ولقد ضاق دوجلاس بهذا التحدي، وهو الذي يعرف أصالة صاحبه وشدة إيمانه، ذلك الإيمان الذي رسخ حتى ما يحتال عليه بحيلة أو تزعزعه مطاولة، أو يفل منه جاه أو إغراء، والذي جعل كل وسيلة من وسائل المغالبة بحيث تكون منه كالموج من الصخر لا يلطمه إلا لينحسر عنه، ولم يبق فيه من طبيعة الموج شيء.
وأبى على دوجلاس كبرياؤه وغلواؤه أن يتخاذل عن هذا النزال، فقبله على كره منه قال: «سوف تصبح يداي مليئة. إنه رجل حزبه ذو البأس، ملؤه الذكاء والحقائق التاريخية، وإنه لأمين بقدر ما هو حذر أريب، ولئن قدر لي أن أظهر عليه فسوف يكون انتصاري بشق النفس.» وأسر في موضع آخر إلى صديق له قوله: «إني لا أحس أني أرغب في الذهاب إلى هذا الجدال، إن البلاد كلها تعرفني ولقد سبق أن قدرتني، وإن لنكولن إذا قيس إلي ليعد غير معروف، فإذا أتيح له أن ينتصر علي في هذا الجدل، وإني لأود أن أذكر أنه أقدر رجل في الحزب الجمهوري؛ فإنه يكسب كل شيء بينما أخسر أنا كل شيء، أما إذا قدر لي الفوز فإني لن أغنم إلا قليلا، إني لا أحب أن أذهب إلى تلك المجادلة معه.»
وحددت سبع مدن يلتقي فيها الرجلان فيتناظران، والناس من حولهما يشهدون ما يكون بينهما، وفرح لنكولن وقد أتيحت له أعظم فرصة ليعبر عما في نفسه، وأية فرصة هي؟! ألم يك دوجلاس في الناس أكثرهم استفزازا له، وأدعاهم أن يبرز له ما استكن من مواهبه؟ ثم أليست هذه المجادلة كفيلة أن تجمع إلى أنصاره ومحبيه أنصار دوجلاس ومحبيه، فيكون الكلام في حشد قلما يتسنى أن يكون مثله، فإذا قدر له أن يكسب هذه القلوب أو يصل إلى إقناع هذه العقول، فأي فوز هو وأي فخر!
أثناء النزال.
والحق أن هذا التحدي كان خطوة من خطوات لنكولن بالغة المهارة، فليس أفضل منها وسيلة لإذاعة رأيه في معضلة الرق، وفي النيل من الديمقراطيين في شخص دوجلاس الذي يباهون به.
واتخذ دوجلاس للأمر عدته، لم يدع وسيلة أو يغفل عن حيلة، أما أبراهام فلم تكن به حاجة إلى ما يحتال به من أساليب التأثير المتكلفة الخادعة، ولديه البيان والمنطق، فما هو إلا أن ينصت له الجمع حتى يبتعث اليقين ما قر في نفسه فيحرك به لسانه، فإذا بيانه كالنهر الحادر يفهق بما لا يفتأ يواتيه به المنبع، ويجيش بهذا الفيض ويهدر، ويتدفق لا يصده عن وجهه شيء.
وكان لدوجلاس من بعد الصيت ما جعل اسمه ملء الأسماع في طول البلاد وعرضها، وكان في رأي الأمريكيين أقدر رجال حزبه وأكثرهم فطنة، وأطولهم في السياسة باعا وأقواهم بمصاعبها اضطلاعا، بل لقد كان عند الكثيرين من ذوي الرأي أعظم رجال أمريكا كفاية يومئذ وأعزهم مكانة، وكان يلقب بالمارد الصغير؛ أن كان له على صغر جرمه وقصر قامته قوة المارد وسلطان المارد ودهاء المارد، وكانت له حيوية تتقطع دونها حيوية الرجال، وتتقاصر عنها هممهم، ومن وراء ذلك ثروة شخصية ضخمة وجاه حزبه وقوته، والحق لقد كان دوجلاس يومئذ أنبه الناس شأنا وأعزهم نفرا، وهو من عهد قريب لم يك يسمع به أحