية»: «ما أجل صوت الجماعات وما أخطره! صوت غرائزهم التي هي أصدق من خواطرهم وأفكارهم، أما إن هذا الصوت لأجل وأخطر ما يصادفه الإنسان بين تلك الأصوات والأشباح التي يتكون منها هذا العالم الزمني؟! فكل من يجرأ على منافضة هذا الصوت ومقاومته فقد خرج بنفسه عن دائرة الزمان، وعن حدود نواميسه وشرائعه.»
أعلنت الأمة المقاطعة، وأعلنت وجوب الإضراب عن تأليف الوزارة تأييدا لمبدأ عدم الاشتراك مع الإنكليز في حكم البلاد وإدارة شئونها؛ إذ كان في ذلك الاشتراك دليل على الرضى بما يسومنا الإنكليز من خطة الذل والخسف والهوان. أعلنت ذلك الأمة المصرية، وتمسكت به أشد تمسك، ولم تسمح لنفسها فيه بهوادة ولا لين ولا تساهل، وحصنت نفسها بأمنع دروع الإصرار والتصميم والإباء والمعاندة، وتمسكت إنكلترا من الجهة الأخرى بخطتها أشد تمسك، وأظهرت أن مشروعها الأخير هو القضاء الفصل، والحكم النهائي الذي لا يقبل تغييرا ولا تبديلا ولا نقضا ولا إبراما. وكذلك انفرجت مسافة الخلاف بين الطرفين واستحكمت حلقاته، وبلغت المشادة والمعاندة أقصاها، وأظلم ما بين الأمتين، وجف بينهما الثرى، وعظم الخطب، واستفحل الداء.
وهنا دخلت الأمة المصرية في أصعب أدوار حركتها الجهادية، وأشد أزماتها، وأفظع ساعاتها؛ ذلك الدور الذي سميناه في بدء كلامنا عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث خيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص، وأن متن الرجاء قد انبتر، وظهر السعي قد انحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وقد سجل على الأمة الكريمة حكم الشقاء في صحيفة الأبد.
هنا جاء على الأمة المصرية أشنع أدوار حركتها الجهادية، واسود الأفق وحجبت نور السماء سحائب النحس، فماذا نصنع؟ وكيف نواجه هذا الكارث؟ وكيف نعد العدد، ونجهز آلات الدفاع، ونشحذ سلاح الهجوم؟ وأي عدد لدينا، وأي آلات، وأي أسلحة؟ دروع الصبر والجلد، وسلاح السكينة، وعدة الأمل والرجاء، ونعم الدروع والآلات والأسلحة، «لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا معاذ الله، وقد أوضحت آنفا أن استبداد الظالم أكذوبة، وأنه كسائر الأكاذيب مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالإعدام في النهاية، وأن صوت الأمة المظلومة أقوى صوت في العالم، وأن مآل الحق أن يتغلب على الباطل، وأن الأمل ميراث الإنسان وذخيرته، وأن الدنيا اسمها دار الأمل.» أجل، لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا، ولكني أقول: إن هذه الأسلحة السلبية إن أحرزت النصر والظفر لم يجئ ذلك إلا بطيئا، وليس النصر البطيء بأحسن أنواع النصر، وليس الفرح بالمتاع الآجل البعيد - الذي قد لا تمني نفسك بأن تراه لا أنت ولا أعقابك ولا أعقاب أعقابك - كالفرح بالمتاع الذي يزف إليك عاجلا، تلبس جميل زينته، وترشف عذب ريقته.
أقول: لا مشاحة في أن ذلك الدور كان أشنع أدوار قضيتنا، وتلك الساعة كانت أسود ساعات حركتنا. وحق لنا إذ ذاك أن نحار ونبهت وأن نأسى ونحزن، وحق لنا أن ندور بأعيننا بين أبناء أمتنا المجيدة فنفتش في نخبة رجالها وصفوة أبطالها عن رجل نرمي به هذا الحادث الجسيم، وننقب عن بطل نصدم به هذا الكارث العظيم.
إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع الإنساني وعلله تخلق أيضا أدوية هذه العلل والأدواء، والطبيعة التي توجد آفات الحياة الإنسانية توجد أيضا وسائل إبادة هذه الآفات؛ وذلك لأن الطبيعة أساسها العدل، وروحها النظام، وغايتها الصلاح والنمو الحسن والرقي. فإن هي خلقت الأدواء والعلل والآفات فلم تقصد بذلك إلى الفساد والخراب ولا إلى الفشل والفوضى (وإن ظهرت تلك العلل والآفات في دورها الأول بمظهر الفساد والفوضى) ولكنها تقصد إلى الصلاح والنظام والرقي في النهاية، وإنما هذه العلل والآفات - مع ضررها المؤقت وشرها الزائل - عمليات ضرورية لا بد للمجتمع من اجتيازها في طريق نموه ورقيه - هلا نظرت إلى أوراق الشجر وأجزاء النبات حين تعصف بها الرياح الهوج فتسقط وتذبل، ثم تعفن وتبلى وتنحل؛ فيخيل إليك أنها فسدت وماتت - ولا موت ولا فساد في الطبيعة - ولكن هذا الذي يخيل إليك بلى وفسادا إنما هو عملية انتقال من حال إلى أحسن منها، فلا تلبث هذه المواد النباتية أن تستعيد حياتها وتجدد بهجتها، وقد تستحيل بعد عدة من هذه العمليات الأليمة المحزنة في ظاهرها إلى صنف أجود وأحسن، سنة التحسن والتقدم وقانون النشوء والارتقاء الذي هو روح الطبيعة وعملها وغايتها.
نقول: إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع تخلق أيضا أدوية هذه الأدواء، والطبيعة التي توجد آفات الإنسانية توجد أيضا مهلكات هذه الآفات. وإذا اشتد الجدب صاب الغيث، وإذا أربد الغيم بدده شعاع الشمس، وإذا تكاثرت المصائب على أشخاص المأساة الأبرياء فوق المسرح وتكاثفت الأرزاء، وأخذ الموت بالكظم وبلغت الروح التراقي - ظهر على المسرح من حيث لا يرجى ولا ينتظر بطل الرواية؛ فغير مجرى الحوادث وحول منهج الكوارث؛ فجلى دجى الخطب، وأشرق على الأبرياء بنور الصفو والخير والسعادة.
وكذلك لما ادلهمت مأساة السياسة على مسرح الحياة المصرية، وانتهت هذه المأساة بفضل المذكرة الإيضاحية إلى أزمة الأزمات وعقدة العقد - كما أسلفنا - وعظم الكرب واستفحل الداء؛ ظهر على المسرح لإبادة الشقاء وإسداء الخير والصفاء، بطل الرواية المصرية الحالية؛ عبد الخالق ثروت باشا.
إن العناية الأزلية لما بصرت بتناهي البلاء في هذا البلد الأمين، وبلوغ الشقاء والكرب أقصاه نثرت كنانتها بين يديها، ثم فتشت عيدانها فوجدت ثروت أمرها عودا، وأصلبها معجما فرمت به الحادث الجلل والمحنة النكراء.
أي ثروت! أيها الرجل القوي المتين؛ ماذا أمامك من العقد والمشاكل والأزمات والمعضلات؟! أمة مظلومة مهضومة واجدة على الظلمة، غضبى على الجورة، يتأجج صدرها بركانا، ويتقد في ألحاظها لهيب ما انطوت عليه الجوانح من نار الحنق المكتومة، وتقذف السماء بصيحات احتجاجها على الجبابرة، وبصرخات نقمتها. أمة تختمر في أفئدتها عوامل الهياج، وتفرخ في نفوسها جراثيم الفتنة، ويعب عباب غيظها، ويزخر تيار غضبها، وتجيش أعماق روحها بدوافع الثورة. أمامك خضم زاخر ينذر مسامعك من أعماقه نشيش غليان الطغيان، وأزيز فوران الطوفان. أمامك في أفق البلاد المظلم المربد آيات العاصفة، وأمارات الزوبعة ينذر مسامعك من لدنها دوي قصفها مخوفا مرهوبا، وأمامك من الجهة الأخرى الدولة القوية المخيمة على أرجاء المعمورة، الممسكة بأطراف العالم، المالئة الأرض بمدافعها والبحر بأساطيلها والجو بمناطيدها - جبارة متكبرة طاغية، مصرة على تنفيذ إرادتها ضد أوامر العاطفة والإنسانية ونواميس الحق والعدالة وعلى الرغم من الأقضية والأقدار، مصممة أباءة، مطرقة كالأفعوان والحية الرقشاء، لا تؤثر فيها الرقى والتعاويذ، قاسية جامدة صماء كالقدر أو كالموت.
وفوق هذا وذاك، أمامك من أمتك الفئة ذات الأهواء والأغراض الذين لا يريدونك، ولا يحبون أن يكون على يديك انفراج الأزمة وحل المعضلة وزوال النقمة وحلول النعمة، الباذلون أقصى الجهد في العمل على تنحيتك عن مواطن المجد ومواقف الفخار.
أي ثروت! أيها الرجل الجلد المكين! ما أحرج مركزك وأصعب موقفك! فبحقك ماذا أنت صانع وسط هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة؟ وأنت قائم بينها منفردا وحيدا كالجبل الباذخ تعصف الزوابع الهوجاء حول هامته الشماء فلا تحرك من سكينتها ولا تستخف من رزانتها، وتثور الزلازل حول أساسه فلا تزعزع من ثباته، وقد سمت قمته العلياء فوق سحب الأهواء والأغراض وضباب الحزازات الشخصية والإحن الأنانية، وواجهت شمس الحقيقة الساطعة والنزاهة الخالصة.
تقدم ثروت باشا إلى أمته فصرح لها أنه لن يقبل الوزارة حتى تجاب له شروط فيها رضى الأمة، ووفاء بأقصى ما يصح أن تطمح إليه في هذا الدور من قضيتها؛ تلك الشروط هي إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام، وتأسيس برلمان تكون حكومة البلاد مسئولة أمامه، وحصر مشاكل الخلاف بين الأمتين في أربع نقاط يتولى تسويتها البرلمان المصري بعد إنشائه مع الحكومة البريطانية، وإزاء هذه الحقوق المستردة لا تعطي مصر إنكلترا أدنى شيء ولا تتقيد لها بشرط ما.
تقدم ثروت باشا إلى الحكومة الإنكليزية بهذه الشروط العظيمة، وشدد كل التشدد في طلبها، وأكد لها أنه لن يتنازل البتة عن شيء منها، وأنه لن يتولى الوزارة إلا بعد إجابة شروطه هذه بحذافيرها.
كيف تقبل هذه الشروط الجسيمة، وتجيب هذه المطالب العظيمة، وترضخ لهذا الحكم الهائل؛ إنكلترا سيدة البحار وأقوى دول العالم؟ وأين ذهبت جيوشها وأساطيلها وسلطانها الباسط جناحيه على المشرق والمغرب؟ بل أين ذهب كبرياؤها وجبروتها وشرهها الاستعماري؟
تصعبت إنكلترا في أول الأمر كما هو المنتظر وتمنعت، وفي ذلك المشقة العظمى والصعوبة الكبرى.
وأما مصر فلم تكد تصدق نبأ هذه الشروط والمطالب، وحسبته حلما من الأحلام؛ اعتقادا منها أنه يكاد أن يكون من المستحيلات قبول إنكلترا مثل هذه الشروط الجسيمة. (لقد كان الوفد المصري من قبل ذلك لا يطمع في أكثر من أن تعطيه الحكومة الإنكليزية قبل دخوله معها في المفاوضات مجرد وعد بإلغاء الحماية أثناء التفاوض)، ولا تنس أولي الأغراض والأهواء والإحن والحزازات الذين مع فرط استعظامهم هذه الشروط واعتبارها كالأحلام أخذوا يرجفون بأن الأمر ليس بالجد، وإنما ألاعيب سياسية، يقصدون بذلك إلى ترويج سوء الظن بدولة الوزير الجليل، ويبثون في الأمة من روح التشاؤم ما يثبط الهمم ويفل العزائم.
بين هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة انبرى الرجل الكفء الضليع يكد ويعمل، مضاء في تؤدة، منصلتا في أناة، صارما في رفق، جريئا في حزم؛ والأمة المصرية والأمة الإنكليزية وأوروبا والعالم أجمع ينظر إليه نظرة إعجاب وإكبار، ويشرئب لاستطلاع نتيجة عمله العظيم، واستكشاف غاية شوطه الخطير وشأوه الرائع، كأنهم يرمقون عطارد أو المشتري أثناء سيرته المشرقة الزاهرة، ودورته المتألقة الباهرة.
وقف العالم ينظر إلى ثروت باشا أثناء تلك الفترة الحرجة العصيبة، تلك الفترة التي باتت تتمخض السياسة أثناءها عن ميلاد مستقبل أمة، لا يعلم أيجيء موفورا نضجا تاما، أم مبتورا منقوصا مشوها، أم ما هو شر من هذا؛ يولد ميتا؟
وقف العالم ينظر إلى هذا المخاض السياسي الهائل يرقب نتيجته بقلوب خافقة، حتى كاد يخيل إلى المرء أن الرياح والأعاصير ذاتها قد حبست أنفاسها والأفلاك شأوها، وأن الزمن نفسه وقف مبهوتا يتأمل.
أراك أيها الوزير الخطير في بحر السياسة البعيد الغور، العسوف الموج، العصوف الأعاصير والأنواء تسير سفينة الوطنية تتنكب بها مكامن الصخور والمهالك، وتتنحى بها مسالك الأمن والسلامة، تدير دفتها بيد مباركة ميمونة رائدها التوفيق والنجاح تكمن في أساريرها أسرار الحذق والمهارة، تؤم بالسفينة النفيسة ساحل الفوز والنجاة.
وأراك في بيداء السياسة المخوفة تقود الشعب الكريم خارجا به من نير عبودية الجبابرة، مجتازا به تيه الأضاليل السياسية، تؤم بالقافلة أفق الاستقلال وفضاء الحرية الرحيب.
وأراك من فوق زوبعة السياسة الثائرة، وفوضى العناصر المتنافرة تصفق جناحي نسر ساكن الجأش ثابت الجنان، تصرف أعنة الحوادث، وتدبر أزمة الشئون كأنك الملك الحارس الأمين كلما ازدادت الحوادث اضطرابا ازداد سكينة وهدوءا.
أرى ساكن الأوصال باسط وجهه
يريك الهوينا والأمور تطير
وأراك حين تفاوض ساسة الإنكليز تعلو عليهم في حومة الخطاب وميدان المحاجة بسليقتك الفائقة وسجيتك الغلابة، وبعقلك الراجح، وبشخصيتك الفتانة الخلابة التي هي خلاصة مجموع ما فيك من غرائز وشيم وطبائع، وكأنك حين تناقشهم قد اتخذ سلطان الإقناع عرشه بين شفتيك، وكمن هاروت تحت لسانك حتى تتركهم من إعجاب وإكبار يقولون فيك ما قاله نابليون الأول حين صادف شاعر الألمان العظيم «جيتا»: «هاكم رجل مستكمل الرجولة.» وما قاله أحد الساسة الإنكليز في المغفور له الشيخ محمد عبده: «لقد حق لمصر أن تفخر بمثل هذا الرجل، فإن أمة تخرج مثله لخليقة أن تفلح.»
في تلك الزوبعة السياسية الثائرة، وفي ذلك الجو المتلبد بالغيوم، وفي مضطرب تلك العوامل المتدافعة والعناصر المتكافحة مضى ثروت في سعيه المجيد كالصارم المصقول، والكوكب المشبوب يعمل ويكد ليل نهار كأنه ينبوع قوة لا ينفد، وشعلة حريق تأبى أن تطفأ وتخمد، تملأ فضاء البلاد رونقا ونورا. أجل، إن مقدرة هذا الرجل الهمام على العمل والكد لا تحد ولا تحصر ولا يكاد يصدق بها الذهن، وليس يدري سوى من عاشره عظم ما قد تستطيعه القوة البشرية من العمل ومقدار ما تستثمره من جليل الفوائد في يوم واحد، إن ساعة هذا الرجل العظيم كعام غيره وشهره كدهره.
وكل هذه الأعمال الجسام ينجزها ثروت باشا في أتم سكينة وصمت، ألا حيا الله دولة الصمت وخلد ملكه وسلطانه! ولا حيا الله الجلبة والضوضاء والصخب!
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «ما أعظم الرجل الصامت وما أجل مقداره! أرأيت إذا أجلت بصرك في هذا العالم اللجب الصخاب، وفي كلماته الخالية من المعاني، وفي أعماله الخاوية من الفوائد، أفلا يلذ لك أن تتعشق جمال الصمت وجلاله؟ أفلا يلذ لك أن تتغنى بمحامد الرجال الصامتين ذوي الفضل والكرم والمروءة، العاملين في سكوت، الجادين في خشوع وتواضع، البانين صروح الحضارة والمدنية دون أن تجلجل بأسمائهم وألقابهم أبواق المجلات وطبول الجرائد؟ ألا إن أمة تخلو من أمثال هؤلاء أو يقل منهم نصيبها لخليقة أن تختل حالها، ويسوء مآلها، ويكون مثلها كمثل غابة خلت من الجذور والأصول واستحالت كلها ورقا وفروعا، فهي لا تلبث أن تذبل وتموت؟ لنا الويل والثكل إن كان كل عتادنا وذخيرتنا هو ما لدينا من الكلام والطنطنة والأشياء التي نعرضها على الملأ، ونرفعها لأعين المتفرجين والنظارة. ألا فقدس الله عالم الصمت! إنه لأسمى مقاما من الكواكب وأعمق غورا من عالم الموت! وإنه وحده هو النبيل والعظيم والجليل، وكل ما عداه حقير ضئيل تافه! فلتلزم أمتنا فضيلة الصمت ولتعتصم بها، ولتدع غيرها من الأمم المولعة بالجلبة والضوضاء وحب التظاهر تصيح في كل موقف، وتملأ الدنيا صياحا بكل صغيرة وكبيرة من شئونها، وتجعل بلادها مسرحا ترقص عليه وتلعب على مرأى ومسمع من المتفرجين والنظارة، فأمثال هذه الأمم المتظاهرة الصخابة ستصبح عاجلا أو آجلا غابات بلا جذور ولا أصول، مآلها الذبول والموت. ألا ما أقدس الصمت! إنه مستمد من ملكوت السماء! انظر إلى الدوحة العظيمة في الغابة تجدها قد لبثت ألف عام تنمو في أتم صمت وسكينة، فمتى تسمع صوتها؟ لا تسمع ذلك إلا حينما يجيئها الحطاب في نهاية الألف عام بفأسه ليقطعها، حينئذ تسمعك الدوحة صوتها، حينئذ تعلن الدوحة عن نفسها بتلك الصرخة الشديدة - صرخة الفناء والموت - صوت انصداعها وانقصامها. فهل أسمعتك الدوحة صوتها ساعة البذر والغرس المبارك حين نثرت بذرتها من حجور بعض الرياح الميمونة؟ هل أسمعتك صوتها ساعة اكتست حلل الورق النضر ووشي الزهر المفوف؟ (وما كان أمتعها ساعة وأملأها بالأفراح والمسار) كلا، لم تسمعك الدوحة صوتها في تلك الأوقات الهنيئة، ولم تنبس بحرف واحد إعلانا لهذه الحوادث المفرحة، إنما أسمعتك صوتها ساعة المصاب والفجيعة؛ ساعة الموت والفناء.»
وهكذا رأينا ثروت وسط الزوبعة السياسية يكد ويعمل في أتم سكينة وصمت، لا ثرثرة ولا افتخار ولا دعوى، ولا إضاعة للوقت الثمين في المجادلات العقيمة المجدبة وخوض النظريات الخيالية المستحيلة، ولا في الشقشقة الهدارة والجلجلة الطنانة، ولكنه وقف مجهوداته العظيمة على الكد الدائب وحصر هممه الجسيمة في العمل المتواصل، وبارك الله في الأعمال إنها أجل وأعظم من الأقوال! ألا إنما الأعمال المملوءة بالروح حافلة بالحياة جياشة بمادتها الغزيرة الزاخرة. الأعمال طافحة بالحياة الصامتة التي هي برغم صمتها حقيقة مقررة واقعة، حاضرة الخير، حاصلة الأرباح والفوائد، والأعمال تزكو وتنمو كالشجر المبارك الثمار، وهي تعمر فراغ الوقت، وتملأ فضاء الزمان، وتكسوه خضرة ونضرة.
ثروت باشا لا يميل بطبعه إلى الجدل والثرثرة، ولا إلى المباهاة والمفاخرة، ولا إلى الإعلان عن كفاءاته ومواهبه. فإذا كان دور الكلام والاسترسال في ميادين النظريات المستحيلة والمشروعات الخيالية، والمباهاة بأساليب المنطق الأجوف الفارغ المؤدي إلى غير نتيجة، وبتفويق سهامه الطائشة التي قصاراها أن تزل من فوق سطوح الحقائق المتينة القاسية دون أن تصيب أكبادها - وتنزلق من فوق أديم الحقائق الخشنة الجافية دون أن تنفذ إلى صميمها - فتسقط تلك السهام متعثرة خائبة عن أجساد الحقائق، وتبقى الحقائق بعد ذلك على حالها لم تذلل ولا تمتلك، ولم يقبض على أزمتها؛ تواجهك - كما كانت من قبل - مرة أليمة قاسية، قد نفدت الجعب والكنائن دون أن تؤثر فيها مثقال ذرة، وكأنما لم نصنع شيئا، وكأنما انتهينا من حيث ابتدأنا. أقول إذ كان هذا الدور - دور الكلام والخيالات والمستحيلات - رأيت ثروت باشا قد اعتزل الميدان، لا عن ملال ويأس، ولكن تحينا للفرصة وتحفزا للوثبة، ثم ربض في مكمنه، وخدر في غيله سمير أفكاره وأنيس وحدته.
ولكن إذا جاء دور العمل وواجهتنا الحقيقة المرة الأليمة، وتبادر الرجال لتذليل هذه الحقيقة، وفك معضلتها، وللأخذ بناصيتها، والقبض على زمامها واستثمارها لمنفعة البلاد وصالح الأوطان، ورأيت رجال النظريات المستحيلة والمنطق الأجوف يرسلون سهامه الطائشة على هيكل تلك الحقيقة فتزل من فوق سطحها، وتنزلق عن أديمها الأملس الذي كأنه جلدة الأفعى، وكذلك تستمر أفعى الحقيقة سائرة في طريقها سليمة مصححة كأهدأ ما كانت وأنعم بالا - إذا كان هذا هو قصارى زمرة الخياليين المتشدقين ذوي المنطق الأجوف - ثم جاء دور ثروت باشا رأيت ذلك الرجل العملي قد هاجم أفعى الحقيقة وساورها، وقبض على ناصيتها وأخذ بكظمها، وطفق يعالجها أشد علاج، ويصارعها أعنف صراع - ليرى أهو أم هي أشد بأسا وأصعب مراسا - يجالدها ويكافحها بقوة جنانه؛ أعني بقوة جلده ومثابرته، في أمل ورجاء، بل في استيئاس واستماتة وصبر لا ينفد وإيمان عميق وذكاء متوقد.
كل هذه القوى العقلية والخلقية تبرز من مكامنها حينما يصارع ثروت باشا (أو غيره من عظماء رجال العمل) أفعوان الحقيقة، وفي هذه المعركة وحدها - وعند هذا الصراع فقط - يمكننا أن نقيس مقدار همة الرجل، ونزن مبلغ كفاءته وقدرته.
العمل وحده عنوان الفضل وآية القدرة، ومسبار غور الرجل، ومقياس عمقه، وعلى صحائف الأعمال يلوح في سطور من النور بيان ما يكمن في صدور الرجال من كنوز الفضل والحكمة والأدب والنهى، ومن ذخائر الصبر والجلد والجد والمثابرة والحزم والعزم والإخلاص والأمانة وصحة النظر ونفاذ البصيرة والحذق والبراعة. أجل، كل ما ينطوي عليه الرجل من قوة يلوح متلألئا في أحرف من النار والنور على صحيفة عمله. أو ليس العمل الجدي المخلص هو أن يواجه الرجل الطبيعة ونواميسها الأبدية فيعالجها ويمارسها ليسيرها في سبيل مقاصده وأغراضه؟ وعلى قدر فهمه لأسرارها ومطابقته لقوانينها يكون مبلغ فوزه ونجاحه، وهي الطبيعة تصدر على الرجل وعلى كفاءته حكمها حسب ما تراه من أسلوبه في معالجتها ومسايرتها؛ إذ تقول في حكمها على الرجل هذا مبلغ ما وجدت فيه من فضل وكفاءة - هذا القدر لا أكثر ولا أقل - هذا مبلغ ما فيه من قدرة على فهم أسراري والائتلاف معي ومجاراتي والسير على منهاجي ومراعاة شرائعي ونواميسي، وعلى حسب هذا كان نجاحه أو خيبته وسعادته أو شقوته كما ترى وتشاهد.
مصر في أشد أزمات جهادها، وأضيق مآزقه (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) أصبحت بأمس حاجة إلى رجل العمل الدائب والكد الشديد والمجهودات الهائلة. لقد جربت من قبل ذلك اللجب والضوضاء والصياح والصراخ، وجربت الشقاشق الهدارة والجلاجل الطنانة، وجربت طواحين الهواء والألعاب النارية التي تملأ الجو طنينا ودويا، وألاهيب وهاجة، وشعلا براقة تساور السماء وتلامس الجوزاء ، ثم تسقط رمادا وتتبدد هباء، جربت هذا وذاك فلم يغنها فتيلا ولا قطميرا، وإن كان أفادها تلك الحقيقة الخطيرة، وهي أن الكلام في موضع العمل عبث باطل، وأن النزاع والشقاق في مقام التضامن والاتحاد ضلال مبين، وأن الصياح وحده هواء يذهب في الهواء، وأن السبح في بحار الخيال يؤدي إلى ساحل الخيال الذي إذا أرسيت لديه وجدته ضبابا ينقشع من تحت قدمك، وهباء يفر من بنانك، وليس يؤدي إلى ساحل الحقيقة المادية الصلبة التي تحصل في ملكك، وتقع في حوزتك.
لما جربت مصر هذه الوسائل الكلامية، واستنفدت ما هيأت لها معامل الحناجر، ومصانع الأجهزة التنفسية من بارود الصراخ والهتاف، وقنابل «يسقط ويحيى»، فألفت كل هذا، لم يغن ولم يثمر، ووقفت حائرة مبهوتة إزاء الحقيقة المرة، وإزاء لغز السياسة، بل لغز الحياة المعضل المعقد الذي أبى أن ينحل على الرغم مما صبت على أم رأسه من بارودها الهتافي وقنابلها «الإسقاطية الإحيائية». تحننت عليها الطبيعة، ورق لها فؤادها الكبير، وتقدمت لعونها وإمدادها، وقالت لها: استريحي هنيهة، واختارت لحل اللغز وفك المعضلة رجل العمل والدأب والحزم والعزم والحجى والدهاء: عبد الخالق ثروت.
وكذلك الطبيعة السمحة السخية ما كانت لتضن على الشعب المجاهد بالرجل العظيم عند الحاجة إليه، ولا يزال كلما ارتطمت الأمة المجاهدة في المأزق الضنك والزحلوقة الزل أسرعت الطبيعة إلى إسعافها فساقت إليها رجل الساعة، وبطل الميدان، فلا يلبث أن يقيل عثرتها، ويأخذ بيدها، ويهديها سواء السبيل؛ ذلك دأب الطبيعة وديدنها الذي لن تعدل عنه إلا إذا كانت قد أرادت بهذا العالم الأرضي الخراب السريع والدمار العاجل.
ولما اختارت لحل اللغز وفك المعضل رجل الجد والعمل ثروت باشا، ودفعت به في جوف الزوبعة - كما أوضحنا آنفا - وفي وسط العوامل المتنازعة، والقوى المتدافعة، والعناصر المتكافحة المتلاطمة ارتاح لذلك العقلاء، واستبشروا وقالوا: «أما والله، ما كانت قط زوبعة فوضى فرمى الله في جوفها بروح النظام ممثلة في رجل حازم، إلا بدأت فيها حركة مباركة نحو ائتلاف العناصر المتنافرة، والتوفيق بين القوى المتضاربة، واستبقاء النافع ، وإسقاط الضار من الأسباب والعوامل - حتى ترى الفوضى سائرة إلى النظام، والثورة إلى الهدوء، والضجيج إلى السكينة، وتبصر مكان الجدب والعقم الإنتاج والإثمار - فتوقن بحسن المآل والعاقبة»، ولا جرم. فما من فوضى تقيم في وسطها روحا عالية نبيلة إلا آلت إلى النظام والخير والفلاح بفضل ذلك. هذا، وإن الطبيعة تحب النظام، وتبغض الفوضى ولا تطيقها ولا تحتملها، ولا تصبر عليها إلا ريثما تهيئ لها روحا سامية تعالج بها شرها، وتزيل خطرها، وهذا الكوكب الأرضي النبيل المقدس الذي نعيش فيه ونتقلب، مهما طال صبره على مروجي الهرج والفوضى، فهو في النهاية لا يطيقهم، ولا يلبث أن يريح نفسه منهم، وهذا من أشد ضرورات العالم إذ كانت سنته الصلاح والرقي، وكانت مادة الخير فيه أكثر من مادة الشر، وكان الحق فيه متغلبا على الباطل.
وأي خير في الفوضى إلا إذا أصبحت تتجه نحو النظام، وأي بركة في الثورات السياسية إلا إذا تولى المصلحون تنظيمها برسم الخطط والبرامج العملية.
أي ثروت، أيها الرجل الحازم البصير! لقد قذفت بك الطبيعة في مضلة السياسة وتيهها، وفي مجاهلها ومهالكها، حيث اشتبهت المسالك، وأشكلت المناهج، وخفيت وجوه الرشاد، وخبت مصابيح الهداية، فانظر ما أنت صانع، وأي السبل تسلك، وأي الوجوه تنتحي. ألا فاعلمن أن راكب الصعاب وولاج المآزق مثلك إذا تشعبت في وجهه السبل، ووقف ينظر أيها يسلك إلى غرضه الأسمى، فلقد يوجد أمامه بلا شك بين هذه السبل منهج واحد هو أقصدها وأهداها، منهج يكون سلوكه في ذلك الظرف وتلك الآونة أحق ما يأتيه وأصوب ما يصنعه، منهج واحد إذا أتيح له سلوكه طوعا أو كرها كان الحازم البصير والأريب الداهية، كان الرجل المكتمل الرجولة الموفق إلى ما يرضي الرجال والآلهة، المساير لأنظمة الطبيعة ونواميسها الغامضة الخفية، فالطبيعة والكون أجمع يرحب بمثل هذا الرجل ويهتف له: «مرحى، بورك فيك وفي عملك»، ثم يكون اليمن رائده والنجاح حليفه. فهل أنت يا أيها الرجل النبيل والوزير الجليل مستبين بين ما يواجهك في تيه السياسة ومضاتها، وفي مجاهلها ومهالكها من متشعب الطرق والسبل، ذلك المنهج القويم الأوحد فسالكه إلى قصدك الأنبل وغرضك الأسمى - النجح والفلاح - إلى ضالة الوطن المبتغاة وبغيته المرتجاة وأمنيته المشتهاة؛ إلى الحرية والاستقلال؟ سنرى ذلك قريبا.
سنراك وقد قذفت بك الطبيعة وسط زوبعة السياسة الهوجاء وعواملها المتنازعة وعناصرها المتكافحة؛ تؤلف بما أوتيت من عزم وحزم بين هذه القوى المتمردة الطاغية، وبين هذه النزعات المتضادة المتعادية - ترد شواردها وتكبح جوامحها - آونة بسوط بأسك وسطوتك، ولكنه بأس الحازم المتدبر المتلهف على مصلحة بلاده، وسطوة المنصف العادل الحدب على منفعتها، وآونة بكف لينك الغريزي المغروس في طبيعتك ورقتك الفطرية المركبة في سجيتك. دأبك ذلك إلى أن تعنو لك عاصفة السياسة الهوجاء فترتد الفوضى نظاما، والزوبعة نسيما، والحرب سلاما. إنك وإن كان قد كتب لك بحكم الظروف والأحوال أن تعمل وسط الزوابع السياسية والثورات الوطنية - وسط ما يصح لنا أن نسميه نوعا ما من الفوضى - فإنك بطبعك ونحيزتك رجل نظام لا رجل فوضى، وتلك طبيعة العظماء كافة، كلهم مجبول على حب النظام؛ بل كلهم النظام مجسدا، وكذلك الرجل العظيم إنما هو رسول النظام في هذا العالم. (وكذلك مما يجب أن يكون شيمة كل إنسان يحمل الصورة الآدمية). أو ليس كل عمل من أعمال الإنسان في هذه الحياة هو «رد الفوضى إلى النظام»؟ أو ليس كل ذي حرفة وصناعة موكل في هذه الدنيا أن يجمع المواد الطبيعية المبعثرة في أنحاء الكون، المشتتة في أرجاء الوجود، المتباينة جوهرا، المتنافرة صفات وطباعا، فلا يزال يوفق بينها ويؤلف حتى يضم شتاتها، ويجمع بددها، ويفرغ تفاريقها في قالب محكم بديع عجيب الصنع محدود بالقواعد الهندسية والحسابية؟ كلنا مولودون بفطرتنا أعداء للفوضى عشاقا للنظام، هذه مزية البشر عموما، وهي في الرجل العظيم أضعاف أضعافها في الرجل العادي.
النظام يقتضي الشدة ويتطلب الصرامة أحيانا، وهذا بلا شك نوع من الحذر والإشفاق على المصلحة العامة. وفي هذه الظروف الضرورية يصبح اسم «الشدة والصرامة» غير منطبق تمام الانطباق على المعنى الحقيقي لما يتبعه الرجل الحازم من خطته الصارمة الشديدة التي يكون أحق بها وأولى، وأقرب إلى معناها الحقيقي أن تسمى «رقة معكوسة» و«عطفا مقلوبا»، إذ كان باعثها الحقيقي هو العطف والرقة، والحنان والشفقة، وكما أن الطبيعة تنجز أعمالها وتنتج نتائجها، آنا بالنسيم اللطيف وآونة بالإعصار العنيف، وتارة بالجدول السلسل وأخرى بالسيل الجارف، فكذلك الرجل المصلح - الذي هو شعبة من الطبيعة وفلذة من كبدها - يحدث آثاره النافعة ومآثره الجليلة باللين تارة وبالشدة أخرى، كالطبيب الحاذق يداوي بالعسل وبالصاب، وربما أزال السم بالسم، وشفى الداء بالداء.
نقول: لما أعضل على الأمة المصرية لغز السياسة المعقد واعتاص حله، ولم تفلح فيه سهام المنطق الأجوف وزخارف الآمال وأخاديع الأماني، ولم توفق إلى حله طمحات الأوهام، وسبحات الخيال، والاستناد على النظريات المستحيلة، والاحتجاج بالافتراضات الوهمية معززة بقذائف «الهتاف» والقنابل «الإسقاطية الإحيائية»، تقدم إلى معالجة هذا اللغز المعضل العويص رجل الحقيقة والجد والعمل عبد الخالق ثروت، ووقفت مصر وإنكلترا أو العالم أجمع ينظر إليه نظرة العجب والدهشة؛ ليرى ما هو صانع إزاء ذلك المشكل المعضل.
وقف رجل العمل والذكاء والدهاء أمام ذلك اللغز المخوف، وكأنا بذلك اللغز يخاطب الرجل العظيم قائلا له: «أتفقه معنى هذه الساعة العصيبة؟ أتفهم لغز الحياة في هذه العقبة الكئود والموقف الحرج؟ إن الآلهة تواجهك بسؤال معجز ولغز معضل، فهل عندك جوابه وهل لديك حله؟»
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «لقد جاء في أساطير الأولين أن جنية كانت تربض على قارعة الطريق للمارة، تواجه كل عابر بأحجيتها الصعبة ولغزها العويص، فإذا استطاع حله مر سالما آمنا في سربه، وإلا أهلكته وأوردته حتفه، ويزعمون أن هذه الجنية كان لها وجه حورية حسناء وصدرها الناهد وأعطافها اللينة، ولكن بدنها الغض الرشيق ينتهي بعجيزة لبؤة ضارية ومخالب سبعة عادية.
وكذلك الحياة هي كتلك الجنية لا فرق ولا خلاف؛ فالحياة تواجهك بجمال حورية وحسنها الفردوسي الذي معناه النظام البديع والحكمة العالية والخضوع لقانون العقل الأزلي السرمدي، ولكن فيها مع ذلك عنفا وطغيانا وظلمة وهلاكا - أحق أن تسمى آفات جهنمية - وهذه الحياة أو الطبيعة لا تزال - كتلك الجنية - تلقي على كل إنسان يعبر سبيلها بصوت رقيق رخيم هذا السؤال الخطير المرعب: أتفهم معنى هذا اليوم الذي أنت فيه؟ أتفقه مغزى هذه الساعة؟ أتدري أي مشكلة تواجهك وكيف تحلها؟ وأي سبيل تسلك إلى ذلك؟
أجل، إن الحياة أو الطبيعة أو الوجود أو القدر - كيفما سميت هذه الحقيقة الهائلة التي لا يستطاع تسميتها - والتي نعيش في وسطها ونجاهد - لهي حورية فردوسية وعروس سماوية، وربح وغنيمة للأريب اللبيب، والذكي الألمعي الذي يستطيع أن يتفهم أسرارها، ويحل لغزها، ويتبع قوانينها، ويصدع بأوامرها، وهي جنية فتاكة وشيطانة مهلكة لمن لا يفعل كذلك ولا يستطيعه، فافهم أسرارها وحل لغزها تسلم وتغنم.
أما إذا لم تعن بذلك ولم تأبه له، ومضيت في سبيلك دون أن تحل ذلك اللغز، وتجيب ذلك السؤال، فستحله لك جنية الحياة وشيطانة الطبيعة، ستحله لك بمخالبها وتجيبك ببراثنها وأنيابها الحادة، ثم لن تصادف فيها سوى لبؤة ضارية وسبعة عادية وحية رقشاء، أباءة صماء، لا تسمع دعاك، ولا ترق لشكواك، ولا تلين لرقاك.»
تقدم رجل الحقيقة والجد والعمل إلى العقدة الصعبة والمشكل المعضل بعدما أعجز أهل الخيالات والأوهام وطلاب المعجز والمستحيل، وقف ثروت باشا على قارعة السبيل، وواجهته شيطانة السياسة بلغزها العويص وطالبته بالحل والجواب، فهل هو مخطئ أو مصيب؟ هل هو معرض نفسه وبلاده لمخالبها وأنيابها أو مشيع منها بنظرة الرضى وابتسامة الارتياح إلى منهج التوفيق وسبيل النجاح؟ سنرى ذلك قريبا، سنرى رجلا ليس بأسير خيالات وأوهام، ولا متعلقا بأذيال الخوارق والمستحيلات، ولكن رجل الحقيقة والواقع، رجل الممكن والجائز، رجل الغريزة الصادقة والبديهة الحافلة والبصيرة النافذة، رجلا يسلط شعاع عينه الثاقبة على المشكل والمعضل فيبدد عنه ظلمات الشكوك وغيوم الريب والشبهات - كما تسلط العدسة البلورية طائفة الأشعة على الأشباح فتجلوها في أسطع مظهر من الوضوح والبيان - رجلا ينفذ بنور بصيرته إلى أكناه الأمور وجواهر الأشياء وأكباد الحقائق حتى يقهرها ويمتلكها آخذا بنواصيها قابضا على أعنتها - وذلك بفضل ما فاق به غيره من رجاحة العقل وصدق العزيمة وقوة الروح؛ ذلك رجل لا ينظر إلى الدنيا ومشكلاتها بمنظار النظريات والقياسات، ولكن بعين مجردة نافذة البصر ساطعة الشعاع كشافة اللمحات، رجل الإخلاص العميق، والغيرة الملتهبة، والقلب الذكي المتأجج، والروح الحي المتوهج.
سنرى رجلا مطويا على غريزة الاهتداء إلى سر الحقيقة وجوهرها أينما كان، رجلا قد ثبت قدمه على أساس الحقيقة الوطيد الراسخ، رجلا يستطيع أن يتبين بصادق نظره ونافذ بصره، من خلال التعاقيد والارتباكات، لباب الشيء وجوهره، فيعمد نحو ذلك، ويسدد إليه خطواته. لقد روي عن نابليون الأول أنه لما كان أمين قصره يعرض عليه يوما ما استجده في القصر من فرش وأثاث - وقد جعل هذا الأمين يطري هذه الأمتعة والأدوات، ويثني على صناعها، ويقول إنها قد جمعت إلى جودة الصنف ونفاسته رخص القيمة وقلة النفقة - لبث نابليون أثناء تلك الأقوال المسهبة والخطب المستفيضة صامتا لا ينبس بحرف واحد، ولكنه بعد نهاية هذا الكلام المطول أمر أمين القصر أن يجيئه بمقص، ثم عمد إلى هدابة ذهبية من هداب إحدى الستائر فقصها وطواها في جيبه وانصرف، وبعد مضي أيام قلائل أبرز الهدابة من جيبه في الفرصة المناسبة فعرضها على منجد القصر الذي كان صنعها، فارتاع ذلك الصانع التعس وأرعدت فرائصه: لقد كانت تلك الهدابة مغشوشة؛ لم تكن ذهبا كما زعم ولكن صفيحا! هذه النادرة على تفاهتها تبين ماهية طبيعة الرجل وعنصر خلقه، تبين أنه رجل عمل لا كلام، وأن غريزة نفسه الصادقة تدفع به إلى كبد الحقيقة مباشرة ضاربا صفحا عما يحيط بها ويحجبها من الأقاويل والأراجيف ومن الشكوك والشبهات، كذلك كان نابليون الأول، وكذلك كان غيره من رجال الحقيقة والجد والعمل، وكذلك نرى عبد الخالق ثروت.
هذا الرجل العظيم - ثروت باشا - يعرف بغريزته الصادقة كنه ما يحيط به من الظروف والأحوال، وماهية الأسباب والوسائل التي يستخدمها، ويتذرع بها إلى بلوغ غرضه، ويعرف كذلك درجة قوته ومبلغ قدرته، وأين تقعان من غايته وبغيته، يعرف النسبة بين كفاءته وبين ما يكتنفه من الظروف وما يستعمله من الوسائل، وهذا لا يتأتى بالنظر السطحي ولا باللمحات المتقطعة، ولكن بطوفان من نور البصيرة يغمر الأمر المبهم من جميع جوانبه وأركانه - بفضل العين الثاقبة والذهن المتوقد - وكذلك على مقدار فهم الرجل لحقيقة الموقف يكون حسن كفايته وبلاءه. فهل هو يستطيع أن يجمع الشتات ويؤلف الشوارد وينفث في الخليط المشوش روح النظام والتنسيق؟ هل يستطيع الرجل أن يقول في غياهب الشك وظلمات الشبهة: «فليكن نور» فيكون النور؟ هل يستطيع أن يخلق من عالم السديم والفوضى دنيا منظمة منسقة؟ ستكون قدرته على ذلك بحسب ما يحتويه قلبه من النور والضياء، وسنرى قريبا مبلغ نصيب الوزير الجليل من هذه الميزة العظمى، ميزة الملائكة وهبة الآلهة.
ذلك النور والضياء في فؤاد ذلك الرجل الألمعي - عبد الخالق ثروت باشا - هو مصدر ما يمتاز به من خلال النبل والكرم والهمة والمروءة والوطنية الملتهبة وخصال الصبر والجلد والحلم والرفق والتسامح.
ألا فقدس الله نور القلب وضياءه! أليس ذلك هو الذي يجلو لك ما يستكن في ضمائر الأشياء من روح النظام والائتلاف؟ أليس ذلك هو الذي يوضح لك مغازي الطبيعة ومقاصدها وما قد تخفيه تحت قشورها الخشنة ومظاهرها الكريهة من المعاني الموسيقية؟ (فإنه ليس من شيء كائن في هذا الوجود إلا يستكن في أعماق جوفه معنى موسيقي؛ أي روح نظامية تكون قوامه ومساكه وعماده وملاكه وبغيرها لا يتماسك ولا يكون). فنور القلب أو العين الثاقبة في عظماء الرجال عامة وفي ثروت باشا خاصة هي التي تهديه في زوبعة السياسة الثائرة - بآفاتها ومكارهها - إلى مواطن الخير والمنفعة والصالح، فيستخلص من المنكر معروفا، ومن المر حلوا، ومن السم درياقا كما سنرى قريبا.
لقد تقدمت أيها الوزير النبيل لعملك الجليل وسط أطلال صرح الاستقلال المتهدم وأنقاضه المبعثرة، وأمامك الخصم العنيد يحاول مقاومتك ومناهضتك بهدم ما تشيد وتقويض ما تبني، وحولك البناءون من بني وطنك: منهم المسعف المسعد الحاضر المدد والمعونة، ومنهم المتباطئ والمتلكئ والواني والمتهاون. فمصاعبك جمة ومتاعبك شاقة - أحجار وجلامد صلبة صماء تتأبى وتتعسر، ورجال تتأفف وتتضجر، وأمور متناقضة، وشئون متضاربة، وظروف عاتية متمردة - فلتقهرن هذه جمعاء ولتتغلبن عليها إن قدرت، وإنك على أمثالها لقادر.
إن المصاعب والآفات والمتاعب والعثرات قريبة ظاهرة مجابهة تتلقاك لدى كل خطوة - وإن عون الطبيعة ومددها وإسعافها (وإن كان في النهاية مؤكدا مضمونا) لمستتر مختبئ، فاستثره من مكامنه ونقب على خفاياه بالصبر الجميل وبالجلد والعزم والإخلاص - بقوة رجولتك ومضاء همتك، تغلب على كل عقبة وصعوبة، وحاول بكل ما أوتيت من حول وطول أن تشيد من هذه الأنقاض المبعثرة المشوشة صرح الاستقلال التام لبلادك؛ راسخ القواعد، موطد الأركان، منيع الجوانب، شامخ الذرى.
لبث الوزير الجليل عبد الخالق ثروت باشا ثلاثة أشهر طويلة يدافع عن حمى بلاده، ويذود عن حياضها، ويكافح عن حقوقها، ويناضل إزاء ألد الخصوم وأعتاها وأشدها استبدادا وجبروتا، ويطالب بتحقيق مطالب الوطن العزيز وأمانيه الكبيرة. ثلاثة أشهر جاهد فيها جهاد مشمر معتزم مستبسل في سبيل الحق، مقدما أصدق مثال على روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فكيف كانت نتيجة مساعيه وثمرة مجهوداته؟
في نهاية هذه الأشهر الثلاثة أذعنت لشروطه وأجابت مطالبه أقوى دول العالم، فأعلنت في 28 فبراير سنة 1922 إلغاء الحماية عن القطر المصري، وأعلنت استقلاله التام، وأن يكون للبلاد دستور وحكومة مسئولة.
جزاك الله أيها الرجل العظيم عن البلاد وأهلها أكرم الجزاء، وقدرها على القيام بواجب الشكر نحوك.
الفصل الثاني
التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
وكذلك في غرة شهر مارس سنة 1922 خطت مصر أفسح خطوة وأيمنها نحو غايتها المقصودة، وأمنيتها المنشودة، فصدعت عن نفسها أغلال الاستبداد الأجنبي، وتخلصت من ربقة الحكم البريطاني، ووضعت قدمها على قارعة طريق النجاة والسلامة، وبرزت من ظلمة سجن العبودية إلى فضاء الاستقلال الطلق الرحيب، وإلى جوه المشرق المستنير، وتنسمت أولى نسمات الحرية، تلك النسمات الغضة المنعشة التي هي غذاء الأنفس ومادة الأرواح وحياة الحياة؛ إذ كانت هي الشرط الأول لنهضة الأمم من وهدة التقهقر والانحطاط، والحجر الأساسي لبناء صرح المجد والعلاء، وكانت مفتاح باب النعمة والثراء والرغد والرخاء، وسلم الرقي إلى أسمى درجات المدنية والحضارة والحياة السامية النبيلة.
أعلنت إنكلترا في «التصريح لمصر » إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام، وأن يكون لمصر برلمان يمثل الأمة تمثيلا صحيحا، وحكومة مسئولة أمام الأمة ممثلة في برلمانها، وأن تتولى مصر بنفسها - دون أدنى تداخل من الدولة الإنكليزية - أمر تأسيس البرلمان وسائر مهمات الحكم والإدارة في بلادها، وأن يحصر الخلاف بين الأمتين في أربع نقط، وهي: (1)
حماية المواصلات البريطانية داخل حدود القطر المصري. (2)
حماية الأقليات والأجانب. (3)
الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي. (4)
مسألة السودان.
فهذه المسائل الأربعة ينظر في تسويتها وحلها بواسطة مفاوضات مستقبلة تدور بين الحكومة الإنكليزية، وبين البرلمان المصري الذي يكون هو وحده صاحب الحق في تحديد موعد هذه المفاوضات، والشروع فيها حسب ميله ومشيئته الحرة المطلقة، وفي مقابل هذه الفوائد الجمة والغنائم العظيمة التي استخلصها عبد الخالق ثروت باشا لمصلحة بلاده من يد الخصم الألد المعاند، لم يبذل دولة الرئيس الأجل لذلك الخصم أدنى ثمن في صورة شرط أو تعهد أو قيد، بل احتاز للوطن هذه الثمرات المباركة غنما بلا غرم، وطعمة سائغة هنية، وعربونا لما سوف تستوفيه مصر على يد برلمانها في المفاوضات المقبلة من موفور الحقوق ومستكمل المطالب.
كل ذلك نالته مصر بمعونة الله العلي الأكبر جل شأنه، وبهمة ملكها المعظم وفضل مساعيه الجليلة، ومجهوداته العظيمة محتذيا في ذلك حذو آبائه الأقيال الأماجد، وأجداده الصيد الصناديد، جاريا على سننهم الأغر الأوضح ومنهاجهم الأنبل الأشرف، متبدرا غاية من المجد والسناء تقع من دونها سابحات الآمال وطامحات الأماني، وتنحسر عن شأوها المديد أحث مطايا الحمد وأوحى سوابق الثناء والشكر، أدام الله سلطانه، ودعم بالعز بنيانه، ووطد بالعدل أسسه وأركانه، وأيد بالفتح المبين صولجانه، وأفسح في بحبوحة النعيم أرجاءه، وأخفق في رياح النصر لواءه، وجعل عهده الميمون مراد خصب عميم، ومرتع عز مقيم، وفاتحة خير للبلاد لا تجف على الزمان أخلافه، ولا يجمد على الحقب والأجيال هطاله ووكافه، إنه سميع النداء مجيب الدعاء.
نالت مصر كل هذه الفوائد والغنائم بفضل الله عز وجل، وبفضل ملكها المعظم - أدام الله عزه وخلد ملكه - وبفضل الوزير الأجل عبد الخالق ثروت باشا الذي رد إلى البلاد - بفضل حكمته وحزمه ومثابرته وجهاده - أوفر قسط من حقوقها المسلوبة - (وأنه على استرداد الباقي لمعتزم دءوب) - والذي محا ما كان أصاب كرامة الأوطان من وصمة «المذكرة الإيضاحية»، وأسى ما كانت أحدثته في أديم تلك الكرامة من ندوب وجراح، دون أن يقيد البلاد بإعطاء أدنى مقابل من شرط أو تعهد.
وبفضل مجهودات الشعب المصري ذاته الذي ما قصر في المطالبة بكامل حقوقه، ولا فرط ولا ونى ولا تبلد، والذي أظهر في الساعة العصيبة والمحنة النكراء (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) من ضم الصفوف، وتوحيد الكلمة ما شد أزر الوزير الجليل ثروت باشا وأيده، وكان من ورائه حصنا حصينا في مناهضة الخصم، وكهفا منيعا، وعروة وثقى.
وكذلك في أول مارس 1922 هب على مصر من نفحات رضوان الله نسيم الاستقلال، وحيا مسامعها من موسيقى النظام الأبدي نغمات الحرية المطربة الشجية، فحيا الله في الأيام ذلك اليوم الأغر المحجل، وقدس الله في الساعات تلك الساعة السعيدة الزهراء: ساعة هبط علينا البشير يحمل إلينا صحيفة السعادة الخالدة ممسكة بأذكى من شذى العطر، مصقولة الطراز بأبهى من سنا الفجر، وأي ساعة أجل وأعظم، وأحق بالتحميد والتمجيد من ساعة تنطلق فيها الروح الإنسانية بعد طول أسر واحتباس من قيود الرق، وأغلال الخسف والعسف فتنهض وتنبعث - ولو غشيها أثناء ذلك شيء من الدهشة والارتباك والحيرة - وتنشط من عقالها حالفة بالذي خلقها وسواها لتكونن حرة ولتبقين طليقة! الحرية وما أدراك ما الحرية؟ هي جوهر الروح، وعنصر النفس وملاكها الذي لا تقوم بغيره، وقوامها الذي لا تصح ولا تسلم إلا به، وهي البغية والطلبة التي لا تزال تنزع إليها الروح من أعماق أعماقها، وتشرئب وتطمح، وتصيح مفصحة أو معجمة، مبينة أو مجمجمة تطالب بها السالب المغتصب، مناوئة منابذة، ولو هددها بما في الأرض والسماء من قوة، وهي التي في سبيلها وحدها يبذل بنو الإنسان، بحكمة أو بلا حكمة، كل كد وعناء ومجهود وجهاد، ويغشون كل ملحمة ومعترك، ويقاسون كل ألم وكربة وبلاء. أجل، ما أجل تلك الساعة وما أعظمها! ساعة تنسم الأمة أنفاس الحرية المنعشة، ساعة يبدو للقافلة المكدودة الظمأى خضرة الروضة العشيبة وسط القفرة الجرداء، ويقر أعينها رفيف أيكها النضر في وقدة الهاجرة ولفحة الرمضاء.
لما قبلت إنكلترا شروط ثروت باشا وأجابت مطالبه انفكت الأزمة الوزارية، ورأى ذلك الوزير الجليل أنه لا بأس عليه في تلك الظروف الحسنة من قبول الوزارة، وحينذاك رأت جلالة الملك أن تسند إليه الرياسة، فلبى دعوة مليكه المعظم تلبية مسرع إلى طاعته، صادع بأمره، محتملا في سبيل خدمة البلاد أعباء تلك المهمة الشاقة. ثم اختار دولة الرئيس للوزارات المختلفة رجالا هم - صفوة أبناء الأمة ونخبتها، وعتادها في الأزمات والشدائد، وذخرها في الملمات والعظائم - من كل فاضل كفؤ وحازم، بصير مديد الشأو، رحب الذراع، بعيد الهمة، وحسبك أن يكون بينهم رجل كصاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا، ذلك الفذ النابغة، الذكي الألمعي الذي كأنما تتوقد بين جبينه كواكب الفلك ومصابيح الحلك، ذلك المشهود له بدقة الذهن وصفاء القريحة، لا يطيش له في حومة النضال سهم، ولا يخبو له في ظلمة الشكوك نجم، وقد طالما عجمته الحوادث، وعركته الكوارث، فألفته صلد الصفاة، جلد الحصاة، لا تحل حبوته، ولا تفل عزمته، وكم دفعت به خطوب السياسة في المآزق والمضايق، فما راعنا إلا خروجه منها ظافرا وادع القلب وضاء الجبين، وكفاه نبلا وشرفا أنه كان موضع اختيار الرئيس الأجل، وأنه ما زال موطن ثقته واعتماده.
وحسبك أيضا أن يكون من بين من اصطفى الرئيس أيضا صاحب المعالي مصطفى ماهر باشا، وهو ذلك الرجل الجلد القدير على العمل الناهض بأعبائه مهما كدت وفدحت، وكم له من موقف في ميادين الأعمال الجسام أظهر فيه الحكمة مقرونة بالصرامة والتؤدة مشفوعة بالعزم والمضاء، وقد أحسن الرئيس كل الإحسان في اختيار مثل هذا الشهم الهمام لوزارة المعارف؛ لأنها أحوج الوزارات إلى عميد ينفحها بروح من عنده، ويبعث في كيانها تيارا ملتهبا من «بطارية» ذهنه المتقد، وجذوة حامية من مرجل حميته المحتدمة، وماذا عسانا بعد أن نقول في رجل رآه الرئيس أهلا لما ناط به من ذلك العمل الجليل والمنصب العظيم.
كذلك تألفت الوزارة باختيار ثروت باشا من رجال أكفاء سبقت لهم في خدمة البلاد أياد بيضاء، ومآثر غراء، تجلى فيها إخلاصهم وصدق وطنيتهم في حذق وبراعة، وقد تبوأ أولئك الوزراء مناصبهم في وزاراتهم المختلفة حيث أخذوا بالمبدأ السياسي الجديد - مبدأ الانفراد بالعمل والاستئثار بالسلطة - فقبضوا على أزمة الحكم وتسلموا مقاليده، وحققوا معاني ذلك المبدأ الجديد وأغراضه تحقيقا تاما لا يقبل شكا ولا ريبة؛ فأصبح الموظف الإنكليزي مهما علت درجته مرءوسا للوزير مرغما أن يخضع لإرادته ويصدع بأمره، وليس رئيسا مستبدا مطلق السلطة متحكما في جميع من حوله يأمر وينهى لا ناقض لحكمه ولا راد لكلمته، وربما استبد على الوزير نفسه، واغتصب سلطته، وأخضعه لمشيئته ورغبته - كما شوهد كثيرا في العهد السالف - فها نحن أولاء أصبحنا نرى بعين قريرة جذلى كبار رجالات الإنكليز يتقلص ظل سلطانهم عن منصات الحكم داخل بلادنا، ويطوى بساط نفوذهم عن دوائر حكومتنا، وينملس شبح صولتهم المرهوبة ويزول عن أبصارنا، ويحل محل هذا كله سلطة وزرائنا - أهل جلدتنا وأبناء آبائنا، وإخواننا في الله والوطنية، وشركائنا في السراء والضراء - الواردين معنا حياض المناعم والمكاره، والشاربين بالكأس التي بها نشرب إن علقما وإن شهدا، ورفاقنا في قافلة الجهاد وزملائنا في سفينة الأقدار، السائرين معنا إلى الهلاك أو النجاة، إلى الموت أو الحياة، المقرونة أسماؤهم إلى أسمائنا في سجل القضاء الأزلي، المخبوء لهم من القسم والحظوظ مثل ما خبئ لنا في خزانة الغيب ومستودع المجهول، الجاري لنا ولهم بالسعود والنحوس نجم واحد في فلك واحد. فليس من المعقول ولا من الجائز قياسا أو فرضا، ولا مما يسوغ في الضمائر أو يمر على الخواطر أن إخواننا الوزراء - من تجيش عروقهم بدمائنا وتنبض قلوبهم على دقات قلوبنا - ينزلون إلا على إرادتنا، أو يتوخون سوى أغراضنا ومقاصدنا، ولا سيما في هذا العهد المبارك، وفي هذا الدور المتقدم من قضيتنا، وبعدما أعلن الإنكليز رسميا إلغاء الحماية والاعتراف بسيادة مصر في الخارج وفي الداخل، فكان في ذلك أوضح برهان على ما عدلت إليه وعولت عليه الحكومة الإنكليزية من صحة العزم وصدق النية على عدم التعرض لإدارة مصر الداخلية، والحيلولة بينها وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.
أجل، إن الوزارة الحالية لا تألو جهدا ولا تدخر وسعا في استرضاء الأمة والنزول عن حكمها، وإن قامت العقبات والعثرات مؤقتا دون قيامها بإبلاغ الأمة كل رغباتها وجميع مشتهياتها، ولكن الوقت كفيل أن يبرهن للشعب على أن ما يؤجل الآن من أمانيه وبغياته - بحكم الظروف القهرية الناشئة عن حالة الانتقال والتطور السياسي - لن تلبث الوزارة أن تعمل على قضائه وتحقيقه في الحين المناسب متى تراخت الأزمة، وانفسح المجال، وتيسرت الظروف المسعدة المؤاتية، وفي سبيل تيسير هذه الظروف، وإرخاء تلك الأزمة، واستعجال ذاك الحين المناسب تبذل الوزارة الآن أقصى الجهد وتخطو أفسح الخطى.
فها هي قد تسلمت - كما أسفلنا - مقاليد العمل، وقبضت على أعنة السلطنة فنحت المستشار المالي عن حضور جلسات مجلس الوزراء - كما هو معروف - وتخلصت من معظم وكلاء الوزارات ومستشاريها الإنكليز، واستبدلت بهم وكلاء وطنيين، وها نحن أولاء لا يكاد يمر بنا برهة من الزمن إلا رأينا بعض كبار الموظفين الإنكليز يعتزل منصبه في الحكومة المصرية فيعين مكانه مصري من أبناء البلاد، وها نحن نرى الوزراء المصريين قد ملكوا نواصي الشئون والأحوال، وأمسكوا بدفة المسائل والأعمال في وزاراتهم المختلفة؛ فأحاطوا علما بكل دقيقة وخطيرة، ولم يغادروا صغيرة ولا كبيرة، ومن ذا الذي لم يطلع في الجرائد السيارة على قرار صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا بهذا الشأن وفي ذلك الصدد، ذلك القرار الحاسم الجازم الذي أماط كل لثام، وجلى كل شك وشبهة عن هذا الأمر الخطير، فلم يدع مجالا للنقد ولا موضعا للاعتراض.
هذه كلها من فوائد العهد الجديد، ومن ثمرات الفوز السياسي المبين الذي أحرزته البلاد بمعونة الله عز وجل، وبفضل جدها ومجهودها وهمتها وتضحيتها - وعلى الأخص بما أظهرت من الاتحاد والتضامن (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) والقيام في وجه الخصم الألد المعاند متساندة متعاضدة كأنها روح واحدة في جسد واحد - وبفضل مجهودات وزيرها الأجل ومهارته وحنكته السياسية وكفاءته النادرة؛ فهو الذي استطاع أن يتخذ من صدق موقف الأمة وقوة تضامنها أحسن وسيلة، وأضمن ذريعة إلى إقناع الخصم واستمالته والتأثير في أعصابه حتى أمكنه أن يستخلص للبلاد من قبضته ما استخلصه من تلك الفوائد الجمة والغنائم العظيمة.
ولكن كيف كان موقف الأمة إزاء هذا التغير السياسي العظيم، وبماذا استقبلوا هذا العهد الجديد، وماذا كانت آراؤهم فيما قد تأتى للبلاد من تلك الفوائد والغنائم؟
انقسمت الأمة - بهذه المناسبة وفي هذا الموقف - من حيث الظنون والآراء شيعا بددا وطرائق قددا، فمنهم المستبشر المتفائل الفرح الجذلان بما نالته البلاد من ذلك الغنم العظيم وإن وقع دون أقصى غاية البغية والمراد، وتقاصر عن أبعد مرامي المقصود والمرغوب، ولم يسم إلى ما تطمح إليه الأمة من الاستقلال التام بأكمل معانيه وفي أسمى مراقيه وأسنى مجاليه. فهذا الفريق من أهل البلاد يعتقد أن هذه المرحلة الأخيرة فوز صريح وربح حاصل، وأنها بلا أدنى جدال خطوة إلى الإمام، وخطوة واسعة قد قربتنا من الغاية المقصودة شوطا بعيدا وشأوا مديدا، وحسنت موقفنا، وحصنت مركزنا، ورفعتنا من وهدة ضعف وحضيض مهانة كنا فيه تحت مدفعية الخصم نصلى نيران سطوته، ولهيب صولته، لا نستطيع له مطاولة ولا مصاولة - فرفعتنا هذه الخطوة إلى ربوة عزة ومنعة، وهضبة حصانة وقوة أصبحنا بها أولي قدرة على مناهضة ذلك الخصم ومناجزته، وأقدر على مواصلة سعينا إلى أمنيتنا المنشودة، أعني الاستقلال التام المطلق من كل قيد، المجرد من كل شائبة - أو لم يصبح هذا الغنم الذي استفدناه أخيرا أقوى سبب، وأمتن وسيلة نستطيع أن نتذرع بها إلى إحراز الفوز الأتم والنجاح الأكمل، أعني تحديد الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى، ونقصها وتلطيفها بما لا يتعارض مع استقلالنا ولا يضيره إلى أن يحين الوقت للعدول عنها، وإطراحها فتخلص مصر الخلاص التام من كل قيد من هذا القبيل وخلافه.
هذا فريق التفاؤل والتيمن الذي هو في الحقيقة أقرب من غيره إلى الصواب والمعقول؛ لأن جميع ما يحيط بالمسألة من شواهد الظروف وقرائن الأحوال تصدق رأيهم وتؤيد حجتهم، وثمة فريق آخر يناقض الفريق الأول في رأيه ومذهبه، فهو لا يثق ببريطانيا على الإطلاق، بل يفضل ترك الحالة معلقة - حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا - على قبول ما هو معروض الآن على مصر؛ محتجا لمذهبه هذا بأن الإنكليز ما برحوا منذ بدء احتلالهم هذا القطر يمنون أهله بأباطيل المواعيد وأضاليل الأماني، فإذا استسلمنا إلى وعودهم هذه المرة أيضا فقد تضعف العزائم، وتتخدر الأعصاب، ويتأخر سير القضية إلى غرضها الأسمى، ومرادها الأقصى، وفي هذا البلاء والشر كله.
ونحن نعترض على هذا الفريق ومذهبه بأن إنكلترا اليوم ليست بإنكلترا الأمس؛ لقد علمتها الحوادث والخطوب أن أمم الشرق وشعوبه الواقعة تحت سيطرتها ليست بالرمم البالية المقبورة في مدافن الدثور والعفاء، ولا هي بالخشب المسندة الملقاة في زوايا الإهمال والنسيان رهائن العجز والتبلد والخمود والجمود. لقد كانت إنكلترا تحسب أن الأمة المصرية وسائر أمم الشرق لم تشارك الشعوب الغربية المهضومة فيما أحدثته الحرب الكبرى في صميم كيانها من تلك الثورة الفكرية، والغليان السياسي الذي استحث حركتها العادية وسيرها المألوف في سبيل الرقي الطبيعي التدريجي نحو الغاية المحتوم عليها بلوغها - ولو ببطء وتريث وبعد تعطيلات العقبات والعراقيل - بحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية. فإنكلترا بالرغم من اعترافها للشعوب الغربية الصغرى بما أحدثته فيها الحرب الكبرى من الثورة الفكرية السياسية، وبالرغم من إذعانها لحكم هذه الثورة - أعني لحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية - تغافلت عن مصر في بادئ الأمر وتعامت، ولم تحسب لها حسابا في باب النهوض والتحفز، فلم تلق لمصر بدلو يوم ألقت الشعوب الغربية بدلائها في مناهل المؤتمرات، ولا أجالت لمصر قدحا ولا سهما يوم أجالت الشعوب الغربية سهامها وقداحها في قرعة السياسة على موائد المقامرة الدولية، لم تطرح إنكلترا مسألة مصر - ولا سمحت لمصر أن تطرحها بنفسها - في ميزان التسوية يوم طرحت مسائل الأمم الغربية في ذلك القسطاس الحكيم.
فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ نتيجة الغفلة والتفريط وعاقبة من لا يحسب للأمر حسابه ولا يتدبر عواقبه - كانت النتيجة مفاجأة الغافل المغتر بما لا يتوقع من الخطب الجسيم والحادث الجلل الذي ما برح يختمر ويتكون - أيام غفلته وغروره - في طي الخفاء حتى ظهر له حين انقشاع عمايته، وانجلاء غمرته بارزا جهيرا شنيعا بشعا جهما متنكرا يحملق إليه بعين الحقيقة المستعرة جمرا وشررا.
كانت النتيجة استيقاظ بريطانيا من رقدتها الطويلة بلطمة قاسية من كف الحقيقة المرة الأليمة حين استوفت هذه الحقيقة نموها واستكملت نضجها، ودرجت من منشئها ومرباها إلى ميدان العالم ومعترك الحياة؛ لتؤثر أثرها، وتؤدي وظيفتها.
كانت النتيجة أن مصر المهضومة المستضعفة - التي لم تحسب بريطانيا حسابها ولم تأخذ منها حذرها - ثارت ثورتها المعروفة في مارس 1919، وهبت في وجه بريطانيا هبة الأسد المسلسل صدع قيوده وأغلاله ووثب يطالب المغتصب بحقوقه المهضومة المسلوبة.
عند ذلك أفاقت بريطانيا لأول مرة من غفلتها بالنسبة للمسألة المصرية، وصحت من سكرتها، وأقبلت على القضية المصرية تتأملها بعين الحذر والاهتمام المشوب بشيء من الخشية والرهبة، ولا جرم، فلقد راعها من عجيب تطور الأمة المصرية، وعظيم نهضتها وطفرتها ما راع «أهل الكهف» إذ هبوا من رقادهم، فهالهم ما هالهم من تغير حال الدنيا وتبدل الشئون والمشاهد، وكان بعد ذلك ما كان من محاولة بريطانيا المرة بعد المرة تسوية القضية المصرية بوسائل شتى؛ إحداها «لجنة ملنر» التي فشلت في مهمتها بفضل إجماع المصريين قاطبة، وتوحيد كلمتهم على مقاطعتها أشد مقاطعة وأقصاها، حتى أوصدوا في وجهها كل باب للمناقشة والمفاوضة، بل قطعوا منها كل أمل في ذلك، وكل هذا تأييدا للوفد المصري الذي كان إذ ذاك وكيل الأمة المفوض ومندوبها الذي لم ترتض سواه مندوبا ووكيلا.
وهنا يجدر بنا أن ننوه بما كان من سلوك ثروت باشا في تلك الآونة الدقيقة، وكيف كان موقفه إزاء لجنة ملنر، وبماذا أشار عليها؟
قابل ثروت باشا في ذلك الحين اللجنة المذكورة منفردا (كما قابلها عدلي باشا منفردا) لا مقابلة راغب في مفاوضتها - حاشا لوطنيته الشماء أن تفعل ذلك - ولكن مقابلة من أحب أن يبلغها جواب الشعب الصريح، واعتقاده الصحيح معبرا عن جنانه، ناطقا بلسانه، فأنبأها بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشعب المصري - أن المصريين قاطبة قد أصروا على أن لا يكون لهم مع اللجنة شأن ما، وأن لا يدخلوا معها في مناقشة أو مباحثة؛ ذلك لأن لهم وفدا يمثلهم أصدق تمثيل وأصحه، فهم لا يرضون غيره محاميا عن القضية، ولا يثقون بمفاوض سواه كائنا من كان.
هذه المأثرة الجليلة من مآثر ثروت باشا - الدالة على ما ينطوي عليه فؤاد الرجل الكبير من صدق الوطنية وروح التضحية - أقل ما يؤثر من عظيم مآثره وجسيم مفاخره، وأدنى ما يذكر من مساعيه الجليلة في سبيل خير البلاد وصالحها، ولكنا رأينا أن نوردها هنا تذكرة لمن نسي، وتعريفا لمن لم يعرف. فليعلم الناس أن وطنية ثروت باشا ليست وليدة اليوم ولا بنت الأمس، بل هي عريقة فيه متأصلة منذ أدلى به عالم الخفاء إلى عالم الوجود، منذ:
سله الله للخطوب من الغي
ب كسل المهند المغمود
وكذلك كل رجل عظيم لا تكون فيه الوطنية مجرد عادة يعتادها، أو خصلة يتحلى بها، أو أداة يتذرع بها إلى شيء من مقاصده وأغراضه، بل تكون فيه غريزة غلابة، وطبيعة مسيطرة على جميع مشاعره ومداركه ونزعاته وعواطفه وشهواته، تكون مزاج دمه وأساس كيانه، والجوهر الذي صيغت منه نفسه، والعنصر الذي صورت منه روحه.
قلنا: إن بريطانيا لما أفاقت من سكرتها بالنسبة للمسألة المصرية، ولما قشعت يد القدر عن بصرها ما كان ران عليه من غشاوة الغفلة والغرور، وعن قلبها ما كان قد غشيه من حجب القسوة والجبروت فأصاخت إلى صوت مصر المتصاعد إلى عرش الله، وأصغت إلى نداء مصر المالئ ما بين الأرض والسماء، وقد أدركت أن مصر لا تقل عن نظائرها من الشعوب الأوروبية شعورا بعزتها وكرامتها، وعرفانا بقدرها وقيمتها، وإدلالا بسالف مجدها وعظمتها، وأنها لا تنحط في درج المدنية والحضارة عن مقام تلك الأمم، ولا تهبط في سلم الرقي الأدبي والاجتماعي عن منزلة تلك الشعوب. لما أدركت بريطانيا كل هذا، وجبهتها الحقيقة صلبة خشنة كالصخر الصماء، أرادت استرضاء الأمة المصرية، وحاولت بلوغ ذلك بتسوية قضيتها المرة بعد المرة بوسائل شتى منها «لجنة ملنر» - التي ذكرنا ما كان من فشلها بفضل إجماع المصريين على مقاطعتها بأقصى الشدة، وبتنفيذهم هذه النية بحد بجد وعزيمة وصرامة كانت ولا تزال موضع إعجاب العالم بأسره - وكان من تلك الوسائل أيضا دعوة بريطانيا الأمة المصرية إلى مفاوضتها: أولا: على لسان الوفد المصري (بصفة غير رسمية)، وثانيا: على لسان الوفد الرسمي (بصفة رسمية طبعا).
ليس غرضنا ههنا أن نأتي على تاريخ تينك المفاوضتين، ولا أن ندخل في تفاصيلهما - بل لم نذكرهما هنا بقصد تناولهما بالبحث والنقد - وإنما ألجأنا إلى التنويه بهما محاولتنا إقناع الفريق المتشائم المتطير المبالغ في إساءة الظن ببريطانيا أن إنكلترا اليوم - التي تدعو بنفسها مصر، وتمد يدها إليها للدخول معها في المفاوضة لاسترضائها وتسوية قضيتها - هي خلاف إنكلترا الأمس العاتية المتغطرسة التي كانت لا تسمع النداء ولا تصيخ لدعاء.
فلهذا الفريق المتشائم المتطير، الشديد الارتياب في صحة مواعيد بريطانيا وفي حسن نيتها، لمصر على أن لا يزال مدى الدهر يعتقد فيها مطل الوعود وختل العهود والسخرية من مطالبنا الوطنية وأمانينا القومية. نقول إن بريطانيا اليوم بالنسبة لقضيتنا غيرها بالأمس، وأنها تقف منا الساعة موقفا لم تقفه من قبل، فلقد أيقظناها من رقادها، ونبهناها إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن مصر أيضا أمة كغيرها من الأمم الغربية، وأنها تعرف مثلها معاني الحرية والاستقلال، وتصبو إلى أخذ مكانها بين دول العالم المجيدة وممالكه العظيمة، وتتوق إلى الصعود في مراقي المدنية السامية لاعتلاء ذروة العز، وتسنم غارب المجد والسؤدد، وأنها كسائر الأمم الغربية الناهضة لها قلب يجيش بأذكى جمرات الحمية، وأحمى مراجل الوطنية، ولها جانب صعب أبي ينفر بها عن مواطن الخسف والضيم، وأنف حمي يأبى لها النزول على العسف والرغم. أجل، لقد فتحنا عين بريطانيا بعد طول غموض إلى أن مصر كمثيلاتها من أمم الغرب لا تصبر على اغتصاب حقوقها، واستلاب تراث أسلافها، وأنها تقدر قيمة الحرية حق قدرها، وتعرف أنها الجوهرة الثمينة، والدرة اليتيمة التي من أجلها تخوض غمرات الخطوب، وتغامس حومات المحن والكروب: فإما تهلك وتفنى في خضم الجهاد، وإما تظفر بتلك الدرة اليتيمة فتردها إلى موضعها من إكليل مجد البلاد وتعيدها إلى نصابها من تاج حسبها المجيد وعزها التليد. لقد علمنا بريطانيا أنه ليس للغرب أن يفخر على الشرق زاعما أنه أوفر نصيبا منه في مزايا النهوض والتقدم، وأنه أذكى منه قلبا، وأنبل روحا، وأصفى جوهرا وأكرم عنصرا. لقد علمنا بريطانيا أنه لا شرق ثمة ولا غرب إذا هبت الأمة من سباتها تطالب بحقها المهضوم، وتحاول استرداد الحرية والاستقلال، لا شرق ولا غرب إذا زخر عباب الحياة في فؤاد مثل هذه الأمة وثار موجه، وجاش تياره في أعماق روحها المضطربة، ثم دفعتها رياح الوطنية العاتية إلى الموت أو الحياة. أجل، في مثل هذه الساعة الخطيرة تمحى من بين صفات الإنسان الطبيعية تلك الصفة الاصطلاحية الصناعية - أعني «شرقيا» و«غربيا» - وتسقط عن هيكل الإنسان المقدس تلك «الماركة» المعلقة عليه تعليقا، غير المتأصلة في جوهر الروح النقي الأصلي المستمد هو وسائر أرواح البشر من مادة الروح الكلي وينبوعه الأبدي.
لقد فتحنا عين بريطانيا إلى هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن الأمة المصرية لم تكن فيما مضى من الزمن ميتة ولا جامدة ولا خامدة ولا نائمة، بل حية تذكو في ضميرها جمرة الحياة والشعور، وإن حجبت شعاعها حجب الفتور والتبلد منا، وحجب الغفلة والغرور منهم. لقد علمنا بريطانيا هذه الحكمة البليغة، وهي أنه لا شيء في الحياة ميت أو هامد أو راكد. لقد ذكرناهم بما كان أوحى إليهم حكيمهم العظيم توماس كارليل في القرن السالف حيث قال في كتابه «الثورة الفرنسية»:
لا شيء في الكون ميت، وما نخاله ونسميه ميتا إنما هو في الحقيقة في حالة استحالة وتغير، تعتمل قواه الكامنة وتفتعل على نظام معكوس. فالورقة الذابلة رهينة البلى والعفن لا تزال تكمن فيها القوة، وإلا فكيف كان يتأتى لها أن تتعفن؟ ألا إنما الكون بحذافيره ليس سوى مجموعة غير محدودة من القوى المختلطة الممتزجة - تعد بالآلاف والملايين - من الجاذبية الجمادية إلى الفكر والشعور والإرادة - حرية الذهن المطلقة تكتنفها وتحدق بها ضرورات الطبيعة المحتمة - وفي خليط هذه القوى الهائل العظيم لا شيء يهمد أو ينام لحظة، بل كلها لا تزال أبد الآبدين يقظة فعالة.
فأما ذلك الشيء الجامد الهامد المنعزل عن دوامة هذه الحركة الأبدية فذلك ما لن تجده، ولن تراه في أي أنحاء هذا الوجود البتة، مهما فتشت ونقبت في سلسلة الكائنات من الجبل الصوان المستمر في حركة البلى البطيء منذ بدء الخليقة - إلى السحابة السارية، إلى الإنسان الحي، إلى أقل فعلة من أفعاله وأدنى كلمة من أقواله. أجل، إن الكلمة إذا خرجت من فم القائل مضت كالسهم النافذ، لا ماحي لأثرها، وأشد منها وأقوى الفعلة الواقعة. أو لم يتغن لنا الشاعر «بندار» قديما بحكمته المأثورة: «إن الآلهة أنفسها لتعجز أن تمحو أثر الفعلة المفعولة.» لقد صدق بندار، فإن هذه متى فعلت بقيت على الأبد الآبد مفعولة؛ أي دائمة المفعول والأثر - بقيت مسترسلة في فضاء الزمن اللانهائي - وسواء لبثت ظاهرة لنا بادية، أو مستترة خافية، فستبقى فعالة تزكو أبدا وتنمو عنصرا جديدا لا يفنى ولا ينعدم في غضون مزيج الكائنات اللانهائي. بل ماذا تحسب هذا المزيج اللانهائي ذاته الذي نسميه «الكون»؟ أتراه سوى فعلة أو مجموعة من الأفعال أو القوى؟ أتراه سوى مجموعة حية (يعجز الحساب عن جمعها وحصرها في جداوله وإن بدت لعينك مكتوبة على صفحة الزمن) مجموعة حية لهذه الثلاثة الآتية: كل ما فعل، وكل ما يفعل، وكل ما سوف يفعل.
فاعلم - علمت الخير - أن ذلك الكون الذي تراه إنما هو فعلة، هو النتيجة والمظهر لقوة مبذولة، هو البحر العديم السواحل الذي من ينابيعه تنفجر القوة، والذي في عباب حومته تجيش وتموج القوة زخارة منسقة منتظمة، فسيحة كاللانهاية، عميقة كاللابداية، جميلة مخوفة حسناء روعاء، غير مدركة ولا مفهومة. فهذا اللج الزاخر الذي لم يبرح يجيش ويرغي ويزبد من وراء الأفلاك ومن قبل بداية الزمن، ولم يزل يموج من حولك - بل أنت نفسك جزء منه في هذه النقطة من الفضاء، وفي هذه الدقيقة من الزمن - هذا هو ما يسميه الإنسان «الكون» و«الوجود».
وكذلك الحياة البشرية وكل ما فيها لا يزال في حركة دائمة، وفي فعل وتفاعل متطورا من حال إلى حال، ومن شكل إلى شكل بتأثير نواميس نافذة محتومة نحو غاية محدودة ونتيجة لازمة، ونحن بني البشر، ألا ترى كيف نظل منغمسين مغمورين في أعماق سريرة الزمن وفي ظلمات لغزه العويص؟ ولا جرم، فنحن أبناء الزمن وسلالته - ومن الزمن حيكت أنسجتنا، ودبغ أديمنا، وصيغت صورنا وأشكالنا - وعلينا وعلى كل ما نملك أو نبصر أو نفعل قد كتب الزمن شعاره وحكمه: لا قرار في موضع ولا دوام على حال، سر إلى غايتك، وامض قدما إلى قسمتك.
أجل، لقد ألقت مصر على بريطانيا واقعيا وعمليا في الثلاثة الأعوام الأخيرة، ما كان ألقاه عليها كلاميا ونظريا حكيمها الأعظم توماس كارليل في الجيل السالف. لقد أعدنا عليها ذلك الدرس العظيم بالأعمال الصارمة ذات الأثر والمفعول والنتائج الخطيرة. لقد أيقظناها إلى الحقيقة المرة بثلاث صدمات شديدة كبحت جماحها، وكفكفت غربها، وألانت عريكتها حتى هيأتها نهائيا إلى التأثر بسياسة ثروت باشا في مناوراته الأخيرة، وإلى الاقتناع بناصع حججه ودامغ براهينه، وإلى الانقياد نوعا ما في زمام مهارته السياسية وبراعته المنطقية. أما هذه الصدمات الثلاث التي مهدت طريق النجاح لثروت باشا فهي كما يعرف الجميع: (1)
قومة مصر في وجه بريطانيا في مارس 1919. (2)
مقاطعة لجنة ملنر. (3)
قطع الوفد الرسمي الذي كان يرأسه دولة الوزير العظيم عدلي يكن باشا للمفاوضات المصرية-الإنكليزية، وما أعقب ذلك من التئام الصدع وائتلاف الشمل بين الأحزاب المصرية بعد طول تنابذ وتنازع، ثم انضمام الصفوف وقيام الأمة قومة سلمية بأساليب الدفاع السلبية، ولا ينس أحد أن صاحب الفضل الأعظم في هذه الوثبة الثالثة والصدمة الأخيرة (أشد الثلاث وقعا وأبلغها أثرا ومفعولا)، وأعظم مسبب لها، بل أساسها ومصدرها هو ذلك الرجل الخطير والبطل الكبير صاحب الدولة عدلي يكن باشا.
وماذا عسانا نقول في مدح ذلك البطل المجيد عدلي يكن؟ وأين تقع رائحات الحمد وغادياته، وسابحات الثناء وسارياته، من رفيع مقامه في ذروة المجد الشامخ، وذؤابة الحسب الباسق الباذخ؟! ماذا عسانا نقول في رجل حملته الأمة أمانتها فأحسن الحمل والأداء، وزجت به في حومة النضال عن حقوقها فأجاد الذود وصدق البلاء؟! أو لم يدفع عدلي بحر وجهه الكريم ما أرادت بريطانيا أن ترمي به وجه الأمة المصرية من آيات الخسف والهوان ممثلة في ذلك المشروع الذي رفضه هذا الهمام فكفى بذلك أمته غضاضة مناقشة المشروع والنظر فيه؟ أو لم تبعث به مصر في تلك المفاوضة نائبا عنها وممثلا فكان خير عنوان على ما لها من نبل وكرم، وأنفة وشمم، وشرف رفيع، وعز منيع؟ أو لم تكن طلعته الوضاءة البلجاء، وغرته الوضاحة الزهراء، صفحة صدق تتألق بنور الأمانة والإخلاص، ويسطع في جنباتها رونق اليقين والإيمان، ويترقرق ماء الحياة والعفة والنزاهة؟ أو لم يقرأ الإنكليز أنفسهم في أسارير جبينه الأغر سطور الحزم والعزم، والحلم والرفق، والحكمة والحذق، والمضاء والدهاء؟
ألم ينتشل عدلي باشا الشعب المصري الكريم من وهدة الضعف والفتور التي كان ألقاه فيها دعاة التخاذل والتواكل، وبغاة التفرقة والانقسام؟ ألم يستنقذ عدلي باشا أمته المجيدة من حضيض التواني، والاسترخاء الذي كان أهبطه فيه تجار الفشل والهزيمة ومروجو إشاعات السوء عن الوفد الرسمي، الذي أثبتت مآثره وحسناته أنه كأكرم وأنبل من انتدبت أمة للمطالبة بحقوقها والدفاع عن قضيتها، والذي سجل له التاريخ أشرف صور الفضل وأسنى آيات الوفاء في أمجد فصوله وأنصع صحائفه؟ ألم يبيض عدلي باشا وجه أمته بما أحرز لها من النصر الباهر بموقف الشمم والإباء والعزة والكبرياء الذي وقفه إزاء خصمها الألد وقرنها العنيد؟ ألم يفهم الإنكليز أن الذي يرفض مشروعهم بمنتهى الأنفة والنخوة والإباء هو الأمة المصرية بأسرها ممثلة من شخصه الكريم في مرآتها الحاكية مجموع نزعاتها ورغباتها وأمانيها وعواطفها، وفي لسان حالها الناطق بأخفى ما يجنه ضميرها وأدق ما يكمن في خبايا سريرتها؟ ألم يكن في إفهامه الإنكليز هذه الحقيقة وتقريرها في أذهانهم ما رفع من مقام الأمة المصرية في عيونهم بعدما أسقط منه ظهورها في أنكر مظاهر التفرقة والانقسام؟ ألم يكن في مجيد عمله هذا ما أعاد إلى قلوب الإنكليز تلك الهيبة والخشية التي كانت أوجدتها ثمة الأمة المصرية بفضل ما أظهرت في بدء حركتها من روح التضامن والاتحاد والتضافر؟ أو لم يشرف عدلي بموقفه العظيم ومأثرته الكبرى أمته العزيزة، ويعلي قدرها، ويرفع رأسها بين سائر شعوب العالم؟ ألم يقر عينها ويشرح صدرها؟ ألم يبعث فيها نشوة العزة وحميا الزهو ويرنح أعطافها بهزة التيه والخيلاء؟ ألم يزودها في تلك الساعة العصيبة والأزمة الكاربة والمحنة النكراء - في أظلم أدوار القضية وأوعر مراحلها حين خبت كواكب الأمل، ودجت غياهب التشاؤم - في تلك الآونة الصعبة التي بدأنا بذكرها هذا الكتاب، وسميناها عقدة العقد، وعقبة العقبات - نقول في تلك الكربة الكاربة والشدة الحازبة - ألم يزود عدلي باشا أمته من أسباب التأييد والتشجيع - مما نفثه فيها من روح الحمية والنخوة والعزة والإباء - بأجمل السلوى وأحسن العزاء عما رمتها به الأقدار من كوارث الظلم والاستبداد، وبأقوى الوسائل لاستنهاض همتها واستثارة عزمتها لاستئناف السعي في سبيل الجهاد ومواصلة السير إلى غاية المأمول والمراد؟
وكذلك في سبيل الحق والحرية نفر عدلي يكن تلك النفرة الشماء، وصاح تلك الصيحة التي صدم بهولها مسامع بريطانيا صدمة أيقظتها ثالث مرة من غفلتها، وفتحت عينها إلى تلك الحقيقة الكبرى وهي أن مصر - بالرغم مما أصابها مؤقتا من تخاذل أبنائها وتنابذهم - لا تزال مصرة على نيل حقوقها المسلوبة، مصممة جادة، معتزمة غير وانية ولا فاترة، وأنها كغيرها من الشعوب الغربية مندفعة بحكم السنن الكونية والنظم الطبيعية في سبيل النهوض والتقدم لأخذ المكان المقدر لها أزليا في مراقي الحياة؟
كذلك في سبيل الحق والحرية صاح عدلي يكن صيحته التي استرعى بها مسامع أمته، وأيقظها من غمرة التشاحن والتطاحن إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن كل نزاع بين أبناء الأمة هو غرم عليها، مغنم للخصم الذي يراه خير فرصة لإضعافها ونهك قواها بتوسيع الخرق بينها، وهدم كيان وحدتها، وتمزيق صفوفها، ورد سهامها الموجهة إلى شخصه في نحرها هي، وتحويل مجهوداتها المبذولة ضده في مصلحتها ضد نفسها بالضرر الجسيم عليها. أجل، لقد نبه عدلي بصيحته الشديدة أمته العزيزة إلى كل هذا وأكثر، فجمع بذلك كلمتها وألف شملها، ورأب صدعها، وشد أزرها، وراش لنهضتها جناحا من همته الحثيثة بعدما هاض النزاع الحزبي جناحها، وحفزها بريح عزمته الشديدة بعدما أركد الشقاق الداخلي رياحها، وآنسها بقوة روحه العظيمة في وحشة تلك الترهات السياسية الختالة بسراب الغرور والخديعة، وعزاها عن خيبة آمالها في وفاء بريطانيا وحسن نيتها.
كل هذا صنعه لأمته عدلي يكن، ذلك البطل القوي الذي لن يجد التاريخ بدا من أن يسجل له هذا الفضل على بلاده، ولا من وضعه في مصاف الأبطال منقذي شعوبهم ومحرري أوطانهم أمثال شمشون، إلا أنهم تغلبوا على دليلة «الختل والخديعة» فلم تستطع قهرهم وإذلالهم.
كل هذا صنعه عدلي لأمته، ولا عجب فإنه عظيم، وبقوة الرجل العظيم وحوله تدعم أرض الله وتوطد أركانها، وبهمة الرجل العظيم ونجدته يثل عرش الظلم ويشاد صرح العدالة، وينجاب غيهب الباطل، ويسطع نور الحق، وبمكارم خيمه ومحامد شيمه ترق حاشية الزمان، ويخضر عوده ويورق، ويخضل روضه بندى الخير ويترقرق، ويشرق صحوه بسنا الصفاء ويتألق. حياك الله عدلي يكن! لقد طاب في كنفك العيش واحلولى، وافتر عنك مبسم الدهر وتلالا، وقد حسنت بك الدنيا وملحت وتأرجت بعبير ذكرك ونفحت، وقد شربنا بك ماء الحياة كوثرا، ونشقنا نسيمها عنبرا، وانتجعنا غيثها ثجاجا، وتوسدنا جنابها أنيق الروض مبهاجا. فجزاك الله أحسن الجزاء عن أربعة عشر مليونا من عباده رفعت بالعز هامهم، وثبت في مدحضة المعترك العنيف أقدامهم، وطهرت صحيفة أعراضهم من كل شائبة ووصمة، ونقيت أديم أحسابهم من كل ريبة وتهمة، وبعد، فإن مأثرتك هذه الجلى التي حاولنا عبثا توفيتها حقها من الحمد والشكر ليست لعمرك أخرى مآثرك، ولن تكون بحال ما خاتمة مساعيك ومفاخرك. يأبى لك ذلك فرط حبك لبلادك، وعطفك وحنانك على أبنائها الذين هم أبناؤك البررة، وصدق وطنيتك العميقة، وحميتك العريقة، وشدة إخلاصك لوطنك وتفانيك في خدمته والتذاذك بتضحية الأعز والأنفس في سبيله، وارتياحك إلى ركوب الصعاب، واقتحام العقاب، واعتساف الأوعار، ومغامسة الأهوال والأخطار من أجل الدفاع عنه، وصيانة حوزته وحماية بيضته. نقول: لم تنته بعد مساعيك في صالح البلاد، ولم تترك المسرح لغير رجعة، معاذ الله أن يكون ذلك، ومعاذ همتك البعيدة وشيمتك المجيدة، وحاشا لعزتك الشماء، وحميتك الذكية الروعاء أن ترى على سكونك هذا إلا خفاق الجوانح على وطنك راجف الأحشاء. فما كانت روحك الكبيرة السامية، ونفسك الجياشة المتوقدة لتسكن في هذه الآونة إلا تأهبا للحركة، وتحفزا للوثوب، وانكماشا للكرة إلى الميدان متى أهابت بك النوب والخطوب. بل أراك في عزلتك الراهنة لا تزال ينبوع أمل وقوة لمواطنيك، تنفث فيهم روح اليقين والثقة والرجاء كأنك زورق النجاة، لا يبرح باعثا يرد الطمأنينة في ركب السفينة مهما طغى الموج من حولهم واصطخبت الأنواء.
هذه كلمة حق، ونفثة صدق أرفعها إليك يا صاحب الدولة في عزلتك السياسية، أعبر بها عما يضمره لك ويعلنه من آيات الحب والولاء أهل وطنك أجمعين الذين لم يبق فيهم - بعد موقفك المشهور ومقام دفاعك المأثور في قضيتهم المقدسة - غامط لحقك العظيم، منكر لفضلك العميم، إلا جاحد عريق في الجحود، يحمل مكان قلبه أصم جلمود، سقيم الطبع، مريض الذوق، ينكر من علة ضوء الصباح، ومن آفة حلاوة العذب القراح، وما أحسب أن مثل هذا المخلوق يوجد بين مجموع الشعب حماه الله من أمثاله، وصان أديمه النقي من وصمة خلاله، وما أراني بعد يا صاحب الدولة قادرا على الوفاء لك بواجب الشكر، وليس يفي لك بهذا إلا صلوات المليك في السور.
نرجع إلى ما كنا فيه من أمر انقسام الأمة في الرأي والمذهب إلى قسمين إزاء تصريح إنكلترا العظيم الشأن بإلغاء الحماية، والاعتراف لمصر باستقلالها التام، وأن تكون ذات سيادة في الداخل وفي الخارج، وذات برلمان ووزارة مسئولة أمام البرلمان، وحصر الخلاف بين المملكتين في النقط الأربع المعروفة، وإعطاء الحق لمصر في بدئها مفاوضات مستقبلة تدخل فيها مع إنكلترا - مزودة بسلاح الاستقلال، مطلقة من قيد الحماية - لكي تسوي مع بريطانيا في تلك المفاوضات المقبلة قضية بلادها التسوية التامة، وكل هذه المغانم والأرباح والمزايا نالتها مصر دون أن تدفع فيها ثمنا من تقيد أو تعهد أيا كان.
نقول: إزاء هذا الحادث الجليل انقسمت الأمة من حيث الرأي والمذهب إلى فريقين؛ فريق التيمن والتفاؤل، وفريق التطير والتشاؤم، وقد ذكرنا أن هذا الأخير قد بنى تشاؤمه على ما يزعمه من سوء عقيدته في بريطانيا وجرأتها على خفر الذمم ونقض العهود وإخلاف العهود، وقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم هي غير إنكلترا الأمس، وأن تعدد الثورات والاضطرابات أثناء السنوات الأخيرة في ولاياتها ومستعمراتها قد أثبت لها بأنصع البراهين والأدلة؛ أن الأمم والشعوب ليست أشباحا ولا تماثيل تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء لها روح الاستبداد والمطامع الاستعمارية، ولكنها نفوس وأرواح كأخواتها ساكنات البلدان الغربية والممالك الأوروبية مستمدة مثلها من روح الله وينبوع القوة الأزلية، وأنها بذور الله قد غرسها في أرضه منطوية على جوهر الحياة وعناصر النمو والتفرع والسمو في جو الله إلى حيث تنسم في الفضاء الرحب أنفاس الله - أعني نسمات الحرية والاستقلال - وأنها كسائر البذور والأغراس لا بد أن تزكو وتكبر وتبلغ غاية نضجها، وتسمو إلى درجة الارتفاع المقدرة لها أزليا بسنة الطبيعة السارية وحكمها النافذ، وبحكم ما انطوت عليه من عوامل الإنبات والنمو والارتفاع، وعلى حسب نصيبها من تلك العوامل. أجل، لا بد لها - باعتبارها بذورا غرست في أرض الله - أن تنمو وتسمو، أو تذبل وتعفن لتستأصل أو تنشر من أجداثها وتعود إلى حياة ثانية وسيرة جديدة - على حسب ما يكمن فيها من عناصر القوة أو الضعف، ومن عوامل الرقي أو الانحطاط - هذا أو ذاك لا بد أن تفعله تلك البذور والأغراس (أو تلك الأمم والشعوب) بحكم النواميس الزمنية، والقوانين الكونية سواء أرادت بريطانيا أو لم ترد، وسواء سرها ذلك أو ساءها. هذه إرادة الطبيعة التي تأبى إلا تنفيذ إرادتها أحبت بريطانيا أو كرهت، ورضيت بريطانيا أو رفضت، كأنما بريطانيا - بأساطيلها ومدافعها وورشها ومعاملها وولاياتها ومستعمراتها - شيء تافه حقير في نظر الطبيعة، أو كأنها ليست موجودة، ولم توجد ولم تكن.
حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لفريق التطير والتشاؤم - المعدوم الثقة في بريطانيا، المملوء رعبا ووجلا من ألاعيبها وخدعها - أن بريطانيا قد آمنت بحقيقة تطور الأمم الشرقية، وصدق نيتها على المضاء في سبيل الجهاد لإحراز حقوقها المسلوبة مهما كلفها ذلك. حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى قد خلقت في العالم جوا اجتماعيا جديدا، مملوءا بعوامل جديدة كان من شأنها أن أبرزت في سطور من النور والنار تلك المبادئ التي حسبها العالم جديدة - وإنها لقديمة قدم الدهر والطبيعة ذاتها - والتي كان قد حجب سطورها - كثيرا أو قليلا - ما كان قد ركبها من غبار الفتور والتواني وحب الدعة والراحة والتراخي، أعني تلك المبادئ التي راجت وسادت بعد الهدنة كالقول بتحرير الشعوب وتفويض الأمم في حكم ذاتها وتقرير مصيرها.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى خلقت هذا الجو الجديد المملوء بهذه المبادئ الجديدة القديمة، وأن هذا الجو وهذه المبادئ قد نبهت من همم الأمم والشعوب المظلومة، وشحذت من عزماتها، واستحثت ما يكمن فيها من حركة التطور الطبيعي والنمو الغريزي، فكان ما كان مما شاهده العالم، وأربك بريطانيا وأزعج خاطرها من تلك الثورات والاضطرابات في ولاياتها ومستعمراتها وتوابعها المختلفة.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أنا - كبعض تلك الشعوب التي هبت في وجه بريطانيا تطالبها برد حقوقها المسلوبة - قد صدمنا بريطانيا ثلاث صدمات عنيفة: «حركة عام 1919»، و«مقاطعة لجنة ملنر»، و«قطع الوفد الرسمي للمفاوضات»، أيقظنا بها بريطانيا من غفلتها أو تغافلها، وزعزعنا بها أساس طمأنينتها وهدوئها، وأرجفنا بها قلبها، وبدلناها بالأمن حذرا، وبالاستهانة استعظاما، وبالوقار خفة، وبالاطمئنان وجلا.
وبذلك استطعنا أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم ليست إنكلترا الأمس، وأنه باعتبارها أمة تفهم وتعقل، وتعرف الخير من الشر والتمر من الجمر، وتشارك سائر خلق الله - حتى الأطفال والحيوانات - في الغريزة المشترك فيها كل الخلائق، والتي عليها مدار الحياة ونظام الكون، والتي لولاها ما حملت قدم جسما ولا احتوى جسم روحا - أعني غريزة النفور من الأذى والهروب منه إلى الخير - نقول إنه باعتبار بريطانيا هكذا، وبالنظر إليها في هذه الصورة الطبيعية الحقيقية - بالعين المجردة عن الأهواء، المتتبعة مهابط الحق ومواقع آثاره أين كان وكيفما كان - لا يسعنا إلا أن نراها قد غيرت من سياستها وبدلت من خطتها، وأنها قد وقفت اليوم لنا موقفا خلاف موقفها بالأمس (لا يمكن أن يكون أسوأ من الموقف السالف، بل أحسن بلا نزاع وأفضل). ولما كنا نحن المصريين الذين استطعنا بقوتنا وحكمتنا أن نغير موقف بريطانيا معنا، ونحوله عن حالة إلى أحسن منها - ولو قليلا - فليس يستحيل علينا ولا يتعذر ولا يبعد - بفضل اتحادنا وتضافرنا على الجهاد المستمر الدائب - أن نزحزحها شيئا فشيئا إلى مواقف أخرى أحسن لنا فأحسن؛ حتى نقفها أخيرا عند حدها، ونقيمها في مشعب الحق، ومقطع السداد والصواب، ومفصل الإنصاف والعدالة، وحينئذ نبلغ المراد وننال الغاية.
على أننا لو سلمنا جدلا بوجوب إساءة النية ببريطانيا، فأي ضرر علينا في قبول «إعلان إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام»؟ في قبول منحة الله لنا، بل منحة كدنا واجتهادنا، وثمرة ما بذرناه في مزرعة الجهاد من بذور هي عرق جباهنا، ودفع دمائنا وأفلاذ أكبادنا. أي ضرر علينا في قبول هذه الهبة الإلهية والانتفاع بها جهد طاقتنا، وبقدر ما فيها من خير وبركة؟ أي ضرر علينا في اتخاذها عمادا لنا ودرعا وسلاحا نضيفه إلى ما لدينا من الأسلحة؛ ليكون ذلك أقوى لنا على مناهضة الخصم ومغالبته؟
أليس الأجدر بنا والأضمن لخيرنا وفلاحنا أن ننظر إلى هذا الاستقلال في أول أدواره كباكورة أعمالنا المجيدة وبادرة مجهوداتنا الشديدة، وأنه مولود نهضتنا العظيمة الذي ما برح يتكون في أحشائها أزمان الحمل العسيرة، وأنه نتاج وطنيتنا المقدسة التي جعلت تتمخض عنه تمخض البحر عن دره ومرجانه، والكنز عن تبره وعقيانه حتى إذا ألقى به الحظ في حجورنا ذخرا نفيسا ، وثمرة مباركة كان من أوجب الواجب علينا أن نبتهل لله شكرا، ونرحب به ونهلل تحية لطلعته، واستبشارا بغرته قائلين مع الشاعر:
يمن الله طلعة المولود
وحبا أهله بطول السعود
ما لنا لا نطرب ونفرح بهذا المولود الجديد؟! ما لنا لا نحمد الله عليه ونحوطه بالنفوس والنفائس، ثم نعمل على تربيته وإنمائه، وترقيته وإعلائه حتى يبلغ أشده، ويستكمل قوته وأيده؟!
هذا الاستقلال الوليد إنما هو جذوة مقدسة اقتدحتها يد الشعب بزناد الكد والجهاد، واستثارتها معاول الكفاح والجلاد من صخرة الجبروت والاستبداد. فما لنا لا نحوط هذه الجذوة المقدسة؟ وما لنا لا نشبها ونذكيها بأنفاس هممنا الصادقة، ورياح عزماتنا الثاقبة حتى يتلهب سناها، ويسطع شعاعها فيخرج البلاد وأهلها من ظلمة الرق إلى ضياء الحرية؟!
إن استقلالنا في هذا الدور الأول ليس سوى هلال الحرية في أولى منازله، فما لنا لا ننتظر به النمو والزيادة؟! وما لنا لا نرقب له الكمال والتمام؟! وما لنا لا نقول مع الشاعر:
مثل الهلال بدا فلم يبرح به
صوغ الليالي فيه حتى أقمرا
ومع الآخر:
إن الهلال إذا رأيت نموه
أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
وهبونا لم ندرك الغاية، أفلم نضع أقدامنا على فاتحة السبيل المؤدية بالمثابرة والمصابرة إلى الغاية؟ ألم نملك اليوم فوهة المسلك الواضح المستضيء بعد طول تخبط في الأوعار والدياجي؟ ألم يعثر الغريق بين طفوه في غمرة الكرب ورسوبه على لوح النجاة - ولو ضعيفا - وعلى عود السلامة - ولو ضئيلا؟ أو لم تخرج السفينة من منطقة الخوف والخطر وإن لم يزل بينها وبين الساحل عباب وغمار يحتاج خوضها واقتحامها إلى احتمال المشاق والمتاعب؟
يقول الفريق المتشائم إن بريطانيا تضمر لنا في سريرتها خفايا وتكن لنا دفائن وخبايا. فهب ذلك من الجائز، فلماذا لا ننتفع بالثمرة الواقعة، ثم نحذر المضرة المتوقعة؟ وهل يجوز في عقل أن ترفض الوردة من يد مهديها مخافة أن يهديك الشوكة يوما ما؟ أو ترد الكأس الروية إلى كف مديرها وساقيها خشية أن يدير عليك فيما بعد حنظلا وعلقما؟ أليس قياسا على هذا يحق لنا أن نرفض سواكب الغيث من السماء لما يحتمل من إرسالها للصواعق علينا يوما ما؟ وأن نغمض أبصارنا في وجه الأفق رافضين أشعة الشمس الضاحكة لما يتوقع يوما ما من عبوسه لنا بظلمة الضباب والغيم؟ فماذا تكون حال أبناء البشر إذا ساد في الأرض هذا المذهب، وتغلبت هذه الشريعة؟ وأي حياة يحيون؟ وكيف تدار دواليب الأعمال؟ وكيف يتقدم ركب الإنسانية في سبل الرقي إلى أمد الكمال؟
هبونا لم ندرك الغاية، فأي الحالتين أشرف وأمجد؟ وأي الموقفين أقوى وأمنع؟ وأي المركزين أدنى من أمل وأكفل بنجاح؟ دخولنا المفاوضات الآتية أحرارا مستقلين، أم دخولنا إياها تحت نير الحكم الأجنبي وفي قيود الحماية؟ أي الأمرين أفضل؟ ذهابنا للتفاوض مطلقين من هذه الأغلال مزودين بسلاح الاستقلال (ولو مثلوما مفلولا)، أم ذهابنا عزلا من السلاح كشفا من الدروع مكتوفين بأصفاد الحماية؟ ثم ماذا غرمنا بعد وماذا خسرنا؟ وماذا أضعنا بقبولنا ما نزلت عنه إنكلترا وما صرحت به من هذا الإلماء وهذا الاعتراف؟ هل بذلنا في سبيل ذلك شيئا من حقوقنا أو تخلينا عن شيء من مطالبنا؟ هل أعطينا بريطانيا في مقابل هذا العربون الجسيم ثمنا؟ هل سمحنا لها أن تأخذ علينا أدنى تعهد أو تقيد؟ كلنا يعرف الجواب على ذلك؛ كلا.
وبعد؛ فهل نسيتم أو غاب عنكم أن ما تحقرونه اليوم - بل تنقمون عليه من ذلك التصريح المتضمن إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال - قد كان يوما ما أقصى ما تطمح إليه أنظاركم يوم كان الوفد المصري لا يتمنى على بريطانيا - عند بدء دخوله المفاوضات معها - أمنية أجل وأعظم من مجرد إعطائها إياه وعدا بأن يكون إلغاء الحماية ضمن ما تعترف به لمصر أثناء المفاوضة؟ في ذلك اليوم (وليس العهد ببعيد) لم يكن الوفد المصري - ولا أي مصري كائنا من كان - يحلم أن في استطاعة الأقدار أن تستخلص من بريطانيا العظمى غنيمة «إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» - مبدئيا وقبل التفاوض - كعربون بلا ثمن، وكأداة تمهيد وتوطئة للمفاوضات المقبلة.
أنسيتم يوم كنا نشرئب بأعناقنا التي قطعها الظمأ ، ونتطاول بأبصارنا التي أرمدها السهاد - إذ نحن في مضال الحيرة وقفار اليأس - إلى ذلك المنهل العذب (منهل الحرية) الذي كان ممنوعا منا بأسوار الحماية المسلحة وأسلاكها الشائكة، وقد أذبل العطش أسلات ألسنتنا يوم كنا نتوق ونتلهف على رشفة من زلال ذاك المنهل الشبم؟ أم نسيتم ونحن في دياجير القنوط كيف كنا نتشوف إلى شعاع من ذلك السراج المنير - سراج الحرية الذي كان يطمس سناه ضباب الحماية وأدجانها المتراكمة الكثيفة - فها نحن أولاء نسير في وضح السراج المنير، وننقع الغليل بماء الحرية النمير. فما معنى هذا التسخط والتذمر؟ وماذا تريدون بهذا التأفف والتضجر؟ وما هذا القال والقيل، والصراخ والعويل، والتغرير بأبناء البلاد والتضليل؟
فخبرونا - بعيشكم - ماذا كنتم فاعلين لو أن هذا التصريح العظيم «بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» جاءكم في ظروف أخرى، وعلى أيدي آخرين (يوم كنتم لا تحدثون به أنفسكم ولا في الأحلام - يوم كنتم تعدون ما هو دونه بكثير منة عظمى ونعمة جلى - يوم كانت أقصى أمانيكم أن يكون هذا الإلغاء وعدا موعودا لا ثمرة حاصلة) - ماذا كنتم فاعلين إذ ذاك؟ أهناك أدنى شك في أنكم كنتم تملئون الأرض والسماء تكبيرا وتهليلا ونشيدا وترتيلا، وتحرقون البخور في المجامر إقامة لشعائر التقديس للذين ساقوا إليكم المغنم العظيم، وتأدية لمناسك العبادة للآلهة الذين غمروكم بالفيض العميم؟ أما كنتم تقيمون الصلوات في المحراب لأولئك الأرباب؟ أما كنتم تهزون أعواد المنابر إعلانا لمفاخر أولئك الأكابر؟ أما كنتم تنحرون النحائر، وتدقون البشائر، وتوقدون الشموع، وتزينون الربوع؟ أما كنتم تقطعون الحناجر، وتمزقون الرئات بالهتاف حتى تصبحون خرسا، لا تطيقون الكلام إلا همسا ونبسا؟ أما كنتم تمثلون في عرصات القاهرة رواية البعث والنشور؛ إذ تحشرون قبائل وشعوبا في صعيد واحد، متزاحمين متدافعين، متكدسين أكداسا مشتبكة متلاحمة، جبلا هائلا من الإنسانية الهائجة المائجة، وصرحا ممردا من الجماجم ليس فيه أدنى ثلمة ولا فرجة:
فلو حصبتكم بالسماء سحابة
لظل عليكم حصبها يتدحرج
ثم تخلعون كل عذار، وتندفعون في كل تيار مطلقي طوفان الغرائز الحيوانية من محابس التؤدة والرزانة، مرسلي سيول النزعات الشهوانية من قيود الورع والرصانة، سامحين لعنصر التراب والحمأ المسنون فيكم أن يتغلب على عنصر الروح الإلهي والنور السماوي، كأنكم كتلة جسيمة من الفوضى، يظل من يبصر فرط اضطرابها وتشوشها واختلاطها لا يكاد يصدق أن في استطاعة القدرة التي خلقت نظام العالم العجيب من عالم السديم المشوش أن ترد هذا البركان المتطاير الحمم والشظايا، وهذه الزوبعة المستطيرة الشرر والصواعق، وهذا الزلزال البادي في أشنع صور التخريب الذهني والتدمير الروحاني إلى سيرته الأولى من الحياة الهادئة المنظمة، وصورته المعهودة من مظاهر الإنسانية المهذبة.
وبالاختصار، أما كنتم تجددون عهد ذلك اليوم المعروف 5 أبريل 1921، الذي يسجل على ترمومتر الحياة الاجتماعية أعلى درجة لحيوانية الإنسان وأخفض درجة لروحانيته، ويقدم أصدق مثل تاريخي على تأصل طباع آباء البشر - ساكني الكهوف وقانصي الوحش - في نفوس أبنائهم مهما قدم العهد وتطاول الأمد؟
أجل، لقد كنتم تفعلون ذلك وفوق ذلك لو أن غنيمة هذا التصريح - بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام - جاءتكم في ظروف أخرى وعلى أيدي آخرين. فما بالكم اليوم لا تصنعون عشر معشار ما كنتم صانعيه إذ ذاك؟ بل ما بالكم لا تكتفون بمجرد إظهار الارتياح والانشراح، بل بمجرد السكينة والثبات، بل بلزوم سنة الصبر الجميل حتى تروا عواقب هذه البوادر، ونتائج هذه البشائر. فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأمامكم مجال المعارضة الشريفة في صفاء جو الهدوء والحلم اللذين تقتضيهما سنن الجدال وقوانين المناقشة، رابئين بنفوسكم عن مواقف التغرير بالشعب والتضليل، وعن خبث مواطن الإرجاف والتهويل، وعن سفال مساف التشنيع بالوزارة الدستورية الساعية إلى خير الأمة، الممثلة لأمانيها، الباذلة أقصى الجهد في تنفيذ رغباتها، وعن خسة مهابط الانتقاص منها والنيل من كرامتها، وتوجيه كاذب التهم نحوها، وترويج سوء الظن بها مما يفسد أذهان الشعب - الذي تدعون أنكم قادته وأبطاله الذائدون عن حياضه - ويسمم عقيدته، ويضل رأيه، ويطمس على نور بصيرته. ما بالكم تحاولون - بإخماد جذوات الأمل في النفوس وإبدالها ظلمة اليأس - تثبيط الهمم وفل العزائم، وإقعاد الأمة عن مواصلة السعي في سبيل الجهاد، أو تحويل ذلك السعي في شر السبل وأشدها وبالا - أعني سبيل المشاحنات الحزبية، والمطاحنات الفرقية، وتقاطع الأرحام والصلات، وتدابر الخلان والثقات - ذلك السبيل الذي طالما أغريتم الناس بسلوكه فلم تجدوه يؤدي بقضية البلاد إلا إلى شر غايات الفشل، وأحرج مضايق الكرب، وأوخم مراتع الخيبة كما قد شاهدتم أن نذير الخطر كلما كان يصيح بالشعب محذرا الاسترسال في ذلك السبيل - سبيل التنابذ الممقوت - والإمعان في شعابه، داعيا إلى الرجعة لسبيل التضامن والاتحاد فيطيعه الشعب جامعا كلمته، حاشدا صفوفه، أدبر الشر والطلاح، وأقبل الخير والفلاح، وأبرمت روح الاتحاد من أسباب القضية ما كانت آفة التفرقة قد نكثت ونقضت، ووثقت عزة التضافر من أركانها ما كانت ذلة التخاذل قد هدمت وقوضت، فأشرق نجمها بعد أفول، وأورق عودها بعد ذبول. نقول: لقد جربتم هذا وذاك، ولقيتم من الخطتين النعمة والمصاب، وذقتم من الكأسين الشهد والصاب، فهل انتفعتم بتجارب الزمن، وحنكتكم تقلبات الدهر بين نعم ومحن؟ وهل فقهتكم الصروف، وفطنتكم تلونات الظروف؟ وهل سبكتكم نيران الكوارث في بوتقة التمحيص والتهذيب، وقومتكم أيدي الحوادث بثقاف الإصلاح والتأديب؟ أم وجدتكم هذه القوى والعوامل بمنعزل عن ندائها وبمنقطع عن صوت دعائها، فكانت إنما تحاول في هدايتكم تحريك الجبال، وتسكين الزلزال، وضبط هوجاء الرياح، وإسكات العارض السحاح، وكأن موقع وحيها وتعاليمها من قلوبكم موقع الرقم على صفحة الماء، والنقش في أديم الهواء، وكذلك لم تجد هذه المؤدبات الإلهية والمهذبات الطبيعية من بينكم إلا كل نافر شرود؟
جامع في العنان لا يسمع الزج
ر ولا يرعوي إلى الرواض
فلأي قوة في الكون يرضخ من أبى الرضوخ لأستاذ التجربة؟ ولأي إرشاد ينصت من لم يصغ إلى وحي العواقب؟ وأي درس يحفظ من أهمل درس الأسباب والنتائج؟ ولأي صوت يأذن من أغلق سمعه دون صوت الطبيعة؟ وبأي مصباح يسترشد من أغمض طرفه عن سراج الحق؟ وبأي شيء في هذا الوجود يصدق ويؤمن من خادع نفسه وغالط ذهنه في الواقع المحسوس والحقائق الملموسة؟
وأي إنكار للحاصل والواقع أشد من إنكاركم لتلك الحقيقة الكبرى التي أصبح يبصرها الضرير، ويسمع وقع آثارها الأصم، ويكاد يتحرك لها رفات الأموات في قبورها، تلك الحقيقة التي بتنا نتقلب في مضاجع راحتها وبين أعطاف نعمائها، ونجني باكورة ثمارها يانعة جنية؛ من تحكم في أمورنا، وتصرف في إدارة شئوننا، وقبض على أزمة السلطة في حكومة بلادنا، وتأسيس برلمان كأرقى برلمانات العالم دستورية وأحسنها نظاما، ووزارة مسئولة أمام ذلك البرلمان قد قام رئيسها الجليل ثروت باشا يبرهن للناس على حسن نيتها، ويقدم لهم أمثلة صادقة من مبدأ مسئوليتها بما قد جعل يلقيه على الملأ مرة بعد أخرى من خطبه الرائعة المملوءة بروح الديموقراطية، مما لم تعهده البلاد قبل اليوم من أي وزارة قامت بين ربوعها أو رئيس تقلد زمام الحكم فيها، ثم بتنفيذ نصوص هذه الخطب بالأعمال الجليلة والنتائج العملية.
أي إنكار للواقع الملموس أشد من إنكاركم إلغاء الحماية بعدما أعلنت ذلك بريطانيا، وصادق عليه برلمانها، وكساه الصورة الشرعية والصيغة الرسمية، وبعدما أمنت عليه دول العالم، وهللت له وصاحت، وتواردت به التهاني تطير بأجنحة البريد وتهفو على ساريات البرق - بل كادت تشترك في إعلانه الطبيعة ذاتها، فتتهامس بنجواه الرياح، ويفضي ببشراه المساء للصباح - فتقولون بعد كل هذا إنه ما حدث حادث ولا تغيرت حال، وإنه:
تخرص وأحاديث ملفقة
ليست بنبع إذ عدت ولا غرب
تقولون إن هي إلا أسماء سميتموها، ورنين ألفاظ زينتموها كلام في كلام، وأضغاث أحلام، ورماد يذر في الأجفان، وتخدير أعصاب وأبدان. فبحقكم هل كنتم قائلين ذلك لو سيق إليكم هذا الربح العظيم على أيدي آخرين؟ أم أنتم لا تعترفون بالفضل ومقداره إلا إذا انحدر إليكم من طريق مخصوص محبب إليكم، ولا تتحدثون بالنعمة إلا إذا جاءتكم في غلاف معين مبصومة بماركة معينة لفابريقة معينة؛ لا تعرفون غيرها، ولا تعترفون بسواها، ولا تؤمنون إلا بها، ولا تأخذون إلا مصنوعاتها. ثم المقاطعة التامة والويل والعفاء على البضاعة بعينها إذا صدرت عن فابريقة أخرى تحمل ماركة أخرى؟ فأنتم إنما تعنون بالواسطة لا بالنتيجة، وكل ما يهمكم هو الزي لا الكائن الحي المشتمل به، والوعاء لا المتاع المنطوي تحته، ومن كان هذا شأنه - متعلقا بالأعراض دون الجواهر، منصرفا عن مادة الحقائق إلى هباء المظاهر - كان يعيش في عالم من الخيالات والأحلام، وينقلب في جو من الأكاذيب والأوهام، وإن تشأ فقل عنه - ولا حرج - إنه لا يحيى ولا يعيش، ولا يكون ولم يكن.
ليت شعري، ماذا نقول للذين يستقبلون نعمة الله بالسخط والنقمة ويتلقون فضله العظيم بالاستياء والأسف؟ ليت شعري، ماذا نقول للذين يلقون وجوه اليمن الضاحكة بوجوه مربدة عابسة، وينفرون من عرائس النعم المزفوفة عليهم بأعطاف شامسة؟ أفلا نقول إن الطبائع البشرية قد انعكست فيهم فدواعي السرور تشجوهم، وبشائر الصفو تشجيهم، وانبساط الأمل يورثهم انقباض اليأس، وأسباب الطمأنينة تثير فيهم هواجس الوسواس. فأي فائدة ترجى من أمثال هؤلاء لصالح العالم عامة ولمنفعة أوطانهم خاصة؟ أي فائدة ترجى منكم يا من هذا دأبهم وديدنهم سوى أنكم تعملون على إماتة الأمل ونقض العزائم ونكث الهمم؟ تكدرون الصفو، وتعكرون الصحو، وتجعدون السلس، وتخشنون الأملس، وتوعرون السهل، وتعقدون المنحل، وتثيرون على رونق الأماني المشرقة غبار الضجر والتبرم، وتعقدون دون كواكب الرجاء غيوم التطير والتشاؤم، لا تنفكون تقيمون مناحة جدية على مصائب وهمية، ثم تجعلون تشاؤمكم هذا دليلا قاطعا على صدق وطنيتكم، وتسمون إنكاركم للواقع المحسوس، وإقامتكم العقبات في سبيل تقدم البلاد إلى غايتها المنشودة عنوانا على فرط إخلاصكم، وشدة تفانيكم في خدمة القضية.
فخبروني بربكم أهو الإخلاص والتفاني الباعث الحقيقي الذي يدفعكم إلى إتيان ما تأتون من المعارضة في الواضح المستنير والمكابرة في إنكار ما يراه الأكمه والبصير؟ وهل حقا تعتقدون في صميم أفئدتكم أنكم أنتم وحدكم المخلصون، وأن فريق التيمن والاستبشار هم المنافقون؟ وهل حقا في صدوركم وحدها يتأجج لهيب الوطنية، وعلى قلوبكم دون غيرها يتنزل وحي الوطنية؟ وهل الوطنية لم تضرب في غير ضمائركم قبابها، ولم تتخذ في سوى جوانحكم منسكها ومحرابها، ولم تقم خلافكم مداره يدافعون عن قضيتها، ولم تجند غيركم عسكرا يذودون عن جوزتها؟ وهل هي لم تتعشق سواكم ولم يهم قلبها إلا بكم؟ وهل كان من عداكم خونة غدرة وفجرة كفرة؟
وهل أنساكم حب الوطنية أغراضكم الذاتية ومآربكم الشخصية، وأذهلكم عن طلب الجاه والمنصب والرياسة، وألهاكم عن الولوع بمظاهر الأبهة والفخامة والزعامة؟ وهل صرفكم الشغف بالوطنية عن الشغف بهتاف الناس لكم في كل شبر من الأرض والمناداة بإحيائكم وبتخليد ذواتكم السامية العلية في هذه الدنيا الفانية الدنية، وبإسقاط أضدادكم وبموتهم وتكفينهم ودفنهم؟
وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل من حق الوطنية عليكم أن تخذلوها في أدق ساعاتها، وأشد أزماتها بمحاولتكم صدع الشمل وهدم البناء، وتمزيق الوحدة، وتفريق الكلمة بطمس معالم الحق الأبلج، وترويج الباطل اللجلج، وإقعاد الهمم والعزائم عن مواصلة السعي إلى الغاية المقصودة، وصرف الأمة عن الأخذ بالعروة الوثقى، وانتهاج الخطة المثلى، والانتفاع بما ساقه إليها الحظ من الأرباح والمغانم، واستثمار ما تنازل عنه الخصم لمصلحتها من الفوائد والمزايا، وعن مضاعفة حولها وقوتها باستخدام ذلك السلاح القوي الذي استفادته أخيرا بفضل مساعي الوزير الكبير ثروت باشا - سلاح الاستقلال الشرعي التام - الذي أصبحنا اليوم نجتني باكورة ثماره؟ أمن حق الوطنية عليكم أن تصنعوا هذه الهنات، وما هي إلا سهام تصمون بها كبد القضية المقدسة، ومدى تمزقون بها أديمها، ومعاول تهدمون بها كيانها؟ أم هل نسيتم - وليس العهد ببعيد - يوم خذلتموها وهي ملقاة في قسطاس المفاوضات الرسمية؛ إذ كانت تبتهل إليكم أن تلتفوا حولها، وتشدوا أزرها؛ ليكون من جماعتكم محتشدة، ومن كتلتكم مندمجة خير قوة ترجح بكفتها في الميزان فتشيل كفة الخصوم، وتنال هي الظفر والنصر بهممكم وعلى أيديكم، فهل أعنتموها ونصرتموها، وأجبتم دعاءها، ولبيتم نداءها؟
أفبعد هذا كله تدعون أنكم أنتم وحدكم الوطنيون، ومن سواكم غدرة منافقون، وأن الوطنية قد خصت بكم، وحبست عليكم، ووقفت حيث أنتم فما لها عنكم متقدم ولا متأخر؟
هذا صنف جديد من الوطنية، ونوع غريب - لا عهد للناس به قبل ظهوره منكم - قد سبقتم إليه العالم المتمدين، وامتزتم به على أهل البدو والحضر، فلكم وحدكم فخر ابتداعه وامتياز اختراعه، ولكم أن تتخذوا له «ماركة مسجلة» تحتكرون بها مزية الانتفاع بأرباحه واستثمار فوائده، وتمنعونه بها من أن يكون لغيركم من مخلوقات الله حلا مباحا يستمتعون به كما يشاءون، ولبئس ما يستمتعون! وبئس ما يستثمرون! فاحتكروه وحدكم واستأثروا به، وامنعوا منه خلق الله فلن تستطيعوا أن تحسنوا إلى الناس أكثر من إحسانكم عليهم بمنع مثل هذه «الوطنية السامة» من السريان في كيانهم الصحيح المعافى، ولا أرى كفارة لجريمة اختراع مثل هذا الصنف من الوطنية أفضل من قيام مخترعه بتسجيله واحتكار امتيازه لنفسه دون غيره، وما يستدعيه ذلك الاحتكار من صيانة خلق الله الآمنين وعباده الصالحين من شروره وآفاته.
الوطنية المحضة الصريحة المخلصة الصادقة لا توحي بأمثال هذه الفعال، ولا تغري بانتهاج تلك المسالك، إنها أنبل مقصدا، وأكرم نزعة من أن تأمر بغرس بذور الأحقاد والضغائن، وتأريث نار الشر والعداوة بين أبناء الوطن الواحد، وتفريق الكلمة، وتبديد الصفوف، وفرط العقد وفصم العرى. هي قد تأمر بالمعارضة ولكن بالمعارضة الشريفة النزيهة، الواقعة في حدود الرفق واللين والأدب والحكمة والعقل والمنطق، المبنية على أفضل أساس من حسن النية وشرف المبدأ، ونصرة العدل، والتنقيب عن مواطن الصدق ومكامن الحق، ولزوم محجة الحجة الناهضة، والتمسك بأسباب البراهين الدامغة، والتجرد عن شوائب الأغراض، والتنزه عن عوامل الأهواء، والتحلي بمناقب الكرم والعفة والحياء، ودماثة الطبع، ورقة الجانب، ولين العريكة، وسجاحة الخلق - أعني كل ما ينحصر في مدلول تلك اللفظة المفردة الإنكليزية التي اصطلح على تعريبها بلفظة «الرجل المهذب». فالمعارضة؛ تلك القوة الهائلة التي تعد بحق من أقوى عوامل تنظيم الهيئات الاجتماعية والسياسية، وأفعل الوسائل المؤدية إلى حسن التوازن في كيان الأمم والشعوب، يجب أن يكون القائمون بها من أفاضل القوم؛ أعني المهذبين الذين حاولنا وصف محامدهم ومناقبهم، لا أن تكون سلاحا في أيدي الطائشين الخرق المتهورين، ولا المتفاخرين بما آتاهم الله من قوة السواعد وجهارة الأصوات وصواعق الصيحات، المنتشين من خمرة الزهو والتيه والإدلال بشدة البأس وقوة الفتك ونخوة الفروسية والحماسة، الذين يهزون أقلامهم كما يهز بعض الرجال النبابيت والشوم - أو بالاختصار - لا يصح أن يسلم سلاح المعارضة الشريف إلى «فتوات» السياسة.
لا يصح أن تستخدم المعارضة في تضليل السذج البسطاء من الجماهير، والتغرير بهم بترويج الأباطيل والأكاذيب، ونشر إشاعات السوء والأراجيف، وتسميم الأذهان بأكاذيب التهم والظنون مما لا يساعد مثقال ذرة على خدمة القضية، ولا يتقدم بها شبرا واحدا نحو النجاح، بل يعمل - بالعكس - على تعريضنا للخطر الجسيم. لا يصح أن يتولى المعارضة من لا يهمهم منها إلا اتخاذها ذريعة لخدمة الأغراض والأهواء، وهم يعرفون الحقائق، ولكنهم يتعامون عنها تعامي البصير في الليلة القمراء، ولا أن يتولاها القصار النظر الذين لا يبصرون الحقيقة لما يحول دونها من سحب الأكاذيب والأضاليل، ولا أن يتولاها القوم البطاشون بأسنة الأقلام، وحراب المطاعن وهجر الكلام، الذين لا يلذهم ولا يقر عينهم إلا أن يروا ميدان المعارضة حومة وغى، وساحة قتال يضرجونها بدماء المناظرين والمناقشين، تسيل على ظبات أقلامهم وأسلات يراعاتهم من جراح الكرامات الدامية ومن كلوم الأعراض المثلومة. فهذا وحده الذي يسرهم ويشفيهم، وبدونه لا يرضون ولا يقنعون. أما طريق المنطق والقياس والمعقول فليس مما يألفونه أو يميلون كثيرا إلى سلوكه، وليس للحجة عندهم راجح وزن أو كبير قيمة، وبدل ما هو أساسي ضروري للمناقشة الحرة والمعارضة النزيهة - من صفاء جو الهدوء والحلم والرزانة الضروري لوضوح نور الصدق وسطوع نجم الحقيقة - تراهم يكدرون الجو بما لا يزالون يثيرون فيه من غبار الشغب والشر، ويعقدون في أرجائه من دخان الإساءات والاعتداءات بأليم المقال ومضاضه، وهذه الخلال - لعمر الحق - ليست مما يحبب المناقشة إلى أربابها وذوي البراعة فيها والافتنان في أساليبها، ولا مما يجعل ميدان المناظرة ذلك الندي المأنوس الذي يشتاقه ويهرع إليه أولو الفطن والألباب، بل هذه الخلال السيئة أجدر أن تبغض المناظرة والمناقشة إلى من يرجون لحل مشكلاتها وإثارة شبهاتها من ذوي الفضل والحجى؛ إذ يرونها إلى الصراع والملاكمة أقرب منها إلى المحاجة، وبالجلاد والطعان أشكل منها بالمباحثة، ويرون مجالها أحق أن يسمى مأسدة ومسبعة تجول فيه الضاريات بالبراثن، وتصول بالأنياب والمخالب فليس يجرأ على ولوج بابها، ودخول غابها إلا من تحصن في الجنن الواقية، وتسربل الدروع الضافية، وليس يخفى ما يكون لإبعاد أهل الفضل والنهى عن مجال المناقشة من الخطر الجسيم على سلامة الحقائق والمبادئ بمنع أشعة القرائح الوقادة من النفاذ إليها، والإشراق عليها، وإبرازها للعيان في ضياء الحجج المنيرة والبراهين الساطعة؛ وذلك من شر ما يبتلى به أمة ناهضة تقتحم أوعر سبيل إلى غايتها المأمولة من الحرية والاستقلال في ظروف عصيبة وأزمات شديدة، وجو مغيم مظلم تظل فيه أحوج ما تكون إلى الاستنارة بشهب الأفكار ومصابيح الفطن من عقول الصفوة المختارة من نخبة أبنائها المخلصين النوابغ.
نحن لا نقصد بهذا الكلام إلى الطعن في وطنية مصري كائنا من كان؛ لأنا ننظر إلى الوطنية نظرة أوسع وأعمق مما اعتاد أن يلحظها بها أولئك الذين يعدونها ضربا من الحرف وصنفا من الصناعات والمهن يحترفونها، فيقال فلان وطني كما يقال فلان مهندس أو طبيب، أو أولئك الذين يعدونها حلية وزينة يتملح بها المتبرج المتأنق فيقال فلان قد برع في الوطنية وحذقها كما يقال قد تفوق فلان في البلياردو أو الرقص أو الناي، ولكنا نرى الوطنية شيئا أعرق من كل ذلك في كيان الإنسان وتركيبه، وأشد امتزاجا بنفسه، وأرسخ جذورا في طينته، وأرسب أصولا، بل لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها هي بالفعل مادة حياته وعنصر كيانه، فهي ليست حرفة إلا إذا كان التنفس ذاته حرفة، وليست حلية إلا إذا كان الشعور والوجدان ذاته حلية، ولا هي مما يفتخر به ويباهي ويتيه به صاحبه عجبا وإدلالا إلا إذا صح أن يفتخر إنسان على آخر ويتيه ويزهى لغير ما سبب سوى أنه حي يرزق، وموجود تحت الشمس يستطيع أن يتحرك ويهضم، والواقع أن الإنسان وطني بالطبع مثلما هو مدني بالطبع وأناني بالطبع وخرافي بالطبع ... إلى غير ذلك من الغرائز والفطر المكون من مجموعها ذلك المخلوق المدهش المسمى إنسانا. بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن الوطنية - أعني فرط تشبث الإنسان وتعلقه بالأرض التي منها نشأ ونجم - ليست مقصورة على النوع البشري، بل مشتركة مشاعة بينه وبين كافة ضروب الحيوان من النملة إلى الفيل، ومن الإسفنجة إلى النسر، كل لا يقر ولا يطمئن إلا في وطنه وبيئته، بل إن النبات ذاته وطني إذا نقلته إلى غير وطنه وغرسته في غير مألفه ذوى فذبل فمات.
أكثر من ذلك أن الوطنية لكونها غريزة وجبلة هي كسائر الغرائز تفعل فعلها وتجري شوطها مستقلة عن العقل، لا نقول إن استقلالها عن العقل فرض لازم وشيء دائم فإنها قد تتفق معه أحيانا وتسترشد بوحيه، ولكن ذلك شيء عرضي، وهو من محاسن الصدف، وحينذاك تكون وطنية راشدة مبصرة، ولكن ذلك ليس من وظيفتها ولا من طبعها بصفتها غريزة كسائر الغرائز التي لا بد أن تنهج منهاجها وتحدث حدثها بقانون نافذ أزلي غير خاضع لسلطان العقل ولكن لسلطانه هو. فلا عجب أن ترى الوطنية مندفعة في مجراها في غير صحبة العقل، بل لقد تسلك الوطنية مسلكها في غير صحبة الشعور فيأتي الرجل الفعلة الوطنية من حيث لا يشعر أنه صنع شيئا البتة، ولكن من حسن عناية الله وتوفيقه أن يلهم الوطنية الانضمام إلى العقل والانضواء تحت لوائه؛ لأن العقل وحده هو المبصر الثاقب النظر وسط ظلمات الكون، والدليل المهتدى بين مضاله ومجاهله، وكل شيء سار في صحبه العقل فقد ضمنت له السلامة وقدر له النجاح، وكل ما لم يكن كذلك فقد تعرض للمتالف واستهدف للمهالك.
على أن العقل حينما يصحب الغريزة المسماة الوطنية لا مشاحة في أنه يكسر من حدتها، ويفل من سورتها لما يتحتم عليه من مراقبتها وتدبيرها بالكبح من جماحها، وصدها في الأحايين الكثيرة وقدعها وقمع طغيانها، وتوقيفها عند حد الأمان وفي دائرة السلامة فتصبح بلا شك - من حيث مبلغ قوتها وشدتها - أضعف بكثير من الوطنية المستقلة عن العقل الراكبة رأسها الهائمة على وجهها، وهنا يتهمها الناس بالفتور والتراخي؛ بل ربما غالوا فاتهموها بالمروق والخيانة، ومن ثم كانت الوطنية المستبدة العمياء في نظر الجماهير أغلى قيمة وأعظم قدرا وأوجب للإجلال والتقديس من الوطنية المتبصرة السارية في ضياء العقل، ومن ثم نشأت نظرية القائلين بأن الوطنية أعظم ما تكون وأقوى وأشد إخلاصا وحرارة في الجماهير والمجاميع، وأنها تتناقص قوة وحمية ولهيبا كلما ازداد نصيب صاحبها من العلم والفلسفة حتى أصبح الكثير من نوابغ العلماء والفلاسفة - وفي مقدمتهم «جيتا» أعظم فحول الألمان - يتهمون في وطنيتهم، والحقيقة خلاف ذلك فإن الوطنية في كلا الفريقين جوهر لا يقبل التجزئة والتقسيم، ولا النقص والزيادة، وإنما يختلف مظهرا في الفئتين تبعا لشدة اندفاعه وطغيانه بلا رقيب ولا مدبر في الواحدة، أو انطلاقه في زمام العقل وعنان الحكمة، ومسراه في ضياء الرأي والبصيرة في الثانية.
وبعد كل هذا الكلام أرجو أن أكون أقنعت من عساه يكون قد أساء فهم مرامي؛ فظن أني طعنت في وطنية فرد ما من أفراد شعبنا الكريم بأني ما قصدت البتة إلى أدنى شيء من ذلك، بل الذي أقوله هو عكس ذلك - كما حاولت إثباته بالبراهين الآنفة - من أن الوطنية تظهر في فئة المعارضين على أشد ما بدت فيه الوطنية منذ خلق العالم من أسطع الصور وأعنف المظاهر، فإن كان فيها علة فإنما هي الإفراط والطغيان لا الفتور والضعف، وإن كان بها آفة فهاتيك هي العنف والبطش لا اللين والهوادة، فإن كنت آخذ عليها شيئا فذلك هو الزيادة لا النقصان.
وهنا أقول: إن الذين يذهبون إلى فصل الوطنية عن مظاهر التعقل من الأناة والتؤدة والرفق والهوادة؛ بحجة أن هذه العوامل من شأنها أن تضعف من قوة الوطنية وتكسر من حدتها، فتعوق كثيرا أو قليلا من فرط اندفاعها وشدة انصبابها إلى ما ترمي إليه من شريف غايتها قد فطنوا إلى شيء، وغابت عنهم أشياء؛ لأنهم نظروا إلى الأمر من وجهة واحدة ولم يستوعبوا سائر جهاته، وكذلك النظر الجزئي إلى عظام المسائل جدير أن يضل صاحبه، ويعمي عليه الشيء الكثير من الصواب.
لقد فات هذا الفريق أن الغرائز والعواطف مهما شرفت ونبلت، ومهما كرم غرضها وحسن مقصدها، فإنها إذا لم تجعل تحت رقابة العقل (الذي هو وحده منبع النظام وأساس سلامة الكون) تصبح عرضة للوقوع تحت تأثير آفة الآفات، ومصيبة المصائب، وأدوى أدواء المجتمع، وألد أعداء الإنسانية، أعني داء «الأنانية»، وليس هذا محل الخوض في هذه المسألة الكبرى، وما أظن المجال ينفسح أو يسمح باستقصاء البحث والدخول في الجزئيات والتفاصيل وضرب الأمثال، على أن القارئ إذا ألقى هذا الكتاب برهة، وراض الذهن على فحص هذه النظرية جهد طاقته لم يبخل عليه بالجم العديد من الشواهد والأمثلة المؤيدة لهذه القاعدة العامة - خذ مثلا بسيطا: عاطفة الحب التي هي أنزه العواطف في أصلها وطبيعتها وأشدها تضحية وأبعدها من الأنانية بل أقتلها للأنانية إذا تسربت إليها آفة الأنانية فقدت تلك المزايا الكريمة والمناقب الحميدة، فقدت روح التضحية والنزاهة وروح التفاني في شخص المحبوب فأصبح صاحبها أكثر اهتماما بنفسه منه بمحبوبه، وأشد عشقا لذاته السخيفة السمجة منه لذات معشوقه، وأشغف وأهيم بملاحات جماله ومحاسن دلاله منه بمفاتن الحبيب فكل عنايته واكتراثه لنفسه، وكل عواطفه وشهواته تدور حول محور نفسه، ومن ثم تصبح نفسه «السخيفة السمجة الممقوتة» هي الصنم الذي ينصبه، ويخر له ساجدا، ويريد معشوقته المسكينة على أن تسجد له أيضا. ثم بدلا مما يكون في حالة عاطفة الحب النزيه الطاهر من تلك الفضيلة الأخلاقية الاجتماعية الكبرى؛ أعني روح التضحية السامية القاضية بنسيان العاشق ذاته الضئيلة، واتجاه كل ملكاته وقواه وجهوده نحو خدمة النوع البشري ممثلا في شخص حبيبه وتقديس المجتمع الإنساني مصورا في هيكل معشوقه؛ ترى جميع قواه وملكاته قد انعكست نحو ذاته الممقوتة فيظل يحسب أن نفسه هي الجوهر الوحيد في الوجود، وأن سائر الكائنات أعراض خسيسة، وأن كل ما في الكون من خلائق لم توجد ولم تكن إلا لتسره وتلذه وتسعى في خدمته وتسبح بحمده. لا يحسبن القارئ أن في كلامي هذا شيئا من المبالغة، فلقد رأيت بعيني رأسي كثيرا من هذا الصنف من العشاق، ولا أراني مغاليا إذا قلت إن مثل هذا العاشق لا يعير محبوبته من الاهتمام عشر معشار ما يبذله في سبيل انتقاء «دبوس» أو «بمباغ» أو «حمالة»، أو في سبيل المقارنة والمفاضلة عند اختياره لون ثيابه بين «الكحلي» و«الكريم» و«الكاكي»، ورأيت أن مثل هذا العاشق ينتهي به الأمر إلى خسران محبوبه وخسران الصحب والصديق والخلان، وكلما ازداد جمالا في عين نفسه ازداد قبحا في عيون الغير وكبر مقتا عند الخلق والخالق.
نقول: لقد فات ذلك الفريق أن العواطف والغرائز مهما شرفت ونبلت فإنها عرضة للإصابة بداء الأنانية ما لم تحصن برادع للعقل والرأي، ولما كانت الوطنية - كما بينا آنفا - عاطفة وغريزة فهي بهذا الاعتبار والحكم عرضة لداء الأنانية - لا يقيها من شره سوى العقل الذي هو الدواء القتال للأنانية ولغيرها من العواطف الخبيثة والشهوات الشريرة؛ لأن العقل هو القوة المدبرة المسيطرة على الكون، هو أس النظام ووسيلة الصلاح وعامل الرقي، وهو الدواء المستأصل لجراثيم الفساد والشر والفوضى، وهو سلاح الحق الذي لا يزال ينتصر به في كل مظهر من مظاهر الحياة وفي كل ذرة من ذرات الوجود على جيوش الباطل، ولما كان الباطل والغي والشر والفساد والفوضى لا تزال تتخذ من العواطف والشهوات أثوابا تلبسها وتظهر فيها، وأدوات تستعملها في أغراضها، ومطايا تركبها إلى غاياتها المرذولة. فلسنا نخطئ إذا قلنا إن وظيفة العقل في هذا الوجود هي محاربة الشهوات والعواطف.
لذلك نقول: إن الوطنية باعتبارها غريزة وعاطفة إذا نحيت عن مسقط أشعة العقل قام حولها من ظلمات الأهواء شر بيئة تتكون فيها جراثيم الأنانية المنكرة، وتظهر بمظاهر شتى من التعصب والتشيع والتحزب، وما يستدعيه ذلك من التباغض والتشاحن والتحاقد والتضاغن وحب الانتقام والثأر ولذة التشفي والشماتة.
هذه الحال بالدقة هي التي تسود اليوم في فريق المعارضين المتشائمين، وطنية قوية شديدة لا شك فيها، ولكنها وطنية مرتدية ثياب التعصب والتشيع، مدفوعة بعوامل التحاقد والتضاغن، ساطية بسيف الانتقام والثأر - أعني وطنية مسلحة بكامل عدة الأنانية وأسلحتها، أو بعبارة أبين وأقرب إلى الحقيقة: أنانية مسلحة بسلاح الوطنية.
الآن أحسب القارئ قد أدرك مغزى كلمتي (المتناقضة في ظاهرها المتناسقة في حقيقتها)، حيث أقول للمعارضين إن الوطنية فيكم بالغة أقصى حدها عقب قولي لهم إن أعمالكم لا تتفق مع الوطنية.
الوطنية - كغيرها من الغرائز والعواطف - لا تنهج المنهج القويم المؤدي إلى الغاية المقصودة إلا إذا تسيطر عليها العقل؛ لأنه يعصمها بذلك من أن تنقاد في عنان الأنانية أو تجري وراء الأغراض الشخصية؛ لأن العقل لا يولع إلا بالصدق، ولا يهيم إلا وراء الحقيقة، فهو يهيم أثر الحق متعطشا إليه متلهفا عليه:
كالعين منهومة بالحسن تتبعه
والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب
صبا به مستهاما. أقول كذلك يهيم صاحب العقل في طلب الحق معرضا نفسه لشفار ألسن المعارضين تنهش عرضه، وتفري أديمه، ولكنه يمضي رغم ذلك كالسهم المرسل، والسيل الجارف:
أو كما انقض كوكب أو كما طا
رت من البرق شقة في غمام
والناس يعجبون له كيف لم تستثر هذه العوامل المهيجة عواطفه التي تخال كأنها الصخور الصم أو الهضاب الشم، بل يكاد يخيل إليهم أن مثل هذا الإنسان ربما كان بلا عواطف، والواقع أنه ما دام يهيم في أثر الحق فهو عديم العواطف إلا عاطفة الهيام بشخص الحقيقة، فأما عواطف الاستياء والغيظ والتألم من المطاعن والمقاذف ومضيض الهجاء والقذع، وعواطف الأحقاد والأضغان والتعصب والتشيع، فهذا ما ليس له محل في صدر ذلك الرجل الذي أفعم قلبه حب الحقيقة إفعاما لم يدع مجالا لأية عاطفة أخرى. فإذا كانت العواطف والشهوات الأنانية هي مقياس إنسانية الرجل ومسبار بشريته فإنه يصح لنا أن نخرج مثل هذا الرجل من عداد البشر، ونجرده من الإنسانية فنسميه أي شيء إلا إنسانا، والواقع أنه أشبه ببعض الآلات والمكينات (كآلة الإحصاء مثلا التي تمر خلال جملة عمليات حسابية بغاية الضبط والدقة - وبلا أدنى شعور أو تأثر بما يحيط بها من المؤثرات الجوية والعوامل الكونية - إلى نتيجة مضبوطة لا تقبل تغييرا ولا تبديلا) منه بأبناء البشر.
نقول: إن الوطنية في مثل هذا الرجل لا يخشى عليها من بوادر الأهواء والشهوات وآفات التحيز والتعصب - أعني من مظاهر الأنانية - فوطنية هذا الإنسان خليقة أن تعد وطنية محضة صريحة نزيهة نقية، منطوية على عناصر الخير وعوامل النجاح، مضمونا لها إدراك البغية وبلوغ الغاية.
فهل وطنية إخواننا المعارضين هي من صنف تلك الوطنية المحايدة المجردة من المادة البشرية والعناصر الإنسانية، أعني من العواطف والشهوات؟ هل وطنية المعارضين هي من قبيل تلك الآلة الحسابية المركبة على مكينة العقل المجرد ودينامو الفكر المحض؟ هل وطنية المعارضين هي تلك الآلة العقلية المتحركة الفعالة في صفاء الفكر البحت وأثير الرأي الخالص في جو صاف نقي الأديم من كل شائبة للشخصيات والميول الذاتية؟ هل وطنية المعارضين كذلك أم هي أشبه الأشياء «بالفانوس السحري» يجلو على ناظرك وسط الظلام معرضا مستمرا من الصور والأشباح يحاول مديره أن يدهشك بصورة هذا البطل، وشكل هذا الهمام؟ أم هي (أعني وطنية المعارضين) أشبه شيء بداخل المعبد أو الكنيسة كل جدرانها مزدان بالتصاوير والتهاويل والدمى والتماثيل، وأنت بين هذه الأنصاب والأصنام لا يسمح لك أن تبدي رأيا أو تجهر بفكرة، وما كان لك أن تحاول قط ذلك، ولا أن تظن أن لك فكرا أو عقلا، بل كل ما يجب عليك اعتقاده أنك لم تقم ولم توجد بين هذا الجمع المحتشد من القديسين والشهداء والملائكة والعذارى إلا لتسبح وتحمد وتبتهل وتتضرع وتخر ساجدا لهاتيك الآلهة على عروشها.
لو كانت وطنية المعارضين هي من صنف وطنية العقل الهادئة المحايدة المحضة المجردة من نزعات العواطف، ونزعات الشهوات الذاتية، والميل إلى الشخصيات، والتشيع للأشخاص لما كانت - كما شاهدنا مرارا وتكرارا - عرضة في كل آن ولحظة لأن تغتاظ وتغضب بتأثير الأهواء والغايات، وتثور وتتهيج بعوامل الحب والبغض والحقد والضغينة مما صير اهتمامها بالهنات الشخصية أشد منه بالمسائل السياسية، واكتراثها للذاتيات الخصوصية أعظم منه لأمهات المسائل العمومية، ولقد أثبت العلم والفلسفة أنه إذا ضعف سلطان العقل على العواطف أصبح تأثر الإنسان بالمسائل الشخصية - مما يمس شعوره الذاتي، وما يتصل مباشرة بشهواته وأغراضه - أشد ألف مرة من تأثره بالمسائل القومية والشئون السياسية، ومن ثم ترى الرجل الذي لا بأس في وطنيته وإخلاصه لبلاده ربما أغضى عن الكلمة يكون فيها مساس عظيم بحقوق وطنه، ولكنه لا يغضي على اللفظة يكون فيها أدنى مساس بشعوره الذاتي وإحساسه الشخصي، وترى عين هذا الرجل ربما سمع الطعن في مذهب حزبه وشيعته فيحتمله هادئا وادعا مبتسما، فإذا ما وجه إلى شخصه أقل مسبة ثار ثائره فأرغى وأزبد، ثم أبرق وأرعد، وانطلق لسانه بالسب واللعن يصب على رأس شاتمه صواعق غضبه وحنقه، وربما سبقت يده إلى ذلك المعتدي باللطمة أو اللكمة؛ بل بالخنجر أو المسدس.
اشتد اختلاف الناس في أي الأشياء أندر وأعز وجودا في هذا الكون العظيم؟ وأنا أقول وأؤكد أن أعز الأشياء وأندرها في هذا الوجود هو العقل القوي المتغلب على سلطة العواطف، واعتقادي ويقيني أن مقابل كل ألف فرد ممن تتغلب فيهم العاطفة على العقل في هذا العالم يوجد فرد واحد يغلب العقل على العاطفة ويحكم الملكة المنطقية في نزعات الشعور ونزواته، وليس هذا مجال الإطالة والإفاضة في ذلك المبحث العميق الذي عقدت له الفصول المسهبة في كتب الفلسفة وعلم النفس، ولكنا نورد النظرية عارية عن الشروح والحواشي احتجاجا لقولنا ليس إلا. نقول: لا عجب فيما نراه من ندرة العقل القوي إزاء تفشي العواطف في العالم، واستفاضة الإحساسات والشهوات في كل ذرة منه فتلك حكمة الخالق، وسنة الطبيعة، والقاعدة المشيد عليها نظام هذه الحياة الأرضية التي لا أظنها في جوهرها وعنصرها غاية في الرقي والسمو، ولا آية في التهذيب والنقاء والطهر، والتي أنا أميل إلى موافقة «شوبنهور» في وصفها بأنها شر ما يمكن أن يكون من أصناف الحياة، مني إلى مطابقة «ليبنز» في نعتها بأنها أحسن ما يمكن وجوده من العوالم والدنا، وسواء كان الحق في جانب «شوبنهور» أو في جانب «ليبزيك» فلا مقال الأول ولا تصريح الثاني بمغير مثقال ذرة من نظام الدنيا، ولا بمبدل من شيمة هذه الحياة الأرضية وخلقها، ولا بناف هذه الحقيقة المرة الأليمة، وهي أن العقل ما زال ولن يزال - بحكم ناموس الحياة وتركيبها وفطرتها - أندر الأشياء فيها، كما أن العواطف والشهوات ما زالت ولن تزال أكثر الأشياء كمية وأشدها تفشيا وانتشارا، وأن هذا الناموس الأزلي (وليس لنا معشر البشر العجزة الضعاف أن نعارض فيه ونطاعن - وماذا تجدي المطاعنة والمعارضة - بل كل ما علينا هو أن نتقبله على علاته ونستثمره جهد طاقتنا) هو مصدر ما تنطوي عليه الدنيا من الظلم والطغيان والشرور والمصائب والشقاء والبؤس؛ بالدليل الواضح البين وهو أن العواطف والشهوات هي بطبيعتها سفلية جهنمية، ومنها يتكون الجزء الدنس القذر الخبيث من هيكل الحياة (وهو الجزء الأعظم)، كما أن العقل هو بطبيعته سماوي إلهي، ومنه يتكون الجزء الطاهر النقي من هيكل الحياة (وهو الجزء الأصغر)، وهو توزيع قد رأته القدرة الإلهية مناسبا لنظام هذه الحياة الأرضية التي لم يرد الله - سبحانه وتعالى - أن تكون فردوسا أو ملكوتا أعلى أو مقام قديسين وأبرار، بل أرادها أن تكون (كما أنبأتنا الكتب السماوية) دار توبة وندامة وتكفير عن جناية أبوينا الخاطئين في دار الخلد - أو بالاختصار أرادها الله أن تكون سجنا أو بعبارة أخف وألطف، إصلاحية أو مستشفى، فأما الجنة دار المكافأة والجزاء ومقام الأبرار والشهداء والقديسين - فما أظن أن الخالق سيبني نظامها على قاعدة هذا التوزيع المحزن - ندرة العقل وغلبة العواطف المتسلطة بجيوش الأحقاد والضغائن - بدليل قوله - سبحانه وتعالى - في وصف أهل الجنة:
ونزعنا ما في صدورهم من غل .
نقول كذلك مذهب القدرة الإلهية في خلقة هذا الوجود، بينما تراها كأبخل البخلاء في هبة العقل كأنها تجود به من خرت إبرة إذا بها كأسخى الأسخياء في هبة الشهوات والعواطف تسح بها سحا وتهطل هطلا؛ فهي كلما جادت على هذا الكوكب الأرضي بمثقال ذرة من العقل جادت مقابل ذلك بمليون قنطار من العواطف - عطية مشتركة بين الإنسان وسائر ضروب الوحش والبهيم والحيوان من أعلى درجات سلم الحياة إلى أدناها - على حين أن العقل القوي المسيطر على العواطف لا تهبه الطبيعة إلا لأسمى طبقات الإنسان - أعني الإنسان المفكر - هذا المخلوق البديع السامي نادر جدا بالنسبة إلى ما يملأ فضاء الله ويتشاحن فيه ويتطاحن ويتنافر ويتناحر ويتصايح ويتعاوى من مختلف ضروب الوحش والحيوان، وفي مقدمتها (أو في مؤخرتها وهو الأصدق) ذلك الوحش الساعي على قدمين المسمى إنسانا، أعني الإنسان الاعتيادي الخاضع لسلطان الشهوات والعواطف الذي منه تتكون المجاميع والجماهير والعامة والسواد الأعظم من بني البشر.
وليس يخفى على ذي لب أن المسائل السياسية والاجتماعية حتى أبينها وأبسطها - هي وإن خيل للبسطاء السذج أنها سهلة الفهم والإدراك قريبة المأخذ والاستيعاب لا يحتاج بحثها وفحصها لكبير عقل أو ثاقب فطنة - لهي في الحقيقة والواقع صعبة عويصة وعرة المسلك لا يستطيع أن يحيط بها ويستجلي غوامضها إلا أولو الفطن والألباب، وإنما هو الغرور والتبجح والدعوى التي توهم السذج البسطاء من الجماهير والعامة أنهم قادرون على فحص وتمحيص هذه المسائل الصعبة، وأنهم هم أيضا لهم الحق في مشاركة أولي الألباب في تناول تلك المسائل وإبداء الرأي عنها والبت فيها، وإذا كان هذا هو موقف الإنسان العادي من المسائل السياسية والاجتماعية، وهذا هو مبلغ ضعف عقله وقصور ذهنه عن فهم ماهيتها وإدراك دقائقها وغوامضها في حالته الطبيعية - أي في حالة هدوء عواطفه وعدم اهتياج إحساساته وشهواته - فما بالك بمقدار عجز ذلك الذهن وقصوره إذا زدته ضعفا باستثارتك عواطف الرجل وشهواته وتسليطها على ذلك الذهن الضعيف من أصله.
ومن ثم ترى أن العامة والصبيان والنساء في كل أمة يكونون - لتغلب العواطف فيهم على العقل وامتلائهم بالشهوات النارية - أشبه شيء بمخازن البارود ومعامل الذخيرة، وهذه المزية العظيمة لا تخفى - بالطبع - على عشاق المعارضة في كل أمة، فهم كالصياد يعرف مسارح الظباء ومسانح المها، وكالمنتجع يهتدي إلى مساقط الغيث ومنابت الكلأ. أقول: إن زعماء المعارضة يعرفون مواضع تلك العناصر الملتهبة والمواد المفرقعة من قلوب العامة والصبيان والنساء، فما هو إلا أن يرسلون عليها شرارات مما تجيش به صدورهم حتى تشتعل فتتأجج.
فإلى زعماء المعارضين اللاعبين بألباب الصبية والنساء والعامة نقول: اتقوا الله في عقول أضعفتها الطبيعة لا تزيدوها ضعفا، واتقوا الله في أحلام خففتها الطبيعة لا تزيدوها خفة وطيشا، وراقبوا الله في عواطف وإحساسات قابلة للإلهاب بفطرتها لا تضرموها على أربابها وعلى البلاد نارا حامية، واخشوا الله أن يراكم تسلون من قلوب أولئك البسطاء سيوف عواطفهم وشهواتهم فتجهزوا بها على ذرة العقل الضئيلة التي تفضلت عليهم بها الطبيعة مما بقي لديها من مادة العقل بعد أن كالت منها كيلا للفضلاء النوابغ، اتقوا الله أن يراكم تطلقون سيول تلك العواطف الجارفة تسلطون طوفانها على تلك الشرارة الكليلة التي منت بها الطبيعة على أدمغة أولئك البسطاء بعدما أشعلت مصابيح الفطنة الوقادة في سماء أذهان الأذكياء الألباء، رفقا بأولئك الضعاف لا تعينوا عليهم الطبيعة القاسية الظالمة بإفسادكم ما جادت به عليهم من النزر الطفيف من مادة الفهم يوم قسمة العقول والبصائر.
وهنا يجدر بنا القول بأن ما يقوم اليوم بين ظهرانينا من تغلب العواطف الثائرة في مجال تبادل الآراء الهادئة، وسيطرة الشهوات الثائرة في مقام إعمال الفكرة الثاقبة والعقل المجرد عن شوائب الأهواء، إنما هو مظهر من مظاهر آبائنا الأول في العصور الغابرة، ونزعة رجعية إلى عصبية ذوي الثارات والعداوات من أجدادنا أهل البيد والفلوات.
إن أهم ميزات الطبقات العليا على السفلى، والخاصة على العامة هي أن الفئة الأولى - لحدة ذهنها وقوة الملكة المنطقية فيها - تستطيع التفكير والكلام في المعنويات كالنظريات والكليات والقواعد والقوانين. بينما الفئة الثانية - لضعف ذهنها وقصور الملكة المنطقية فيها إزاء قوة الحواس والإحساسات - لا تفهم المعنويات، ولا تقوى على ولوج أبوابها وخوض غمارها، فهي لا تلتذ ولا تعنى إلا بما قد كاد يقصر عليه إدراكها من المرئيات والمحسوسات كالأشباح والذوات والأشخاص؛ ولذلك إذا غشيت مجامع العامة ومجالس الصبيان والنساء ألفيت حديثهم قد كاد يقتصر على الأشياء المحسوسة - كوصف المراقص والملاهي، وأماكن الفرجة كالمعارض وحدائق الحيوانات والمطاعم وحوانيت الفواكه والحلوى، إلى الفصول المسهبة الشرح والتفصيل في مسائل اللبس والتفصيل وأصناف الأقمشة والمنسوجات وآلات الزخرف والزينة، إلى ما يماثل ذلك ويجري مجراه من المباحث الاقتصادية في تاريخ المطبخ والكيلار والتاريخ الطبيعي لشتى أصناف الطيور والدواجن، إلى المحاضرات الفلسفية في فنون «الغيات» المختلفة الحمام والخيل وورق البريد والعملة القديمة والسجاجيد والجعارين، وما لا يحصى ولا يعد من أمثال ذلك وأشباهه. ولكن هناك شيئا آخر هو أعلق بأذهان هذه الطبقات، وأروح على قلوبهم، وذلك هو التعرض للأشخاص أنفسهم (لا في متعلقاتهم من مأكل وملبس) والخوض في شخصياتهم وتناول سيرهم قدحا أو مدحا.
أما الكلام في المعنويات وإرسال الذهن الصافي البلوري يسبح في عالم الأفكار والروحانيات، ويغمس أجنحته في ضياء الحقائق، ويقلب المعاني محضة بحتة عارية عن ثياب الأشخاص والمادة والزمان والمكان، فذلك ما لا تستطيعه ولا تعرفه هذه الطبقات من العامة والنساء والصبيان، وإنما هو شأن العلية الفضلاء أولي الفطن والألباب.
ولا يخفى أن هذه الخصلة - أعني تعلق النفس وجولان الذهن في عالم الحس وضعفهما عن خوض عالم المعاني والنظريات - هو من مظاهر الأمم والشعوب غير المتمدينة التي تكاد تنحصر أعمالها ومساعيها في التكافح والتقاتل وشن الغارات بعضهم على بعض؛ لا تزال هذه القبيلة تغزو أختها، وهذه الفصيلة تكتسح جارتها، ثم ترى أفراد كل قبيلة لا هم لهم إذا ضمتهم محافلهم وأنديتهم إلا وصف مواقف أبطالهم في ساحة الوغى، ونعت ما أتوه من آيات النجدة والبطولة، ثم تمجيد الزعيم الأكبر وتقديس ذاته، فأحاديثهم وأفكارهم مقصورة على الأشخاص ومظاهر المادة لا تتعداها إلى عالم المعنويات والمبادئ والقوانين العامة.
ولا تنس ما لا بد أن يصحب هذه الحالة (اقتصار الأفكار والحديث على عالم الحس) من تعرض العواطف والإحساسات؛ بسبب سرعة الانفعال والثورة والهياج - لما هو مفروض في تلك الحالة من ضعف سلطان العقل وضئولته أمام جيش العواطف.
ونحن لا نزال في غدواتنا وروحاتنا نبصر أثر هذه الخصلة العتيقة - أعني الولوع بالأشخاص لمجرد أسباب مادية لا عقلية ولا روحانية، وتقديس أولئك الأشخاص لمجرد تأثيرهم على عواطف مفتونيهم من العامة لا على ملكاتهم العقلية والروحانية، باديا في كل شبر من أراضي بلادنا، وفي كل آن ولحظة من خضوع العامة لرجل قوي البطش فيهم، مرهوب السطوة يسمونه «فتوة». فمن شاء أن يرى أصدق صورة تمثل تاريخ العصور الوسطى - عهد الإقطاعيات أو عهد الفروسية في أوروبا المظلمة، ووقائع «قلب الأسد» و «أورلندو» و«أماديس دي جول» - فليطلع على ما يجري من مظاهر العواطف العمياء، والأنانية الخبيثة في طبقات العامة، مما يدعوهم إلى تمجيد زعمائهم من «الصبوات» و«الفتوات».
وإن تشأ مثالا آخر على هذه المظاهر الممقوتة؛ فتفقد ليلا محافل العامة في قهواتهم حيث تتلى عليهم قصة عنترة وأبي زيد، وانظر في وجوه القوم وحركاتهم مظاهر تلك النزعة الرجعية - نزعة تقديس الزعيم؛ لمجرد قوته العضلية، ومزاياه العدوانية، وفرط تأثيره على عواطف شيعته وأنصاره - بل انظر إليهم كيف ينقسمون شيعا وأحزابا حسب ميولهم الغريزية للأشخاص الخرافية المسرودة عليهم أقاصيصها - كل فريق يتعصب لزعيم دون الآخرين - وكيف في سبيل انتصار كل لزعيمه الخرافي وتشيعه له يتهيج ويثور، وربما وثب على مناظريه من أنصار الزعماء الآخرين، واستطال عليهم بالسب وأحيانا بالضرب. فهكذا يبلغ من حدة العواطف البشرية، وغلواء سورتها حتى في حين تأثرها بالعوامل الخيالية الوهمية المستمدة من عالم القصص والخرافة، فما بالك بفرط سطوة هذه العواطف وطغيانها إذ تسلطت عليها عوامل فعلية واقعية من عالم الحس والحقيقة؟
هذا هو الحاصل بيننا اليوم، وذلك هو شأن المعارضين ومن شايعهم وتابعهم، وإلا فكيف كان يمكن ويتأتى أن ينكروا المحسوس والملموس، ويماروا في الحق الصراح، ويلوموا غير ملوم، ويذموا غير مذموم، ويرتعوا سائمة الهجاء في غير مرتع، ويشرعوا صادية القدح في غير مشرع؟ وكيف - لولا هذه الحال التي شرحناها - كان يهون عليهم ما يحاولون إتيانه من تفريق ذات البين، وتبديد الصفوف، وتمزيق الوحدة، وفك الأواصر؟
حقا، إن المعارضة إذا خلت من عوامل العواطف الشخصية والشهوات الحزبية، وصحت من سكرة الأثرة والأنانية؛ عز عليها أن تأتي كل ما من شأنه عرقلة المساعي وإضعاف المجهودات وإيذاء القضية، ولكن ماذا تصنع المعارضة وماذا تفعل الوطنية إذا أصابتها الأنانية؟ أليست الأنانية جديرة أن تصم أذن العقل، وتخرس صوت الضمير، وتغشي ناظر الرأي والبصيرة، وتطرح في زوايا الإهمال كل مسألة وقضية إلا مسألة شكايتها الوهمية وظلامتها الخيالية.
وفي هذه الحالة تتوق وتصبو إلى فكرة الانتقام. وقدما قيل إن الانتقام حلو لذيذ عند الإنسان الاعتيادي الحاد العواطف، وكم رأينا وسمعنا عن التضحيات العظيمة تبذل في سبيل الانتقام، ومن أجل تذوق حلاوته واستمراء لذاذته، ولا جرم، فالانتقام هو كما وصفه الروائي الأشهر «السير والتر سكوت»: «أشهى لقمة طبخت في نار جهنم.»
ولا عجب إذا رأينا المعارضة - رغبة في الانتقام - تشن الغارة أثر الغارة، وتصول بجيوش المظاهرات، وتقيم مسرحا عظيما للشغب واللجب والصياح تلعب عليه - أو تتفرج - جماهير العامة والنساء والصبيان مدفوعة بما جبلت عليه تلك الطبقات من حب الهياج والصخب والضوضاء، وبما فطرت عليه من الشغف بمشاهدة ملاعب الصراع والملاكمة مما يثير الشعور، ويولد تلك اللذة الحاصلة من التهاب العواطف واشتعال الشهوات، فضلا عن اللذة المتولدة في المظاهرات من احتكاك الإنسان بالآلاف المؤلفة من الأجسام البشرية، ومن تفرج الإنسان على مثل ذلك العدد من الوجوه الآدمية المختلفة السحن والملامح.
كذلك تحاول المعارضة الأنانية قلب الحقائق ومسخها وتشويهها، وإنكار الواقع الملموس والمشاهد، وطمس مآثر الذين ساقوا لبلادهم الخير والغنيمة، وجحودا لما طوقوا به جيد الوطن من بيض الأيادي، تحاول بذلك شفاء غلة جهنمية، وانتقاما لإساءات وهمية. وقد تفلح وقتا ما في ترويج مذهبها بخلقها جوا من الهياج الوجداني، والانفعال النفساني تلتهب فيه العواطف وتحتدم الشهوات، تبذر في أرجائه بذور أراجيفها، وتذرو في أنحائه لقاح أباطيلها وأضاليلها. ولكن هذه الحال لن تدوم وما هي إلا مؤقتة شأن غيرها من الأكاذيب التي مهما يمتد أجلها فمآلها حتما إلى الزوال والفناء.
وكذلك تلك الأراجيف والأباطيل، وتلك الظنون السيئة بالحكومة الحاضرة، والتهم الكاذبة مما لا تفتأ المعارضة تصوغه وتخترعه - مهما صادفت من الرواج في هذا الدور الأول من العهد الجديد بسبب ما يسود في أذهان بعض الطبقات من عوامل الحيرة والارتباك المثيرة للريب والشكوك من تأثير صدمة هذا الانقلاب السياسي الخطير؛ فهي لا بد أن تأخذ في التناقص والهبوط والكساد، ثم يئول أمرها إلى الاضمحلال والزوال على مر الأيام متى تتابع على أبصار تلك الطبقات من مزيد الشواهد والآيات، وتوالى على بصائرها من جديد الحجج والبينات ما يمحو من أذهانهم ذلك الخلط والارتباك والحيرة، ويبرز لأبصارهم الموقف الجديد ومعالمه، وحدوده وخصائصه ومزاياه في أجلى مظهر من الحق الصراح.
ولكن حركة القضية نحو النجاح، وسير البلاد إلى الغاية المنشودة من الرقي والفلاح دائبة مستمرة، لا تنتظر ذلك اليوم الذي يسطع فيه نور الحقيقة على أبصار المضللين من مفتوني المعارضة. لقد نهضت الطبيعة بنفسها فقبضت على زمام القضية بيدها القوية تدفعها في سبيل التقدم، فمن ذا الذي يقوم في وجه الطبيعة يردها عن قصدها وغايتها؟ وأي قوة بشرية تستطيع للطبيعة دفعا أو مقاومة؟ أو ليس إذا هبت على شيء ما ريح المدد والمعونة من جانب عرش الله أصبحت أقوال المعارضين في هذه الريح الشديدة هباء، وذهبت أراجيف المعاكسين في نفحاتها جفاء؟
هذا بحر السياسة العجاج قد لان جانبه، وسكنت غواربه، وسلس قياده، واطمأن مهاده، وقد سربت فيه الفلك، وانسابت تمخر إلى الأمام عبابه، وتشق إلى مرادها جلبابه، تزجيها ريح السلام ويهديها كوكب اليمن والتوفيق. فلترعد المعارضة ولتبرق، فما شيء من ذلك الصخب والضجيج بضائر الفلك في مجراها، أو صارفها عن قصدها ومبتغاها.
لقد ولجت البلاد باب الحرية سواء اعترفت بذلك المعارضة أم لم تعترف، وقد ملكت البلاد فوهة سبيل الاستقلال سواء شاءت المعارضة أن تصدق ذلك أم لم تشأ، وقد انبرت البلاد تجتاز تلك السبيل آمنت بذلك المعارضة أم لم تؤمن.
لقد اعترف بإلغاء الحماية، وباستقلال البلاد في الداخل والخارج، وأمنت على ذلك دول العالم، وتواردت به التهاني من ملوك الأرض، وقد زال العهد القديم واندثر، وطواه الدهر فيما لا يزل يطويه كل لحظة من هالكات هذا العالم وفانياته، فلن يرجع هذا العهد حتى يرجع أمس الدابر:
وحتى يئوب القارظان كلاهما
وينشر في الموتى كليب بن وائل
وقد أطلق مدفع الاستقلال ناموس جنازة العهد القديم المندثر، وبوق البشارة بميلاد العهد الجديد المبارك، وكأن دويه المستفيض يحمل صوت البشير ممعنا في ظلمات الغيب إلى ذرية المصريين من أهل المستقبل البعيد في عالم الذرات، متغلغلا إلى أعماق الأبد.
الفصل الثالث
الحالة الحاضرة
واجب الأمة في موقفها الحالي
من كان يسره التشبث بأهداب الأماني البعيدة، والهيام وراء أشباح الخيالات، فالعاقل من اغتبط بالشيء الواقع وإن قصر عن مدى أمله، ووقع دون غاية مبتغاه وحسبه أن يكون ذلك الواقع منطويا على عنصر الخير وجرثومة الفلاح.
ألا ما أعظم الواقع المدرك الحاصل في حوزة الأمة، وما أجل خطره وقيمته! أليس هو الدرة المستخلصة من أعماق بحر الخيال، والجوهرة المستصفاة من غمار لج النظريات والاحتمالات؟ أليس هو ذلك الشيء الماثل أمامك حقيقة ثابتة مؤكدة لا ريب فيها ولا شك، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ أليس هو الأساس الوطيد الذي تبني عليه الأمة نظام الحياة والعمل، والسلم المتين الذي عليه تسمو في معارج الرقي والرفعة إلى حيث يبلغ بها ما تبذله من المجهودات والمساعي؟ لذلك كان من الحزم والحكمة أن تتشبث الأمة بما يسوقه إليها الحظ من الخير الواقع أشد تشبث، وتنتفع به جهدها وتستثمره، وتتخذه وسيلة وسببا إلى غيره من الثمرات والفوائد بفضل الجد والعزم والمثابرة.
نحن لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا القومية أو بلغنا غاية مطالبنا الوطنية، ولكننا نقول ونصرح أننا أدركنا شيئا كثيرا؛ أدركنا الأساس المتين الذي نستطيع أن نشيد عليه صرح الاستقلال التام بفضل الجد والمواظبة، وملكنا فوهة السبيل الذي إذا تضافرنا على اجتياز أوعاره واقتحام عقباته أدانا بلا شك إلى أقصى غايتنا المنشودة.
لذلك ترانا نعجب كل العجب، وتمتلئ قلوبنا دهشة من الذين لا ينفكون - إزاء هذه المغانم العظيمة والفوائد الجمة - يصيحون أن حالتنا السياسية باقية على ما كانت عليه من قبل لم يطرأ عليها أدنى تغير، فهل يقول مثل هذا إلا غافل عن الحقائق الناصعة والشواهد الملموسة أو متغافل؟
هل يشك مخلوق كائنا من كان أن بريطانيا بتصريحها الخطير (الذي اعترفت فيه بإلغاء الحماية وباستقلال البلاد) قد محت من سجلات السياسة والتاريخ تلك الصحيفة السوداء التي كانت سجلت بها على مصر الحماية المشئومة، فأصبحت مصر بفضل ذلك بلادا مستقلة ذات سيادة في نظر القانون الدولي، وفي اعتبار الدول جمعاء، وأصبح من المفروض على الدول قانونا أن تعامل مصر على هذه الصفة كما تعامل سائر البلدان المتمتعة بالاستقلال التام، ولمصر الآن كامل الحق في طلب الانضمام إلى عصبة الأمم متى شاءت، وفي صيرورتها ضمن أعضاء هذه العصبة، وأصبح غير محظور على الدول أن تعاملنا معاملة النظير للنظير، وأن تراعي معنا كل ما هو مقرر بين بعض الدول والبعض الآخر من الحقوق والحرمات والواجبات، فليس في استطاعة الدول الآن أن تنكر وجودنا مثلما فعلت حينما أوصدت في وجهنا أبواب مؤتمر فرساي، واعتبرتنا أمة عديمة الشخصية قاصرة لم تخرج بعد من طوق الحماية والوصاية، بل لا تملك حق الكلام والتعبير عن ذات صدرها.
كل هذه المزايا العظيمة كانت الحماية تحول بيننا وبين التمتع بها، فقد زال هذا الحائل بزوال الحماية، وأصبحنا في حل من التمتع بها، واجتناء عظيم ثمراتها.
هذه خطوة كبرى خطوناها في سبيل الاستقلال التام، وبلغنا بها الشيء الكثير الذي لا يستطيع نكرانه إلا غافل عن الحقيقة الناصعة أو متغافل. أما بقية أمانينا وتكملة مطالبنا، والشيء الذي ينقص استقلالنا فهذا منطو في المسائل التي احتفظت بها بريطانيا، معلق على تسويتها تسوية نهائية في المفاوضات المقبلة التي سيكون لبرلماننا الحق في تحديد موعد افتتاحها، وانتخاب المفاوضين فيها والإشراف عليهم.
هذه المسائل التي احتفظت بها بريطانيا لم يقل قائل، ولا خطر على بال إنسان أنها قضاء محتوم لا دافع له أو ضربة لازب باقية على الأبد، أو أن بريطانيا قد احتفظت بها بصفة نهائية لا تقبل تحويلا ولا تغييرا، وإنما هي شيء عارض لمدة مؤقتة اقتضته ظروف ذلك التطور السياسي العظيم، كما ورد ذلك صراحة في تصريحها الخطير.
فاستقلالنا في الحالة الراهنة، وحتى تتم التسوية النهائية بشأن هذه التحفظات في المفاوضات المقبلة التي سيشرف عليها البرلمان؛ إنما هو استقلال حكمي أكثر منه استقلالا فعليا، وإن كان قد أنتج بعد نتائج فعلية عظيمة الشأن كالتي ألمعنا إليها آنفا من ارتفاع الرقابة الإنكليزية عن أعمال الحكومة في كافة أركان الحكم والإدارة ، وكالذي يسري الآن في البلاد من مبدأ مسئولية الوزارة أمام الشعب ممثلا في برلمانه المشروع في إنشائه.
لذلك لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا وأنا قد بلغنا الغاية، ولم يدع ذلك رجالنا العاملون المخلصون، ولا ادعاه بطل النهضة الحالية وفارس حلبتها دولة الرئيس العظيم ثروت باشا، فقد أورد دولته في غضون رده على تهنئة الحكومة البريطانية بمناسبة إعلان استقلال مصر هذه العبارة الآتية التي جمعت بين أدب الكاتب النحرير ودهاء السياسي القدير، والتي يتألق في ديباجتها المصقولة - مع طلاوة رقة الخطاب ولينه - شعاع الوطنية الحارة، ووهج الغيرة الملتهبة على مصلحة البلاد ومستقبل الأوطان، فذكر دولته المركيز كرزون - صاحب التلغراف الآنف الذكر (مع حسن رده على التهنئة بأرق منها عبارة وألطف إشارة) بذلك الأمر الجليل وهو أن مصر لم تقنع بالحالة الراهنة، وأنها أشد ما كانت يقظة وانتباها ومطالبة بباقي حقوقها، فذلك حيث يقول دولة الرئيس في ذلك الرد:
وإنا لنعرب لفخامتكم عن تقديرنا لجميل ما أظهرته حكومة صاحب الجلالة البريطانية، وأظهره البرلمان البريطاني من الميول الحسنة، ونعتمد على هذه الميول في الحصول على تسوية تامة للمسألة المصرية تقع على أحسن وجه وأدعاه للمحافظة على صلات الود والثقة بين البلدين، ولتنمية هذه الصلات.
نحن لا نقول لأمتنا الكريمة قد أدركنا الغاية ونلنا المدى، وبلغنا أقصى منتهى المنى والآمال فاحبسوا أعنة السعي، وأريحوا مطايا الجهاد، وأرخوا قسي النضال، وأغمدوا سيوف الجلاد، وافترشوا مهاد الراحة، وتوسدوا وثار الدعة، وتمرغوا في حجور الصفو، وتقلبوا بين أعطاف النعيم، ولو قلنا لهم ذلك لكنا لهم خادعين وبهم مغررين، ولحق لهم إذ ذاك أن يتهمونا بما به يصموننا الآن زورا وبهتانا من التعمية والتضليل، ولكنا من وجهة أخرى لا نقول مع جماعة المعارضين إننا على حالنا الأولى لم نتقدم قيد فتر ولم نتأخر، ولا نجاري المغالين منهم في زعمهم ما هو أكثر من ذلك؛ إذ يقولون ما نلنا خيرا بل شرا ولم نتقدم خطوة نحو البغية بل تأخرنا خطوات، وأن الوزارة - معاذ الله - لا تناصر الأمة بل هي إلى خذلانها أميل، وأن القادة الأمجاد (الذين سخرهم الله لخدمة الشعب وإظهار حجته وتأييد قضيته) لا ينهضون بالوطن إلى ذروة المجد والعلاء بل يهبطون به - لا قدر الله - إلى الوهدة. نحن لا نقول ذلك لأنا لا نعتقده، ولأنه غير الحق، ولأن شفاهنا لا تطاوعنا على قوله، وتنقطع من دون النطق به ألسنتنا، ولو فعلت لكذبتها الدلائل الساطعة، والشواهد الناصعة التي قد أبانت للملأ بأوضح الأدلة، وأثبتت للعالم بأظهر الآيات البينات أن حكومة اليوم هي غير حكومة الأمس، وأن دولة رئيس الوزارة وأصحاب المعالي زملاءه لم يتربعوا في كراسي الحكم إلا على شروط استمدوها من الرأي العام وإرادة الأمة، وأنه لو لم تعترف إنكلترا بإلغاء الحماية وباستقلال مصر لما قبلوا الوزارة، ولما تسنى لجلالة الملك أن يكل إليهم العناية بأمر النظام الأساسي، فهم - من هذه الوجهة ومن وجهة مشاركة الأمة في كفاحها وجهادها، لا يمكن فصلهم عن مجموع الأمة واعتبارهم حكاما بالمعنى العتيق المنقرض؛ يتحكمون في الشعب تحكم العاسف المستبد الذي لا يحترم إرادة الأمة ولا يعترف بسلطتها المقدسة - كما كانت الحال في العهد السالف.
ذلك عهد قد انقرض وباد، وقد أصبحنا اليوم في عهد جديد ميمون تتضافر فيه الأمة والحكومة معا على تقويض صرح الاستبداد ونسف دعائمه، واستئصال جرثومته لتغرسا شجرة الحرية المباركة - أعني شجرة سلطة الأمة التي تزرعانها في تربة الوطن العزيز بين رفات الآباء والأجداد وتسقيانها دماء الشهداء من أبناء الأمة - لتزكو على ضفاف النيل المبارك، وتنفح ببرد ظلالها عظام العرب والفراعنة في أجداثهم، وتغدق على الأبناء والذرية ثمارها اليانعة الجنية.
فالوزارة اليوم من الأمة، والأمة من الوزارة، وهما في الحقيقة كتلة لا تنقسم، ووحدة لا تقبل التجزئة، وحلقة مفرغة لا يعرف أين طرفاها. هذا من حيث الإخلاص في الوطنية وصدق الحمية وفرط الغيرة والتضحية والتفاني في خدمة القضية، وإن اختلفت منهما الوسائل والذرائع، كل يؤدي في خدمة الوطن وظيفته، فالحكومة ترسم الخطط والبرامج، وتمهد السبل والمناهج - كفرقة الكشافة في الجيش العرمرم - والأمة من ورائها كالجند تتقدم وتزحف محتلة من المواقع الحصينة والأماكن الخطيرة ما يذلله لها فرسان الطليعة.
بيد أنه لا يفوت الأمة أن هذه الطليعة أو الكشافة (أعني الحكومة) قد لا تستطيع - ولا سيما في مثل ظروفنا الاستثنائية المترتبة على تطورنا الفجائي - أن تنجز كل هذه الأعمال التمهيدية في بضعة أيام أو أشهر (مهما تاقت القلوب وأولعت النفوس بسرعة هذا الإنجاز) وأنه لا بد للجيش (أي الأمة) أن يمهل طليعته الكشافة، ويعطيها الكفاية من الوقت ملتمسا لها وجه العذر، مقدرا حرج مركزها وصعوبة موقفها، معاونا لها بما قدره عليه الله من حسن المؤاتاة والمسامحة والملاينة والصبر الجميل والتأييد والتشجيع، ذاكرا تلك الكلمة المأثورة لرجل الدهر نابليون بونابرت: «الدنيا بحذافيرها تنساق في النهاية لمن يعرف كيف يصبر.»
وجدير بالناس أن يذكروا هذه القاعدة الخطيرة، وهي أن الانقلابات السياسية لا تستلزم إلغاء النواميس الجارية والدساتير السائدة، ولا تستدعي هدم الكائن من نظم وتقاليد، وإيقاف سير ما هو نافذ من أحكام ولوائح فتصبح البلاد فوضى، لا نظام ولا قانون إلى أن يتم إنشاء البرلمان الجديد، ويبنى عليه أساس الحكم في البلاد. فهذا مناقض لسنة العمران في العالم، ناقض لأسباب النظام والأمن والسلام، وهو ما لا يكون ولا يمكن أن يكون أو يتأتى بحال من الأحوال، وها هي الشواهد التاريخية تدلنا على أن الأمم التي هبت من قبلنا تطالب بحريتها قد أصدرت يوم استقلالها أوامر بإبقاء أحكامها العسكرية نافذة توثيقا لأسباب الأمن، وتوطيدا لدعائم السلام، وتوخيا لتنسيق أركان الحكم الجديد تحت لواء النظام.
جدير بكل فرد من أفراد الشعب أن يفطن تمام الفطنة إلى حقيقة موقف الأمة، ودقة مركز الحكومة، وضيق مأزقها، ووعورة مسلكها، وما يعترضها في كل خطوة من المصاعب والمشاكل، فيعطف عليها بكل ما أوتي من عواطف البر والكرم والمروءة، ويسلك معها سبيل المصابرة والتمهل لينظر ما سوف تصنع، وما عساها أن تأتي وتذر وتحل وتعقد، حتى لا يرمى بالتعجل في الحكم، وإبراز الرأي فجا غير ناضج.
نحن اليوم إزاء مشكلة من أعوص المشاكل لا يتأتى حلها بسوى التعقل والروية والتبصر، وذلك ما لا يتسنى إلا في جو صاف من الهدوء والسكينة تسود فيه الأناة والتؤدة، ويشرق في أفقه سراج العقل المتبصر المتدبر؛ وأساس كل ذلك هو كما ألمعنا في موضع سالف هدوء الخواطر وسكون الجوانح، وثبات الجأش، والجنوح إلى الرفق واللين والهوادة والحسنى، وتوخي أسباب الحلم والمجاملة والرقة في الخطاب، وأساليب الأدب والملاطفة والدماثة في مجال المناقشة والمناظرة شأن أفراد الأمم المهذبة الراقية التي يحق لها أن تفخر بسمو مكانها في درج المدنية والحضارة.
إن المشاغبات والمشاحنات، واستثارة العداوات، وبذر الشقاق ما كانت قط لتؤدي إلى خير، ولا لتتقدم بأمة خطوة نحو غايتها المنشودة، ولا سيما إذا كانت أمة في مثل مركزنا السياسي قد وضعت قدمها على فاتحة سبيل الأعمال، والمجهودات العظيمة للوصول إلى ما تبتغيه من أقصى غايات الاستقلال التام.
نحن الآن أحوج ما نكون إلى العمل - إلى العمل المنتج المثمر - إلى عمل البناء والتعمير أو التشييد والتجديد. نحن الآن أحوج ما نكون إلى تنظيم حركتنا، وتنسيق نهضتنا، بضم شواردها وجمع شتاتها ولم شعثها، وتسييرها في منهج قاصد قويم يسود في جوه العقل والنظام والحكمة والتدبير.
لقد انتهت حركتنا من دورها العاصف العنيف، وجرت شأوها المحتدم المضطرم، وأدت ما عليها من مهمة الهدم والنسف والتقويض؛ هدم الحماية، ونسف دعائم الحكم المطلق، وتقويض أركان التدخل الأجنبي. أجل، لقد انتهت حركتنا من دور الهدم والتدمير، وآن لها أن تدخل في دور البناء والتعمير، لقد هدمت برج الحكم الأجنبي ووضعت على أنقاضه أساس الاستقلال، وقد آن لها أن تبذل أقصى الجهد في أن تشيد على هذا الأساس صرح الاستقلال التام.
فكأن حركتنا كانت في دورها الأول العنيف التأثر أشبه شيء بالسيل الجارف المنهمر، المصطدم بالصخور والجلاميد، المتوثب بين العقبات والأوعار، وهي في دورها الحالي الهادئ المطمئن يجب أن تكون مثل هذا السيل حيث ينتهي من الصخور والأوعار، ويفضي إلى أرض سهلة مستوية لكنها قفرة جرداء، فعلى هذا السيل أن ينسكب في فضائها متسلسلا منسجما هينا لينا، ولكنه يكون مع ذلك قويا شديدا، جائشا زخارا يؤدي ما عليه من واجب الري والسقيا، ووظيفة الإخصاب والإنتاج، فيحول الجدب خصبا، والصخر عشبا، ويترك الفلاة الجرداء جنة غناء.
وهذا ما لا يكون ويتم إلا بالألفة والاتحاد، وهما لا يتوافران إلا بحصول الثقة المتبادلة بين عناصر الشعب وأحزابه، ثم بين فئات الشعب كافة وحكومته، والثقة المتبادلة لا تتأتى ما دام سوء الظن متسربا إلى النفوس، ومعلوم أن سوء الظن هو آفة الشعوب، ولا سيما في أدوار انقلاباتها السياسية، وتطوراتها النظامية؛ إذ في مثل هذه الظروف العصيبة تكون النفوس هائجة ثائرة والخواطر مضطربة قلقة، ومتى كانت النفوس والخواطر كذلك أصبحت بيئة صالحة لجراثيم الريبة والتهمة تعشش فيها، وتبيض وتفرخ منتجة الضغائن والأحقاد المؤدية إلى أعظم الشرور والمضار.
لا جدال في أن ما أدركناه من الفوز السياسي الأخير، وما اكتسبته القضية من النجاح والتأييد - بما صارت إليه من المركز الحصين الجديد - لجدير أن يعد من أعظم دواعي الابتهاج والاستبشار، ولا جدال أيضا في أن هذا الابتهاج والاستبشار الذي نراه متفشيا في جانب عظيم من الأمة - ممن عصمهم الله من تأثير ما يروجه المتشائمون من باطل الإشاعات والأراجيف - إذا ازداد تفشيا في مجموع الأمة، وسريانا في أفئدتها وجوانحها كان من أكبر أسباب النجاح، وأعظم وسائل اليسر والتوفيق، وأغزر مصادر الخير والبركة والفلاح. فإنه لا خلاف في أن روح الابتهاج والاستبشار من أقوى بواعث الهمم، ومرهفات العزائم مما نحن بأمس حاجة إليه في موقفنا الحالي لاقتحام ما لا يزال يواجهنا من المصاعب والعقبات، كما أنه ليس أضر بنا في الحالة الراهنة، ولا أفسد لقضيتنا من بث روح التشاؤم المثبطة للهمم، والعزائم الموهنة للمجهودات والمساعي.
وأي شيء - هداك الله - أجلب للخسارة والبوار، وأدعى إلى الفشل والخيبة من هبوط العزيمة وثبوط الهمة؟ وأي شيء أشد إضاعة للحقوق وإفسادا للأمور، وإذهابا للدولة والسلطان، وإبادة للمجد والحسب مما تحدثه روح التشاؤم والسخط والضجر في الأمم والشعوب من خور القوى، ووهن الإرادة الداعيان إلى داء التخاذل والتواكل والفتور والتواني؟
وعلى العكس من ذلك أي شيء أجلب للغنم والفائدة، وأدعى إلى النجح والفلاح، وأجمع لشمل الأمور، وأحوط للسلطان والدولة، وأكسب للمجد والحسب مما يورثه روح التفاؤل والاستبشار من تنبه الهمم، ونهضة العزائم الداعيان إلى التناصر والتضافر؟
بل أي شيء لا تستطيعه قوة العزيمة وبعد الهمة؟ إن قوة العزيمة لتوجد لكل باب موصد مفتاحا، ولكل شبهة مظلمة مصباحا، وتبرز كل شيء في صورة جديدة وشكل مستحدث، وقد رأينا الرجل القوي العزم المصمم المضاء يستطيع - بشكل وقفته إزاء الحادث الجلل وبنبرة صوته وسط ملتطم الخطوب ومصطدم الكروب - أن يأمر الداهية الدهياء المنهمر سيلها المتدفق تيارها فتجمد وتقف، ويزجر الكارثة النكراء المنتشر شرها المتسيطر شررها فتخمد وتكف، وقد جاء في المثل القديم: «ينال الظفر من يرى نفسه قادرا على نيله.»
أو لم نر مثل هذا الرجل الماضي العزيمة في شخص بطل النهضة الحالية عبد الخالق ثروت باشا؟ ألم يقف هذا الرجل العظيم في وجه الحادث الجلل وقفة من يشعر أنه يحمل بين جنبيه من روح الله ومدده ما هو أجل من الحادث الجلل ومن ردعه وكفه وقمعه.
وحينما رفع ثروت باشا صوته المهيب يؤيد قضية وطنه، ويطالب برد حقوقه المغتصبة، ألم يسمع الملأ في نبرات ذلك الصوت العميق تلك الرنة العاصفة القوية، النافذة إلى أعماق قلب الاستبداد، القارعة حبة فؤاد السطوة والجبروت؟ ألم يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت المرهوب ذلك الدوي القاصف القاهر الغلاب الذي ترتعد من هوله فرائص الظلم، وينزوي من هيبته شبح الباطل المتسلط على الأمم بسلاح الطغيان والعدوان؟ ألم يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت الجهير تلك الرنة المؤثرة العميقة، التي اعتاد أن يسمعها في صوت الطبيعة القاهر، المتغلب على كل قوة إنسانية في صوت الرياح العاصفة، والرعود القاصفة، والموج الطامح، والسيل الجائح؟ ألم يلق هذا الصوت الهول في نفوس الإنكليز حتى ثار له ثائرهم، وقامت من أجله قيامتهم يوم نفرت أحزابهم، ووثبت طوائفهم تفرق من عظم ما نادى به ذلك الصوت، وتستكثر ما طلبه وما اشترطه يوم ضج برلمانهم من هول تلك الشروط والمطالب، وصاحت جرائدهم، وضجت تحذر القوم من الرضوخ لتلك المطالب، وتعلن أن في قبولها ما يؤذن بتهديد عظمة الإمبراطورية وسلطانها، وإضعاف شأنها وكيانها؟
ألم يملأ هذا الصوت قلوب المصريين فرحة وطربا؟ ألم يستثر هممهم ويحفز عزائمهم ويفعم صدورهم بروح القوة والتأييد والتشجيع؟ ألم يبن لنا هذا الصوت مبلغ تأثير روح الرجل العظيم في أرواح الملايين من البشر وقوة سلطان شخصيته على شعورهم ووجدانهم؟ ألم يثبت لنا هذا الصوت أن الرجل الفرد الذي يستطيع ببصره الثاقب أن يلمح نتائج الشئون وعواقب الأمور من وراء حجب الغيب، ويستطيع أن يتبين أقصد الطرق وأسد المسالك إلى تلك النتائج والعواقب خلاف العقبات والقحم والمآزق، لهو في الحقيقة خير من ألف رجل، بل هو المسيطر والمسير للأمم والشعوب ممن لا يستطيعون استبانة النتائج والعواقب، ولا الاهتداء إلى ما يؤدي إليها من الأسباب والوسائل؟
وماذا ترى يكون الأساس الذي يقوم عليه صدق النظر ونفاذ البصيرة في عظماء الرجال أمثال ثروت باشا؟ هو بلا شك رباطة الجأش وهدوء النفس في الزعازع والزلازل، وذلك ما يؤثر عن وزيرنا الجليل ثروت. لقد روي عن أكابر قواد العالم أن أحدهم كان يزداد سكينة وهدوءا كلما ازدادت زوبعة القتال من حوله ثورة وهياجا، وأن القائد العظيم «مالبرا» كان يظل أصفى ما يكون وأدق حسابا في أشد أدوار الموقعة اضطرابا وارتباكا، وأن بعضهم كان إذا انهزم جيشه وولى الأدبار، ووقع فيه من الهرج والمرج، والتخبط والفوضى ما يعتري الجيوش المدبرة ساعة الهزيمة بلغ من صفاء ذهنه في تلك الساعة العصوف الهوجاء، ودقة تفكيره وهدوء باله أنه كان يستطيع رد تلك الفلول المنهزمة، وضم شواردها، وجمع شتاتها، وتنظيم صفوفها، والكر بها في ساحة الوغى على جيش العدو في أتم نظام وأدقه، فربما تمكن بعد ذلك من القبض على ناصية الحال، ثم من هزيمة الأعداء. ويروى عن نابليون الأول أنه كان آية معجزة في رباطة الجأش وفرط الجلد والرزانة؛ وذلك أنه خسر الدنيا بحذافيرها فلم يأبه لذلك ولم يبال وكأنه لم يخسر إلا دورا في لعبة النرد أو الشطرنج.
كل هذه الأمثال ضربناها للقراء لنظهر بها فضل تلك الخلة العظيمة - أعني رباطة الجأش وهدوء الدماغ في الزوابع والزعازع - وأنها أساس كل نجاح وسبب كل فلاح، وأن عليها مدار نهضة الأمم والشعوب وتشييد مجدها ورفعتها، ولنقارن بها (أعني بهذه الأمثال المضروبة) وافر نصيب ثروت باشا من هذه الخلة المجيدة وجسيم حظه منها، ولنبين بها أن شر ما تبتلى به الأمم والأفراد في أوقاتها العصيبة هو فقدان رباطة الجأش وهدوء الدماغ الناشئ من خور القوى ووهن العزائم المتسبب عن بث روح التشاؤم والسخط والقنوط في أفراد الشعب، وما أصدق ما قاله أحد قواد الفرنس في هذا الصدد: «إذا فقد الرجل رباطة الجأش، وتملكه الذعر فغرب عنه عقله - كما هو شأن المروع المذعور - أصبح لا يدري ما يأتي وما يذر، فإذا ما سألت الله شيئا فسله أن يفر عليك عقلك كاملا، فإنه ما دام لك ذلك فما من خطر يهددك أو كرب يحزبك إلا كنت بفضل ذهنك جديرا أن تصيب منه مخرجا بوجه ما. فأما إذا استحوذ عليك الروع، وذهبت نفسك من الجزع شعاعا فقد كتب لك الفشل والخيبة، وسد في وجهك باب النجاة والسلامة، وألفيت البر بحرا والبحر برا، وحسبت الحبل ثعبانا والقطرة طوفانا.»
كأن فجاج الأرض وهي عريضة
على الخائف المذعور كفة حابل
يؤتى إليه أن كل ثنية
تيممها ترمي إليه بنابل
وإذا بصر بفرد من أعدائه خيل إليه أنه يرى خميسا عرمرما، مثله في ذلك كالسكران ينظر إلى الشمعة الواحدة فيخالها ألف شمعة.
هذه آفات الخبل الناجم من فقدان هدوء الدماغ ورباطة الجأش المتسبب عما يبثه جماعة المتطيرين في بعض طبقات الشعب من روح التشاؤم والسخط والقنوط.
فأين هذه الحال مما يجب أن يستشعره الشعب الناهض المطالب بحقوقه من روح التفاؤل والاستبشار، والابتهاج الموقظ للهمم والعزائم، الباعث على الخفة والنشاط؟ وبارك الله في العزم والنشاط. ألم يقل الحكماء إن الدنيا تنساق للنشط المعتزم والمنجرد المصمم؟ ألا ترى أن قوة الإرادة ومضاء العزيمة تخلق له عينين جديدتين يرى بهما من ضروب الحيل والتدابير وصنوف الذرائع والوسائط ما لم يكن يراه من قبل؟ هلا نظرت إلى الرجل المتشائم الواهن العزم الفاتر الهمة كيف يجد نفسه مقرورا ويظل يرتعد ويرتعش، وعليه مثل جلد الفيل وفروة الدب من دافئ الثياب والملابس، ثم نظرت إلى «الإسكيمو» ساكن القطب ذلك المتفائل المبتهج المملوء مرحا ونشاطا كيف يصنع لنفسه ثيابا دفئه من البرد والبلل والثلج ذاته؟ أفلا تعلم - علمت الخير - أن من المصاعب والأخطار ذاتها، ومن الأهوال والمحن والمصائب يعرف الرجل المتفائل المرح العزوم كيف يخلق الأسباب والحيل لتذليل هذه المصاعب، وإزالة هذه الأخطار، وإبادة تلك المحن والمصائب؟ أليست الطبيعة ذاتها تلقي علينا هذا الدرس حينما تراها تحفظ على البحيرات دفأها وحرارتها بتغطيتها بملاءة من الثلج، وتصنع مثل ذلك بأديم الأرض بتغشيته لحافا من الجليد؟
إن المتشائم يسكن الجنة فيصيرها من جراء سخطه وضجره وفتور عزمه وقلة حيله جهنم، ويسكن المتفائل النار فيصيرها بفضل انشراحه وارتياحه وبحدة نشاطه وقوة عزيمته وسعة تدبيره وحيلته فردوسا.
إن الإنسان بفطرته متفائل مجبول على الميل إلى الاستبشار والانشراح والنشاط والعزم، وأن هذا التفاؤل هو الذي يجعله صالحا لسكنى هذا الكوكب الأرضي الذي لا يهب الإنسان شيئا على لزومه خطة التسخط والضجر وفتور الهمم والعزائم، ولكنه يسخو له بكل شيء على التزام سنة التفاؤل والابتهاج، وما يورثانه من سعة التدبير والحيلة. فأبناء البشر باعتبارهم متفائلين نشطين ترى كل فرد منهم كأنه مجموعة قوى وجعبة كفاءات فتخاله قضيب مغناطيس فوق كرة من حديد، فكل إنسان في هذا الوجود كأنه مبدع ومخترع قد أبحر في سياحة استكشافية يسترشد بخريطة ذهنه الخاصة التي لا يوجد لها نظير مع غيره من سائر البشر، وهذا العالم الأرضي يظل في نظر المتفائل وكله أبواب ومنافذ ومسالك، وكله فرص ونهز ومغانم، وكله حساس وكأن في كل موضع منه وترا مشدودا يجاوب بالنغمة المطربة كل عزفة عازف، وهذه الأرض الصخرية الصلدة هي في الحقيقة جوهر حي حساس يفيض روحا وشعورا، يتأثر بكل لمسة، ويجاوب على كل مسة وجسة، وسواء سبرت غوره بمحراث آدم أو سيف قيصر أو قارب كولومبو أو مرصد غاليلو أو منطاد زبلين فلا بد أن يجاوبك على كل واحدة من هذه التجارب بأعظم جواب وأروعه.
كذلك جبل أبناء البشر على التفاؤل، وعلى أن يستثمروا بفضله وبفضل ما يورثه من القوة والمقدرة صخرة الأرض الصلدة، ويسخروا الطبيعة الهائلة في قضاء أوطارهم ومآربهم، وعلى أن يغتبطوا ويفرحوا برؤيتهم انتصار الإنسان على الطبيعة وسيطرته على العناصر، وبرؤيتهم أن كل رجل متفائل سليم الفطرة قوي الإرادة يظل مصلحا منظما، ويكون كأنه قانون أفضى إلى تشويش وفوضى فاستخلص منه نظاما وصلاحا.
وجبل الناس أيضا باعتبارهم متفائلين نشطين على الاغتباط والفرح باستعراض ثروة الطبيعة العظمى وكنوزها العديدة، وبرؤية هذه الذخائر الجمة بمتناول من كل متفائل مستبشر من سكان هذا العالم، ولا جرم، فذلك يفجر في قلوب الناس ينابيع الأمل، ويستحثهم إلى المباراة والمساجلة في سبل النشاط والهمة.
وعلى ضد ذلك التشاؤم فإنه داعية الفتور والتبلد ومجلبة العجز والتقاعد. وقدما قيل إن انقباض التشاؤم يفقأ الأعين ويشل الذهن، فهو خليق أن يعد انتحارا تدريجيا.
وأي خير - أصلحك الله - في بث روح التشاؤم والاكتئاب في أفراد الشعب؟ وأي بركة في تشويه جمال الحياة في أعينهم، وفي تغشية أبصارهم ذلك المنظار الأسود الذي يبرز لهم كل شيء في رداء قاتم، ويكسو عروس الطبيعة الحسناء ثوب حداد، ويحيل عرسها الدائم المتجدد مأتما، ويرد بشيرها نعيا، ويحدث في السلسل الزلال أقذاء، وفي مذاق الشهد الجني مرارة، وفي انسجام النغمة الرخيمة تنافرا، ويطلع في وجنة الشمس الصقيلة نكتة سوداء، ويجري نجوم السعود بالشؤم، ويريك المشترى ضمن كواكب النحس!
ولكن الخير كله والنعيم والسعادة في مذهب التفاؤل القائل بأن هذا العالم ملك للمؤمل المجتهد، وأن لكل بغية وسيلة، ولكل غاية سبيلا، وأن كل امرئ يحمل في يده مفتاحا لإغلاق خزائن الطبيعة وفخا لاحتبال صيدها.
فقل للمتشائمين من أبناء هذه الأمة وغيرها من شعوب العالم: لا تشاؤم ولا اكتئاب ولا تسخط ولا تبرم، فهذا العالم الذي تعيشون عليه، وتسعون في مناكبه إنما هو مصنع هائل مفعم بالقوة بأفلاكه الدائرة وفصوله وأزمانه ومده وجزره، ومكينة العالم الضخمة الهائلة تملأ الفضاء عرضها السموات والأرض، وهي محكمة البناء دقيقة التركيب، لا يعتريها الفساد، ولا يتطرق إليها الوهن والخلل، وهي لا تزال تصلح نفسها بنفسها بقدرة كامنة في كل ذرة من ذراتها، وهي تصنع كل شيء وتقدر على كل شيء، فهذا عنصر الماء أتراه يعجز عن حمل أي ثقل مهما عظم؟ وهب أن هناك ثقلا يعي الماء حمله؛ فهذا البخار أمامك فجربه أو دعك من هذا وجرب الكهرباء مثلا، فهل ترى بعد ذلك لذخائر الطبيعة نفادا؟ وهل حاولت مرة أن تزن بالقناطير مقدار ما تسكب القناة الصغيرة الجارية في مزرعتك من كميات المياه؟ أجل، إنه لا نفاد لثروة العالم، وإنه لا شيء في الحقيقة عظيم هائل العظم إلا كنوز الطبيعة. هذا على أن الطبيعة لا تبدي لنا سوى قشورها وسطوحها، وهي من تحت ذلك بعيدة الأغوار يقدر عمقها بملايين الفراسخ.
ألا إن الحزم والحكمة في التفاؤل والانشراح، وأن التشاؤم دليل الحمق والجمود؟ ولقد يكون من السهل على جماعة المتشائمين أن يحقروا مذهب التفاؤل وأربابه، ويلحظوهم بعين الازدراء ادعاء للفطنة والكياسة، وتظاهرا بالأرب والدهاء، ولكني أرى أن آمال المتفائلين المشرقة وأمانيهم البراقة، وما يزخرفه خيالهم من قصور الهواء المونقة أحسن ألف مرة، وأعود بالخير والنفع، وأجلب للرخاء والدعة مما لا يزال المتشائم يحفره من جحور السخط والضجر وسجون الهم والشقاء.
ماذا يستفيد العالم من أولئك المتشائمين الذين لا يبرحون يبصرون في كبد السماء فوق رءوسهم كوكبا أسود يتخلل لآلاء الضياء والسحب البهيجة الألوان، وربما احتجب أوانه وراء ما يمر دونه من أمواج النور، ولكنه لا يلبث أن يعود ظاهرا أقبح ما كان وأشد سوادا؟
وعلى خلاف ذلك التفاؤل، فإنه منبع الحول والقوة والباعث المحرض على السعي والعمل، وعندي أن الرجل الذي لا يجعل همه تحبيب الحياة والطبيعة إلى الناس - بإظهارهما لأنظارهم في أحسن صورة وأجمل مظهر - كان موته خيرا من بقائه وعدمه أنفع من وجوده.
التشاؤم مرض والتفاؤل صحة، والصحة شريطة العقل وأساس الحكمة، والابتهاج آية ذلك وأمارته، والبر الكريم والأريب اللبيب هو من حرك فيك نسيم الأمل، وأشعر قلبك روح الثقة وبرد اليقين، وعتقك من رق الهم، لا من أذاقك مرارة الجزع وجرعك غصة الكرب، وأشعر فؤادك ذل الخوف ومضاضة اليأس.
وإنما كان الابتهاج والانشراح وسيلة النجح، وسبب الفوز في هذه الحياة؛ لأنه سنة الطبيعة ومنهجها، ويخيل إلي أن الفرح والسرور هو روح الطبيعة ومنبع حياة الكون، ولعلك إذا استطعت أن تنفذ ببصرك إلى صميم قلب الوجود ألفيت ذلك القلب يدفع لدى كل نبضة من نبضاته تيار السرور الزاخر في كل وريد وشريان من أوعية جثمان الكون حتى يظل نظام الكائنات بحذافيره مغمورا بفيوض الفرح وسيول الحبور يدفق بأمواجها الطامية ويفهق. فلن ترى في نواحي الكون موضعا - مهما خلته جديبا - إلا ما كان في الحقيقة مفعما بالخير والبركة، فأفقر مكان يحتوي من الثراء ما لا يكاد يحصى مقداره، وأجدب محل لا تستنفد حاصلاته ولا يفرغ من اجتناء ريعه وثمرته.
وكل صوت من أصوات الطبيعة ينتهي بلحن ويختم بنغمة، وكل صفحة من صفحاتها تزتخرف حافاتها وتدبج حواشيها الصبغ الجميلة والألوان البهجة.
لا تعلق على جدارك الصور الكئيبة المحزنة، ولا تلوث أحاديثك بسواد الشكوى وظلمة التشاؤم، ولا تكثرن من الضجيج والأنين والتأفف والتلهف والتحسر والتضجر، وكن على أن تظل صناجة تطرب الملأ بموسيقى الولائم أحرص منك على أن تبيت نواحة تبكي الجماهير بمراثي المآتم، ولا يصدرن عنك من المقال والفعال إلا ما جدد من أمل، أو حفز إلى عمل، أو استنهض همة، أو استثار عزمة.
من كل ما تقدم يستنتج أننا في موقفنا الحالي - إزاء ما يعترضنا من العقبات وما يكتنفنا من المصاعب - نظل أحوج ما نكون إلى من يبعث فينا روح التفاؤل، ويضيء قلوبنا بشعاع البشر والانشراح، ويذكي في صدورنا جذوة الأمل، ويطلع علينا في أفق السياسة كواكب الرجاء هداية لنا في مسالكها الوعرة ومجاهلها المضلة فيملأ نفوسنا بذلك ثقة وإيمانا، ويشعرها قوة الثبات وعزة اليقين والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات مما ينبه الهمم، ويوقظ العزائم، ويحفز إلى جسيم الأعمال وجليل المساعي.
أما خطة التشاؤم والتطير فلا أرى لها البتة مسوغا ولا مبررا - ولا سيما في حالتنا الراهنة التي ليس فيها ما يدعو إلى التشاؤم أو يبعث على الخوف والفزع كما بينا وأوضحنا فيما سلف - فقد اتضح أنه ليس لفريق المعارضة المتشائمة من علة أو حجة على ما لا يألون جهدهم في نشره وترويجه - من الإشاعات والأراجيف والريب والتهم وسيئات الظنون بالمخلصين الغيورين من جلة رجال هذا البلد وفحوله، وصفوة ثقاته ودهاته - إلا آفة الغرض والهوى، وقد ما أدرك الناس أن المرء إذا أسلم زمام إرادته لقائد الغرض، وألقى عنان مشيئته في قبضة الهوى فقد نبذ طاعة الحق، وخرج عليه فليس تغني معه محاجة ولا مناظرة، ولا يفلح في إقناعه وإفحامه الحجة الناصعة والبرهان القاطع.
لذلك تراه إذا أراد نشر أباطيله وترويج أضاليله انصرف عن مجالات أهل الرأي والحجى، ودوائر ذوي اللب والنهى من النافذي البصر، الثاقبي الفطنة والذكاء الذين يصولون بأمضى سلاح من المنطق والقياس، ويكشفون دياجير الإشكال والإلباس بأسطع سراج من الدليل المشرق وأبهر نبراس. فتحول عن هؤلاء إلى جماهير العامة والنساء والصبيان الذين قد يسهل عليه إقناعهم، لا بأساليب المنطق والقياس، ولكن بقوة التأثير على العواطف والإحساسات (كما أوضحنا ذلك بإسهاب فيما سبق من فصول هذا السفر) بل بقوة التكرار والإلحاح، وشدة الإصرار والعناد حتى يخبل أذهان من يتسلط عليه من البسطاء الذين يصبحون لفرط تأثير هذا التسلط يتهمون عقولهم - بل يتهمون حواسهم - ويغالطون أنفسهم عن الحقائق الناصعة الساطعة، ويخدعونها عن الشاهد الناطق والواقع الملموس.
وهنا يجدر بي أن أورد فكاهة قصصية أراها أصدق مثل يضرب لتمثيل هذه الحالة الأليمة:
جاء في الأساطير القديمة أن برهميا تقيا، نذر للآلهة نذرا أن يضحي بشاة في يوم محدود، ثم خرج في ذلك اليوم ليشتري شاة وفاء بنذره، وكان في جواره ثلاثة رجال قد عرفوا شأن هذا الناسك وما كان قد نذر للآلهة، فرأوا في ذلك فرصة انتفاع لم يحبوا أن تفلت من أيديهم، فانبرى له أحدهم فخاطبه قائلا: «أيها البرهمي، أذاهب أنت لابتياع شاة تضحيها؟»
قال البرهمي: «أي وربي، ما خرجت اليوم إلا لهذا الغرض.» فحينذاك فتح الرجل جرابا كان يتأبطه واستخرج منه حيوانا مشوها - كلبا ضريرا أعرج - فصاح به البرهمي: «ويلك يا خبيث يا من يدنس كفه بلمس المقاذر ولسانه بافتراء الأكاذيب! أتسمي هذا الكلب النجس شاة؟» فأجابه الرجل بمنتهى الجرأة والثبات: «أي والله، ومن أكرم صنوف الغنم - من أنعمها صوفا وأطيبها لحما - أيها البرهمي، اغتنم ما ساقه إليك الحظ من هذه الهدية النفيسة، وأسرع بتضحيتها تكسب بها أحسن الأجر والثواب من الآلهة.» فقال البرهمي: «هدانا الله وإياك يا رجل، لا بد أن يكون أحدنا قد أصيب بالعمى.»
في هذه اللحظة قدم عليهما ثاني الثلاثة المتآمرين، فصاح كالفرح الجذلان: «لله مزيد الحمد والشكر، هذه شاة من أكرم الغنم، لقد كفيت مئونة الذهاب إلى السوق ومشقة مزاحمة الناس هنالك، بكم تبيع هذه الشاة يا رجل؟» فلما سمع البرهمي ذلك الكلام أخذه دوار في رأسه، وهفا ذهنه على أرجوحة الشك يعلو ويهبط، ولعبت به موجة قلقة من الحيرة تطفو به وترسب، فخاطب القادم الجديد قائلا: «مهلا يا هذا وتدبر ما تقول وما تزعم، هذه ليست بشاة ولكن كلبا دنسا مشوها.» فأجاب القادم الجديد بقوله: «ويحك أيها البرهمي، ما أحسبك إلا سكران أو مجنونا.»
في هذه الآونة دلف إليهم ثالث المتآمرين، فقال البرهمي: «إذن فلنحكم هذا القادم في الأمر، وقد عاهدت الله أن أقبل حكمه.» فوافقه الرجلان على ذلك، ونادى البرهمي الرجل القادم: «خبرنا يا أخي، ماذا تسمي هذا الحيوان؟» فأجابه الرجل بقوله: «أيها البرهمي، هذه بلا أدنى شك شاة مليحة.» فقال البرهمي: «لا ريب أن الآلهة قد سلبتني حواسي.» ثم اعتذر إلى صاحب الكلب واستسمحه واشترى منه الحيوان القذر بثمن جيد وضحاه للآلهة فاستغضبها فرمته بداء خبيث في مفاصله.
هذه فكاهة واضحة الغرض، بينة المغزى، تشير إلى مبلغ تسلط ذوي الغايات في كل زمان ومكان على عقول البسطاء بمحض الكلام والإغراء والمغالطة، ولعلها أصدق مثل ينعت ما نكابده الآن من تأثير المعارضة المتشائمة على العامة والنساء والصبيان، وزجهم في متائه التضليل، والتغرير بما يروجون بينهم من الإشاعات والأراجيف مع شدة ظهور بطلانها، وفرط وضوح زورها، ومنافاتها للواقع الملموس، ولكن ذوي الغايات والأغراض لن يعدموا في كل آن ومكان من جمهور الناس من يستطيعون خدعه عن الحقائق المدهشة المحسوسة حتى يحملوه على الاعتقاد بعكس ما تعرضه عليه عينه وأذنه، وبضد ما يكيفه له ذوقه ولمسه تكذيبا لوحي شعوره وشاهد حسه، حتى تراه يسمي التمر جمرا والفجر عصرا، ويحلف لك أن العسل مر بالرغم من حلاوته في فمه، وأن الطيب نتن مع عبق أريجه في شمه، وأن الغزال فيل على الرغم من غيده وحوره، وأن الكلب شاة وإن عرف نفسه للأبله بنباحه وضموره.
ولكن الحق أبلج والباطل لجلج، والأكاذيب في هذه الحياة محكوم عليها بالفشل في النهاية مهما نجحت مؤقتا وبالكساد مهما راجت حينا، وهي - كما نوهنا سابقا - مكتوب عليها الحكم بالإعدام في صحيفة الأقدار وسجل الأزل مهما تراخت مدتها وطال أجلها.
وما دامت وزارة ثروت باشا لا تبرح - كما نراها الآن - تقدم للأمة في كل يوم وليلة دليلا صادقا على تنفيذ خططها وبرامجها، وعلى المسير بالبلاد نحو بغيتها وغايتها، وما دمنا نرى رئيسها الجليل ثروت لا يزال يسوق من ناصع الأدلة على شدة إخلاصه للوطن، وفرط غيرته على مجده، وحسن عطفه على أهليه، وإدمانه السعي الحثيث في تقريبه من أمله وإدنائه من أمانيه يقطع بذلك النهار جهادا، والليل سهادا. أقول: ما دمنا نرى بطل النهضة الحالية ثروت باشا لا ينفك يزلف إلى أبناء وطنه من بينات الآيات على بعد همته، ومضاء عزمته، وعظم بطولته ما يجعله خليقا بقول الطائي:
كل يوم تبدي صروف الليالي
خلقا من أبي سعيد عجيبا
طاب فيه المديح والتذ حتى
فاق وصف الديار والتشبيبا
أقول: ما دامت هذه حال الوزارة الحاضرة من صدق الإخلاص للوطن، وحرارة الغيرة على مصلحته، وشدة التفاني في سبيل خدمته كما تشهد بذلك الأدلة المتوالية، والشواهد المتواترة المتتالية فلن يبعد ذلك اليوم الذي تصبح فيه آيات الحق الساطعة قد محقت أشباح الترهات البسابس، وعقائد اليقين والإيمان قد بددت هواجس الريب والوساوس فيهتدي ضلول، ويرشد غوي، ويؤمن مشكك، ويذعن مكابر، وتنقشع عن أعين غشاواتها فتبصر وعن آذان سداداتها فتسمع.
لقد ألمعنا فيما سبق من فصول هذا السفر أن من أقطع الأدلة على مضي الوزارة في تنفيذ برنامجها توليها الأمر بنفسها في حكم البلاد، وإدارتها بشكل ظاهر ملموس لا يقبل ارتيابا ولا تشككا على الرغم مما لا تنفك تدعيه المعارضة المتشائمة (في وجه البراهين الساطعة) من أن الوزارة لم تصنع شيئا من هذا القبيل، ولم تزل مسيرة يتصرف فيها الموظفون الإنجليز آلة في أيديهم يحركونها كما شاءوا وشاءت أهواؤهم.
تحتج المعارضة على زعمها هذا بحجة واهنة مفندة، وهي بقاء عدد مذكور من الموظفين الأجانب في الدوائر الأميرية، فهل هذا يدل على تحكم العنصر الأجنبي في إرادة الوزراء بسحب السلطة من أيديهم واتخاذهم لعبا وآلات لا حول لها ولا قوة؟ إن الوزارة لا ترى من الحكمة ولا من المعقول الاستغناء عن كل موظفيها الأجانب في يوم أو بعض يوم؛ فإن لهؤلاء الأجانب اطلاعا على أسرار حركة الإدارة، ووقوفا على خفاياها، ومعرفة عميقة بدقائق تركيب مكينة الحكومة وتصاريف حركاتها، فمن الخرق والحماقة أن تتخلص الوزارة منهم دفعة واحدة بين عشية وضحاها؛ لما هو محتم أن يسببه مثل هذا التسرع والتهور من اضطراب أسباب الإدارة، وارتباك دولاب العمل.
وماذا علينا من بقاء أولئك الموظفين الأجانب ما دام ذلك مؤقتا إلى حين، وما دام زمام الإدارة العامة في قبضة الرؤساء الوطنيين تحت إشراف الوزير الواضع الخطط والبرامج المنفذ لها المسئول عنها؟ وماذا يهمنا بقاء هذا العنصر الأجنبي ما دام لا حول له ولا قوة، ولا يملك ضرا ولا نفعا، وليس له أن يتصرف في الإدارة العامة حلا وعقدا وإبراما ونقضا؟
وما أحسب أن هناك شيئا أدل على حقيقة هذه الحال - الذي نصفها ونشرحها - من ذلك المنشور الذي وزعه وزير المالية على رؤساء المصالح مقررا فيه مسئولية الوزارة، وتوليها العمل بنفسها بطريقة واضحة لا غبار عليها للشك، ولا ظل للشبهة والريبة، وهذا نصه:
إن وزير المالية هو الذي يملي ويراقب السياسة المالية العامة، وهو المسئول نهائيا عن أعمال جميع المصالح التابعة له؛ لذلك يطلب إلى رؤساء المصالح:
أولا:
أن لا يتخطوا السلطة المخولة لهم إلى ما هو من اختصاص الوزير ووكلائه فيما يتعلق بتعهدات تربط الحكومة أو باتخاذ قرارات، أو إبداء آراء قاطعة في مسائل خطيرة.
ثانيا:
أن لا يستعملوا السلطة المخولة لهم ضمن دائرة اختصاصهم فيما قد يكون فيه مساس بالسياسة العامة.
ولما كان يصعب تحديد هذه المسائل بتفاصيلها منذ الآن، فإنه يحسن برؤساء المصالح أن يكونوا على اتصال بوزير المالية - إما شخصيا وإما كتابة - ليأخذوا رأيه في المسائل الهامة التي تعرض لهم.
أتريد المعارضة بعد هذا دليلا على أن الوزارة قد تولت الأمر بنفسها، وقبضت على أزمة الشئون ودفة الأعمال؟ أم تطلب المعارضة برهانا بعدما عرفه الملأ أجمع من قيام معالي وزير المالية إسماعيل صدقي باشا عقب تأليف الوزارة الحالية بفحص ميزانية هذا العام قبل إصدارها ببضعة أسابيع وبحثها وتمحيصها ودرس أصولها، وفروعها وفصولها، على ضيق وقته وفادح أعباء واجباته الأخرى مما لم يعهد في وزير مصري قبله.
وعلى هذا النحو يسير سائر الوزراء في وزاراتهم؛ إذ يأخذون في فحص أعمال تلك الوزارات، ودرس شئون ما يتبعها من المصالح بجد وحد، وهمة لا تعرف الكلل، ولا يعرفها السأم والملل، ليضعوا من خطط العمل وبرامجه ما يمكنهم من الاستقلال التام بأعباء العمل دون أدنى احتياج إلى معونة الموظف الأجنبي مهما علا قدره وسمت رتبته.
أجل، لقد سار الوزراء شوطا بعيدا، وجروا شأوا واسعا مديدا في تولي الأمور بأنفسهم، وإدارة دولاب الأعمال وتدبير دفته - كل في مجاله وميدانه - إدارة الناهض بالثقل، المستقل بفادح العبء والحمل، المحتمل كل ما عسى أن تسوقه إليه عواقب أعماله من التبعات والمسئولية .
وما لنا لا نعلن الحق ونعترف بالواقع، وذلك أن الشعب عامة وموظفي الحكومة الوطنيين خاصة قد أخذوا يشعرون في عهد الوزارة الحالية بأن يدا حديدية بطاشة كانت تأخذ بمخنقهم قد انسحبت من حول أعناقهم، ووطأة ثقيلة باهظة كانت تضغط على متنفسهم قد رفعت عن صدورهم، وأن كابوسا فادحا كان يجثم على قلوبهم قد رنق جناحيه للمطير ثم حلق، وجذوة حامية كانت تأتج فوق أكبادهم قد خمدت فأطفئت؟ كيف لا وقد كان الموظف البريطاني مهما صغر قدره وانحطت رتبته في العهد السالف المندثر ربما غلب رأيه على رأي الوزير فنفذ برغم إرادة الوزير مشيئته. لقد كنا في ذلك العهد نجزع من أمثال هذه البلايا، ونأسف ونطأطئ ذلة وانكسارا فنسيغ الشجى، ونغضي على القذى، ونتقلب على جمر الغضا. أترانا اليوم لا نزال على هذه الحال أم ترانا نتيه إدلالا، ونشمخ عزة وجلالا، ونرنح الأعطاف فرحا، ونمشي في الأرض مرحا؟ وكيف تجوز المقارنة بين حال كنا نختنق فيها اختناقا مكبلين بأغلال الرق في أضيق سجون الاستبداد الأجنبي، وبين حال أصبحنا ننشق فيها نسيم الحرية في فضاء الاستقلال الرحيب؟ وأين الضعف من القوة، والمهانة من العزة، والوثبة من الركود، والنهضة من الجمود.
شتان ما يومي على كورها
ويوم حيان أخي جابر
في مجدل شيد بنيانه
يزل عنه ظفر الطائر
لا يجعل الجد الظنون الذي
جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما
يقذف بالبوصي والماهر
فما بال أقوام لا يحمدون الله على هذا الفضل العظيم والمنة المضاعفة؟ وما بالهم لا يعترفون بالفضل لذويه ممن ساق الله بواسطتهم وعلى أيديهم هذا الفوز العظيم والنجاح الباهر؟ أو قد خلت قلوب من عواطف الشكر، وأقفرت نفوس من غريزة الإقرار بالفضل والاعتراف بالجميل؟ أم هي برودة الحقد والكراهية قد جمدت ينابيع الأريحة والشعور في قلوب أناس، وعصفات الضغينة والبغضاء القارة القارسة قد ثلجت أنهار الإحساس في نفوسهم، فوقف تيارها وانحبس فيضها؟
إن أس الفضل والكرم والنبل والشرف والبر والمروءة في هذه الحياة هي شكر النعمة والاعتراف بالجميل ، وإن أصل الرذائل ومصدر الخبائث، وينبوع المنكرات والمفاسد، وعنوان الضعة والخسة، وشعار اللؤم والنذالة، وعلامة الغدر والفجور هو كفران النعمة ونكران الجميل، ومن ثم ما نراه يملأ الكتب المقدسة من كثرة الحض على شكر آلاء الله ونعمائه والنهي عن جحودها ونكرانها مع شدة غنائه عز وجل عن ثناء العباد، وعدم تأذيه أو تأثره - سبحانه وتعالى - بنكرانهم وجحودهم، ولكنه علم - عز شأنه - أن الشكر مصدر الخير كله فحث عليه، وأن الكفران منبع الشر أجمع فنهى عنه.
وقد قال الحكماء: الأصل في الدنيا أنها هيكل ومعبد يقوم فيه الناس بتقديس شيء واحد ألا وهو «حضرة الرجل الفاضل المخلص الهمام»، وشكر ما يسدي إليهم من غر آلائه وجزيل نعمائه. أجل، إن هذه الدنيا لتنطوي على شيء واحد هو الجدير بحق أن يسمى الإلهي المقدس - إذ هو عنصر كل ظاهرة إلهية مقدسة في هذا الوجود - وأعني بذلك الشيء هو ما يشعر به الناس في أعماق قلوبهم من عاطفة الإجلال والإعظام نحو الأبطال الأماجد في كل زمان ومكان. فهذه الخلة القدسية الإلهية هي الدليل الباهر على سريان روح الله ورضوانه بين ظهرانينا، وعلى وجود ملكوته الأعلى فوق أديم هذه الأرض المستضعفة المنكوبة.
فحيثما خلت الأرض من هذه العاطفة الشريفة - إجلال الفضل والكرم والمروءة في أهلها من عظماء العالم وأبطاله - فقد احتجب نور الله عن هذه البقعة، وقد حيل ما بينها وبين ملكوت السموات، وقد حلت عليها نقمة الجبار ولعنته، بما قد أقفرت من أس المكارم وينبوع الفضائل، وأيما بقعة من أرض الله كان هذا شأنها وتلك حالها، فأي خير فيها وفي أهلها؟ وأي غبطة في معاشرتهم ومجاورتهم أو ثمرة في مخالطتهم ومعاملتهم؟ فقد وجب على البر الكريم أن يغادرها لتوه وساعته واهبا للشيطان الرجيم نصيبه منها ومن أهلها، وعليها وعليهم العفاء ما بقوا وما بقيت كذلك!
جبل الإنسان على الطرب إلى رؤية الجمال والجلال حيث كانا، والفرح بمشاهدة الرائع المليح، والتلذذ بإكبار البارع الفائق غريزة في نفوس البشر، بل إن الإعجاب الصادق الحق لجدير أن يحرر الروح البشرية - ولو برهة - من أغلال سخافات الحياة، ويصفيها من شوائب خبائثها ودناياها؛ ولذلك قيل: إن الناس يولدن من بطون أمهاتهم عبادا، فهم لا مندوحة لهم عن العبادة حيثما أصابوا لها موضعا، ولقد يطيق الإنسان أن يعبد الشيء الصغير إذا كان حقا، فأما الباطل فذلك ما لا يطيق إجلاله وعبادته مهما أصم الآذان بطنينه الأجوف، واستطار الأبصار بزبرجه المموه، وأي منظر - أصلحك الله - أدعى للرحمة والرثاء من منظر الجماهير والجماعات يزدحمون لإلقاء نظرات الإعجاب والإجلال إلى مواكب الملوك واحتفالات الزعماء، وأمثال ذلك من مظاهر الفخامة المزورة والأبهة الكاذبة؟ وليس في هذه الجماهير المحتشدة والجموع المتكاثفة إلا من تتوق نفسه إلى بذل عواطف الاحترام والإعظام، وأداء فرائض الإجلال والتقديس، ولكن كم منهم يعود أدراجه مطرقا كئيبا يشكو إلى الله خيبة أمله فيما كان قد حسب وقدر، وشدة هبوط ما يبصره من الحقيقة دون ما كان قد تخيل وتوهم؟
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون .
إن مذهب الناس في إجلال العظماء لهو في الواقع قطب رحى حياتهم، وعنصر كيانها، وعليه تترتب سائر فروعها وأركانها، وعلى حسبه تتكيف جميع فصولها وأدوارها - سواء في محافلهم العامة وسوامرهم الخاصة وفي مساجدهم وكنائسهم وأسواقهم - فليكن مذهبك في إجلال العظماء أن تحرص الحرص كله على الاهتداء إلى العظيم بحق الصادق البطولة ذي الفضل الخالص لا المزيف، فإنك إن اهتديت إلى ذلك كان إجلالك حرا صادقا، فأدركت الخير كله والبر بحذافيره وكلل النجاح مسعاك، وإن كان إجلالك كاذبا حداك إلى البطل الكاذب فأوسعته إكبارا وإعظاما فذهبت مع الشيطان كل مذهب، وركبت من الضلال كل مركب، واستحققت الإثم كله والشر أجمع، وبؤت بالخيبة والخذلان والخسارة. ألا فويل للناس إذا عميت منهم قلوب وبصائر فجازت عليهم أخاديع أدعياء البطولة، ثم خفيت عليهم مواطن العظمة الحقيقة فتهافتوا على مظاهرها الكاذبة! إذن لساد الباطل، وفسد الجم الكثير من مصالح هذه الحياة ومرافقها، وحل به الدمار والتلف، وظلت تعبث به أيدي البلي بمرأى من الناس من حيث لا يشعرون بذلك ولا يفطنون إليه؛ ذلك لأن هذه الحياة الدنيا إنما هي دار جد وإخلاص، وليست بألعوبة ولا أخدوعة، ولكن حقيقة من أخطر الحقائق.
قال توماس كارليل: إن الأبطال ما برحوا موضع إجلال الناس حتى في هذه العصور الفاسدة الأخيرة، ولعل الإنسان لم تتحرك في روحه عاطفة هي أطهر وأنقى وأبر وأتقى من إجلاله لمن هو أعظم منه قدرا وأجل خطرا، وما أراني مغاليا إذ قلت إن هذه العاطفة هي الأثر الفعال في حياة البشر أو إنها الأساس الذي تقوم عليه الأديان سواء الوثنيات وما هو أرقى وأفضل من الديانات الأخرى. فهذه الديانة النصرانية هل ترونها في عنصرها وجوهرها سوى إجلال وإعجاب وضراعة وخشوع لذات إنسانية سامية إلهية - ذات أعظم أبطال العالم قاطبة - ذات من لا أسميه ههنا بلساني بل أترك ذلك الغرض المقدس لتأملات الصمت المقدس!
وإذا انتقلنا من الدين إلى غيره من مناحي الحياة وشئونها، ألفينا في جميعها من آيات احترام الصغير للعظيم والدقيق للجليل، ومن مظاهر ولاء الوضيع للشريف ما يماثل عقيدة الإيمان ومناسك العبادة في أمر الدين، وماذا ترى الإيمان الديني سوى عاطفة الاحترام والولاء لنبي أو قديس؟ وماذا عسى تكون عاطفة احترام الوضيع للشريف وولاء الصغير للكبير؟ تلك العاطفة التي هي في الحقيقة روح المجتمع الإنساني وعماده وقوامه إلا صنفا من عبادة الأبطال، وعلى هذا فعبادة الأبطال هي أساس المجتمع وسلك نظام الرتب والدرجات في سلم الإنسانية - ذلك الأساس الذي يقوم عليه صرح العمران، وذلك المحور الذي يدور عليه دولاب التعاشر والتعامل، حتى ليصح لنا أن نسمي مذهب «عبادة الأبطال»: «هيروأركي»؛ أي «حكومة الأبطال» - فالعظماء والأبطال وذوو الرتب والمقامات في الأمة يكونون لها بمثابة الأوراق المالية تمثل الذهب وتقوم مقامه، وإن اتفق أحيانا - لسوء الحظ - أن يجيء الكثير من هذه الأوراق المالية مزيفا مزورا، فنحن قد نحتمل الأوراق المالية ونعيش بها وإن وجد بينها المزيف المزور، فأما أن يكون كلها مزيفا فذلك ما لا يطاق ولا يحتمل ولا يستقيم به عيش ولا حياة، وإذ ذاك تهيج الفتن وتقوم الثورات، ويهب الناس يصيحون: «المساواة المساواة»؛ إذ تزول ثقتهم في الأوراق المالية الصحيحة أو الذهب - أعني تزول ثقتهم في الأبطال - فيظنون أن البطل المرتفع عن منزلة الاعتياديين من الناس مفقود لا وجود له، وأن عبادة البطل ضرب من الخرافة والخيال، والحقيقة أن صنف البطل وعباد الأبطال موجودة في كل زمان ومكان؛ فهي من العناصر المكونة منها الإنسانية، ولن تزول حتى يزول الإنسان من الوجود.
لقد فشا في هذا العصر الفاسد رأي فاسد، ذلك هو إنكار وجود الأبطال، بل كراهية وجودهم، إذا ذكرت للمرء بطلا من أبطال العالم الذين أنقذ الله بهم الدول والعصور من وهدة الخراب والدمار أخذوا يعيبونه ويتنقصونه وأوسعوه ذما وقدحا، ثم زعموا أن ما يعزى إليه باطلا من البطولة إنما هو في الحقيقة مستعار مما أحاط به من الظروف الخاصة والأحوال النادرة، يقولون: «الوقت هو الذي خلق ذلك البطل، فهو سليل تلك الآونة وابن هاتيك الساعة، ولولا ظرفه الخاص لكان كأي امرئ عادي» -
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا - يزعمون أن الوقت هو الذي أعاره ثوب البطولة الوهمي، وأفاض عليه نور العظمة السرابي، وأنه في الحقيقة لا بطل ولا عظيم، وأن كل ما جرى عليه من عظيم المآثر وجليل الفعال ليس من صنعه بل من صنع الوقت. فمتى كان الوقت هو الذي يصنع الخوارق، ويأتي بالمعجزات؟! لقد طالما رأينا الوقت يصيح: أين البطل العظيم، وينادي: هل من فتى همام وفارس ضرغام يقيم أودي، ويصلح مفاسدي، وينقذني مما أنا منحدر إليه من وهدة التلف وهاوية البوار؟ فلا يجد من يجيب دعاءه ويلبي نداءه، ويدور بعينيه في فضاء الله فلا يرى بطلا ولا عظيما:
إني أغمض عيني ثم أفتحها
على كثير ولكن لا أرى رجلا
وبعد أن يبح النداء صوت الوقت، ويقطع الدعاء حنجرته تخور قوته، وتبيد منته ثم تنهار أركانه، ويتقوض بنيانه، ويعمه الفساد ويشمله التلف والخراب؛ وما ذاك إلا لأن البطل لم يدركه في ساعة محنته وبلائه، ولأن العظيم لم يكن إذ ذاك موجودا، ولم تكن القدرة الإلهية قد خلقته، وأرسلته هدى ورحمة للعالم.
والواقع أن غوائل التلف والفساد ما كانت قط لتصيب عصرا من العصور لو أنه أتيح له رجل عظيم يجمع بين العقل والعزيمة - بين عقل يعرفه حاجة العصر وعزيمة يستعين بها على قضاء هذه الحاجة - فيبلغ بعصره غاية الأمل والمنى، ويصل به إلى مدى الفوز والسعادة. فأما العصور الفاسدة الخربة - المصابة بداء الشك والحيرة والكفر والجحود - فهي في مذهبي أشبه شيء بأكداس الحطب اليابس الميت تنتظر من السماء شهابا يسقط عليها فيذكيها ويشعلها حريقا، وما الرجل العظيم يتاح من جانب الله لمثل هذه الأكداس الذابلة الميتة يحييها ويوقظها إلا ذلكم الشهاب الساطع يؤدي إلى العصر رسالته وينطق كلمته - فإذا فيها شفاء الغلة، وبرء العلة، واتحاد الآراء، واتفاق الأهواء، والتئام العقائد والمذاهب، وائتلاف المقاصد والمشارب - فما هو إلا أن يقع ذلكم الشهاب على تلكم الأكداس المكدسة من الحطب اليابس الميت حتى يتأجج سعيرا، وبعد ذلك يجيئك الجاهل السخيف الغبي، الجامد الطبع، المظلم الروح، الذي لا يفهم معنى العظمة، ولا يفقه سر البطولة؛ فيهزأ ويسخر من ذلك الشهاب الذي أشعل أكداس الحطب الذابلة بشعلة ذكائه الوقاد وجذوة عزمه المتسعر، فيزعم أن أكوام الحطب الميتة هي التي خلقت ذلك الشهاب وأوجدته من العدم، يا للسخف ويا للحماقة!»
ألا إنما يفهم الفضل ذووه ويفقه المروءة أهلها، والبطولة سر لا يدركه إلا من تعرف معناه في صميم قلبه، وتسمع نجواه في ثنايا ضميره. وقدما قيل: إن البطل لا يمكن أن يكون بطلا في عين خادمه، وليس اللوم في ذلك على البطل بل الخادم، ولو نظر الخادم إلى البطل بعين تستمد شعاعها من روح بطل لعرف بطولته، ولكنه ينظر إليه بروح خادم سوقي عامي من طائفة الطغام والغوغاء. ولهؤلاء مذهب آخر في البطولة يتفق مع نذالتهم ولؤمهم ودقتهم، ومع سفالهم وضعتهم وخستهم، ولهؤلاء أيضا أبطالهم وعظماؤهم الذين يأتون من الأعمال والوقائع ما يعجب نفوسهم الخبيثة وأرواحهم القذرة، فأولئك في نظرهم هم الأبطال والعظماء حقا، ولا بطولة إلا بطولتهم، ولا جرم، فمن ذا الذي قال إن الحشرات تطربها نغمات موسيقى الطبيعة، أو يروعها سنا بهجة النيرات في أبراجها والكواكب في أفلاكها؟ بل الله وعلماء الحشرات أعلم بالذي يطرب تلك المخلوقات من دقيق الأشياء وحقيرها مما لا تراه العين إلا بالمجهر لفرط ضؤلته وخسته.
أما أنه ما بلي جيل من الأجيال، ولا نكب عصر من العصور بآفة هي أنكر وأنكى، وأمر وأدهى من آفة التكذيب بعظمة الأبطال وجلالهم، والكفر بحسناتهم وآلائهم.
أما أنه ليس شيء أدل على سفالة الأفراد والمجاميع، ولا أشهد على لؤم غرائزهم ودقة أخلاقهم وخسة طباعهم، ولا أنم على غباوتهم وجهالتهم وسخفهم وخرقهم من إنكارهم قوة البطل ومقدرته، وإقرارهم للجماهير والجماعات الاعتياديين بالفضل العظيم والعبقرية، من كفرهم بالبطل الفذ النادرة وإيمانهم بالعامة والدهماء، من عماهم عن نور الله المقدس، عن الشهاب الساطع واعتقادهم في أكداس الحطب اليابس الميت؟!
هذا وايم الله الغفلة التامة والجهل المطبق، والخسة والدناءة، ومنتهى الحمق والبلادة، وأقصى غاية الكفر والجحود. فهلا علم أمثال هؤلاء أن الرجل العظيم ما زال منذ بدء الخليقة كوكب الهداية في الظلمات، وزورق النجاة في الغمرات، وسهم الرشد مسددا إلى كبد الغواية، وسيف الحق مجردا على هامة الضلال والعماية، وأنه الشهاب الذي لولاه ما شبت النار في الهشيم، ولا تأجج الحطب ضراما؟ أليس البطل هو مصدر النور تنعكس أشعته على الأجرام المعتمة، وينبوع الحياة تفيض أنفاسه في الأشباح الخاوية المعدمة؟ وهل تاريخ العالم إلا سلسلة حلقاتها نوابغه وأبطاله؟
ولا يسعنا الآن في مقام وصف الأبطال والبطولة إلا التنويه بذكر بطل من أعظم أبطالنا، وزعيم من أكبر زعماء نهضتنا، وأمهر قواد حركتنا، ذلك هو دولة الرئيس الجليل حسين رشدي باشا، وكيف يتصدى امرؤ للكتابة عن أبطال النهضة الحالية، ثم لا يدفعه الشعور والواجب إلى وضع صورة هذا البطل العظيم في متحف المجد القومي، ونصب تمثاله في هيكل الوطنية المقدس؟ أو لم يكن في كل شوط من أشواطه الطرف الأغر في حلبة الجهاد والفارس المعلم في كتيبة الكفاح والجلاد؟ أم هناك من ينكر أنه ما زال الجوهرة الكريمة في قلادة مآثرنا، والدرة اليتيمة في تاج مفاخرنا؟
إن أول ما يروع المشاهد المتأمل من مناقب رشدي باشا ومحامده الجمة العديدة هو ذلك الإخلاص الحار والغيرة الملتهبة، وما لي لا أقول إن ذلك البطل العظيم إنما هو جذوة حمية متقدة وجمرة إيمان متأججة؟ أو لم نره في مواقفه العديدة في حومة النضال عن حقوق وطنه كيف كانت أنفته وإباؤه وشممه وكبرياؤه، وكيف كانت عواطف الوطنية الحادة إذا ثارت في جنانه، وجاشت في وجدانه فتألق وهجها في حر وجهه الكريم، ولمع شعاعها في عينه الصريحة، قذف بها منطقه الشريف في وجه الخصوم جهارا كلمات صدق، وآيات حق لا تسد سبيلها حجب المداجاة والمواربة، ولا تقوم من دونها حوائل المداراة والمصانعة، شأن الذي لا حد لصراحته وإخلاصه. وقدما كان الإخلاص عنصر البطولة وأساسها. أجل، إن الإخلاص الشديد العميق هو - كما قال «كارليل» - أس فضائل الرجل العظيم، ولا نعني إخلاص من لا يزال يعجز أمام الناس بإخلاصه؛ فإن ذلك - وايم الله - عيب ومنقصة، وهو إخلاص سطحي حقير وقح، بل غرور وسفاهة. إنما الإخلاص إخلاص من كان - مثل رشدي - لا يباهي به ولا يفاخر، ولا يكاد يحسه أو يشعر به، إذ كان في نفسه فطريا غريزيا، فهو معدن روحه وجوهر نفسه.
إن ما يبدو لنا صريحا من فرط إخلاصه وعطفه وحبه لأبناء وطنه، وعطفه على أمانيهم، وغيرته على مصالحهم هو ذلك الذي يدنيه منا، ويصل ما بين قلوبنا وقلبه الكبير بأمتن روابط الحب، وأسلاك كهرباء الشعور المتجاوب والإحساس المتبادل، فعينه تنم عن نجوى ضمائرنا ومكنون سرائرنا، وفؤاده يخفق على دقات أفئدتنا ونبضات قلوبنا ، والرجل المخلص الغيور يراه الشعب فيعرف لأول وهلة أنه فتاه وبطله وبغيته وضالته، وما زال الرجل العظيم يحقق الظنون ويصيب مكانه ومركزه من زعامة الشعب وقيادته؛ إذ يكون مجرد ظهوره كفيلا أن يفسح له المكان اللائق به، ويجذب إليه الأنصار والأعوان، ويخلق له الأسباب والوسائل والعدد والذخائر، فهو في ذلك كالجدول الفياض يخلق بذاته لذاته ضفافه الخصبة المريعة المنتجة المثمرة حيثما جرى وتسلسل.
لقد جاهد رشدي في سبيل الوطن حق جهاده، وأبلى في الدفاع عن القضية أحسن البلاء، وكان في طليعة من عملوا على تحقيق ما قد تم لنا من الفوز والنجاح، وحسبه فخارا أنه أهدف صحته النفيسة الغالية في سبيل بلاده لسطوة المرض، وأبلى في محبة وطنه سربال عافيته العزيزة على جميع مواطنيه، وإن ارتخصها هو - سلمه الله وعافاه - وامتهنها في خدمة مصالحهم، وقد ثبت في الميدان ثبات الصناديد على رغم ما كان يقاسي من برحاء العلة، شأنه في ذلك شأن الفارس المغوار لا يثنيه عن الكر في حومة الوغى ما قد أصابه من طعنات الأعداء، دأبه ذلك إلى أن خرج من المعركة أغر أبلج وضاء الجبين يحمل علم العزة والنصر وما هو أشرف من ذلك وأنبل، أعني جرحه الدامي الأليم.
حيا الله رشدي باشا.
الفصل الرابع
مناقب ثروت باشا
نقف الآن وجها لوجه أمام شخصية من أعظم ما أنجبت هذه البلاد من الشخصيات الجليلة، نحاول جهد طاقتنا بيان ما أودعت من آيات القوة والنفوذ ودلائل الفضل والحجى، وتحليلها إلى ما يكون مجموعها من عناصر الذكاء واللوذعية، وأسرار النبوغ والعبقرية. هذا ما نرومه الآن وما نحاوله وإن كان فوق قدرتنا الضئيلة وحولنا الضعيف؛ لأنا نعلم أن البطل لا يزال لغزا يعي الناس حله، وأن ما يظهر لنا من مآثره وحسناته ثمار تختفي جذورها في أعماق سر الطبيعة وخفايا مجاهل الأبحاث البسيكولوجية، ونعلم أن تهجم الكتاب والنقاد على شخصية الرجل العظيم - ابتغاء تعرف أسرارها وتحليلها إلى عناصرها - يكون في الغالب كتهافت أسراب الفراش على الشهاب المتقد يبهر أبصارها ويحير ألبابها ، وقصارها بعد ذلك أن ترتد عن لهيبه الساطع برءوس مطرقة وأجنحة محرقة.
ولكنا على الرغم من كل هذا - وبباعث غريزة الاستطلاع الفني التي تدفع كل فني إلى الجرأة على أعوص مطالب فنه وأبعدها غورا - نحاول الآن أن نجول جولة في عالم هذا النبوغ العجيب، ونسبح سبحة في خضم تلك العبقرية المهيب، لعلنا أن نعود من هذا وذلك بقليل من نفائسهما الجمة وثروتهما الطائلة.
ثروت باشا رجل عظيم قد توافرت فيه شرائط العظمة التي أساسها قوة الشخصية المتسلطة على النفوس والأذهان بسحر الجاذبية، ومن ثم ما يعهد فيه من تفوق ملكة البيان وخلابة المنطق في جميع مراتب الكلام، من أسماها، أعني الخطابة في الجماهير والمحافل، إلى أدناها، أعني التهامس والمسارة.
لقد عرفنا ثروت في جميع أدوار حياته - منذ كان نائبا عموميا وقبل ذلك إلى وقتنا هذا الذي يتربع فيه دست الوزارة، ويدير دفتي الإدارة والسياسة - خطيبا مصقعا، ومنطقيا مفحما، ومتكلما مؤثرا خلابا. لقد عهدناه في كل أدواره ساحر البيان، يقتاد أفكار سامعيه، فيمكنه ذلك من اقتياد إراداتهم، حتى يحبب إليهم من الأعمال والأغراض ما كانوا يستنكرونه - جهلا منهم بفوائده - منذ ساعة، فيحملهم على الارتياح إلى مزاولته بعد إحجام عنه ونفور، وليس بعسير على من بلغ من سحر البيان والخلابة منزلة الرئيس الجليل ثروت باشا أن يلعب بألباب سامعيه، فيقرع بها أوتار السرور تارة وأوتار الحزن أخرى، وآونة يبعث منها رنات الندم والأسف، وآونة صدحات الحبور والطرب، ومثله قدير أن يسل بقوة بيانه سخائم الصدور، ويستأصل جذور الضغائن والأحقاد، حتى يترك العدو صديقا حليفا، والضد صاحبا أليفا، ويملأ القلوب اليائسة رجاء وأملا، والنفوس الموحشة أنسا وجذلا. أو لم تحدث خطبه الأخيرة الرنانة أمثال هذه الآثار الحسان في نفوس الشعب المصري الكريم يوم نزلت على القلوب بردا وسلاما، وبددت ما كان لا يزال عالقا بنفوس الكثيرين من بقايا الريب والظنون والقلق والإشفاق، فكان في آياتها البليغة جلاء الشبهات، وفي حججها الدامغة زوال الظنون، وكانت منفاة الهموم والأتراح، مدعاة المسار والأفراح.
إن مثل الوزير الجليل ثروت باشا إذا قام يخطب، أو انبرى يتحدث، خيل إليك كأنما يصب تيار روحه الزاخر في أرواح سامعيه فيمتلك نفوسهم، ويستحوذ على ألبابهم، ويقتاد أفئدتهم بأعنتها، ثم يرى نفسه أحق بالخطابة من سائر المتصدين لها - إذ كان أغزرهم مادة وأملئهم وعاء - فينبري للكلام - وإنه لأجدر به وأولى - وإذ ذاك يصغر بجانبه الخطباء ويتضاءلون، ثم يذهلهم فرط السرور بسماع مطرباته عن الاشتغال بإحساسات الحسد والحقد وغيرها من نزعات الأنانية، فيرتاح كل سامعيه إلى التضاؤل في حضرته، ويلذ لهم أن يغمسوا أرواحهم في معين بلاغته الفياضة، ويغمروا نفوسهم برحيق بيانه المنعش. فمثل هذا الخطيب المصقع، والمحدث البارع، يملأ الساعة التي يقضيها بالخطبة أو بالحديث من بدائع آياته، وروائع معجزاته بما يجعلها غرة في جبين العصر، ويترك غيرها من ساعات حياتنا الاعتيادية، وكأنها بالنسبة إلى تلك الساعة الغنية الفياضة ساعات نوم ورقاد. فمن ذا الذي يعجب بعد ذلك لفرط ما أوتي أمثال ذلك الخطيب من التأثير والنفوذ والسلطان على نفوس البشر؟
ثروت باشا خطيب عظيم ومن أجل هذا كان بطلا؛ لأن قوة الخطابة نوع من البطولة؛ ذلك لأن الخطيب العظيم يقف من جماهير سامعيه موقف المبارز المناجز المستعد لملاقاة كل قادم، فهو قد وطن النفس على أن يكون في كلماته الحارة المتألقة، وفي عباراته الثرة المتدفقة، ما يقنع جميع سامعيه مهما تكاثر عددهم، ويفحمهم ويشفي غليلهم، ويكون فيه الجواب المسكت على كل ما عساه أن يجيش بصدورهم، ويجول في خواطرهم من الشكوك والظنون والأسئلة؛ لذلك ترى مثل هذا الخطيب إذا قام يخطب في المحافل وقف وقفة المشمر المنجرد، المتحفز بقدم متقدمة إلى الأمام، كالذي قد هم أن يزحف على تلك الجموع المحتشدة ويغزوهم، وتلك هي الحقيقة؛ لأنه يزحف عليهم فعلا بجيوش من أفكاره البديعة السامية، ويغزوهم بكتائب من آرائه الجديدة المبتكرة؛ لذلك يجب أن تكون خطبته سابقة في منازل الرقي لأفكار سامعيه أيا كانوا، بل سابقة لأفكار جيله وعصره، وإلا كانت فضولا ولغوا وهراء، ومن ثم كانت الخطبة الجليلة أجدر أن تعد عملا نافذا من أن تعتبر مجرد كلام وألفاظ؛ إذ هي في الواقع كهرباء العمل والحركة، فهي تنطوي على القوة الدافعة إلى الأعمال - شأنها في ذلك شأن ما يرسمه قائد الجيش من خرائط المواقع والملاحم، وما يصدره من أوامر الكر والفر والدفاع والهجوم - وكذلك الخطيب إما أن يكون قد جاء لأمر عظيم؛ ليستنهض جماهير سامعيه، ويستنفرهم إلى استئصال جيوش الأباطيل والأضاليل، وإلى افتتاح عوالم جديدة من الآراء والأفكار، فتكون خطبته مناداة إلى الغزو وصيحة إلى الجهاد، وإلا فأولى له أن يسكت.
إن ثروت باشا - باعتباره خطيبا مفحما ومتكلما خلابا - يؤثر في سامعيه ويقنعهم، ويحملهم على اتباع رأيه والأخذ بمبدئه، وذلك بفضل ما يجلو لهم من غوامض الأمر، ويحل لهم من مشكلاته، وبإعارته إياهم بصيرته النافذة، ورويته الثاقبة ينظرون بها في نواحي الموضوع وجوانبه، ويتغلغلون بمنظارها الكشاف إلى خفاياه وخباياه فيبدو لهم الأمر على خلاف ما كانوا يعهدون، وعلى العكس مما كانوا يحسبون فإذا السواد بياض، والفساد صلاح، والتنافر وئام، والاعوجاج استقامة، والسوأة حسنة واليأس رجاء. فمثل ثروت باشا إذا شاء إقناع سامعيه وحملهم على ما يريد رأيته ينظر إلى الأمام، ويتجه بنظره البعيد إلى ما سيكون، في حين ترى سامعيه قد جاءوه وهم ينظرون إلى ما كان من الأمر وما انقضى - أعني إلى الماضي وما قد أنكروا من حوادثه وأحواله - فنظرهم بذلك الماضي معقود وفيه محصور، ومن ثم كان قصر نظرهم وضيقه واحتباسه في دائرة صغيرة محدودة يترددون فيها ويتعثرون كالخفافيش في ظلمة الشك والحيرة، وقد يئسوا من استقامة الأمر وصلاحه. أما هو (أعني ثروت باشا) فغير ذلك شأنه - وما كان من زمرة الخفافيش حتى يحصر نفسه في دائرة الماضي الضيقة، ويحبس نفسه في ظلمتها (وإن كان لا ظلمة مع شهاب رأيه الساطع ونجم فكره اللامع) - ولكنه - وهو ذلك النسر الطماح - يضرب صفحا عن الماضي المنقرض الداثر، ويستقبل بعينه الثاقبة شمس المستقبل الباهرة فيصفق في شعاعها البراق جناحيه الطموحين، ويستدر عليهما قطرات أنداء البشارة من مزنة الأمل الصدوق والرجاء المحقق، ويستهبط آيات الوحي والإلهام من آفاق المستقبل المشرقة، وكذلك إذا استدبر القوم المعارضون أمرهم، وتشبثوا بأذيال الماضي وأعقابه - فأوصدت في وجوههم أبواب الآراء، وأغلقت منافذ الأفكار، وانحبس عنهم فيض الخواطر إلا ما يصوب عليهم من أليم الذكريات مما تكف به سحائب الماضي المنقشعة - رأيت ثروت باشا - ذلك الهمام الطماح العزيمة والأريب الثاقب البصر والروية - يضرب صفحا عن ذلك الماضي، ويعمد إلى معين ذهنه الفياض، وينبوع قريحته المتدفق، فيغترف من ثمة سجال الرأي السديد، والفكر الأنف الجديد، ثم يستطلع نجوم فراسته الصادقة فيتلمس في صحفها المشرقة طوالع السعود، أو يتسقط من شوابك أفنان شجرتها الذهبية أوراق اليمن والبشارة، وحينئذ يقبل على سامعيه فيباغتهم من سوانح إلهام بصيرته، وخطرات وحي بديهته بما يبدد سحائب شكهم وريبتهم، وينفر أسراب خوفهم ووحشتهم، وهنالك يبصرهم من غوامض أسرار الأمر وخفايا دخائله ما لم تكن نظراتهم السطحية لتستطيع من قبل أن تكشف نقابه وتهتك حجابه. هنالك يفيض إناؤه المفعم الملآن في أوعية صدورهم من مادة العلم والعرفان ما يبرز لهم الموضوع في مظهر آخر، وضياء جديد وشكل مستحدث، حتى تراه يفتن ألبابهم، ويسحر عقولهم، ويملؤهم دهشة وعجبا كما لو كانوا زمرة أطفال، فينسيهم أفكارهم القديمة في الموضوع، ويذهلهم عما كان يخالج نفوسهم فيه من فاسد الاعتبارات والأوهام، وكذلك ينتصر عليهم بقوة التكهن والتنبؤ، وقد كانوا يحسبون أنه لا يملك من سلاح الإقناع إلا تكرار البراهين المعروفة المتبذلة، والعبارات المرددة والكلام المعاد.
وإني كلما تأملت ما قد أوتي الرئيس الجليل من قوة الخطابة، وسحر البيان، وخلابة التأثير، تذكرت ما قاله توماس كارليل في وصف ذلك العبقري النابغة نادرة زمانه، ومعجزة أوانه، الشاعر الأعظم البريطاني «روبرت بارنز»، ورأيت أن الناقد المتصدي لوصف ما يمتاز به الرئيس الجليل من الملكات البيانية والخطابية الرائعة لن يستطيع أن يبلغ غرضه بأحسن من ترديده في الرئيس ما قاله سالفا توماس كارليل في بطل أمته روبرت بارنز.
قال ذلك الكاتب الكبير: «كان بارنز آية في خلابة المنطق وسحر البيان، كان حديثه العادي أبدع من شعره وأفتن من حديث كل من رأيت وسمعت به من سائر الناس.»
شرك العقول ونهزة ما مثلها
للمطمئن وعقله المستوفز
إن طال لم يملل وفي إيجازه
يهوى المحدث أنه لم يوجز
كان حديثه كالسلم الموسيقي قد استوعب درجات النغم من أخفت جرس التحية، وأرق كلم الملاطفة، إلى أرفع صيحة الغضب وأشد صرخة الوجد، ففيه ضحكة الطرب الجذلان، وزفرة الصب الولهان، وإيجاز المجتزئ بإشارته، وإطناب وليم بيت في خطابته.
وقد روت عنه السيدات والأميرات ربات الأدب البارع، والفضل الرائع، أنه كان يزدهيهن بفتنة حديثه، ويستحفهن بخلابة بيانه، حتى يكدن يثبن في الهواء ويطرن في الجو. فهذا وايم الله عجيب. وأعجب منه ما رواه النقادة الجهبذ المستر لوكهارت من أن خدام الفنادق كانوا إذا رقدوا في مضاجعهم للرقاد ورنقت سنة النعاس في أجفانهم، ثم سمعوا صوت الشاعر بارنز يتكلم، وثبوا من مراقدهم فالتفوا به وكلهم إقبال عليه وإصغاء لحديثه، وما لي أعجب من ذلك؟ أليسوا رجالا ينصتون إلى رجل؟ وأعظم ما يؤثر عن بارنز ما رواه لي شيخ مسن - كان من أخص أصدقائه - من أن بارنز ما فتح فاه قط إلا ألقى منه حكمة، قال ذلك الشيخ: «لقد كان بارنز كثير الصمت فإذا تكلم جلى من غوامض الأمر وأنار شبهاته، ولا أدري لماذا يتصدى امرؤ للكلام إذا لم يكن قادرا على هذا.»
إذا قلنا إن ثروت باشا قد حذق فن الخطابة فإنما نعني بذلك أنه قد استكمل أدوات هذا الفن وملكاته - أعني صفاء البصيرة وقوة الذاكرة وحسن البيان ومتانة الحجة والبرهان وحدة الخيال - أي القدرة على إبراز أفكاره في صور طبيعية ناصعة - ويضاف إلى ذلك الإرادة النافذة القوية التي إذا تجملت بالثبات والنزاهة كانت جديرة أن تسمى «الخلق العظيم أو العظمة الأخلاقية»، وتلك هي أسمى مراتب الرجولة.
لا شك في أن السر في نجاح ثروت باشا كمناظر وخطيب - يرجع إلى قوة أعظم من البراعات اللفظية والمحاسن الظاهرية كدماثة الطبع وحلاوة الشيم ورقة الشمائل وعذوبة اللفظ والصوت - يرجع إلى قوة خلقية كبرى وملكة وجدانية عظمى - أعني الإخلاص والإيمان ورسوخ العقيدة - بما يدافع عنه ويحاول إثباته من النظريات والمسائل؛ فهو يقبض على ناصية نظريته، ويعتنقها أشد اعتناق وأحره، والحرارة - نتيجة الإخلاص والإيمان - هي العامل الأكبر في قوة الخطابة ونجاحها. فإذا أردت أن تفلح في خطابتك فكن كالرئيس الجليل، غير متعرض إلا لما أنت به عالم وموقن وخبير، وكفيل أن تحتمل تبعته ومسئوليته، وتقدم عنه أوفى حساب وأدقه. فإنما الخطابة والبلاغة أن تعمد إلى الحقيقة الخطيرة الجائلة في وجدانك، فتترجمها إلى أفهام سامعيك بأقرب لغة، وأعلقها بأذهانهم، وأوقعها في نفوسهم، ولا مراء في أن هذه القدرة العظيمة - هذه الكيمياء العجيبة التي تستطيع أن تحول الحقائق المنقوشة بلغة الخالق على صحف الضمائر المرقومة بالقلم العلوي في سجلات السرائر إلى حقائق مؤداة بلغة سامعيك من الجماعات والأفراد - لهي أبدع سلاحا طبع في مسبك الصانع الأجل والصيقل الأعظم.
لا نعني بلغة الخطيب التي ينقل بها أفكاره إلى أذهان سامعيه مجرد ما يفوه به من الألفاظ والعبارات - وهذه أحقر وسائل تأديته، وأيسر وسائط إبلاغه - وإنما نعني ذلك التيار الروحاني المنبعث من ينبوع نفسه، والسيال الكهرباء المنبث من جهاز أعصابه، وكما أن القائد العظيم يحرز النصر لا بكثرة الوقائع والملاحم ولكن بفضل ما يدبره من الحيل والمناورات فكذلك الخطابة والمناظرة هي حرب أفكار وأرواح؛ فالألفاظ المنطوقة هي أضعف عناصر الخطبة وأقل أجزائها، وإنما الأساسي الجوهري الذي عليه المعتمد والمعول هو موقف الخطيب وما تنم عنه هيئته وصوته ونغمته وحركاته وشمائله من قوة رجولته وسمو همته، ومن أنه يحمل بين جنبيه روحا أجل وأعظم من روح المخاطب.
هكذا شأن فحول الرجال الذين يصولون في ميادين الخطابة والمناظرة بقوة شخصيتهم الهائلة، ويسيطرون على النفوس بسلطان الروح النافذة الباهرة، والطبيعة الغلابة القاهرة، وبهذه وتلك يحرزون الظفر وينالون الغنيمة، وقد روي عن روبسبيير - أحد الثلاثة الزعماء المعروفين في عهد الثورة الفرنسية - أن سامعي خطبه من الجماهير والجماعات كانوا لا يكادون يفهمون كلماته ولكنهم - كانوا على الرغم من ذلك يفهمون في خطبه الرنانة ما هو أعظم وأخطر من ألفاظها وعباراتها - كانوا يفهمون ما أودعت تلك الألفاظ من حرارة الوجدان ونارية الشعور والعاطفة، وكانت عدوى هذه الحرارة والنارية تنتقل إليهم وتسري في أعصابهم وتشيع في جوانحهم، وهل يريد الخطيب نتيجة أعظم من هذه أو أثرا أشد وأبلغ؟
مثل هذا النوع من الكلام والخطابة - وإن كان أثره الفعال مضمونا محتوما - قد يكون من الزور والباطل، وقد أريد به التمويه والتضليل، واتخذ سبيلا إلى الفساد ومطية إلى الشرور والرذائل. نقول: قد ينجح مثل هذا الكلام الخلاب المؤثر في النفوس بسلطان شخصية باهرة لكنها غير مخلصة، ولكن نجاحه لا يكون إلا مؤقتا؛ لأن الأكاذيب والأباطيل هي - كما قلنا غير مرة - رهينة بالزوال والفناء قد كتب لها الموت، وصدر عليها حكم الإعدام في محكمة الأزل مهما طال عمرها وتراخت مدتها. فأنت إذا بنيت خطابتك على أساس من الباطل، وكانت مقدمة قياسك المنطقي أكذوبة، فمهما استعملت بعد ذلك من خلابة اللسان وسحر البيان، ومهما أثرت في سامعيك بحرارة العاطفة ونارية الوجدان، وبهرتهم بقوة الروح القاهرة وغلبة الشخصية الباهرة، فإنك لن تصنع شيئا، ولن تحدث في عالم الحقيقة أثرا، وتكون إنما انتهيت من حيث ابتدأت، وما كان امرؤ قط ليستطيع بأكمل عدد الفصاحة، وأمضى سلاح البلاغة أن يرفع إلى ذروة الحق من فنون الباطل ما تراه يهبط بطبيعته إلى الوهدة ويهوي إلى الحضيض.
أما الفوز الدائم والنجاح النهائي فذلك نصيب البارعين المخلصين، والحاذقين الصادقين - أمثال الرئيس الجليل - ممن جمعوا بين رجاحة العقل ونزاهة النفس، بين حدة الذكاء وشدة الغيرة والتضحية، بين الملكات الذهنية والفضائل النفسانية، بين سمو الفكر والروح معا وصفاء الذهن والقلب جميعا.
لقد بلغ ثروت في براعة الخطابة والبيان منزلة أصبح معها مليئا أن يقتاد أعنة قلوب سامعيه فتذعن إليه وتعنو، فهو المسيطر على نفوسهم المتحكم في عواطفهم ووجداناتهم، وقدما قيل: ليس الأمير من لبس التاج وجلس على الأريكة، إنما الأمير من عرف كيف يحكم النفوس ويسيطر على الأفئدة، وكأني بالرئيس الجليل يستطيع بحدة ذكائه أن ينفذ إلى أعماق القلوب عليما بذات الصدور، مطلعا على مكنوناتها، طبا بأدواء النفوس خبيرا بأمراضها وعللها، قديرا أن يداوي هذه العلل والأدواء بخلابة القول، لديه - لكل جرح بلسم من فتنة اللفظ، ولكل كلم مرهم من روائع الكلم - فنون شتى من البيان تعالج بها فنون شتى من آلام النفس والجنان، ولا عجب فلقد يؤثر عن «أنتيفون» اليوناني - أحد الخطباء العشرة الذين روى «بلوتارك» أنهم أقطاب الخطابة في العالم - أنه نشر في أتينا إعلانا عن نفسه قال فيه: «إني مستعد لتطبيب أمراض الذهن بالكلام، ومداواة علل النفس بالألفاظ.» وليس ذلك بمستحيل، وقوة سلطان الكلام معروفة مجربة في كل زمان ومكان منذ كان الإنسان، وآثار الألفاظ في التسلط على الأمزجة والعواطف والإحساسات، وفي العقائد والأفكار والمذاهب وتكييفها وتشكيلها حسب أميال المتكلم، وفي قلب كيان الأذهان والنفوس في الأفراد والجماعات، بل قلب كيان الدول والممالك، تعد من قبيل الخوارق والمعجزات، وهل ترى - أصلحك الله - ما يسمونه الرقى والتعاويذ والنفث في العقد - الذي نزلت فيه آية الكتاب الحكيم إذ يقول جل شأنه:
ومن شر النفاثات في العقد - وغير ذلك من ضروب السحر وفنونه، شيئا سوى الألفاظ والكلمات؟ وهل رأيت رجلا بلغ من النعيم أقصاه، ومن الصفاء والرغد منتهاه، فوثق بالحظ وأمن من طوارق الحدثان، وأخذ على القدر الميثاق ومن الدهر الأمان، إلا كان في استطاعتك - إن كنت ممن أوتي سحر البيان - أن تبدد ثقته وتذهب طمأنينته، وتورثه القلق والإشفاق باللفظة تنبذها في سمعه، والكلمة تلقيها في روعه؟ أفلم يرو لنا التاريخ أمثال هذه الحال عما كان يحدث بين الملوك ووعاظهم من العباد والنساك، إذ كان يطلع الناسك على الملك العظيم وهو منغمس في غمار اللذات والملاهي فيرميه بالكلمة من الوعظ فإذا هو قد أفاق من غمرته، وهب من رقدته، ثم أطرق فاعتبر، وارعوى فازدجر؟ ألم نقرأ أمثال هذه الأخبار عن كسرى والسائح، وعن النعمان وعدي بن زيد، وعن المنصور وخالد بن صفوان؟ وعلى العكس من هذه الحال، أي كارثة عظيمة أو فاجعة أليمة تنوب الفتى فلا يكون في مقدرة المنطق الخلاب أن يشرع في تسكين حدتها وتلطيف سورتها. وقد عرف أفلاطون البلاغة بأنها «فن سياسة العقول، وتدبير حركات النفوس.» أليس في استطاعة البلاغة أن تغير في ظرف سويعات ما شيدته الحقب والأجيال من العادات والأخلاق والعقائد؟
وكذلك قد يبلغ من سيطرة الخطيب العظيم - مثل ثروت باشا - أن يصبح جمهور السامعين بين يديه كالآلة الموسيقية بين يدي المطرب البارع - فهو يعزف على أوتار القلوب كما يعزف المطرب على أوتار آلته، ويستثير من أفانين الإحساسات والعواطف من جمهوره أمثال ما يستثيره المطرب من أفانين الأصوات والألحان من معزفه - فتارة يسكن ثائرة غضبهم ويطفئ نيران وجدهم ويرد شارد حلمهم وعازب رشدهم بتهدئة خواطرهم وطمأنة قلوبهم، وأخرى يهيج حميتهم ويجرد عزيمتهم وهمتهم، يبكيهم آنا وآنا يضحكهم، إذا شاء لوى بالطرب أعناقهم وشق بالفكاهة أشداقهم، وإن شاء استذاب بالعظات عبراتهم واستثار بالحكم والأمثال زفراتهم، وكذلك تراه يستولي على قلوبهم، ويستحوذ على شعورهم، ويتملك إرادتهم ومشيئتهم فتكون طوع بنانه، ورهن إشارته فمهما أمرهم به يأتمرون، ومهما كلفهم يتحملون ويتجشمون، ولو كان اقتحام النار وخوض اللجج والغمار. أو لم يأتك نبأ بونابرت حينما ترك منفاه في جزيرة «ألبا» قافلا إلى باريز حتى إذ نزل أرض فرنسا، وسار يؤم العاصمة في نفر قليل من محبيه وبطانته، لقيتهم جيوش عدوه لويز الثامن عشر الذي كان قد تبوأ الأريكة الفرنسية بعد اعتزال نابليون، فما هو إلا أن رأت تلك الجيوش الجرارة شخص بونابارت وسمعوا صوته حتى خضعوا له وأذعنوا، وحيوه تحية الإكبار والإجلال يدعونه إمبراطورهم ومالك رقابهم وأرواحهم، ثم انضموا إليه وانضووا تحت لوائه وساروا في قيادته يؤمون باريز، وإذ ذاك بهت لويز الثامن عشر وزلزل به وسقط في يديه وفر من وجه نابليون «يحتث أنجى مطاياه من الهرب»؟
مثل هذه السيطرة الخطابية والتسلط بقوة البيان على أرواح الأفراد والجماعات - شبيهة بما يؤثر عن سلطان الموسيقى وتأثير النغمات وتحكمها في شعور سامعيها وفي عواطفهم وإراداتهم - كالذي يروى عن «أورفيوس» وداود وغيرهما من نوابغ الموسيقيين أنهم كانوا يجتذبون إليهم بقوة عجيبة من قبيل قوة الجاذبية الطبعية جميع الكائنات ما بين حي وجماد من إنسان وحيوان داجن ووحشي، ومن سبع ضار وضيغم فراس وحشرة وهامة، ومن شجرة ونبات وصخرة وجلمود. أو كالذي يروى عن المطرب «ميودون» كيف لما حرك برخيم النغم أوتار مزهره في بعض المآتم استطاع أن يسحر عقول حملة النعش، ويفتن ألبابهم بقوة تأثيره حتى ذهلوا عما هم فيه وبعرضه من شعائر الجنازة، وانبروا يرقصون حول نعش الميت.
إن الخطيب البارع والمحدث الرائع لا يحتاج إلى جرس يلفت إليه الناس وينبههم إلى مكانه، ويشعرهم بنفاسة أقواله، كما أنه لا يحتاج إلى بوليس يقوم بمهمة توقيف الناس حوله وتثبيتهم ثمة بالقوة الجبرية ومنعهم من الانصراف قبل تمام الحديث أو الخطبة؛ ذلك لأن الحديث العذب والخطاب الشيق يجذب بطبيعته الخلائق ويحجزهم بلا واسطة تشويق أو ترغيب، وكأني بالوزير الجليل ثروت باشا - من ملك أعنة البيان وفقه أسرار الخلابة - إذا انبرى يتحدث أو يخطب استدرج الشيوخ من مجالسهم، والفتيان من ملاهيهم، والصبية من ملاعبهم، والمرضى من مضاجعهم، وأثبتهم حوله مغلولين بأوثق قيود من الفتنة والطرب فسلبهم أرجلهم حتى لا ينصرفون، وسلبهم ذاكرتهم حتى لا يتذكرون أهم أشغالهم وأقدس واجباتهم فتشغلهم عن كلماته وتلهيهم، وسلبهم عقائدهم حتى يكون إيمانهم بأقواله خالصا صريحا لا يشوبه رأي مخالف، ولا تعارضه أفكار منافية أو نظريات مضادة.
وقد حدثنا المؤرخ اليوناني العظيم «بلوتارك» قال: «لما سأل «أرخيداموس» ملك إسبرطة «ثيوسيد يدس» عن صراعه مع «بيريكليز»: أيهما كان أشد بأسا وأصعب مراسا وأقهر لخصمه وقرنه؟ قال «ثيوسيد يدس»: «إني كلما صرعت بيريكليز ووسدت جنبه الثرى أنكر ذلك وجادل فيه وتمارى، واستطاع بخلابة لسانه أن يحمل الناظرين والشهود على تصديق مزاعمه مروجا لديهم الزور ومحقا الباطل.» ولما سمع فيلب ملك مقدونيا وصف إحدى خطابات «ديموسطين» وقوة تأثيرها قال: «أما والآلهة لو كنت شاهده لاستطاع أن يحملني على إعلان الحرب ضد نفسي وتجريد السلاح لقتالها.» ولما قام الخطيب البريطاني «بيرك» في البرلمان الإنكليزي فألقى خطبته الطنانة في اتهام «ورين هتستن » حاكم الهند إذ ذاك قال ذلك المتهم مع اعتقاده براءة نفسه من التهمة: «لقد بلغ من فرط تأثري بكلمات «بيرك» أني لبثت أثناء خطبته أعتقد أنه ليس على وجه الأرض آثم أشنع مني جريمة وأفظع جناية.»
لقد رأينا ثروت باشا في أحاديثه وخطبه يجمع إلى الخلابات اللفظية المحضة، والبراعات البيانية البحتة، مزايا أجل من ذلك وأشرف - أعني العناصر الروحية والقوى الوجدانية من إخلاص وغيرة وصدق إيمان وتضحية - وهذه هي التي تكسب الخطبة أو الحديث صفة الجزالة والفحولة ومزية الجلال والعظمة، وتطبعها بطابع المجد والخلود. فإذا خلت الخطبة من هذه الصفات العظيمة والميزات الجليلة، واقتصرت على الخلابات اللفظية والبراعات البيانية، كانت فائدتها وقتية وأثرها سريع الزوال، وكان قصارى فعلها أن تسترق الآذان بحلو اللفظ وعذب الكلام، وتلذ ملكة التصور والخيال فتكون بمثابة ملهاة ومسلاة ليس إلا. فهي وإن أثرت أشد الأثر في وقتها وساعتها فليست تعدو كونها خدعة وشعوذة لا يلبث أثرها أن يضمحل فيزول، فهي أشبه شيء بصوت الآلة الموسيقية تمر في الطرقات والشوارع فتحرك خيال المارة وتثير عواطفهم، وتتركهم وكأنهم شعراء لحظة من الوقت ريثما ترن في أسماعهم نغماتها، ولكنها لا تلبث أن يزول أثرها من النفوس متى تحولت إلى الحي المجاور؛ لذلك أرى أن اللسان الطلق الذليق إذا لم يكن من الحدة بحيث لو يوضع على الشعر لحلقه وعلى الصخر لفلقه، ولو لعق النجم لمحاه، أو القمر لطواه، لكان أقصى جهده أن يحدث نشوة لا تلبث أن تزول، وغاية ما يستحقه أن يدرج في عداد المسكرات والمخدرات كالأفيون والخمرة، ولكان أحسن علاج يتقى به تأثيره سدادات القطن تجعل في المسامع، أو قطع الشمع التي جاء في أساطير اليونان أن «يولوسيس» سد بها آذان نوتية سفينته حينما كانت تمر بهم على جزيرة الساحرات اتقاء ما خشيه عليهم من فتنة أصواتهن وسحر ألحانهن.
هذا النوع من البيان السطحي هو شيء خلاف ما قد امتاز به ثروت باشا من قوة البلاغة الحرة الصادقة، وإني أرى فرقا ما بين الصنفين كالذي بين رشاش الفوارة الصناعية الذي لا يكاد يتصاعد حتى يتهاوى، ولا تكاد تتلألأ على لبات الضحى قلائده حتى ترفض حباته وفرائده، وبين البحر الخضم في دوافق موجه ودوافع لجه، تجيش فيه زواخر عبابه، وتقصف في حجرتيه زماجر عجاجه وصخابه، ويكمن في أعماقه نفائس أعلاقه، ويستكن في ضميره روائع ودائعه وبدائع بضائعه. وكذلك شأن الخطيب السامي الدرجة في مراتب البلاغة، وهذه صفات من تسنم ذروة البيان، ونزل من الفصاحة في الغارب والسنام، وتلك لعمري مزية نادرة وغاية بعيدة المنال تتقطع من دونها أنفاس البراذين، ولا يدرك مداها إلا الكرام العتاق:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن
لم يستطع صوت البزل القناعيس
وإنما نال ثروت باشا هذه الغاية، وبلغ هاتيك المرتبة، بفضل ما اجتمع له من خلال قلما اجتمعت إلا لواحد في جيل وفرد في أمة - وهذه هي العقل والدهاء والعزم والحزم وقوة الإرادة والغيرة والإخلاص والشغف بالحق والهيام بالحقيقة، يعزز هذه خلابة المنطق وحسن البيان ودماثة الطبع ورقة الشمائل - هذه الخلال إذا استكملت في رجل تكون فيه من مجموعها تلك القوة العجيبة النادرة المسماة «فتنة الجاذبية الروحية وسحر السيطرة الشخصية»، ومن كان هذا شأنه فذاك خليق أن يرجح بسائر أهل جيله، وخليق أيضا أن يتغلب على كل أمر وحادث، فإذا صادفته المعضلات والمشاكل صادفت فيه فكاك عقدها وحلال ألغازها، وإذا لاقته المحن والكوارث لاقت فيه فتاكها وفراسها، ويتلقى منه الرجال جلمود صدام يصكهم فيسحقهم، ومقذف رجام يرضهم فيمحقهم. مثل هذا البطل يكون كفؤا لكل حادثة وكارثة ولكل أزمة وشدة. فأين الرجل الاعتيادي - مثلي ومثلك - من ذلك البطل في ساعة الروع والخطر وقد حسرت الداهية الدهياء من نقابها، وكشرت المحنة النكراء عن نابها؟ قل لي ماذا تصنع إذا وجدت نفسك وسط زوبعة على كواهل أمواج كالجبال في بحر جموح الموج مجنون العباب، وحولك أناس قد طاش الذعر بألبابهم، وطار الرعب بقلوبهم؟ أكنت مطيقا أن تسترد عازب ذهنك، وتربط نافر جأشك، ثم تستلم مقاليد بيانك، وعنان لسانك فتصرفهما بحزم وحكمة في طمأنة أفئدة أولئك الجازعين الهالعين، وتسكين خاطرهم توسلا إلى النجاة من ذلك الخطر؟ وإذا رمى بك الحظ السيئ في أيدي لصوص أو جمهور ثائر أو أغوال من أكلة اللحم الآدمي فماذا تصنع؟ وكيف تلتمس المخرج والمنفذ؟ وإذا أوقعك القدر في يد فاتك من قطاع الطريق فهم أن يسلبك مالك وروحك فماذا أنت صانع؟ أتراك تعرف كيف تخرج من هذا المأزق الضنك بفضل قوة الذهن، وشدة العارضة، وذلاقة اللسان، وخلابة المنطق، مثلما كان يفعل رجل كمعاوية أو ابن العاص أو طاهر بن الحسين أو صلاح الدين، أو مثل الإسكندر أو يولوس قيصر أو القائد «مالبرة» أو البرنس دي كونديه أو محمد علي أو نابليون؟ (ليس من شأني أن أتصدى لإلحاق ثروت باشا بهؤلاء الأبطال، فإن ذلك موكول إلى حكم التاريخ في قادم الأجيال، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف والإقرار بأني آنس في شخصية الوزير الجليل عنصرا من تلك الفحولة وجذوة من لهيب هاتيك البطولة).
لا شك أنه متى طلع اللص قاطع الطريق على أحد ممن سمينا من أولئك الأبطال، أحس في الحال أنه قد لقي من هو أشد منه بأسا وصولة، وقال في نفسه: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا.» ولا عجب، فما أعظم الفرق والتفاوت بين الرجل والرجل في قوة الوجه! ألست ترى الرجل يتغلب على الآخر بتفوق الأول على الثاني في قوة العين وحدة اللحظ فيبهره بذلك حتى يحيره ويربكه؟ أو ما سمعت بالرجل كيف يستطيع - برباطة الجأش وجرأة الجنان وبالثقة بالنفس واستشعار سيما العزة والعظمة - أن يخضع الرجال ذوي المنزلة والمكانة والصولة والنفوذ والجاه فيقودهم ويسودهم، ويرأس ما شاء من الشيع والأحزاب فربما عزل الملوك وألغى الدساتير وقلب الدول والممالك؟ وإني لا أشك في أن مثل نابليون بونابرت أينما وضعته، وفي أيما زمان أو مكان ألقيته، فلا بد أن يسود ويقود وينفذ كل ما شاء وأراد، وقد كان يولوس قيصر في أيام صباه وقع في أسر جماعة من القرصان، فماذا كان منه؟ لقد ألقى بنفسه في سفينتهم، ثم ما لبث أن أكد بينه وبينهم أمتن روابط الصحبة والألفة، وكان يحدثهم القصص والنوادر تارة ويلقي عليهم الخطب تارة أخرى، فإذا رآهم لا يهللون إعجابا ولا يصفقون طربا هددهم بالإعدام شنقا (وقد نفذ فيهم هذا الوعيد فيما بعد حينما صار قيصرا) ولم تك إلا مدة قصيرة حتى أصبح زعيمهم وعميدهم.
مثل هذا الرجل معصوم في جميع أوقاته وحالاته من آفة الاضطراب والارتباك والدهش والحيرة، فهو لا تنفد من يديه أوراق اللعب الفائزة، فإذا ألقى الورقة فكسب «الطابق» لم تستطع أن تقول هذه آخر ورقاته؛ إذ لا يزال لديه عتادا من السلاح وذخيرة من القوة. مثل هذا الرجل يستطيع - كما قلنا - أن يقلب كيان الدولة، ثم تصبح أحاديثه ضربا من المعجزات والخوارق، وأجل معجزاتها أنها تؤثر في سامعيها فتنة وسحرا، حتى يولونه على مجرد السماع به أعظم الثقة وأكملها، وبذلك يتأتى له أن يغير وجه العالم، وحينذاك يسعى في خدمته، ويقوم بترديد صدى مساعيه الشعر والنثر والتاريخ، وتنشأ المذاهب الفلسفية الجديدة؛ لتعليل سبب وجوده وحكمة حياته وأعماله. إن ميزة هذا الرجل هي تمام مقدرته على امتلاك عواطفه ووجداناته، ولكن سر تغلبه وسيطرته أدق وأعمق من هذا؛ ذلك هو سريان قوة الطبيعة بلا عائق وجريانها وانطلاقها بلا عقبة أو حائل من ذهنه وإرادته إلى يديه، فالرجال والنساء لعبه وآلاته، وحيثما وجدوا فثمة له مصدر حيل إلى مراميه وذرائع إلى أغراضه، وما أحسن قول لوثر حيث يقول: «إنما الرجل من أجاد الكلام.» فأمثال هذا الرجل كانت ولايات اليونان تستهدي وتستورد من ولاية «إسبرطة» (أوفر الولايات نصيبا من الفحول) حينما كانت تحتاج إلى قائد.
وإذا ضربنا صفحا عن فحول الرجال من الملوك والقواد وأهل الحرب والقتال؛ ألفينا في ساحات السلام ومناديح الأمن والسكينة فحولا أيضا، لا يقلون عن أولئك جزالة وقوة وسلطانا على الأنفس، وسيطرة على العقول. فهؤلاء وإن لم يعتلوا مسرح الحرب والسياسة، أو يتصدوا لزعامة أو قيادة، وكانت صناعاتهم عادية، ومناهج عيشهم سلمية مدنية، تراهم مع ذلك يؤثرون أينما حلوا تأثير الشعاع المنعش ، أو الزمهرير المرعش، وإذا نطقوا أصيخ لهم وإن لم يكن نطقهم إلا همسا ونبسا، وإذا خطوا قصدوا وسددوا، وإذا فعلوا أحسنوا وأجادوا، ثم يكون عملهم قدوة تنتحى ومثالا يحتذى، وهؤلاء الفحول يلقون في أخفض منازل المجتمع مثلما يلقون في أرفعها وأسماها.
فأساس الملكة الخطابية في جميع الحالات - وعلى اختلاف شئون أربابها وأعمالهم وحرفهم ومراكزهم - هو قوة الشخصية وشرف النفس وسمو الهمة؛ ولذلك ترى الأمم والشعوب إذا احتاجت إلى من يمثلها أمام الخصوم، ويمثل أمانيها وأغراضها، ويطالب برد حقوقها، عمدت إلى من كان من بين أفرادها أقواهم شخصية، وأعظمهم روحا، وأجزلهم حظا من صفات الرجولة وخلال الفحولة - كالحزم والرزانة والحلم والأرب والحصافة والجرأة والشجاعة مع سمو المركز الاجتماعي - جاعلة اهتمامها بهذه المزايا الأخلاقية النبيلة، والسجايا الرجولية الجليلة، أشد من اهتمامها بالكفاءات الفنية - كالخبرة القضائية مثلا أو غزارة العلم بالقانون الدولي والتجاري أو التفقه في العلوم الاقتصادية والسياسية - وإلى النوع الأول من الصفات والمزايا - أعني صفات الرجولة والفحولة - كانت ترمي الأمة المصرية - أعني ذوي الرأي والمكانة وأولي الفضل والكفاءة والوزن والجاه منها - حينما عمدت إلى اختيار الرئيس الجليل ثروت باشا؛ ليمثلها لدى الخصوم، ويكون النائب والوكيل عنها في المطالبة بحقوقها وتحقيق أمانيها، ولقد صدق ظنها وصحت فراستها، وأصبحت تحمد مذهبها في اختيار ذلك البطل حينما حقق شطر أمانيها، وبات ساهر الجفن، قلق الضلوع، متوقد الأحشاء في تحقيق ما بقي من آمالها. فطوبى للأمة المصرية ومرحى! لقد علمت وعلم العالم أجمع أنها حينما اختارت ثروت باشا للدفاع عن قضيتها والمطالبة بحقوقها قد اختارت الرجل الذي إذا نادى بالخصوم أسمع، وإذا ناظر أقنع، وإذا خاصم أفحم، وإذا ناوأ أرغم:
من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب •••
كادوا وكدت فأزهقت ما دبروا
إحدى هناتك أيما إزهاق
إن السر في نجاح خطة ثروت - بفضل قوة تأثيره وإقناعه في خطبه وأحاديثه - هو ارتكاز كلامه على أساس الحقائق الثابتة، ولا مراء في أنه ما كان للرئيس الجليل، ولا لأي خطيب أو مناظر كائنا من كان، أن يبلغ ما يريده من التأثير في معارضيه وإقناعهم بمجرد الملكات الكلامية، ما لم تستقر في جوف كلامه حقيقة صلبة مادية، وقياسا على هذا نقول: إن ثروت باشا خطيب عظيم؛ لأنه يرمي في أثناء خطبه بالحقيقة تلو الحقيقة، أو كما يقول أهل المجاز لأنه يصيب المحز ويطبق المفصل، ويقرطس الفرض، ويصمي كبد الحقيقة، وله بعد ذلك ما يسمونه ملكة التعميم - أي استخلاص الكليات من الجزئيات والقواعد من المفردات - فهو يستنتج أثناء كلامه المنسجم الفياض القاعدة والقانون، ينير به جو المناقشة، ويجلي به ظلمة الشك والشبهة في أوجز اختصار، وأسرع إيماء كأنه لمحة البرق في غاشيات الضباب:
كم حومة للجدال فرجها
والقوم عجم في مثلها خرس
شك حشاها بخطبة عنن
كأنها منه طعنة خلس
ثروت باشا هو الرجل الذي يشتمل على الحقائق الخطيرة، ويعرف كيف يلقي بها في روع المخاطب ويقذفها في جنانه - يعرف كيف ينقلها إلى وجدان المخاطب سواء أشاء المخاطب أم لم يشأ - ويحمله على الاقتناع بصحتها والاعتقاد بها بالكره منه وعلى رغم أنفه، وكم من رجل يشتمل من الحقائق الخطيرة على مثل ما يشتمل عليه ثروت باشا، ولكنه يعجز عن نقلها إلى قلوب معارضيه وعن حملهم على الاعتقاد بها! وإنما ميزة الرئيس الجليل أنه يعرف كيف يهتدي إلى ذلك المسلك السري، والمنفذ الخفي الذي يوصله إلى كل قلب مغلق، وجنان موصد من أفئدة معارضيه ومناوئيه، وكل معارض في حقيقة من الحقائق، مكذب بها، مغلق دونها باب قلبه، مهما حاول الفصحاء والبلغاء إيلاجها في ذهنه، وإقرارها في ضميره بمختلف أساليب البيان وشتى وسائل الفصاحة. فاعلم أنه يوجد في أسرار البلاغة أسلوب إذا وضعت فيه تلك الحقيقة كان كفيلا أن ينفذ بها إلى فؤاد ذلك المنكر المكذب مهما تحصن دونها بأكثف مجان الجحود وأصفق دروع المعارضة. نعم، قد يتاح لهذا المنكر المعارض ذلك البليغ المقتدر، فيصب له تلك الحقيقة المكذبة المرفوضة في قالب عجيب غريب مخالف لآلاف الصيغ والقوالب التي اعتاد أن يسمعها عليها - فيكون لهذا القالب من القوة والنفوذ ما يخترق به حجاب سمعه وقلبه، ويفضي إلى أعماق جنانه فيضع ثمة تلك الحقيقة، ويضرب هنالك أوتادها وأطنابها فترسو، وتستقر على عرش فؤاده عقيدة راسخة مكينة عظيمة النفوذ والسلطان. فإذا ارتاح ضميره إلى الخضوع لسلطان هذه الحقيقة سلم وعاش، وإذا كره بعد كل ذلك أن يخضع لسلطانها لم يغنه ذلك ولم ينفعه بل ستراه يموت من دون ذلك كمدا. فإن حكم هذه الحقيقة بعد تمكنها من عقيدته سيكون نافذا قاهرا محتوما؛ فإما أن يخضع لها فتكون حاكمته ومالكته، وإما أن يأبى الخضوع فيموت بها؛ داءه القتال ومنيته العاجلة. فهذا بلا شك أروع أساليب البلاغة وأمضى أسلحتها، والذي يعالج بمثل هذا الأسلوب، ويكافح بمثل هذا السلاح، لا يملك أن يؤمن بدولة البيان وسلطان البلاغة، ويردد قول نبينا - عليه السلام: «إن من البيان لسحرا.»
ولا تنس ما امتاز به الرئيس من حميا الإخلاص، ولهيب الحمية الذي هو أصل الحياة، ومنبع الروح والقوة في أحاديثه وخطبه، وهذا مستمد من مصدرين: (1) غيرته ووطنيته الغريزية، (2) الظروف الراهنة الاستثنائية. فإن الظروف - كما لا يخفى - تكون أحيانا بمثابة منبع قوة جديد يضاعف ما بالإنسان من قدرة وهمة. ومتى اجتمعت قوة الظروف وكفاءة المرء فذلك اجتماع العقل البشري والقضاء الإلهي. وقد أرى إخلاص ثروت باشا لفرط حميته أشبه شيء بالنشوة قد تملكت شعوره، واشتملت على لبه؛ فهو يكاد يترنح وطنية وغيرة، وإذا أراد الكلام ازدحمت سيول البلاغة في صدره، ثم انطلقت تتدفق دفعا فدفعا، وتراه قد تملكه موضوع الخطابة أو الحديث - أعني موضوع القضية المقدسة - تملكا يترك الأفكار والمعاني تنسجم في نظام هو - نظام الطبيعة ذاتها - أقوى النظم البيانية، وأروع الأساليب التعبيرية، وأجل وأعظم من أن يجارى أو يبارى. فلا جرم إذا قلنا إن ثروت باشا إذا خطب فإنما الطبيعة تخطب بلسانه، وإذا فاضت أحاديثه فإنما هي الحقيقة تفيض من معين قلبه ووجدانه. فلا عجب إذا كان تأثيرها في النفوس تاما، وسلطانها على الأذهان والأرواح كاملا، شأن الطبيعة في كل حركاتها وآثارها، وعلى اختلاف صورها ومظاهرها، وإني لأرى بعد في هذا الإخلاص الرائع الشديد، وفي عظيم ما ينتج عنه من خطب الرئيس الجليل وأحاديثه الباهرة، مصداقا على تلك الخرافة القديمة وهي: «إنما يصيب الغرض من السهام ما يغمس أولا في دم الرامي.»
من حقق النظر في أحاديث ثروت باشا وفي خطبه، وفي خطب وأحاديث سائر أئمة الخطابة والمناظرة في العالم - أمثال ديموسطين وأسكينيز، وديماديس، وبيريكليس، ولوثر، وفوكس، وشانام، وباتريك هنري، وآدمز، وميرابو، وأيسوقراط، وبيرك، وجون بابتست، وهرميت بطرس وجون نوكس - وجد أن أصدق تعريف للخطابة أو الحديث البليغ هو أنه «أفضل كلام صادر عن أفضل روح»، وأنه «عنوان كل ما يحتوي الذهن من آيات الجلال والجمال»، فإذا خرج الخطاب أو الحديث عن كونه مجرد آلة وأداة لتأدية ما يجيش بالصدر من عقائل الأفكار وكرائم المعاني، وأريد به أن يكون غاية في ذاته، وأن يتباهى به ويفتخر كبعض الزخارف والحلي، صار أكذوبة وخدعة، وليس هكذا حديث ثروت باشا ولا خطابه، وما كانت قط هكذا أحاديث الفحول - ممن ذكرنا آنفا - ولا خطاباتهم. أجل، ليس هذا شأن الفحول في كلامهم، وليس بهذا يأمر الإخلاص والصدق والغيرة والإيمان والوطنية، وما زال رجال الجد والإخلاص - أمثال ثروت باشا - يؤثرون الغرض الشريف والعمل الصالح على مجرد المباهاة برنين نغمات البلاغة، والمفاخرة بطنين مطربات البيان والخطابة - أعني يؤثرون الجوهر على العرض والروح على الزي والملبس - وتلك شيمة الإخلاص والنزاهة.
شتان بين كلام المخلص الجاد الغيور صادرا عن أعمق أعماق نفسه، وبين كلام المزخرف المتأنق العابث صادرا عن أغلفة قلبه وقشوره الظاهرية. فهذا الأخير ليس سوى سحابة صيف، وعجالة ضيف، وشيء يولد مع الصباح ويزول وقت الزوال، وشبح يذهب كالظلال بذهاب الأهواء والأميال، وأما الأول فآية تنقش على صحيفة الزمان، وتبقى على الدهر ما بقي الإنسان، وتنتج أعظم النتائج من آثار المدنية ومظاهر العمران، وهل هذه المدنية الحاضرة وآتي المدنيات وماضيها وكل ما يعمرها سالفا وحاضرا ومستقبلا من آثار الإنسان في هذه الحياة ومصنوعاته ومبدعاته ومخترعاته - من دول وممالك، ونظم ودساتير وقوانين، وشرائع وآداب وأخلاق، وعلوم وصناعات وفنون، ومعاملات تجارية واقتصادية وسياسية، وقصور ومدائن وقلاع وكنائس، وهياكل ومتاحف ومقاصف، وكل ما يقوم عليه صرح هذه الحياة الهائلة من دعائم البقاء وأساطين العمران، وكل ما يساعد الإنسان الشقي المسكين على تخفيف عبء الحياة، وتلطيف آلامها، ومعالجة آفاتها ومحنها، وإساغة جرعتها المضيضة ومضغتها المرة، وتليين عجلاتها العسرة المستعصية تسهيلا لسيرها بقافلة الإنسانية التعسة في أوعار هذه الحياة الشاقة الأليمة إلى مثوى الإنسان الأخير في سكينة القبر وهدوئه؛ أقول: هل ترى كل هذه الأشياء المكون منها صرح المدنية ونظام الحياة إلا نتيجة كلمة حق تعبر عن فكرة صالحة؟
أجل، ليس ثروت باشا بالعابث في أحاديثه وخطبه يتوخى التأثير السطحي في الجماهير بطنين الكلم الأجوف الرنان، ويخدع العقول بزبرج الكلام وتزاويقه يبتغي بذلك المفاخرة باللسن والذلاقة، والمباهاة بالحذق واللباقة، ويريغ الشهرة والذكر والجاه والسلطان، ولكنه رجل الجد والإخلاص والصدق قولا وعملا، كثير الإطراق والتفكير، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وحكمة. لا يتصدى بالكلام لغرض من الأغراض، أو مسألة من المسائل، إلا أنار شبهتها، وكشف غامضها، واستثار دفينتها، وهكذا يجب أن يكون الكلام وإلا فلا. إن ثروت باشا ذلك الرجل المجبول بفطرته على الجد والإخلاص والحمية ليرى في قضية البلاد المقدسة أمرا جللا، أعظم من أن يحتمل العبث والتظاهر والمباهاة، والإدلال برنات طنان الكلام وسجعاته. لقد كان الأمر عنده - كما قال توماس كارليل - «أمر حياة أمة أو مماتها، أمر فلاح أو خسران، ومسألة بقاء أو فناء. فلم يك منه إزاء ذلك إلا الجد المر والإخلاص العميق. فأما التلاعب بالكلمات والعبث بالحقائق فليس من شأنه البتة، والعبث والتلاعب في المسائل الحيوية الجلى جريمة من أفظع الجرائم؛ إذ ليس هو إلا رقدة القلب وهجعة العين عن الحقائق وتقلب المرء في مظاهر كاذبة خداعة. فمثل هذا الإنسان لا يقتصر أمره على كون أقواله وأعماله كلها أكاذيب بل إنه هو نفسه أكذوبة. فأنت إذا تأملته في صميم كيانه، ألفيت نور الله - أعني الشرف والمروءة - قد انطفأ فيه سراجه، وخبا وقاده ووهاجه، فهو على الرغم من ذرابة لسانه، وخلابة بيانه، أفاك كاذب، إذ لا يزال مثل هذا الرجل سم الحياة وآفة الإنسانية. فإن غرك برخامة صوته وجرسه، وحلاوة جهره ونبسه، ورقة مسه ولمسه، لم يك في ذلك إلا كحامض الكربون تراه على لطف مسراه، ولين مجراه، سما نقيعا، وموتا ذريعا.»
والآن بعد الذي أوردناه من ذلك الفصل المسهب والمطلب المستفيض في وصف الركن الأول من مناقب ثروت باشا - أعني الملكة الخطابية البيانية بأصولها وفروعها وعددها وآلاتها ودقائقها وأسرارها - ننتقل إلى الركن الثاني من صرح أخلاقه الوطيد الرفيع، أعني دماثة الطبع وعذوبة الشمائل.
لقد جاء في حكمة الأقدمين أنه لن يستطيع مسرة الجلساء وإطرابهم بفنون الأحاديث من كانت روحه خالية من عنصر السرور والطرب. فإن الحديث المشتمل على تحف المعاني وبدائع الأفكار إذا صدر عن روح ساخطة أو غضبى أو متضجرة أو مشمئزة - أعني عن روح متنافرة مع أرواح الجلساء والعشراء - كان جديرا أن يدهش الأذهان ويبهرها، ولكنه ليس جديرا أن ينعش الأرواح ويدخل على النفوس عوامل الأنس والصفو والحبور. فخلة اجتذاب القلوب واستمالة الأهواء محال أن تتوافر لمن كان موحش الناحية، مقفر الجناب، خشن الجانب. فإن الأذهان خلاف الأرواح، وليس من اللازم المحتوم أن الرجل القادر على النفاذ إلى أذهان الناس بروائع كلمه، أن يستطيع بهذه الواسطة وحدها أن ينفذ أيضا إلى قلوبهم وأرواحهم؛ إذ كيف يتأتى له ذلك إذا كان جامد الروح، مظلم الهواء، راكد النسيم، والرجل الخالية نفسه من عوامل الفرح كيف يستطيع إدخال الفرح على نفوس غيره؟
ولذلك قيل إن فن استمالة الغير بأسباب المسرة إنما أساسه أن تكون قبل كل شيء مسرورا في أعماق نفسك، ومن ثم رأينا أن أعاظم كتاب الفكاهة في العالم، الذين قدموا للعالمين أوفر ذخائر السرور والأنس، وأشهى ألوان الطرب والحبور على مائدة الفنون والآداب - أمثال موليير وشاكسبير، وسرفانيتس، وأديسون، وجولد سمث، وفيدلن، وستيرن، وديكنز، وثكري، ورابليه، وماريفوه، وصاحب ألف ليلة - كانوا جميعا من ذوي الطبائع الفرحة الجذلى، والأمزجة الرطبة الخضلة، والصدور المثلوجة القريرة، والنفوس الطيبة الراضية المطمئنة المملوءة بروح الصفاء والاستبشار والتفاؤل. على عكس المتشائمين المتبرمين الغاضبين الثائرين من كتاب الفكاهة - أمثال سويفت وبوب وفولتير وبيرون - الذين قد مزجوا مزاجهم بأنكر الهجاء والتهكم، وخلطوا مجونهم بأمض القذع والسخط والنقمة فجاءت مؤلفاتهم أدعى إلى الإيلام منها إلى الإطراب، وأدنى إلى الإيجاع منها إلى الإعجاب، وأجدر بالإيحاش منها بالإيناس، وأنكى شبا من إبرة العقرب في الشعور والإحساس، ذلك إلى الجم الكثير من آفات تلك الكتب التشاؤمية في المجتمع، ومساوئ آثارها في هيكل الإنسانية مما يصغر ويضؤل بجانبه ما قد حوت من الفوائد والمنافع، حتى ذهب فريق كبير من أدباء العالم ونقاده إلى اعتبار مؤلفيها الفحول الفطاحل من ضمن عوامل الفساد ومصادر الشر والبلاء على العالم، فقال لنا الفيلسوف الألماني الطائر الصيت «فردريك نيتشه»: «أغلقوا «بيرون» وافتحوا «جيتا»، وأصل هذه السوءات والآفات في الخالدات العبقريات من تآليف أولئك النوابغ هو - كما أسلفت - مرارة السجية وحموضة الطبع وحرافة المزاج، وما يتبع ذلك من جفوة الروح وقسوة القلب وغلظة الكبد.
وليس ثروت باشا بالجافي النفس، ولا القاسي القلب، ولا الغليظ الكبد، ولا هو بالحامض الطباع الحريف المزاج، ولا بالموحش الجناب، المظلم الناحية، الراكد النسمات، ولكنه مع متانة أخلاقه وصرامة عزمه، وأنه لا يجمد في الحق، ولا يتدفق في الباطل، تراه ذلك الرجل اللين الجانب، المأنوس الجناب، المشرق الناحية، هينا لينا، طلق الجبين، براق الأسارير.
بشر أبو مروان إن عاسرته
عسر وعند يساره ميسور
وكالسيل إن قاومته انقدت طوعه
وتقتاده من جانبيه فيتبع
فإذا جالسته صدرته
وتنحيت له في الحاشيه
وإذا سايرته قدمته
وتأخرت مع المستأنيه
وإذا ياسرته صادفته
سلس الخلق سليم الناحيه
وإذا عاسرته صادفته
شرس الرأي أبيا داهيه
فاحمد الله على صحبته
واسأل الرحمن منه العافيه
وطبيعة ثروت باشا بعد هي الدماثة واللطف والرقة والظرف، وإن كان فيه عند مقتضيات الأحوال شدة وصلابة وبأس وصرامة:
له سورة مكتنة في سكينة
كما اكتن في الغمد الحسام المهند
وتلك شيمة الرجل الفاضل في كل زمان ومكان، وتلك كانت شيمة أبطال العرب في ذروة عزهم وعلياء مجدهم؛ قلوب تذوب رحمة وعطفا، في جوانح تلتهب حمية وأنفا، وأرواحا تتدفق برا وكرما، تحت عزمات تثور عزا وشمما، كالينبوع الثر الغزير، العذب النمير، يكتنفه أمنع سور من الصفوان، وأمتن حاجز من الجلمد الصوان:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
وتلك كانت شيمة فرسان المسيحية في عهد الفروسية الأمجد الأشرف الذي هو فخر المدنية الغربية في القرون الوسطى، يوم كان أئمة الدين هم أيضا أئمة الحرب والجهاد، وكان أعلام التقى أعلام الوغى، يوم كان أبطالهم يحملون الإنجيل على أسلات الرماح، ويقرنون السيف إلى الصليب في نطاق ووشاح. هنالك كنت ترى أقصى غاية البر والرأفة والحنان، مع أقصى غاية الثبات والشجاعة وقوة الجنان. هنالك كنت ترى التواضع والحياء والخشوع والانكسار، مع البأس والشدة وصولة العزيز القهار:
خاشع تارة وجبار أخرى
فتراه أرضا وطورا سماء
وهكذا إذا طلبت منتهى الرقة والدماثة والحنان والرحمة وجدتها في الرجل الصارم الشجاع القوي المتين، وكذلك أعذب الماء وأصفاه هو ما صادفته في النقر واللصاب في الصخرة الصماء والصفاة الصلدة.
ومن ثم كان ثروت باشا - ذلك البطل القوي الأيد الصلب العود والمعجم - رجلا سمحا سجحا، غزير الأنس والحفاوة، جم الظرف والفكاهة، تكاد ابتسامته تضيء ما حوله بنور البشر والطلاقة، ويكاد الهواء يتأرج بطيب أنفاسه إذ كانت صادرة عن روضة الحسب الأغر، والكرم الأوفر الأبر.
ولا شك عندي في أن تلك المادة الغزيرة من الفرح والابتهاج الغريزي في ثروت باشا هي من أعظم أسباب نجاحه في كل ما يحاول من الخطط والتدابير، وكل ما يباشر من المعاملات والمفاوضات؛ لأن ذلك الفرح والابتهاج يظل له كنشوة طبيعية تحرك همته وتبعث عزمته، وتترك سيف جده مسلولا لأيسر داع ومقتضى، وتغنيه عن كل منشط خارجي وحافز صناعي، وأكبر ظني أن هذا الابتهاج والصفاء الغريزي النفساني في ثروت باشا هو بعض مصادر تلك الجاذبية والخلابة التي استطاع بها أن يؤثر في كبار رجالات البريطانيين ممن فاوضوه في قضية البلاد المقدسة، ويستميلهم إلى مذهبه، ويقنعهم بصحة رأيه ونصوع حجته. وأراني خليقا أن أشبهه في ذلك بالقائد الإنكليزي العظيم الدوق أوف «مالبره»، ذلك البطل التاريخي المشهور الذي بفضل حذقه ولباقته انتصرت إنكلترا وحلفاؤها على فرنسا في عهد لويز الرابع عشر، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوروبا جيوشا، وأمهرها قوادا، وأشدها بأسا وصولة، وأقهرها سطوة وسلطانا. لقد كانت جيوش حلفاء بريطانيا أثناء حروبها الطويلة المتوالية مع فرنسا في ذلك العهد عرضة لعوامل النزاع والشقاق، لا يزال يقع بينها النفور والمشاحنة، فلو كانت استمرت على تلك الحال لما كانت ظفرت من فرنسا بطائل، بل كان من المؤكد هزيمتها واندحارها بأسياف تلك الدولة، ولكن القدر الذي أراد غير ذلك جعل من خلابة القائد «مالبرة»، ومن جاذبيته، ومن رقة شيمته، وحلاوة أنسه، وعذوبة شمائله؛ أبلغ وسيلة وأحسن واسطة لضم شوارد القلوب بين الحلفاء، وتأليف نوافر النفوس، وجمع بدائد الأهواء والأميال، ونظم تلك العناصر المتشاحنة في سلك واحد من الوئام والألفة، وقياد الجميع بحبل التوفيق والهداية إلى غرضهم الأوحد الفرد من تلك الحرب الشعواء - على الرغم من متباين مذاهبهم وآرائهم، ومما كان متفشيا بينهم من عوامل التحاقد والتحاسد، ونزوات التعسف والتهور، ونزعات الطيش والضلال - فأيما بلاط من بلاطات تلك الدول المتحالفة كان يذهب إليه القائد مالبرة ويغشاه كان لا يلبث بفضل سجاحة خلقه، وحلاوة سجاياه، وعذوبة طبعه أن يستميل أهله، ويستدرجهم مهما بلغ من عنادهم وشكاستهم، حتى يحملهم على قبول شروطه واتباع رأيه.
لقد امتاز ثروت باشا بنوع من صفاء النفس، وهدوء الروح، وسكينة الجأش، لها في نفوس مخاطبيه ومجالسيه من الأثر العميق ما يشبه تأثير النغم الرخيم والألحان الشجية. ولا عجب، فإن الصفاء والهدوء من النظام، وكل نظام فإنما يكون نظاما بفضل ما ينطوي في جوفه من الموسيقى الصامتة؛ أي من روح الموسيقى، أو بعبارة أخرى: كل نظام موسيقي في عنصره وجوهره. فهذا الهدوء والسكينة والصفاء في ثروت باشا تؤثر في مخاطبيه ومجالسيه تأثيرا يسبيهم من نفوسهم، ويجتذبهم إليه بنوع من الكهرباء الخفي. فلا جرم إذا قلنا إن مثل هذا الخلاب تكون روحه منهلا للأنس، ومسترادا للنعيم والمسرة، وسنا بشره يفيض على جوانب الجو كمثل رونق الضحى، وحديثه ينفث في الهواء كأنفاس النعامي تنفح بأريج الخزامي:
أو كالنسيم الغض غب الحيا
يختال في أردية الفجر •••
وإذا ما أشار هبت صبا المس
ك وخلت الإيوان من كافور
هذه السكينة والهدوء والصفاء الغريزية الفطرية (مع حدة الذهن الهائلة) هي التي بفضلها بلغ نابليون - أعظم رجل في التاريخ الحديث - من ذروة المجد والعلاء، وقمة الحسب والفخار، ما راع الملأ وبهر العالم، وهي التي بفضلها أيضا استطاع ذلك الرجل المدهش أن يحتمل أرزاء الدهر ومحن الزمان في عظمة وجلال يشوبهما شيء من اللهو العبث، وأن يستسلم لخسارة ملك العالم استسلام من خسر دورا في لعبة النرد أو الشطرنج.
وكذلك ترى ثروت باشا - على صرامته وبأسه في مواضع الجد والحزم - أغر أبلج، بساما وضاح الجبين، جم البشر والحفاوة، عذب الإيناس، حلو الفكاهة، تتألق في صفحة وجهه الكريم ابتسامة صادقة من فؤاد صادق؛ لأن من الابتسامات ما تكون كاذبة منبعثة عن فؤاد كاذب كسائر أكاذيب صاحبها من أعمال وأقوال، وما زال الابتسام الصادق والضحك الخالص الصريح ينبعث من القلب الطاهر النقي الرقيق الحاشية، الأمين الناحية، الغزير مادة الحنان والرحمة. فمثل ذلك الضحك يكون عنوان الكرم والخير، وشاهد المروءة والبر، إذا كان كاذب الضحك آية الشر والنكر، وأمارة الخبث والغدر، وما زال الحر الشريف يمزح في الأحايين ويهزل، والبر الكريم يطرب ويجذل، وما زلنا نرى الأريب الحصيف يفصل نظام حكمته الثمين بشذور الأمازيح والفكاهات، ويرصع ديباجة كلامه الجدي الرزين بفصوص المعابثات والمداعبات. ومن ثم ما قاله توماس كارليل في وصف إفراط الفكاهة والضحك في سيد شعراء العالم قاطبة «وليم شاكسبير»: «لا أرى دليلا أصدق على ما يمتاز به ذلك الشاعر الخالد من كرم النفس ورقة الطبع ونقاء الضمير وصفاء السريرة من غلواء الضحك وإفراط المزاح في رواياته. ألا ترى أن مضحكاته تنحط عليك كشآبيب الغيث الثر، ودوافع السيل الهمر؟ ألا ترى أنه إذا نصب أحد أشخاص رواياته غرضا لمرامي المزح والدعابة انبرى يهيل على رأسه ما لا يحصى من أفانين الهزل والمجون، وينقله من المواقف والأشكال المضحكة فيما فيه أقصى عجب العاجبين وضحك الضاحكين، فيخيل إليك أن شاكسبير يضحك من ذلك الشخص الذي هو سليل وهمه وصنع خياله ضحكا مفرطا بملء صدره وأضلاعه، وهو بعد ضحك طيب صالح لا يراد به السخرية من البؤساء والمساكين والضعفاء، التي هي ألأم أنواع الضحك؛ لما تنطوي عليه من السفالة والخبث والنذالة، وإني أرى ضحك شاكسبير وغيره من ذوي الكرم والبر والرأفة ليس من قبيل معمعة الحريق تحت القدر - يقهقه لهيبه وضرامه والقدر تغلي وتفور - ولكنه ضحك مشوب بالرحمة والعطف حتى على الأغبياء والأدعياء. فمثل ذلك الضحك لا أشبهه إلا ببساط نور الشمس على صدر البحر الرحيب.»
وكذلك ثروت باشا رجل الجد والحد والقوة والمتانة والوقار والرزانة والعزم والصرامة، لا يخلو مع ذلك من رقة الظرف وحلاوة الإيناس وطرف الفكاهة والدعابة. فيا له من جوهرة كريمة، أبدى الله صفحتها، وجلا بهاءها وبهجتها، على حين قد أقفر العصر من الجواهر الغوالي، وصفرت الأيدي من كرائم اللآلي. فحبذا تلك من جوهرة جمعت بين الرونق والمتانة، والسنا الوهاج والرصانة، كالصخرة المنطوية على ينابع الكرم والسخاء، وأشعة الفطنة والذكاء، وجمرات العزم والمضاء.
ومن أركان مناقب ثروت أيضا: الثقة بالنفس والاعتزاز بالرأي والنفاذ والصرامة، فهو يمضي في تنفيذ إرادته مضاء النجم الثاقب، متحملا مسئولية أعماله وتبعتها، مقتحما ما يعترضه مما يراه هو اعتراضا باطلا واعتبارا كاذبا، غير مبال بما يصوب إليه من سهام الملام والتفنيد وقوارص العذل والتقريع، اغتباطا بما يعتقد أنه سيكون من صالح النتائج ومحمود العواقب، مما يراه هو ببصره النافذ ورويته البصيرة، وإن خفي على غيره من الأشخاص المعتادين ممن لم تمنحهم الطبيعة ما ميزته هو به من الذكاء والفطنة والدهاء. فلا عجب إذا كان ثروت باشا - كغيره من الأبطال والفحول - يتبين فيما يأتي ويذر، وفيما يحل ويعقد من سر الحكمة ووجه الصواب ما ليس يظهر لسواه من الناس؛ إذ كان كل قائد يظل أعرف بخطته من سائر الجنود، وأبصر بما ينتهج لهم من مناهج السعي والعمل وسبل الغزو والجهاد. فبرنامج العمل المرقوم في ذهنه، وخريطة الزحف المرسومة على صفحات قلبه، إنما يقرؤها ويفهمها هو وحده من دونهم، وهو وحده المسئول عن العاقبة والنتيجة. فلينتقدوا وليعارضوا ما شاءوا، فما اعتراضهم ونقدهم إلا سحابة صيف لن تلبث أن تزول متى طلعت من ورائها شموس نتائج أعماله مشرقة بلجاء؛ وإذ ذاك يعلم أقوام أن مذهب الوزير كان الحق الصراح، وخطته الصدق المبين، وكان عمله منزها عن الأغراض والأهواء، بريئا من شوائب الأنانية، بل هادما لعوامل الأنانية ماحقا لعناصرها، مشبعا بعواطف الوطنية والإخلاص والتضحية.
ونحن إذا آنسنا في أخلاق ثروت باشا خلة الثقة بالنفس، والاعتزاز بالرأي، فقد ما آنس الناس ذلك في كل بطل وقائد، وهل كان الاعتزاز بالنفس إلا شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل، المترفعة عن مراعاة أكاذيب التقاليد والاصطلاحات وأباطيل السنن والاعتبارات، الآخذة بالجد والإقدام والإصرار والمثابرة بعزيمة لا تهن ولا تكل، وصريمة لا تثلم ولا تفل، المستهزئة بأكاذيب الآراء والعقائد. فصاحب مثل هذه النفس الكبيرة الشماء ينطلق إلى غايته انطلاق الكوكب المشبوب، مسترسلا في سننه طربا على نغمات موسيقى روحه العظيمة الجياشة الصداحة، ولو ثارت من حوله الزوابع، وضجت المعامع، وصخبت الزعازع، وهبت العواصف، وزمجرت القواصف، وكاد الكون أن يتحطم فيتهدم. هذه - وأبيك - البطولة في أنصع مجاليها وأبعد مراميها، وهي وإن راعت بعض القوم وأخافتهم - لعجزهم عن سبر أغوارها وإدراك أسرارها - فالواجب على الجميع أن يوفوها حقها من الإجلال والإكبار، إذا كانت قد حفت من شواهد الجلال، وآيات السمو والعظمة بما ينبغي أن يثير عواطف الإعجاب والإكبار في نفس كل شريف، بل في نفس كل من علق بنفسه أدنى أثر من عناصر الشرف والكرم والمروءة - فيملؤه عجبا وطربا من جلائل أعمال ذلك البطل (وإن قصر ذهنه عن تمام إدراكها) ثم يلهمه شيئا من الصبر والتأني انتظارا وترقبا لما سيكون من نتائج فعاله وعواقب أعماله - وحسبه أثناء ذلك أن يحمل نفسه على الاعتقاد بأن أفعال مثل هذا الرجل القوي، إنما هي أفعال المولى جل شأنه يأتيها على يد عبد من عباده. فقبيح بأي مخلوق أن يتسرع إليها باللوم والطعن والهجاء، وذميم أن يعجل إلى منفذها بالشر والشغب والمناوأة، أو يعترضه في سبيله الخشن الصعب بالعرقلة والتعطيل والمقاومة. فحسبه بخشونة مركبه ووعورة مسلكه، وإنه يبيت ساهر العين من أجل عيون ملء أجفانها الرقاد، وينصب متعب الجسد من أجل أحساد تتقلب على ألين مهاد، ويتجرع غصص الألم في سبيل أقوام يرشفون أقداح المسرات والنعم، ويخترط أشواك المضض من شجر الكد والعناء لمصلحة من يقطفون ثمار الراحة من أفنان الدعة والصفاء.
إن الرجل العظيم يعمل عمله مدفوعا إليه بدافع وجداني مستسر في خفايا نفسه العميقة العظيمة، فحكمة هذا الدافع الوجداني لا يمكن أن تكون بادية لعيون العامة والجماهير مثلما تبدو وتظهر لصاحبه، بدليل أن كل امرئ يكون أعرف بسريرة وجدانه من غيره، ويكون أبعد نظرا وأقصى مرمى فيما يتعلق بمذهبه الخاص به دون غيره، وبخطته التي هو انتهجها دون سواه.
ولكنا نرى الذين لا يريدون أن يعترفوا للرجل العظيم بشرف مسعاه، وسمو غايته ومرماه - إما لقصر عن إدراك مراميه أو لآفة في نفوسهم - ينكرون عليه بعد همته وحسن نيته، فيتهمونه بالسعي وراء حاجة في نفسه وبغية شخصية أنانية، ومن ثم يحكمون عليه بما لا يليق أن ينسب إلى الفحول والأبطال. أمثال هؤلاء الظالمين الجائرين لا يرون في أبطال العالم - الذين هم بناة ما في العالم من مجد وعظمة، ومشيدو ما فيه من صروح الحضارة والمدنية العالية، والذين هم في الحقيقة أعلام التاريخ وفرائد عقده النظيم المؤلفة منهم سلسلة المدنيات الذهبية - إلا أشرارا آثمين لا فضل لهم ولا خير فيهم، وأنهم لم يأتوا من أعمالهم العظام ما أتوا إلا إرضاء لشهوات أنانية وإشباعا لمطامع شخصية. والواقع أن أولئك الأفاكين المعتدين بالكذب والزور على مقامات العظماء في كل زمان ومكان هم الجناة الآثمون الذين لم يسلم من ألسنتهم بطل ما أيا كان في حاضر الزمن وغابره ؛ فهم زعموا أن الإسكندر الأكبر كان مجنونا مصابا بجنون الغزو والفتح بعلة أنه دوخ بلاد اليونان وأصقاع آسيا، وزعموا أن حب الشهرة والولوع بالصيت كان باعثه الوحيد على فتوحاته العظيمة بدليل أن هذه الفتوحات قد أدت في النهاية إلى الصيت والشهرة. ومثل هذا قاله أولئك الأفاكون عن يولوس قيصر وهانيبال، والسفاح، وتيمورلنك، ومحمد الفاتح، وشارلمان، وشارل الثاني عشر ملك السويد (الذين سموه «مجنون الشمال» إشارة إلى موقع مملكته من أنحاء المعمور) ونابليون بونابرت، وكذلك خيل إليهم أنهم قد استطاعوا أن يثبتوا الجنون على أئمة العالم وقادته وأقطابه، وكأنى بهم قد استنتجوا من ذلك (وإن لم يصرحوا بهذا الاستنتاج) أنهم هم الأكابر والفحول والعظماء - لا نابليون ولا محمد الفاتح ولا عمرو ولا أمثالهم - وأنهم هم أجل وأعظم من هؤلاء الأعلام والأقطاب؛ بدليل أنهم لم يغزو آسيا كالإسكندر، ولم يفتحوا روما كهانيبال، ولم يدوخوا أوروبا كما فعل نابليون، وإنما حصروا كل مجهودهم وهمتهم في أن يأكلوا ويشربوا، ويتركوا غيرهم يأكل ويشرب، وبذلك عاشوا وماتوا سالمين مسلما منهم، آمنين مأمونا من شرهم.
فهؤلاء النقاد الأصاغر أشبه شيء بالبعوض الذي يحاول أن يلدغ بإبرته الضئيلة الواهية المناكب العراض، والأعناق الضخمة من أسود المجتمع وضياغمه، فتكل إبرتهم وتنبري دون أن تنال تلك الليوث بأدنى ضائر، أو هم كما قال الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
هذا البعوض النقاد ما زال يظهر في العالم منذ كان العالم، لم يخل منه عصر من العصور ولا مصر من الأمصار، فنحن نتلو نبأه في إلياذة هوميروس تحت اسم «ثرسيثيس» ذلك المخلوق الحقير الذي لم يكن له هم ولا دأب إلا سب الأمراء والملوك، فكان جزاؤه على الدوام الضرب بالعصي والجلد بالسياط، وأشد عذابا عليه من ذلك شوكة الحسد المضيض وإبرة الحقد الأليم التي قضي عليه أن لا يزال يحملها في جلده، وجمرة الغيظ والحنق التي قيض له أن لا تنفك مدفونة في صميم كبده، وحسبه فشلا وخيبة مع كل ذلك أن تصبح آراؤه الوجيهة الرشيدة ، وانتقاداته السليمة السديدة - يوما ما إن عاجلا أو آجلا - قد ذهبت بعد كل مجهوداته الجسيمة ومحاولاته العظيمة هباء منثورا،
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . •••
والآن بعدما أجلت قلمي الضعيف جولة في هذا الميدان الفسيح - مجال البطولة والفحولة - وسمته خوضة في ذلك الخضم العميق - عباب العظمة والهمة والرجولة - ألقي به في أكنان الراحة نضوا متعبا حسيرا من طول ما اصطك أثناء جولاته بهضاب تلك العبقرية الباذخة، وجبال تلك البطولة الشامخة، وأطرح صحيفتي في يم التأليف ذلك الهائج المائج الثائر المضطرب لتلقى نصيبها من الطفو أو الرسوب وجزاءها من العطب أو السلامة.
لقد أمضيت برهة على هضاب جبل «أوليمب» - مجال الأبطال وملعب الآلهة (في أساطير اليونان) - أتأمل روائع آياتها وبدائع معجزاتها حتى أفعم قلبي جلالا وجمالا، وبهرني ذلك المشهد المهيب، فانحدرت نازلا وأنا أسبح بحمد الله عجبا وطربا، وأحمد الصانع البديع الذي يأبى كرمه وفضله أن يترك مقابح هذه الحياة وشوهاتها في أي عصر وبقعة، خالية من محاسن الرجولة، مقفرة من مفاخر العظمة والبطولة. (1) مشروع ملنر: مذكرة (1)
لكي يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدا دقيقا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء، وجعلها أقل ضررا بمصالح البلاد. (2)
ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وجميع هذه المفاوضات ترمي إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية: (3)
أولا:
تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التي يجب أن تعطى للدول الأجنبية؛ لتحقيق تخلي تلك الدول عن تلك الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات.
ثانيا:
تبرم بموجب هذه المعاهدة نفسها محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر، تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر أنها في حالة الحرب - حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها - تقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من الموانئ وميادين الطيران ووسائل المواصلات للأغراض الحربية. (4)
تشتمل هذه المعاهدة أحكاما للأغراض الآتية:
أولا:
تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني، وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطة لا تتفق مع المحالفة أو توجد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية.
ثانيا:
تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأراضي المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا يعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالا عسكريا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر.
ثالثا:
تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا يعهد إليه في الوقت عينه بالاختصاصات التي لصندوق الدين الآن، ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية؛ لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته فيها.
رابعا:
تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفا في وزارة الحقانية يتمتع بحق الدخول على الوزير، ويجب إحاطته علما على الدوام بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بحفظ الأمن العام.
خامسا:
نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثليها في مصر؛ ليمنع أن يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها أن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون جائرا على الأجانب.
صيغة أخرى لهذه المادة
نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها للآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثليها لتمنع أن ينفذ على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزا جائرا على الأجانب في مادة فرض الضرائب أو لا توافق مبادئ التشريع المشتركة بين جميع الدول ذوات الامتيازات.
سادسا:
نظرا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزا استثنائيا في مصر، ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.
سابعا:
الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم بناء على رغبتهم أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدة المعاش أو التعويض الذي يمنح للموظفين الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادة عما هو مخول لهم بمقتضى القانون الحالي.
وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية بغير مساس. (5)
تعرض هذه المعاهدة على جمعية تنظيم، ولكن لا يعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات بين الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية، وإنفاذ الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة. (6)
يعهد إلى جمعية التنظيم وضع قانون نظامي جديد تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكاما تقضي بجعل الوزراء مسئولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضا بإطلاق الحرية الدينية لجميع الأشخاص، وبالحماية الواجبة لحقوق الأجانب. (7)
تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين بريطانيا العظمى والدول المختلفة ذوات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية؛ لكي يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة، وتوسيع اختصاصها، وسريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية (ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب) على جميع الأجانب في مصر. (8)
تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات، وتشتمل أيضا أحكاما تقضي بما يأتي:
أولا:
لا يسوغ العمل على التمييز الجائر على رعايا أي دولة وافقت على إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرعايا البريطانيون.
ثانيا:
يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب، فيتمتع الأولاد الذين يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم، ولا يحق اعتبارهم رعايا مصريين.
ثالثا:
تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به القناصل الأجانب في إنكلترا.
رابعا:
المعاهدات والاتفاقات الحالية التي اشتركت مصر في التعاقد عليها في مسائل التجارة والملاحة - ومنها اتفاقات البريد والتلغراف - تبقى نافذة المفعول، أما في المسائل التي ينالها مساس ما جراء إبطال المحاكم القنصلية فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة الشأن، مثل معاهدات تسليم المجرمين وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات التي لها صفة سياسية سواء كانت معقودة بين أطراف عدة أو بين طرفين، مثال ذلك: اتفاقات تحكيم والاتفاقات المختلفة المتعلقة بسير الحروب، وذلك كله ريثما تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفا فيها.
خامسا:
تضمن حرية إبقاء المدارس وتعليم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن على شرط أن تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على المدارس الأوروبية بمصر.
سادسا:
تضمن أيضا حرية إبقاء أو إنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات إلخ، وتنص المعاهدات أيضا على التغيرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد العنصر الدولي عن مجلس الصحة في الإسكندرية. (9)
التشريع الذي تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا والدول الأجنبية يعمل به بمقتضى مراسيم تصدرها الحكومة المصرية، وفي الوقت عينه يصدر مرسوم يقضي باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التي اتخذت بمقتضى الأحكام العرفية صحيحة. (10)
تقضي المراسيم العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة بتخويل هذه المحاكم كل الاختصاص الذي كان مخولا إلى الآن للمحاكم القنصلية والأجنبية، ويترك اختصاص المحاكم الأهلية غير ممسوس. (11)
بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى نصها إلى الدول الأوروبية الأجنبية، وتعضد الطلب الذي تقدمه مصر للدخول عضوا في جمعية الأمم. (2) مشروع كرزون: بنصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر
أولا: انتهاء الحماية (1)
في مقابل إبرام المعاهدة الحالية والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914، والاعتراف بمصر من ذلك الحين دولة متمتعة بحقوق السيادة
Sovereign State
تحت إمرة ملوكية دستورية. فبمقتضى هذا قد أبرمت - وتستمر باقية - بين حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وشعبه من جهة، وبين حكومة مصر والشعب المصري من الجهة الأخرى، معاهدة دائمة ورابطة سلام ووداد وتحالف.
ثانيا: العلاقات الأجنبية (2)
تتولى الشئون الخارجية لمصر وزارة الخارجية المصرية تحت إدارة وزير معين لذلك. (3)
يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عال يكون له في جميع الأوقات وبسبب مسئولياته الخاصة مركز استثنائي، ويكون له حق التقدم على ممثلي الدول الأخرى. (4)
يمثل الحكومة المصرية في لوندره وفي أية عاصمة أخرى ترى الحكومة المصرية أن المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها معتمدون سياسيون يكون لهم لقب ومرتبة وزير. (5)
بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر - وعلى الخصوص فيما يتعلق بالدول الأجنبية - يجب أن توجد أوثق الصلات بين وزارة الخارجية المصرية والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة الممكنة للحكومة المصرية فيما يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية. (6)
لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاق سياسي مع دولة أجنبية بدون أن تستطلع رأي حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير العالي البريطاني. (7)
تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج حسب مقتضيات مصالحها. (8)
لأجل تولي الشئون السياسية بوجه عام، والقيام بالحماية القنصلية للمصالح المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون أو قناصل مصريون، يضع ممثلو جلالة ملك بريطانيا العظمى أنفسهم تحت تصرف الحكومة المصرية، ويقدمون لها كل مساعدة في قدرتهم. (9)
تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة لإلغاء الامتيازات الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسئولية حماية المصالح المشروعة للأجانب في مصر ، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة المصرية قبل البت في هذه المفاوضات رسميا.
ثالثا: النصوص العسكرية (10)
تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها الحيوية، وعن سلامة أراضيها.
لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية الحماية اللازمة، تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر في أي مكان في مصر ولأية مدة يحددان من وقت لآخر، ويكون لها أيضا في كل وقت ما لها الآن من التسهيلات لإحراز واستعمال الثكنات وميادين التمرين والمطارات والترسانات الحربية والمين الحربية.
رابعا: استخدام الموظفين الأجانب (11)
بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها بريطانيا العظمى، وبالنظر للحالة القائمة في الجيش المصري والمصالح العمومية، تتعهد الحكومة المصرية بألا تعين ضباطا أو موظفين أجانب في أية مصلحة منها قبل موافقة القوميسير العالي البريطاني.
خامسا: الإدارة المالية (12)
تعين الحكومة المصرية بعد استشارة
In consultation with
حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قوميسير ماليا توكل إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن أعضاء صندوق الدين، ويكون هذا القوميسير المالي مسئولا بوجه أخص عن دفع المطلوبات الآتية في مواعيدها: (أ)
المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة. (ب)
جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين على المعاش وورثتهم. (ج)
ميزانيتي القوميسيرين المالي والقضائي والموظفين التابعين لهما. (13)
لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي، يجب أن يحاط إحاطة تامة بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له في كل وقت التمتع بحق الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية. (14)
ليس للحكومة المصرية عقد قرض خارجي أو تخصيص إيرادات مصلحة عمومية بدون موافقة القوميسير العالي.
سادسا: الإدارة القضائية (15)
تعين الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قوميسير قضائيا يكلف - بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا العظمى - القيام بمراقبة تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب. (16)
لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي، يجب أن يحاط إحاطة تامة بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص وزارة الحقانية والداخلية، ويكون له في كل وقت التمتع بحق الدخول على وزيري الحقانية والداخلية.
سابعا: السودان (17)
حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر، ولدوام مورد المياه لها، تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلا من ذلك لحكومة السودان إعانة مالية تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين.
تكون كل القوات المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام.
وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه النيل، ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تقام أعمال ري جديدة على النيل أو روافده جنوبي وادي حلفا بدون موافقة لجنة مؤلفة من ثلاثة أمناء؛ يمثل أحدهم مصر، والثاني السودان، والثالث أوغندا.
ثامنا: قروض الجزية (18)
المبالغ التي تعهد خديويو مصر في أوقات مختلفة بدفعها للبيوت المالية التي أصدرت القروض التركية المضمونة بالخزينة المصرية تستمر الحكومة المصرية على تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد والاستهلاك لقرضي سنة 1894 وسنة 1891 إلى أن يتم استهلاك هذين القرضين.
تستمر الحكومة المصرية أيضا في دفع المبالغ التي كان جاريا دفعها لسداد فوائد قرض سنة 1855 المضمون.
عندما يتم استهلاك قروض سنة 1894 وسنة 1891 وسنة 1855 تنتهي مسئولية الحكومة المصرية فيما يتعلق بأي تعهد ناشئ عن الجزية التي كانت تدفعها مصر لتركيا سابقا.
تاسعا: اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم (19)
للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين البريطانيين في أي وقت كان بعد نفاذ هذه المعاهدة بشرط أن يمنح هؤلاء تعويضا ماليا - كما سيأتي بيانه - وذلك زيادة على المعاش أو المكافأة التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم.
ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذه الشروط في الاستعفاء من الخدمة في أي وقت بعد نفاذ هذه المعاهدة.
تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين ليس لهم الحق في المعاش، وأيضا على موظفي البلديات ومجالس المديريات والهيئات المحلية الأخرى. (20)
الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش طبقا لنص المادة السابقة تعطى لهم زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم تكون كافية لسد نفقات ترحيل الموظف نفسه وعائلته ومتاعه المنزلي إلى لندره. (21)
تدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعر ثابت قدره 97 قرشا صاغا ونصف قرش صاغ للجنيه الإنجليزي. (22)
يوضع جدول عن التعويضات: (أ)
للموظفين الدائمين. (ب)
للموظفين المؤقتين.
بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات التأمين
Society of Actuaries .
عاشرا: حماية الأقليات (23)
تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين أساسية، وألا يتضارب معها أو يؤثر عليها أي قانون أو لائحة أو عمل رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون أو لائحة أو عمل رسمي. (24)
تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة لأرواحهم وحريتهم من غير تمييز بسبب مولدهم أو تبعيتهم الأولية أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم.
يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحرية تامة علانية أو غير علانية بشعائر أية ملة أو دين أو عقيدة ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام العام أو الآداب العمومية. (25)
جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون، ويكون لكل منهم التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية من غير تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.
اختلاف الأديان والعقائد والمذهب لا يؤثر على أي شخص حائز للرعوية المصرية في المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، مثل: الدخول في الخدمات العمومية والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف أو مزاولة المهن أو الصناعات.
لا يسوغ فرض أي قيد على أي شخص متمتع بالرعوية المصرية في حرية استعماله لأية لغة في معاملاته الخصوصية أو التجارية أو في الدين أو في الصحف أو في المطبوعات من أي نوع كانت أو في الاجتماعات العمومية. (26)
الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية أو الدينية أو اللغوية يكون لهم الحق في القانون وفي الواقع في نفس المعاملة والضمانات التي يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى الخصوص يكون لهم حق مساو لحق الآخرين في أن ينشئوا أو يديروا أو يراقبوا على نفقتهم معاهد خيرية أو دينية أو اجتماعية ومدارس أو غيرها من دور التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها لغتهم الخاصة ، وأن يقوموا بشعائر دينهم بحرية فيها. (3) المذكرة التفسيرية: تبليغ من نائب جلالة الملك إلى حضرة صاحب العظمة سلطان مصر في 3 ديسمبر سنة 1921
يا صاحب العظمة:
إنه بموجب التعليمات التي وصلتني من حكومة جلالة الملك، لي الشرف أن أرفع إلى مقام عظمتكم البيان الآتي المتضمن آراء حكومة جلالته فيما يتعلق بالمفاوضات التي جرت حديثا مع الوفد المرسل من قبل عظمتكم تحت رئاسة صاحب الدولة عدلي يكن باشا، أن حكومة جلالته قدمت إلى عدلي باشا مشروع اتفاق لعقد معاهدة بين الإمبراطورية البريطانية ومصر، كانت حكومة جلالته على استعداد لأن توصي جلالة الملك ومجلس النواب بقبوله، ولكنها علمت بمزيد الأسف أن ذلك المشروع لم يحز قبولا لديه، ومما زاد أسفها أنها تعتبر اقتراحاتها هذه سخية في جوهرها واسعة النطاق في نتائجها، فإنها لا يمكنها أن تبقى محلا لأي أمل في إعادة النظر في المبدأ الذي بنيت عليه تلك الاقتراحات؛ لذلك كان من المستحسن أن تحيط حكومة جلالته علم عظمتكم إحاطة وافية بالاعتبارات الرئيسية التي استرشدت بها، وبالروح التي صدرت عنها تلك الاقتراحات.
إن هناك حقيقة جلية سادت العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر مدة أربعين سنة - ويجب أن تبقى هذه الحقيقة سائدة على الدوام - وهي التوافق التام بين مصالح بريطانيا العظمى في مصر وبين مصالح مصر نفسها. إن استقلال الأمة المصرية وسيادتها كلاهما عظيم الأهمية للإمبراطورية البريطانية. إن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا العظمى وممتلكات جلالة الملك في الشرق، وجميع الأراضي المصرية هي في الواقع ضرورية لهذه المواصلات؛ لأن مصر لا يمكن فصلها عن سلامة منطقة قناة السويس؛ لذلك فإن حفظ مصر سالمة من تسلط أية دولة عظيمة أخرى عليها هو في الدرجة الأولى من الأهمية للهند وأستراليا ونيوزيلاندة ولجميع مستعمرات وولايات جلالته في الشرق، ويؤثر في سعادة وسلامة نحو ثلاثماية وخمسين مليونا من رعايا جلالته. ثم إن نجاح مصر يهم هذه البلاد ليس لأن كلا من بريطانيا العظمى ومصر هي أفضل عملية للأخرى فقط، بل لأن كل خطر جسيم على مصلحة مصر التجارية أو المالية يدعو إلى مداخلة الدول الأخرى فيها ويهدد استقلالها. هذه كانت البواعث الرئيسية للعلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر، وهي لا تزال الآن على ما كانت عليه من القوة في العام الماضي.
لقد اعترف الجميع بما أصاب هذا الائتلاف من النجاح بوجه عام أثناء الحرب العظمى، ولما بدأت بريطانيا العظمى تهتم بمصر اهتماما فعليا كان المصريون فريسة الاحتلال المالي والفوضى الإدارية، وكانوا تحت رحمة أي قادم، ولم يكن في طاقتهم مقاومة ضروب الوسائل القتالة للاستغلال الأجنبي - تلك الوسائل التي تسلب من نفوس الأمة كرامتها، وتمحو قواها الحيوية - فإذا كانت الأمة المصرية الآن أمة نشيطة ذات كرامة، فإنها مدينة لهذه النهضة على الخصوص لمعونة بريطانيا العظمى ومشورتها. إن المصريين سلموا من المداخلة الأجنبية، وأعينوا على إنشاء نظام إداري، وإنه وقد تدرب عدد كبير منهم على إدارة الأمور والحكم واطرد نمو مقدرتهم، ونجحت ماليتهم نجاحا فوق المنتظر، وقد قامت سعادة جميع الطبقات على أسس ثابتة، وفي هذا التقدم السريع لم يكن هناك ظل للاستغلال؛ أن بريطانيا العظمى لم تطلب لنفسها ربحا ماليا أو امتيازا تجاريا. والأمة المصرية قد جنت كل ثمار مشورة بريطانيا العظمى ومساعدتها لها. إن نشوب نار الحرب بين الدول الأوروبية العظمى سنة 1914 زاد بالضرورة عرى الائتلاف توثيقا بين الإمبراطورية البريطانية ومصر، ولما انضمت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا في الحرب لم يكن أثر ذلك قاصرا على تهديد المواصلات البريطانية وحدها، بل كان مهددا لها ولاستقلال مصر على السواء تهديدا عاجلا، فكان إعلان الحماية على مصر اعترافا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا يمكن دفع الخطر عن الإمبراطورية البريطانية ومصر معا إلا بعمل مشترك تحت قيادة واحدة. كان اتساع نطاق الحرب بدخول تركيا فيها السبب في قتل وتشويه آلاف من رعايا جلالة الملك من الهند وأستراليا ونيوزيلاندة ومن رجال بريطانيا العظمى أيضا، وقبورهم في غاليبولي وفلسطين والعراق شاهدة على الجهد العظيم الذي كابدته شعوب الإمبراطورية البريطانية بسبب دخول تركيا. قد اجتازت مصر هذه المحنة دون أن يمسها ضرر بفضل جهود من بعثت بهم تلك الشعوب من الجنود، فكانت خسائر مصر طفيفة، ولم يزد دينها وثروتها لآن أعظم مما كانت قبل الحرب في حين أن الكساد الاقتصادي قد اشتدت وطأته على أكثر البلدان الأخرى، فليس من الحكمة أن الشعب المصري يتغاضى عن هذه الحقائق أو ينسى لمن هو مدين بذلك كله. ولولا القوة التي أبدتها الإمبراطورية البريطانية في الحرب لأصبحت مصر ميدان حرب بين القوات المتحاربة ولوطئت هذه القوات حقوق مصر بأقدامها وأفنت ثروتها، ولولا نصر الحلفاء لم تكن في مصر أمة الآن تطالب بحقوق السيادة الوطنية بدلا عن حماية أجنبية، فالحرية التي تتمتع بها مصر الآن وما تتطلع إليه من حرية أوسع إنما هي مدينة بهما للسياسة البريطانية والقوة البريطانية.
إن حكومة جلالة الملك مقتنعة بأن الاتفاق التام في المصالح بين بريطانيا العظمى ومصر - الذي جعل ائتلافا نافعا لكلتيهما في الماضي - هو دعامة العلاقة التي يجب على كلتيهما استمرار المحافظة عليها، وعلى الإمبراطورية البريطانية الآن - كما كان في الماضي - أن تحمل على عاتقها في آخر الأمر مسئولية الدفاع عن أراضي عظمتكم ضد أي تهديد خارجي، وكذلك عليها تقديم المعونة التي قد تطلبها في أي وقت حكومة عظمتكم لحفظ سلطتكم في البلاد. ثم إن حكومة جلالة الملك تطلب فوق ذلك أن يكون لها دون غيرها الحق في تقديم ما قد تحتاج حكومة عظمتكم من المشورة في إدارة البلاد وتدبير ماليتها وترقية نظامها القضائي ومواصلة علاقاتها مع الحكومات الأجنبية. على أن حكومة جلالته لا ترمي من وراء هذه المطالب إلى منع مصر من تمتعها بكامل حقوقها في حكومة ذاتية وطنية، بل هي ترمي بذلك إلى التمسك بها قبل الدول الأجنبية الأخرى، وهذه المطالب قوامها تلك الحقيقة، وهي أن استقلال مصر واستتباب النظام فيها وسعادتها ركن أساسي لسلامة الإمبراطورية البريطانية. فحكومة جلالة الملك تأسف على أن مندوبي عظمتكم لم يتقدموا أثناء المفاوضات تقدما يذكر في سبيل الاعتراف بما للإمبراطورية البريطانية - دون سواها - من الأسباب الصحيحة للتمسك بهذه الحقوق والمسئوليات.
إن شروط المعاهدة التي تعتبرها حكومة جلالة الملك ضرورية لحفظ هذه الحقوق وكفالة هذه المسئوليات قد أدرجت في مواد المشروع الذي سيرفعه إلى عظمتكم صاحب الدولة عدلي باشا، وأهم هذه الشروط هو ما يتعلق بالجنود البريطانية. فإن حكومة جلالة الملك قد عنيت أتم عناية ببحث الأدلة التي قدمها الوفد المصري في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع أن تقبلها؛ لأن حالة العالم الحاضرة ومجرى الأحوال في مصر منذ عقد الهدنة لا يسمحان بأي تعديل كان في توزيع القوات البريطانية في الوقت الحاضر، ومن الواجب إعادة القول بأن مصر هي جزء من مواصلات الإمبراطورية البريطانية، ولم يكد يمضي جيل على مصر منذ أنقذت من الفوضى، وهناك علامات على أنه لا يبعد على المتطرفين في الحركة الوطنية أن يزجوا بمصر ثانية في الهوة التي لم يطل العهد على إنقاذها منها، وقد زاد اهتمام جلالة الملك بهذا الشأن؛ لما رآه من عدم رغبة وفد عظمتكم في الاعتراف بأن الإمبراطورية البريطانية يجب أن يكون عندها ضمان قوي ضد أي تهديد مثل هذا لمصالحها، وإلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه سلوك مصر مدعاة إلى الثقة بالضمانات التي تعطيها يكون من الواجب على الإمبراطورية البريطانية نفسها أن تستبقي ما تراه كافيا من الضمانات، وأول هذه الضمانات ورأسها هو وجود جنود بريطانية في مصر وحكومة جلالة الملك لا يمكنها أن تتخلى عن هذا الضمان ولا أن تنقص منه.
على أنها تعيد القول وتؤكده بأن مطالبها في هذا الصدد لا يقصد بها استمرار حماية لا فعلا ولا حكما، بل - بالعكس - إن أمنيتها القلبية الخالصة هي أن تتمتع مصر بحقوق وطنية، ويكون لها بين الأمم مقام دولة متمتعة بحق السيادة على أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإمبراطورية البريطانية بمعاهدة تكفل للفريقين مصالحهما وأغراضهما المشتركة؛ ولهذه الغاية التي جعلتها حكومة جلالته نصب عينيها اقترحت رفع الحماية فورا والاعتراف بمصر «دولة متمتعة بحقوق السيادة تحت إمرة ملوكية دستورية»، والاستعاضة عن العلاقات القائمة الآن بين الإمبراطورية البريطانية ومصر «بمعاهدة دائمة رابطة سلام ووداد وتحالف »، وكانت حكومة جلالته تأمل أن مصر بإعادة وزارة الخارجية ترسل ممثليها في الحال إلى الممالك الأجنبية، كما أنها كانت على استعداد لتعضيد مصر في انضمامها إلى جمعية الأمم إذا طلبت ذلك؛ وبذلك كان يتحقق لمصر في الحال ما للدول المتمتعة بحقوق السيادة من السلطة والميزات.
ولكن رفض حكومة عظمتكم الحاضرة لهذه الاقتراحات أوجد حالة جديدة، وهذه الحالة لا تؤثر في مبدأ السياسة البريطانية، ولكنها بالضرورة تقلل من التدابير التي يمكن تنفيذها الآن؛ ولذلك فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن تبدي بوضوح حالة موقفها الآن.
ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء الأمة المصرية واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت لديها على الدوام، وهي العمل على إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين منهم في كل فرع، ولا سيما في الفروع الإدارية العالية التي كثر فيها عدد الموظفين الأوروبيين، وحكومة جلالته مستعدة لأن تواصل بمشاورة حكومة عظمتكم المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي جليا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات، وكذلك ترجو حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون العسكري، تباشرها الحكومة المصرية وحدها بمقتضى القوانين المدنية المصرية، وهي تسر برفع الأحكام العسكرية حالما يصدر «قانون التضمينات» ويعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر.
وهو قانون لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر.
وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارة جلية السياسة التي تنوي اتباعها؛ فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد عظمتكم قد رفض بحجة أن الضمانات التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح البريطانية والأجنبية؛ تقضي على التمتع بالحكومة الذاتية تمتعا صحيحا، وهي تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر واشتراك الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يساء فهم المراد منهما إلى هذا الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية - مهما كانت هذه الأماني صحيحة ومشروعة في ذاتها - دون أن يكترث اكتراثا كافيا بالحقائق التي تستحكم في الحياة الدولية، فإن تقدمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخير فقط بل يتعرض للخطر تعرضا تاما؛ إذ ليس من فائدة ترجى من وراء التصغير من شأن ما على الأمة من الواجبات، وتعظيم ما لها من الحقوق، وأن الزعماء المتطرفين الذين يدعون إلى هذا لا يعملون على نهوض مصر بل يهددون رقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرة بعد مرة الدول الأجنبية في مصالحها وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على التأثير على مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم. وأن حكومة جلالة الملك لا تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج من هذا القبيل، ولن يمكنوا مصر أن تسير في سبيل الرقي إلا متى أظهر قادتها المسئولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا التهييج، فإن العالم الآن تألم من جهات عديدة من الاندفاع في نوع من الوطنية المتعصبة المضطربة، وحكومة جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة سواء في مصر أو في غيرها، وأن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعل القيود الأجنبية التي يطلبون الخلاص منها أشد لزوما، وبذلك يطيلون أجلها.
وإذ كان الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاة لمصلحة مصر ومصلحتها الخاصة أيضا تستمر بلا تردد على مواصلة غرضها كمرشدة لمصر، وأمينة على مصالحها، ولا يكفيها أن تعلم أن في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر بعد أن تركت لنفسها بغير معونة قد عادت إلى عهد التبذير والاضطراب الذي لازمها في القرن الماضي. فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل العمل الذي بدئ به في عهد اللورد كرومر لا أن تبدأه من جديد، وهي لا تنوي أن تبقي مصر تحت وصايتها بل - بالعكس - ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية، وتوسيع مجال العمل أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح الوطني تحقيقا تاما ، ولكنها ترى من الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة على السواء، وذلك إلى أن يظهر الشعب المصري أنه قادر على صيانة بلاده من الاضطراب الداخلي، وما يترتب عليه حتما من تداخل الدول الأجنبية.
وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية البريطانية لا على تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما يتعلق بها إلى البحث في أية طريقة قد تعرض عليها لأجل تنفيذ اقتراحاتها في جوهرها، وذلك في أي وقت تريده حكومة عظمتكم، على أنها مع هذا لا يسعها تعديل المبدأ الذي بنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف الضمانات الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل مصر في أيدي الشعب المصري بنفسه، فكلما زاد اعتراف شعبكم بوحدة المصالح البريطانية ومصالحه قلت الحاجة إلى هذه الضمانات. وقادة مصر المسئولون هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني من اشتراكهم مع بريطانيا العظمى أن يثبتوا، بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن وبالتزام جانب الحكمة في العمل به، أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن توكل لعنايتهم بالتدريج. (4) رد الوفد الرسمي على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر
اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1921.
ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن - فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها مناقشاتنا والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهور - نفس النصوص والصيغ التي عرضت علينا عند بدء المفاوضات ولم نقبلها حينئذ.
فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهمية كبرى - استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد مقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة. على أن حماية المواصلات الإمبراطورية، وهي التي قيل في مفاوضات العام الماضي إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية في القطر المصري، لا تبرر هذا الحل.
ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطة في منطقة القنال تنحصر فيها طرق ووسائل المواصلات الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى حمايتها، نص المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوات عسكرية في كل زمان وفي أي مكان بالأراضي المصرية، ووضع أيضا تحت تصرفها كل ما لدى القطر من وسائل المواصلات وطرقها، وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية. على أن الاحتلال العسكري في الماضي، ولو لم تكن له إلا صفة مؤقتة، قد كفى لأن يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي نص في معاهدة أو تقرير لأية سلطة.
أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عدلت فيها الصيغة الأولى التي كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي؛ إذ لا يتصور أن تتوفر لدى وزير الخارجية الحرية التي يقتضيها القيام بأعباء منصبه وتحمل مسئوليته إذا كان ملزما بنص صريح بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعا في الواقع لمراقبته مباشرة في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك فإن الالتزام بالحصول على موافقة بريطانيا العظمى على جميع الاتفاقات السياسية - حتى ما لا يتناقض منها مع روح التحالف - فيه إخلال خطير بمبدأ السيادة الخارجية. وأخيرا فإن استبقاء لقب المندوب السامي، وهو لقب لم تجر العادة بمنحه إلى الممثلين السياسيين لدى البلاد المستقلة، لهو أوضح في الدلالة على طبيعة النظام السياسي المقترح لمصر.
ومن جهة أخرى فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة، وأن المفاوضة بشأنها في المستقبل تكون موكولة إلى مصر صاحبة الشأن الأول مع معاونتها في ذلك سياسيا من جانب حليفتها. ولكن المسألة منظور إليها اليوم كأنها تعني على الأخص بريطانيا العظمى التي تتولى من الآن حماية المصالح الأجنبية، وتريد أن تباشر وحدها عند الاقتضاء المفاوضات بشأن إلغاء الامتيازات.
أما فيما يتعلق بالمندوبين (القوميسيرين) المالي والقضائي، وبتداخلهما في إدارة الشئون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تداخلا قد يصل في بعض الأحوال فيما يختص بالمندوب (القوميسير) المالي إلى شل سلطة الحكومة والبرلمان، فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه من الاعتراضات في مذكراتنا.
على أنه يتحتم علينا القول بأن المناقشات التي تلت تأجيل مسألة الامتيازات بعثت في نفوسنا الشعور بأن الاتفاق فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية سيقوم على قواعد أكثر ملاءمة للسيادة المصرية.
أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه وحق السيطرة على مياه النيل. •••
إن الملاحظات المتقدمة لا تجعل ثمة حاجة إلى مناقشة المشروع تفصيلا؛ إذ فيها ما يكفي للدلالة على روحه ومرماه، وغير هذا فقد التزم المشروع تكرار ذكر تعهدات بريطانيا العظمى و«المسئوليات الخصوصية» الواقعة على المندوب السامي، وكذلك الغرض الجديد - وهو قصد صيانة المصالح الحيوية لمصر - الذي اتخذ سببا لوجود القوة العسكرية، وبهذا تتم للمشروع صيغة الوصاية الفعلية.
إنا لما قبلنا المهمة التي عهد بها إلينا عظمة السلطان كنا نؤمل الوصول إلى إبرام معاهدة تحالف مؤيدة لاستقلال مصر تأييدا حقيقيا، وكفيلة في الوقت نفسه بصيانة المصالح البريطانية، وعندئذ فإن مصر حليفة بريطانيا العظمى كانت تعد من واجبات كرامتها الوفاء بإخلاص بما تقطعه على نفسها من العهود، ولكن التحالف بين أمتين لا يمكن أن يتحقق إلا على شريطة أن لا يقضى على إحداهما بالخضوع الدائم.
وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح المفاوضات، ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق هذا الأمل، فهو بحالته لا يجعل محلا للأمل في الوصول إلى اتفاق يحقق أماني مصر الوطنية.
لوندره في 15 نوفمبر سنة 1921 (5) الوثيقتان الجديدتان: كتاب اللورد اللنبي إلى عظمة السلطان
يا صاحب العظمة (1)
أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل بعض عبارات المذكرة التفسيرية التي قدمتها إلى عظمتكم في الثالث من شهر ديسمبر مذاهب تخالف أفكار الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف. (2)
ولقد يخال المرء مما نشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرا من المصريين ألقي في روعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نواياها القائمة على التسامح والعطف على الأماني المصرية، وأنها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص بمصر؛ لاستبقاء نظام سياسي إداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها. (3)
غير أنه ليس شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل إن الأساس الذي بنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقة أو حكما، وقد نصت المذكرة على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من ميزات أهلية ومن مركز دولي. (4)
وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي يلتئم مع حالة البلاد الحرة فقد غاب عنهم أن إنكلترا إنما ألجأها إلى ذلك حرصها على سلامة نفسها تلقاء حالة تتطلب منها أشد الحذر خصوصا فيما يتعلق بتوزيع القوات العسكرية. على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولا يلبث كذلك أن يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن الأحوال العالمية صائرة إلى التحسن. هذا من جانب، ومن جانب آخر - فكما قيل في المذكرة - سيجيء وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تقدمه هي من الضمانات المصرية لصيانة المصالح الأجنبية. (5)
أما أن تكون إنكلترا راغبة في التداخل في إدارة مصر الداخلية، فذلك ما قالت فيه الحكومة البريطانية - ولا تزال تقول - إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن تترك للمصريين إدارة شئونهم، ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق الذي عرضته بريطانيا العظمى عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي المالية والحقانية، فإن الحكومة البريطانية لم ترم بذلك إلى استخدامهما للتداخل في شئون مصر، وكل ما قصدته هو أن تستبقي أداة اتصال تستدعيها حماية المصالح الأجنبية. (6)
هذا هو كل مرمى الضمانات، ولم تصدر هذه الضمانات قط عن رغبة في الحيلولة بين مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية. (7)
فإذا كانت هذه هي نوايا إنكلترا، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن إنكلترا يعز عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمحا ترغب فيه إنكلترا كما تتوق إليه مصر، أو أن ينكر أنها تكره أن ترى نفسها مضطرة إلى التداخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب ويجعل مصالح الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون في التدابير الاستثنائية التي اتخذت أخيرا أي مساس بمطمحهم الأسمى أو أية دلالة على تغيير القاعدة السياسية التي سبق بيانها. فإن الحكومة البريطانية لم يعد غرضها أن تضع حدا لتهييج ضار قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج تذهب بثمرة الجهود القومية المصرية؛ ولذلك كان الذي روعي بوجه خاص فيما اتخذ من التدابير مصلحة القضية المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري في جو قائم على الهدوء والمناقشة بإخلاص. (8)
والآن وقد بدت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكمة التي هي قوام الخلق المصري، والتي تتغلب في الساعات الحاسمة، فإنني لسعيد أن أنهي إلى عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار التصريح الملحق بهذا، وإنني على يقين بأن هذا التصريح يوجد حالة تسود فيها الثقة المتبادلة، ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلا نهائيا مرضيا. (9)
وليس ثمة ما يمنع منذ الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر. (10)
أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم وإلى الشعب المصري.
وإذا أبطئ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر - والذي أشير إليه في التصريح الملحق بهذا - فإنني أود أن أحيط عظمتكم بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في 2 نوفمبر سنة 1914 سأكون على استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحرية المصريين في التمتع بحقوقهم السياسية.
فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليرجى أنها وقد عرفت مبلغ حسن استعداد الحكومة البريطانية ونواياها تسترشد في أمرها بالعقل والروية لا بعامل الأهواء.
ولي مزيد الشرف، إلخ.
القاهر في 28 فبراير سنة 1922
اللنبي فيلد ماريشال (6) تصريح لمصر
بما أن حكومة جلالة الملك عملا بنواياها التي جاهرت بها ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية.
فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية: (1)
انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة. (2)
حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) نافذ العمل على جميع ساكني مصر تلغى الأحكام العرفية التي أعلنت في 2 نوفمبر 1914. (3)
إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور، وهي: (أ)
تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (ب)
الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تداخل أجنبي بالذات أو بالواسطة. (ج)
حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات. (د)
السودان.
وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن. (7) تأليف الوزارة الجديدة: أمر كريم نمرة 13 لسنة 1922 صادر لحضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا
عزيزي عبد الخالق ثروت باشا
إن القرار الذي أبلغنا إياه صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمى فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر بالاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة، يحقق أعز أمنية لنا ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن استمساك الأمة بروابط الوئام والاتحاد والتزامها جانب الحكمة في هذا الدور الجديد من حياتها السياسية كفيل بتحقيق كامل أمانيها.
ونظرا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا من الثقة التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه سند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدتكم، وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة يكون من بينها وزير للخارجية، وعرض مشروعه لجنابنا لصدور مرسومنا العالي به، ولما كان من أجل رغباتنا أن يكون للبلاد نظام دستوري يحقق التعاون بين الأمة والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تعنى به الوزارة إعداد مشروع ذلك النظام.
وإنا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا بالخير والسعادة، وهو المستعان.
صدر بسراي عابدين
في 2 رجب سنة 1340 / أول مارس 1922
الإمضاء: (فؤاد)
برنامج الوزارة
يا صاحب العظمة
أتقدم إلى سدة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلت فأوليتني من الثقة السامية إذ عهدت إلي بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهت إلي رتبة الرئاسة الجليلة.
وإني لأتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم هيئة الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل، وهم:
إسماعيل صدقي باشا
لوزارة المالية
وإبراهيم فتحي باشا
لوزارة الحربية والبحرية
وجعفر ولي باشا
لوزارة الأوقاف
ومصطفى ماهر باشا
لوزارة المعارف العمومية
ومحمد شكري باشا
لوزارة الزراعة
ومصطفى فتحي باشا
لوزارة الحقانية
وحسين واصف باشا
لوزارة الأشغال العمومية
وواصف سميكة بك
لوزارة المواصلات
وقد احتفظت بوزارتي الداخلية والخارجية.
فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان لدى عظمتكم يصدر المرسوم العالي بالتصديق عليه.
يا صاحب العظمة
لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال، إلا أن نقر الوفد الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل. فلم يكن يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ التي تسترشد بها الحكومة البريطانية في سياستها نحو مصر هي تلك التي كانت تظهر من مشروع 10 نوفمبر من العام الماضي، ومن المذكرة التفسيرية التي تلته، فإن تولي الحكم في ظل مثل هذه المبادئ قد يكون فيه معنى القبول بها.
غير أن الكتاب الذي رفعه فخامة المندوب السامي البريطاني إلى عظمتكم، وتصريح الحكومة البريطانية في البرلمان، قد أحدثا في الحالة تغييرا كبيرا، فأصبح من الممكن أن تتألف هذه الوزارة؛ إذ إنها ترى أن الشعور القومي أصاب ترضية من هاتين الوثيقتين، لا من ناحية الاعتراف باستقلال مصر حالا وقبل أي اتفاق فحسب، بل ولأن المفاوضات المقبلة ستكون حرة غير مقيدة بأي تعهد سابق.
أما وقد جزنا هذا الدور بخير، فلم يبق على مصر إلا أن تثبت لبريطانيا العظمى أن ليس بها في سبيل حماية مصالحها من حاجة للتشدد في طلب ضمانات قد يكون فيها مساس باستقلالنا، وأن خير الضمانات في هذا الصدد وأجلها أثرا هي حسن نية مصر ومصلحتها في حفظ العهود.
على أن الوزارة ترى أنه لكي تكون جهود البلاد في سبيل تحقيق كامل أمانيها بحيث تؤتي جميع ثمرها، يجب أن يؤلف بين عمل الحكومة وبين عمل هيئة تنوب عن الأمة، وأن تسعى الهيئتين متساندتين لأغراض متحدة؛ ولذلك فإن الوزارة عملا بأوامر عظمتكم ستأخذ في الحال في إعداد مشروع دستور طبقا لمبادئ القانون العام الحديث، وسيقرر هذا الدستور مبدأ المسئولية الوزارية؛ ويكون بذلك للهيئة النيابية حق الإشراف على العمل السياسي المقبل.
وغني عن البيان أن إنفاذ هذا الدستور يقتضي إلغاء الأحكام العرفية، هذا وإن إعادة منصب وزير الخارجية سيعين على العمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر في الخارج.
ونظرا لأن النظام الإداري الحالي لا يتفق مع النظام السياسي الجديد ومع الأنظمة الديموقراطية التي ستمنحها البلاد، فإن الوزارة قد اعتزمت أن تتولى الأمر بنفسها وبلا شريك في الحكم الذي ستتحمل كل مسئوليته أمام الهيئة النيابية المصرية، وسيكون رائدها في إدارة شئون الأمة توجيهها إلى المصلحة القومية دون غيرها، والوزارة موقنة بأن أكبر عامل لنجاح مصر في تسوية المسائل التي بقي حلها، وأقوى حجة تستعين بها في تأييد وجهة نظرها، هو أن تقبل على هذا الدور الجديد متحدة الكلمة مؤتلفة القلوب، وأن تأخذ بدواعي النظام، وتلتزم جانب الحكم.
والوزارة تحيي العصر الجديد الذي كان لعظمتكم أجل أثر في طلوعه على الأمة بفضل ما بذلته عظمتكم من المساعي الوطنية العالية، وهي واثقة أن ستلقى من لدن عظمتكم كل تأييد في عمل الغد، وإنها لترجو أن يجيء مكللا لمجهود البلاد.
وإني لا أزال لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين.
ثروت
القاهرة في 2 رجب سنة 1340 / أول مارس سنة 1922 (8) خطب ثروت باشا في وفود المهنئين ملخصة في مقطم 21 مارس سنة 1922 - خلاصة خطب ثروت باشا في وفود الأعيان يوم 21 مارس سنة 1922
إن مصر خطت الخطوة العظمى في سبيل الاستقلال وذلك بفضل أهلها، كل على قدر اشتراكه في الاتحاد والتضامن في سبيل الاستقلال. فهم - أي الوفود - يهنئون دولته به ويشكرونه عليه، ولكن دولته يرد ثناءهم إليهم، ويشكر الأمة وأبناءها الذين جدوا وجاهدوا لنيل هذا الاستقلال بتضامنهم، واتحاد كلمتهم حتى حصلوا على هذه النعمة العظمى من نعم الله التي يجب عليهم التحدث بها على الدوام. قال: فلقد حضر هذا الصباح معتمدو الدول الأجنبية إلى سراي عابدين العامرة لجلالة الملك، فقدمهم دولته إلى جلالته واحدا واحدا، ثم خطب أقدمهم عهدا فهنأ جلالته باستقلال مصر مجاهرا على رءوس الأشهاد.
ثانيا: إنه إذا قلنا إن مصر خطت الخطوة العظمى في سبيل الاستقلال، فليس المراد من ذلك أن مصر لم تحصل على استقلالها؛ لأنها حصلت عليه من الوجهة الوطنية المصرية، وإنما المراد أنه لا يزال أمام مصر مفاوضات يلزمها أن تفاوضها من الوجهة البريطانية؛ لأن إنكلترا تطلب من مصر ضمانات، فقد كانت إنكلترا قابضة على استقلال مصر وهي تقول لنا: إنه وديعة بيدي أسلمكم إياه متى أعطيتموني الضمانات التي أطلبها منكم، وكان دولته ينتقل من هذا الكلام إلى الكلام عن الوفد المصري الرسمي، ويطري مآثر صاحب الدولة عدلي باشا فيه، وامتناعه عن أن يقيد الأمة بإعطاء الضمانات المطلوبة حتى عاد دولته ورفاقه من دون أن يتم الاتفاق على الاستقلال المطلوب. وانحاز ثروت باشا وغيره من الوزراء الباقين في هذا القطر إلى دولة عدلي باشا وقالوا قوله ورفضوا ما رفضه، وهكذا فضل أعضاء الوزارة الحالية معتمدين في ذلك كله على اتحاد الأمة وحسن تضامنها وصدق غيرتها وعزيمتها؛ حتى قدر الله أن رضيت إنكلترا بتسليم وديعة الاستقلال إلى مصر، وأن لا تطالب الوزارة المصرية أية كانت بالضمانات التي تريدها، بل تطالب الأمة المصرية ذاتها. فنالت مصر استقلالها وفازت بحريتها وهي لم تقيد بشيء ولا أخذ عليها عهد ما. والآن تسعى الوزارة في إنشاء برلمان مصري يكون له القول الفصل في مسألة الضمانات الإنكليزية. قال دولته: «فإذا بحث نواب أمتكم في تلك الضمانات ووجدوها مطابقة لاستقلالهم ومصلحة بلادهم قبلوها، وإذا لم يجدوها كذلك رفضوها وهم أسياد في بلادهم.» ثم كان دولته يتخلص من ذلك.
ثالثا: إن الفوز التام في سبيل هذا الاستقلال إنما ينال إذا سلكت الأمة سبيل العقل والروية، وحافظت على السكون وتمام النظام، وأظهرت للأوروبيين جميعا أنها أمة تحسن السير، وتستطيع التقدم في مراتب الكمال بعد تمتعها بنعمة الاستقلال. قال دولته: «وهذا يتوقف أمره عليكم ويطلب منكم، والحكومة ترجو أنكم تضافرونها عليه وتكونون لها عونا فيه، فهي مستعدة لأن تضع بيدكم ما يلزم لحفظ السكون والنظام من وسيلة وعدة من الوسائل المشروعة، وعاقدة النية على أن لا تدخر وسعا في تأييد النظام، وشد أزر المحافظين عليه، والضرب على كل يد تعبث به وتعيث فسادا في البلاد، وهي مصممة أيضا على أن تفرغ جهدها في عمل كل ما تقتضيه مصلحة البلاد من الأعمال، وما يقتضيه السكون والنظام، وتقدم البلاد والعباد في الراحة والرفاهة. وترجو أن الأمة تتأنى في حكمها على عملها، ولا تتسرع بالإصغاء إلى الأقوال التي لا تطابق الواقع حتى يتضح لها الغث من الثمين والصدق من المين؛ فتحكم حكمها بعد ذلك.» وكانت الوفود تقابل أقوال دولته بالهتاف والدعاء، وخصوصا عند ذكر دولة عدلي باشا، وكانت تهتف طويلا وتصفق كثيرا. (9) خطبة صاحب الدولة ثروت باشا في مأدبة الكونتننتال
حضرات السادة الأجلاء
إني أغتبط الاغتباط بموقفي بينكم في هذا اليوم السعيد الميمون الذي هو أول عيد لميلاد مولانا المعظم بعد إعلان استقلال البلاد.
أرى أيها السادة من واجبي قبل كل شيء أن أنحني بكل احترام وإجلال تحية لصاحب عرش مصر على ما أبداه من التفاني في شد أزر أمته والأخذ بناصرها في هذا الدور العظيم من أدوار تاريخها الطويل المجيد.
لقد كان من بواعث سعادتي أن رأيت بنفسي عن كثب ما قام به مليكنا النبيل من الجهاد في القضية المصرية، فأثبت بهذا أن الدم لا يكذب، وكتب لنفسه في تاريخ المجد صحيفة خالدة جديرة بابن إسماعيل وحفيد إبراهيم ومحمد علي، فليحيا سيد مصر المستقلة، ولنهتف جميعا من قلب مفعم بالإخلاص والولاء: ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول.
ثم نحيي بعد ذلك هذه الأمة الكريمة التي عرفت قدر نفسها، واستمسكت بحقها، وأبت أن تتنازل عما يوجبه عليها تاريخها الحافل بالعظائم، ويحتمه عليها ماضيها العظيم، وأظهرت من الحكم وسداد الرأي ما أكسبها احترام الأمم، وجعلها جديرة بما تطمح إليه من المستقبل الزاهر. فإنه إذا كان لأحد فضل فيما وصلنا إليه وفي ما سنصل إليه بعون الله وتأييد مليك البلاد، فإن الفضل في الواقع للأمة بأجمعها، ولما أبداه كل فرد منها كبيرا أو صغيرا في صدق الوطنية وروح التضحية.
أيها السادة؛ أنتم من صفوة أبناء الأمة، ومن خيرة أهل الفضل والحجى فيها، ولكم أكبر مصلحة في نجاحها ويسرها، فأنا أنتهز هذا الظرف السعيد لكي أكاشفكم بما يجول في نفسي، وأخاطبكم اليوم لكي أستمد العون والتعضيد منكم على ما أنا ماض فيه مع زملائي، فإنما نحن لكم نعمل وبكم نعتز، وليس لنا من الحول إلا بمقدار ما نرى منكم من الأخذ بناصرنا، وما تولونا من ثقة.
لنرجع إذن أيها السادة قليلا إلى الوراء لنتعرف الحالة على حقيقتها، ولنتبين منها أهمية الخطوة التي خطوناها أخيرا.
بسطت بريطانيا العظمى حمايتها على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 على أثر دخول تركيا الحرب العامة وانضمامها إلى دولتي الوسط، وأعلنت في تبليغها للمغفور له السلطان حسين كامل أن جميع الحقوق التي كانت لتركيا قد سقطت عنها، وآلت إلى الحكومة البريطانية، ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها تعتبر هذه الحقوق وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري.
كانت نيران الحرب مشتعلة والنفوس ثائرة، وقد أوشكت أركان الحضارة أن تنهار، وأصبح مصير الشعوب معلقا في ميزان القدر. فلم يكن في وسع مصر إلا أن تصبر حتى تنجلي هذه الكارثة ويتبين وجه الحق، وأقبلت على بريطانيا تنجدها نجدة الكريم للكريم، ولم تدخر جهدا في سبيل مدها بالمعونة حتى بسم ثغر النصر، فلما أمضيت الهدنة بادرت مصر تقاضي إنكلترا ما وعدت به في إعلانها من أن حقوق تركيا وديعة تحت يدها لسكان مصر، وتطالبها برد الوديعة لأصحابها.
ولا أرى داعيا إلى الإسهاب في بيان ما وضع في هذه السنوات من الجهاد الطويل، وما حدث فيه من التطور في الأفكار، فكلكم اشترك فيه، وكلكم كان من المجاهدين، ولكني أذكركم أني كنت في ذلك العهد عضوا في الوزارة متشرفا فيها برياسة ذلك الوطني الجليل حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا وزميله الصديق الوفي الأمين دولة عدلي باشا، فأبت الوزارة أن تسكت على حق مصر أو تقبل في هذا الحق هوادة أو تسويفا، فلما حالت الحكومة البريطانية بيننا وبين إبداء ما نريد كانت الاستقالة المعروفة، ولا ينكر أحد ما كان لهذه الاستقالة من الأثر في تاريخ الحركة المصرية.
كان المذهب الذي تذهب إليه الحكومة البريطانية في بادئ الأمر أن مصر قد دخلت في دائرة الحماية فلن تخرج منها، وقد أوفدت اللورد ملنر إلى مصر لكي ينظر في خير الأنظمة لهذه البلاد في دائرة الحماية، فلما تبين لها أنه ما من مصري يرضى بتلك الحماية التي فرضت على مصر فرضا لضرورات خاصة، تحولت عن موقفها الأولي، وانتهى بها الأمر إلى الاعتراف بأن الحماية لم تعد علاقة مرضية، وطلبت إلى مصر المفاوضة في إبدال هذه العلاقة بغيرها.
يتبين لكم من هذا أن السياسة البريطانية تجاه مصر كانت قائمة على أن إلغاء الحماية لا يمكن أن يتم إلا في مقابل علاقة جديدة تحل محلها، وعلى أن لبريطانيا العظمى في هذا القطر مصالح جوهرية لا بد لها من تأمينها وضمانتها، فلن تعترف باستقلالنا إلا متى أعطيناها هذه الضمانات.
وإنا أيها السادة نعتقد أن خير ضمانة لمصالح إنكلترا ومصالح جميع الدول الأجانب على السواء، هو حرص مصر نفسها على حسن سمعتها كدولة متمدنة راقية، ومصلحتها في حفظ عهودها. فلقد أخذنا بأسباب الرقي من عهد بعيد، وأدخلنا إلى بلادنا الأنظمة الحديثة، ونشرنا فيها راية العرفان، وأوفدنا البعثات العلمية إلى البلاد الغربية، وبالإجمال نهضنا من عهد محمد علي نهضة عظمى حتى صح أن يقال إن مصر قطعة من أوروبا، ومع هذا، فإن الأمة المصرية لأجل إثبات حسن قصدها وشديد رغبتها في الاتفاق مع بريطانيا العظمى وتبديد مخاوفها، سلمت مبدئيا بفكرة الضمانات، وإنما بشرط أساسي لا محيص عنه، وهو أن لا تتعارض هذه الضمانات مع الاستقلال، وعلى أمل أن لا تلبث الحال قليلا حتى ترى إنكلترا ذاتها أن لا حاجة بها إلى هذه الضمانات.
تشكلت الوزارة العدلية لتتولى المفاوضة في القضية المصرية بعد أن أعلنت الحكومة الإنجليزية رأيها، ولا يمكنني أن أترك ذكر هذا الحادث يمر دون أن أقوم بواجب أشعر به نحو ذلك الذي كان مثلا في الوطنية ونكران الذات، وأعني به دولة رشدي باشا؛ لقد تولى دولته رياسة الوزارة قبل ذلك مرات عدة، وبلغ أسمى مقام يمكن أن يطمح إليه إنسان، ومع ذلك فإنه قبل أن يدخل عضوا في الوزارة الجديدة - لأن البلاد كانت في تلك الساعة في حاجة إلى مواهبه وعلمه - فما تردد في إجابة نداء الواجب ولم يقعده عن ذلك اعتبار من الاعتبارات.
سافر الوفد الرسمي إلى إنكلترا وعلى رأسه ذلك الرجل الكبير القلب الكبير النفس عدلي يكن باشا للمفاوضة في عقد اتفاق، وقد أخذ على نفسه أن يعمل على تحقيق الاستقلال، وعاهد أمته - بل عاهد قبل ذلك ضميره وربه - على أن لا يقبل اتفاقا يخل بهذا الاستقلال بأي وجه من الوجوه.
طالت المفاوضات شهورا بين الرجاء واليأس إلى أن تكشفت عن المشروع الذي قدمته بريطانيا العظمى إلى الوفد في 10 نوفمبر من العام الماضي، وهو المشروع الذي عرف بين الناس باسم مشروع كرزون.
نظر عدلي باشا إلى المشروع فرأى أن بريطانيا العظمى غالت فيما طلبته من الضمانات، وأن هذه الضمانات لا تتفق وما عاهد به أمته من استقلال لا تحوطه ريبة، فما تردد لحظة في رفض برد اقترنت فيه الحكمة بالشمم، والبراعة السياسية بعزة النفس. كان في وسعه أن يعرض المشروع على أمته، وأن يلقي على عاتقها مسئولية قبوله أو رفضه، ولكن عدلي عرض المشروع على ضميره أولا فكان نصيبه الرفض.
أيها السادة: سينشر يوما من الأيام ما طوي من الصحائف، وما خفي من أسرار المفاوضات حينئذ يعلم بنو مصر جميعا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نيل استقلالها، والتي تأبى أن توقع على صك يضعف هذه الشخصية. إنما الوطنية الصحيحة، الوطنية الصادقة تعمل ولا تتكلم، وكل همهما موجه إلى جلب النفع للوطن. فلزم عدلي باشا الصمت. كان خصومه يرمونه بأشنع ما يرمى به إنسان من نقص في الوطنية وضعف في العقيدة القومية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيا عظيما في صمته كما كان وطنيا عظيما في حسن دفاعه، ولقد أعلنا تضامننا مع الوفد في رفضه للمشروع وفي رده عليه. نعم أيها السادة، كنا وما زلنا ولن نزال نقر الوفد على ما فعل في هذا الرفض؛ لأننا نأبى كل الإباء أن نقر أي اتفاق أو تعاقد ينقض استقلال بلادنا.
ولكن بريطانيا العظمى أمسكت بالمشروع في يدها، ولوحت بالاستقلال التام أمام عيوننا، وقالت: ها أنا ذا على استعداد للاعتراف لكم بالاستقلال، ولإلغاء الحماية المفروضة عليكم، ولكن بشرط أن أتقاضى منكم ثمنه. قلنا: وما هو الثمن؟ قالت: أن تعطوني ما أطلبه من الضمانات المبينة في المشروع، فإن فعلتم كان لكم ما تريدون، وإن أبيتم فالحماية باقية في أعناقكم.
قال الوفد الرسمي كلا، وقلنا نحن كلا، وقالت البلاد كلها بصوت واحد كلا؛ لأننا نريد استقلالا صحيحا، ولأن ما تعترف به إنكلترا في المشروع تهدمه هاتيك الضمانات.
أما اليوم فقد تغيرت الحال؛ فإن بريطانيا العظمى قد ألغت الحماية على مصر، ألغتها ولم تتقاض ذلك الثمن الذي جعلت تقاضيه منا شرطا لإلغائها، ونادى جلالة ملكنا المعظم بأن بلادنا دولة مستقلة تامة السيادة، وأبلغنا هذا النطق الملكي من وزارة خارجيتنا إلى وكلاء الدول الأجنبية في مصر، كما أبلغهم إياه جناب المارشال اللنبي، فجاءنا رد هؤلاء الوكلاء بوصول البلاغ إلى دولهم، وبادرت الوزارات الأجنبية بتقديم تهانئها إلى حكومتنا على هذا العهد الجديد، وأرسل الملوك ورؤساء الجمهوريات إلى جلالة الملك فؤاد الأول تهانيهم بالاستقلال.
أيها السادة: لقد كنا لغاية سنة 1914 مستقلين استقلالا داخليا تحت سيادة الدولة العثمانية، فلما نشبت الحرب العامة، وسقطت سيادة تركيا عنا أصبحنا مستقلين حكما، ولكن تمسك بريطانيا العظمى بانتقال حقوق تركيا إليها بحكم إعلان الحماية حال بيننا وبين استقلالنا.
أما اليوم فقد سقطت الحماية أيضا دوليا بصورة نهائية فأصبحت مصر دولة مستقلة في نظر الدول جمعاء.
ومهما كان رأي الناس في أمر الحماية واختلاف نظرهم إليها من جهة صحتها أو بطلانها، فمما لا نزاع فيه أن بعض الدول وافقت عليها، وأنه من الوجهة الدولية أصبحت هذه الحماية صحيحة على الأقل في نظر هذه الدول، أما اليوم فقد انتهى الأمر وسواء كانت هذه الحماية صحيحة أو باطلة فقد عفت آثارها.
يقولون ولكن بريطانيا قد احتفظت بأمور معينة كانت مبينة في المشروع الذي رفضته البلاد، وجوابي أن هذه الأمور احتفظت بها بريطانيا من تلقاء نفسها، وبمحض إرادتها، ومن غير أن نوقع لها صكا بإقرارها، ولكن مشروع المعاهدة كان يجعل قبول هذه الضمانات شرطا أساسيا لإلغاء الحماية، وهناك على ما أظن فرق كبير بين أن تكون الضمانات صادرة عن إرادة إنكلترا وبين أن تكون إنكلترا حاصلة عليها بصفة شرعية برضى مصر.
وفضلا عن هذا فإن إنكلترا قد احتفظت بهذه الضمانات بصفة عامة دون تعرض للتفاصيل. وقد سبق أن بينا أن مبدأ الضمانات في ذاته سلمت به غالبية الأمة، وإنما كان الاختلاف يقع عند التفصيل، والتصريح الأخير اكتفى بالإجمال واجتنب التفصيل. ثم إن الحكومة البريطانية في تبليغها إلى جلالة الملك لم يسعها إلا الاعتراف بأن الأمور المحتفظ بها تكون محلا لمفاوضة مقبلة جمة غير مقيدة، فبقي حق مصر كاملا حتى لو رجعنا إلى هذا التبليغ.
وفوق هذا كله فإنا أبينا أن نرتبط أي ارتباط بأي أمر من هذه الأمور، وقلنا إن الكلمة الأخيرة في ذلك تكون للبلاد ممثلة في برلمانها.
وبالإجمال فإن مصر خرجت من هذه المعركة السياسية فائزة بالمزايا التي كانت تسعى إلى تحقيقها دون أن ترتبط بأي ارتباط، أو تلتزم بعهد يقيد حريتها في العمل فيما بقي، وأن استقلالها أصبح معترفا به من الدول.
نترك هذا الموضوع، وننتقل إلى نظام الحكم في بلادنا.
لقد جعلنا أساس برنامجنا فيما يتعلق بالحكم أن تكون لبلادنا هيئة نيابية، وأن تكون الوزارة مسئولة أمامها عن كل أعمالها فما تستطيع البقاء في منص الحكم إلا إذا أولاها البرلمان ثقته، فحققنا بذلك دفعة واحدة ما بح صوت البلاد في المطالبة به سنوات عديدة فلم تظفر بطائل، وما لم يحصل عليه كثير من البلاد إلا بعد أن بذلت في سبيله جهدا كبيرا.
ويترتب على هذا النظام - بطبيعة الحال - أن يكون للوزارة تمام الحرية في تولي إدارة البلاد وسياستها دون أن يشاركها في ذلك أحد؛ لأن تحمل المسئولية يفترض في ذاته حتما هذه الحرية؛ إذ مما لا يمكن تصوره أن يكون للبرلمان الكلمة العليا في شئون البلاد والإشراف عليها، وتكون الوزارة مسئولة أمامه عن هذه الشئون، فلا تبقى في مساندها إلا بسيرها على إرادته، وتوخيها إنفاذ مقاصده، ثم تكون في الوقت ذاته خاضعة لأية سلطة أخرى فيما يتعلق بالشئون عينها.
على أننا أيها السادة لم ننتظر إنفاذ النظام البرلماني حتى نأخذ المسئولية على عاتقنا، بل نحن قد أخذناها على عاتقنا من أول لحظة، وأصبحت إدارة شئون البلاد في يدنا بتمام الحرية، فلم يبق للمستشارين هذا الأثر الذي كلكم كنتم تعرفونه، وتحسون به، وأصبحت كلمتهم لا تخرج عن حد المشورة، ولا أريد الحوادث فأخبركم بما سيكون في القريب العاجل.
والخلاصة في هذا الباب: أن مصر الآن من الوجهة الداخلية أصبحت أمورها بيد أبنائها، وأنها ستصبح في القريب العاجل ذات نظام دستوري على أحدث النظم العصرية.
ولم يبق علينا إلا أن نقنع إنكلترا أن ليس بها من حاجة إلى التمسك بالضمانات التي تريد الاحتفاظ بها، فتخطو بريطانيا العظمى خطوة أخرى بالاكتفاء بما لا يتنافى منها مع استقلالنا الشرعي.
أيها السادة؛ ليس لدينا وسيلة لتأييد ما نذهب إليه أكبر من تعلقنا بأهداب السكينة، والتزامنا الهدوء، وأخذنا بأسباب النظام؛ فإن حجتهم الكبرى في ما يبدونه من رغبة في الضمانات هي شدة حذرهم على مصالحهم، وخوفهم عليها، وعدم اطمئنانهم في تركها لعهدتنا، فإذا قضينا على عوامل الفتنة والاضطراب، وجعلنا التزام السكينة رائدنا؛ فإننا نثلم هذا السلاح بأيديهم وندفع حججهم علينا، ولا مشاحة في أن كل من يعمل على تعكير السلام أو إثارة الاضطراب مجرم في حق وطنه عامل على هدم كيانه.
على أن خصومنا السياسيين لا يرون أننا فعلنا شيئا، أو أن الوثائق الجديدة تحوي أمرا جديدا، وأن إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال وتبليغه للدول واعتراف هذه الدول به، وإدخال النظام النيابي الكامل، وتقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام البرلمان، كل هذا لا يعد شيئا مذكورا في نظر بعض الناس متى جاء على يد خصومهم.
لا غرابة في ذلك، فإن للاعتبارات الشخصية عند البعض مقاما فوق كل مقام؛ تقولوا علينا الأقاويل، وأذاعوا عنا ما أذاعوا في طول البلاد وعرضها، وزعموا أن الوزارة ستتعرض لحرية الانتخابات، وأن البرلمان سيكون ألعوبة في يدها. من أين أتاهم علم الغيب؟ ومن أين جاءهم أنها ستعمل ذلك؟ وأية مصلحة لها في أن لا تتعرف من الأمة إلا رأيا فاسدا لا يتفق ورأيها الصحيح؟
لقد نسوا أنهم بهذا يرمون أمتهم بأقبح التهم، وينسبون إليها أنها تنقاد كالأنعام، وتستسلم استسلاما أعمى للحكام حتى فيما يعود على الوطن بالتلف والمذلة.
لقد نسوا أو تناسوا أيها السادة أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمن، ثم نخلي السبيل لغيرنا، أما النظام الدستوري فهو نظام ثابت دائم، وهو أتم ما وصل إليه الناس إلى اليوم لتمثيل الأمة أحسن تمثيل، وللإشراف على الحكم باسمها، سنذهب نحن أما النظام فسيبقى. وعجيب أن رجالا يتولون الحكم زمنا قصيرا يعملون على تحقيق مثل هذا النظام الصالح لكي يجعلوه أداة في يدهم وسلاحا يشهرونه في وجه خصومهم.
أيها السادة لن تكون الانتخابات سرا مكتوما فستشتركون جميعكم فيها؛ بل يشترك فيها كل مصري له حق الانتخاب، وستذاع أخبارها وتتناقلها الأفواه، وسترون بأنفسكم أن الحكومة بريئة مما يتهمونها به، وأن هذه التهم وليدة الظن الأثيم.
إنني أعتقد أن تحقيق النظام البرلماني لصحيفة فخار - ولو أن الفخر كله في الأمة وإليها - فلن يبلغ بنا سوء الرأي إلى تسويد هذه الصحيفة بمثل ما ينسبون إلينا من التداخل المعيب، فلا تصغوا أيها السادة إلى ما يقولون ويعيدون، واحكموا بما سترون لا بما تسمعون، وإني أجاهر لكم - وهل أنتم في حاجة إلى مثل هذه المجاهرة - بأن الانتخابات ستكون حرة بعيدة عن عوامل التأثير وإفساد الضمائر.
كذلك أخذ خصومنا علينا عدم إلغاء الأحكام العرفية حالا.
نعم، إن إلغاء الأحكام العرفية لم يصبح أمرا مرهونا بإرادة السلطة العسكرية - وهو اليوم بيد الحكومة المصرية من حيث المبدأ - ولكن الشروط التي لا يشك أحد في وجوبها لإلغاء تلك الأحكام لا تتحقق بين غمضة عين وانتباهتها، يعلمون ذلك ولكنهم يغالطون ويشوهون الواقع في أمر قانون التضمينات؛ للتذرع بذلك في اتهام الوزارة في إخلاصها وصدق نواياها.
تعلمون حضراتكم أنه في سنوات الحرب وبعدها صدرت تشريعات مهمة استمدت فيها سلطة القائد العام لجعلها سارية على الأجانب، حينما كان الالتجاء إلى الطرق العادية في إصدار القوانين غير ميسور ومقرونا بالصعوبات أو محتمل البطء في أمور تقضي بالاستعجال، كضريبة الخفر وقانون أجور المباني وإيقاف سريان المدد والمواعيد القانونية، وكالنظامات المتعلقة بأشخاص الأعداء وأموالهم، وتنفيذ معاهدات الصلح.
كذلك منعت المحاكم الأهلية والمختلطة لأسباب مختلفة من نظر مسائل داخلة في اختصاصها أو يجوز اعتبارها كذلك؛ لتتولاها محاكم عسكرية أو لجان أو غير ذلك من الهيئات، وصدرت في هذه المسائل أحكام وقرارات، وبني على أساسها حقوق وتعهدات، ثم صدرت أيضا أوامر إدارية، وتدابير تتعلق بالأمن أو النظام العام.
وتعلمون حضراتكم أن كل ذلك حصل، وأن السلطة العسكرية اشتركت في أعمال التشريع والقضاء والإدارة العادية للبلاد بسبب الامتيازات الأجنبية وبسبب الحرب، هذا فضلا عن المركز الخاص الذي تهيأ لها بسبب معاهدات الصلح، فأصبحت أشبه بنظام عادي بالرغم من أن الأحكام العرفية بطبيعتها أداة استثنائية.
تعلمون ذلك حضراتكم، ولا تجهلون أن كل ما بني على هذا النظام يجب أن ينهار إذا زال أساسه، وأنه إذا ألغيت الأحكام العرفية سقطت كل التشريعات التي اتخذت بمقتضاها، وأصبح من الممكن أن تنقض كل الحقوق المدنية التي بنيت على أحكام السلطة وأوامرها، بل أن يفتح على السلطة أبواب مسئولية واسعة.
ليس منا من لا يرغب في إلغاء الأحكام العرفية وبلا تأخير، ولكن كل إنسان يشعر بأننا لا يمكننا إلغاءها دون إقرار التصرفات الماضية، ولا عبرة بما يراه غير المسئولين الذين يرون أنه يكفي أن نطلب فنجاب.
عرف الناس ذلك، وسمعوا أنه يجب إصدار قانون لإقرار التصرفات الماضية، فقال بعضهم؛ إنما أريد به تقرير الحماية وتنظيم أحكامها، وهم يعلمون أن ذلك القانون لا يخرج أمره عن أن يكون تصفية للماضي، ولا علاقة له مطلقا بالنظام المستقبل، فلفظة التضمينات هي التي أفسحت المجال للمضللين أن يذهبوا إلى التأويل ما شاءوا، وحقيقة الأمر أن ذلك القانون يسمى بالإنجليزية
Bill of Indemnity
ومعناه الصحيح: القانون الذي يقيل من المسئولية ويرفعها.
على أن بعض من يشكون من وجود الأحكام العرفية ويطالبون بإلغائها يعملون في الوقت نفسه على عرقلة مساعي الحكومة في ذلك، وقد وعدت هذه الوزارة بأنها اعتمادا على حسن موقف الأمة ستسعى في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية طبقا للأحكام العرفية، ولكن الذين لا يرعون حرمة يحرضون على الفتنة، ويشجعون الرعاع على الإخلال بالنظام، وأعمال التهييج والإرهاب (أترون في ذلك شيئا من الخير للبلاد؟) ولكن هذه الحكومة لن ترى مانعا من القيام بواجبها، وستمضي أعمالها بما تمليه عليها ذمتها وضميرها، ولا تلقي بالا لهذه الحركات التي لم يقصد بها وجه الله ومصلحة الوطن حتى إذا فرغت من عملها وتقدمت به إلى الأمة أدرك كل باغ أن صفحتها بيضاء، وأن إخلاصها عظيم.
هذا ما أردت أن أقوله لكم في هذا المقام، ولكني قبل الختام، وبمناسبة ما ذكره حضرة صديقنا شيخ المحامين وكبيرهم إبراهيم بك الهلباوي (وكأني به قد خشي أن تنثني عزائمنا لما نلقاه من المعارضة) لا أرى بدا من أن أطمئنه وأن أوجه أنظاركم أيها السادة إلى أنني لا أكره المعارضة، بل إذا انعدمت هذه المعارضة فإنني أعمل على خلقها لما لها من نفع وفائدة في الوصول إلى الحقيقة، وتمحيص كل أمر على أكمل وجه، ولكني أريد المعارضة الشريفة التي تترفع عن الاعتبارات الشخصية، ولا تنزل إلى اختلاق الأكاذيب والعمل على النيل من الخصم بكل وسيلة، والنظر إلى كل عمل من أعماله بمنظار البغضاء والعداوة. إنني أريد الخصومة الشريفة التي لا تنظر إلا لمصلحة الوطن وخير البلد، وتدرس كل أمر لذاته مجردا عن كل اعتبار شخصي، هذه الخصومة الشريفة أتمنى وجودها، وأمد يدي لمصافحتها. أما تلك الخصومة الحمقاء التي تأخذ على الناس سبيل آرائهم، وتزري بأقدارهم، وترجمهم في الطرقات، وتعمل على اضطهادهم ماديا وأدبيا عقابا لهم على رأي أو قول، تلك الخصومة الحمقاء المجرمة التي تزعم أنها تعمل هذا باسم الحرية ودفاعا عن الحرية، فتحقق بذلك القول المشهور: «أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك»، تلك المعارضة المجرمة يجب علينا جميعا مكافحتها إلى النهاية؛ لأنها نكبة على بلد ناهض، وسأجد من عونكم ما يعينني على الوقوف في وجهها.
أيها السادة؛ متى فتح البرلمان المصري أبوابه فستقوم منا أحزاب وشيع تبعا لاختلاف الآراء، وتعدد وجهات النظر، وسيعمل كل حزب على خدمة الوطن بالسبيل التي يراها أقوم السبل. أما اليوم فإننا جميعا سواء أمام المطلب الأسمى للأمة، وإذا كنا في وقت من أوقات تاريخنا في حاجة إلى الاتحاد فإنما هو هذا الوقت الذي نرجو فيه أن نسعى في إزالة ما يحول بيننا وبين التمتع الكامل باستقلالنا.
فأنا أنادي الأمة باسم الوطن ومصلحته بضم صفوفنا، وتناسي الماضي، وليكن كلنا حزبا واحدا في خدمة بلادنا.
والله المسئول أن يقرب اليوم الذي تتحقق فيه جميع آمالنا في ظل حضرة صاحب الجلالة ملك مصر أطال الله ملكه وأدام عزه. (10) حديث ثروت باشا عن السودان مع مكاتب الأهرام في 22 مايو سنة 1922
تفضل صاحب الدولة رئيس الوزارة بالجواب على الأسئلة التي ألقيناها بخصوص السودان، وهذا نص الحديث:
س:
لغط الناس كثيرا في مسألة السودان في العهد الأخير، وتساءلوا لم لم تبد الحكومة بيانا عن خطتها ورأيها في مركز السودان بالنسبة لمصر؟
ج:
تذكرون أن مسألة السودان من المسائل المحتفظ بها للمفاوضات المقبلة كما ورد ذلك في كتاب المندوب السامي البريطاني إلى جلالة الملك في 28 فبراير سنة 1922، ولكن ليس معنى الاحتفاظ بمسألة لزمن مقبل ألا يكون للحكومة المصرية رأي فيها ومذهب تدافع عنه وتسعى لتحقيقه، وغير صحيح أن الحكومة لم تبد رأيها في مركز السودان بالنسبة لمصر؛ فإن برنامج الوزارة كان بهذه العبارة: «لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال، إلا أن نقر الوفد الرسمي على ما فعل.» ولم يغب عن ذهن أحد أن الوفد أشار في الرد الذي أرسله إلى اللورد كرزون إلى مذهبه في علاقة مصر بالسودان، وقال في ذلك: «أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه وحق السيطرة على مياه النيل.»
وليس معنى إقرار الوفد الرسمي على ما فعل إلا أن الوزارة أخذت بمذهبه في المسائل المختلفة التي تعرض لها في الرد، ومنها مسألة السودان، فرأي الحكومة في السودان رأي غير مكتوم، وإذا لم يكن الذين ينتقدون على الحكومة عدم إبداء رأيها في السودان قد تنبهوا إلى هذا الرأي فليس ذلك من ذنب الحكومة.
س:
ولكن ما هو رأي الحكومة إزاء ما يروونه من احتمال تغيير حالة السودان قبل الوصول إلى المفاوضات، وهل هي تنوي السكوت على هذه الحالة الجديدة؟
ج:
احتفظت الحكومة الإنكليزية بمسألة السودان - كما احتفظت بغيرها من المسائل - وأشارت إلى أن معنى ذلك الاحتفاظ هو أن هذه المسائل تبقى على ما كانت عليه حتى يجيء دور المفاوضات، فلا محل لتوقع أي تغيير في حالة السودان قبل ذلك الدور.
وما دامت المفاوضة ستجرى حرة خالية من كل قيد، فكل ركن من أركان المسألة سيتناوله البحث والتمحيص.
ولقد جرى لي مع فخامة المندوب السامي البريطاني حديث في هذا الشأن، وكنا على اتفاق أنه مهما كانت نظرية كل فريق فإنه لن يحدث من أحد الجانبين أي تغيير في حالة السودان أو بت في شأنه، بل يجب بقاء القديم على قدمه حتى يجيء دور المفاوضات بين الحكومتين المصرية والإنكليزية، وقد صرحت الحكومة الإنكليزية بذلك أخيرا في مجلس النواب البريطاني بلسان أحد وزرائها، وعلى ذلك فلا محل لإثارة البحث في هذا الموضوع الآن.
وعندي أن مسألة السودان مسألة متشعبة الوجوه، ومن مصلحة القضية المصرية أن يكون البحث فيها شاملا لجميع أطرافها في وقت واحد، وهذا لا يتيسر إلا وقت المفاوضة حيث تلتقي الوجهتان المصرية والإنكليزية بصفة تامة واضحة، وأرجو أن لا يتعذر إذ ذاك الوصول إلى حل مرض. ثم إن لهذه المسألة - كما لغيرها من المسائل المحتفظ بها - من الأهمية الكبرى والدقة ما يقضي بإشراف الهيئة النيابية على المفاوضة بشأنها. (11) خطبة ثروت باشا في لجنة الدستور
حضرة صاحب الدولة، وحضرات الأعضاء المحترمين
إني باسم حكومة جلالة الملك المعظم فؤاد الأول أحييكم في هذا الاجتماع الذي هو أول اجتماع للجنتكم الموقرة، كما أحيي فيكم الغيرة الوطنية والرغبة الصادقة في خدمة بلادكم العزيزة؛ إذ قبلتم أن تشاركوا الحكومة في مهمة وضع مشروع الدستور للمملكة المصرية بعد إعلان استقلالها.
إن الحكومة أيها السادة تقدر كل التقدير خطورة المهمة التي وكلت إليها من جانب مليك البلاد، وتعلم حق العلم عظيم مسئوليتها عن حسن القيام بها أمام ضميرها وأمام الأمة والتاريخ. كذلك تعلم أن مهمة وضع دستور للبلاد لا يكفي في أدائها على الوجه الصالح أن ينقل ما وضع لغيرها من البلاد بغير تمحيص وتدقيق، بل يجب أن تلاحظ في تقرير أحكام هذا الدستور تقاليد البلاد المحلية وعاداتها، ومختلف الاعتبارات الاجتماعية فيها، وأن يستفاد في وضع نصوصه من تجاريب الأمم الأخرى. كذلك أيها السادة لم تتردد الحكومة منذ طلبت إليها القيام بهذه المهمة في أن لا تستأثر في أدائها برأيها، وأن لا تكتفي في ذلك بما لرجالها من الخبرة الخاصة بحالة البلد وبالأنظمة العامة، بل صحت عزيمتها على الاستعانة في ذلك بخبرة ذوي الكفاءات من أبناء البلاد.
وقد كان من حسن حظها أن لبيتم دعوتها، ورضيتم أن تشاركوها في مسئوليتها، وأن تضحوا من وقتكم وراحتكم شيئا كثيرا في سبيل تحقيق التعاون بين الأمة والحكومة، ووضع الحجر الأساسي لحياة مصر المستقلة. لذلك لا يسعني إلا أن أهنئكم بهذا الشعور، وأن أسديكم خالص الشكر على العون الجليل الذي لا شك في أن الحكومة ستناله من اشتراككم معها، وإن شكري لكم ليزداد إذا ذكرت الضجة التي أقيمت حول مسألة وضع الدستور، وأنها لم تصرفكم عن سماع نداء الضمير والواجب.
إن الحكومة لم تقتصر في الدعوة إلى معاونتها على فريق دون آخر، بل وجهتها أيضا إلى من قضت عليهم الظروف بأن يعتبروا أنفسهم خصوما سياسيين لها، غير أنهم - للأسف - لم يريدوا أن يصافحوا اليد التي مدت إليهم، وأبوا أن يتقدموا إلى المشاركة في هذا العمل الوطني الخطير، ولعمري إن في تصرفهم ما يقضي بالعجب؛ فإن مصير الدستور أن يطبق على الأمة جميعها لا على طائفة دون غيرها، وكنت أستبعد أن تدخل الشخصيات في شأن يجب بطبيعته أن يعلو على كل تلك المنافسات، ولقد أعجب أكثر من ذلك أن أراهم يخطئون النظر حتى من وجهة مصلحتهم الخصوصية؛ فلقد كان اشتراكهم في عمل اللجنة يسمح لهم بالاطلاع على كل ما يجري فيها، ويمكنهم من الوقوف على حقيقة ما جرت به ألسنة السوء، وليتبينوا أن ليس هناك أمور مقررة من قبل تعرض على اللجنة لمجرد الشكل. ولقد فاتهم برفضهم الدخول في اللجنة - فرصة ما كان أحقهم بالحرص عليها - فرصة عرض آرائهم والإدلاء بحججهم. واللجنة بين أن تأخذ بها فيتضح لهم أنها لم تكن متحيزة أو صادرة عن غرض أو هوى، أو أن ترفضها فيكونوا قد أراحوا ضمائرهم والحساب بعد ذلك بيد الأمة. لا أدري مقدار ارتباط هذا الرفض بالحركة التي روجت منذ أيام للدعوة إلى عقد جمعية وطنية وما إذا كانت سببا أو نتيجة، على أن ذلك لا يعنيني الآن، وإنما يعنيني تمحيص هذه الآراء، خصوصا وأن تلك الدعوة كان ينطوي فيها شيء ليس بالقليل من سوء الظن بالحكومة، وتهمتها في إخلاصها. إني أترك جانبا ذلك الفريق الذي يدأب على تحدي الحكومة ومناوأتها وإقامة العراقيل في وجهها مهما جر ذلك على البلاد من الشر والوبال.
أما الفريق الثاني: فإنه يحكم على الأشياء حكما نظريا صرفا، ويخطئ تطبيق النظريات على الواقع، أولئك هم الذين يزعمون أنه لم يوضع دستور إلا على يد جمعية وطنية، وأنه لا يصح دستور إلا إذا كان كذلك.
علمنا أن القوانين الدستورية وتواريخها ومبادئها معروفة ومنتشرة بين جميع الناس، وفي وسع كل إنسان أن يرجع إليها؛ ليعرف مقدار نصيب تلك النظريات من الصحة، ويمكنني أن أقول لحضراتكم أن الأمر في وضع القوانين الدستورية ليس على ما يذكرون؛ فإن كثيرا من البلاد الأوروبية وغير الأوروبية لم تكن قوانينها الدستورية وليدة جمعية وطنية. وأذكر على سبيل الاستدلال تلك الأمة العظيمة التي قطعت شوطا كبيرا في سبيل الحضارة والمدنية، وأعني بها الأمة اليابانية، وهي تلك البلاد التي أصبحت في مركز لا أريد أن أغالي فأقول إن أمم أوروبا تحسدها عليه، ولكن مركزها على كل حال مما تغبط عليه. أما أمم أوروبا فإن بعضها كان الدستور فيها من عمل جمعية وطنية، ولكنها الأقل عددا، والسبب في تولي الجمعية الوطنية هذا العمل يرجع إلى ظروف استثنائية خاصة كالثورة أو زوال السلطة الشرعية فيها، وحلول سلطة مؤقتة عليها. أما الأمم الأخرى فقد سارت في وضع دساتيرها على الطريق العادي، وصدرت دساتيرها من ملوكها، وأذكر على سبيل المثال إيطاليا والنمسا والبرتغال وتركيا.
فيجب أن لا يغيب عن أذهان أولئك القائلين بنظرية الجمعية الوطنية تلك الفروق بيننا وبين من اضطرتهم أحوالهم الاستثنائية إلى الالتجاء لجمعية وطنية لوضع نظام حكوماتهم، إذ إننا - ولله الحمد - لسنا في حالة من تلك الأحوال.
على أنه فيما يتعلق بمصر يجب لأجل تعيين السلطة التي تتولى وضع الدستور الرجوع إلى قانوننا العام، وقد جرى الأمر فيه على أن تصدر القوانين النظامية من ولي الأمر سواء كان ذلك في إنشاء مجلس الوزراء - وهو أول حجر وضع في بنيان النظام الديموقراطي في مصر - أو ما في تلا ذلك من النظم النيابية التي أوجدت نوعا من الاشتراك بين الأمة والحكومة، وهي قانون مجلس شورى النواب، وقانون مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، والقانون الذي أنشأ الجمعية التشريعية، وإذا كان قانون سنة 1882 قد شذ عن هذا القياس فإن ذلك يرجع إلى أنه في ذلك العهد كانت ثورة على العرش دعت إلى اغتصاب وضع الدستور من صاحب السلطة في وضعه، وهذا ما يؤيد ما نذهب إليه من أن وضع الدستور بطريق ولي الأمر ليس فيه افتئات على حقوق الأمة أو خروج عن القواعد المألوفة.
قد يقول قائل إذا لم يكن الدستور من وضع جمعية وطنية فإن في وسع ولي الأمر أن يسترده في أي يوم من الأيام. وهو قول لا يقول به إلا كل رجل يجهل مبادئ القانون الحديث وتطوراته؛ لأنه مهما يكن من طريقة وضع الدستور وإصداره ، فإن استرداده بعد ذلك محال؛ إذ إنه بمجرد صدوره يصبح حقا مكتسبا للأمة.
إنهم يقولون إن الجمعية الوطنية هي الوسيلة الوحيدة للوقوف على رغبات الأمة وحاجاتها، وأخشى أن أقول في هذا إنه حق يراد به باطل؛ لأنه حتى مع التسليم جدلا بأن المبادئ العامة في مصر تسمح بأن مثل هذا العمل تتولاه جمعية وطنية، فإن هناك أشخاص يعملون منذ زمن على ترويج سوء الظن بالحكومة، وعلى التقليل من أهمية ما وصلت إليه البلاد، وعلى التشكيك في ما نحن قادمون عليه، بحيث إذا اجتمعت جمعية وطنية سادت فيها تلك الآراء والنزعات، وانقلب العمل فيها إلى معارضة وتهويش وتعطيل تمتنع معه كل نتيجة صالحة؛ بل يخشى أن ينقلب وبالا على البلاد؛ ذلك أنه بالرغم من أن البلاد نالت فوزا عظيما بإعلان استقلالها واعتراف الدول به، إلا أن المسألة المصرية لم تسو بعد تسوية تامة نهائية؛ إذ لا يزال أمامنا مفاوضات يجب أن تمكن مصر من الوصول إلى دورها موفورة القوة تامة النظام لم تفسد عليها عوامل الشر والفوضى آمال النجاح فيها.
يدعون أننا بعملنا هذا نرمي الأمة بالعجز والقصور عن تقدير مصلحتها، فالله يعلم أننا نجل أمتنا كل الإجلال ونضعها فوق كل اعتبار، وأن هذا نفسه هو الذي يدعونا أن نقيها في هذه الآونة الدقيقة من عوامل الفساد ودواعي التضليل، ولعمري لأن نتهم تهمة سيتجلى وجه الحق فيها بعد قليل خير لنا من أن نترك البلاد تسود فيها الفوضى ويجري الشغب فيها مجراه؛ فإن التهمة إذا اصطدمت بالواقع المحسوس زائلة، ولكن أضرار الشغب والفوضى هائلة، وآثارها باقية.
وأريد هنا أن أتساءل عن قيمة المخاوف والشكوك التي يريد بعضهم أن ينشرها بين الناس، ويحيط بها عمل الحكومة واللجنة.
يزعمون أننا نخشى الجمعية الوطنية؛ لأنها لو دعيت للاجتماع لاتخذت من القرارات ما لا يتفق مع ميول الحكومة، نريد بالاقتصار على تأليف لجنة أن تتحكم في النظام الدستوري، وأن تحول بين الأمة وبين إبداء رغباتها، وأقول: إن بيننا وبين الأمة عهدا يحدد جوهر ما يختلف فيه الآن، لنا برنامج قطعنا فيه على أنفسنا أننا سنراعي في الدستور الذي نضعه أحدث مبادئ القانون العام، وعلى الأخص المسئولية الوزارية أمام البرلمان. أترى يشكون في مبادئ القانون العام الحديث نفسها، أم يجهلون أن مبدأ المسئولية الوزارية هو محور النظام الدستوري وجوهره ولبابه، والأمان الكافي ضد خروج السلطات عن حدودها، والأساس الصالح للتعاون بين الأمة والحكومة، أو يجهلون أن ما خلا هذا المبدأ لا يبلغ أهميته وأن هذا المبدأ ضابط لأحكام الدستور نفسه؟!
قالوا: إن وضع الدستور بهذه الطريقة لن يجعل للأمة سبيلا إلى تغيير شيء من أحكامه. على أنني لا أدري مبلغ هذا التكهن من الصحة، فإن ما أعلمه عن القواعد الدستورية - وهي التي أشرت إليها في برنامج الوزارة - أن الدستور يشتمل عادة على نص يحتفظ به بسبيل يكون من حق للأمة مشخصة في إدخال ما يرى ضرورة إدخاله من التعديلات. سيرى الناس إذا انتظروا قليلا أن محاولة عرقلة الحكومة في أعمالها لم يكن من مصلحة البلاد في شيء، وأن الحكومة ما توخت ولن تتوخى شيئا غير مصلحة الوطن القائمة التي تتلاشى أمامها الأعراض الزائلة والأوهام الباطلة.
سيرى الناس يوم يصبح الدستور حقيقة واقعة بأن التهمة التي وجهت للحكومة غير صادقة، وأن يرون أنفسهم أمام نظام يسمح للإرادة العامة بأن يكون لها مظهر حقيقي وأثر فعلي في تصريف الأعمال العامة وفي كل شيء يتعلق بمستقبل البلاد.
قالوا إننا خرجنا عن برنامج وزارة عدلي باشا الذي كنا متضامنين معه فيه، ولكنهم نسوا أو تناسوا أن مهمة الجمعية الوطنية بحسب ذلك البرنامج لم تكن في الأصل وضع دستور للبلاد، وإنما كانت مهمتها النظر في الاتفاق الذي تألفت وزارة عدلي باشا للمفاوضات فيه، ثم وضع الدستور المبني على نصوص هذا الاتفاق بعد ذلك.
فالمهمتان لا تقبلان التجزئة، وكان يجب على الجمعية إذا هي أقرت الاتفاق أن تراعي في وضع الدستور ما يكون قد تضمنه من الشروط والقيود، أما اليوم فإن وضع الدستور متقدم على الاتفاق، وإذا كان لا يبنى عليه فإنه يجب على أي حال أن لا يسد الطريق للوصول إليه.
هذه هي الحقائق التي أردت أن أبسطها أمام حضراتكم، وأن ما تعرفه الحكومة في حضراتكم من الكفاءة والكفاية لهذا العمل أحسن ضمان لأن يكون عملكم خير مرشد وهاد إلى رغبات البلاد وحاجاتها.
ولا أريد أن أختم كلامي بغير إشارة إلى التضحية الكبيرة التي قدمها حضرة صاحب الدولة رشدي باشا بقبول الاشتراك في عمل هذه اللجنة، ولا أخفي على حضراتكم أن فكرة إسناد الرئاسة لدولته قد خطرت مرارا على بالي من أول يوم فكرت فيه الحكومة في تأليف اللجنة.
ولكن علمنا بمقدار ما يبذله من نفسه وصحته في أداء الواجب الذي يدعوه إليه الوطن ومصلحته، وحبنا لشخصه، ورغبتنا في تمتعه بالصحة التامة، كل ذلك جعلنا نتردد عن مخاطبته في الأمر.
غير أنني لما خاطبت بعد ذلك أحدا من حضراتكم إلا وسألني عما إذا كان رشدي باشا مشتركا في عمل اللجنة، وأظهر رغبته في أن يراه على رأسها، فلم أجد بدا أمام هذا الإجماع من إيصال هذه الرغبة إلى علمه.
فتقدم كعادته إلى الخدمة الوطنية غير ملتفت إلى ما يكلفه ذلك من تحميل صحته هذه المتاعب الجديدة، ولكنه اشترط شرطا لم يكن في وسعي قبوله، وتركت لدولته الحرية في أن يقدمه بنفسه لحضراتكم؛ لتتصرفوا فيه كما تريدون ... وأختم القول بتكرار التحية لحضراتكم، وتوجيه الرجاء إلى المولى - عز وجل - أن يلهمكم السداد، وأن يوفقنا جميعا إلى ما فيه الخير للبلاد. (12) شروط ثروت باشا لتأليف الوزارة (نقلا عن مقطم 31 يناير سنة 1922)
أولا:
عدم قبول مشروع كرزون، والمذكرة التفسيرية.
ثانيا:
تصريح الحكومة البريطانية بإلغاء الحماية، والاعتراف باستقلال مصر قبل الدخول في كل مفاوضة.
ثالثا:
إيجاد وزارة خارجية مصرية، وتمثيل خارجي من تعيين سفراء وقناصل.
رابعا:
إيجاد برلمان مشكل من هيئتين: إحداهما مجلس نواب، والأخرى مجلس شيوخ، ويكون للبرلمان المذكور السلطة التامة على أعمال الحكومة، وتكون الوزارة مسئولة أمامه.
خامسا:
إطلاق يد الوزارة بلا مشارك في جميع أعمال الحكومة، تمكينا للوزارة من تحمل مسئولية الحكم أمام البرلمان.
سادسا:
ألا يكون للمستشارين في الوزارات إلا رأي استشاري، وأن يبطل ما للمستشارين الآن من الحق في حضور جلسات مجلس الوزراء.
سابعا:
حذف وظائف المستشارين في القريب العاجل ما عدا وظيفتي مستشاري الحقانية والمالية، فإنهما تبقيان إلى ما بعد ظهور نتيجة المفاوضات الجديدة.
ثامنا:
استبدال الموظفين الأجانب بموظفين مصريين، وأخذ العدة لذلك من الآن، وتعيين وكلاء مصريين على الفور لجميع الوزارات، وهم: وكيل للمالية، ووكيل للخارجية، ووكيل للمواصلات، ووكيل للأشغال العمومية، ووكيل للداخلية ووكيل آخر للداخلية في الصحة.
تاسعا:
رفع الأحكام العسكرية، ووعد الوزارة - اعتمادا على حسن موقف الأمة - بالسعي في سحب ما اتخذ من الإجراءات بمقتضى الأحكام العرفية، ومن جملة ذلك: فك اعتقال المعتقلين المصريين حيثما كانوا.
عاشرا:
الدخول في مفاوضات جديدة - بعد تشكيل البرلمان المصري - مع الحكومة البريطانية بواسطة هيئة مصرية يشرف البرلمان المصري نفسه على تعيينها؛ للنظر في مسألة السودان، وفيما لا ينافي استقلال البلاد من الضمانات التي تطلبها الحكومة البريطانية تأمينا لمصالح الإمبراطورية البريطانية ومصالح الأجانب في مصر، وذلك كله على شرط أن تكون هذه المفاوضة غير مقيدة بشرط أو قيد من القيود والشروط المبينة في مشروع كرزون.
وبعد الانتهاء من هذه المفاوضات يكون القول الفصل في نتيجتها للأمة المصرية المشخصة في برلمانها.
صفحة غير معروفة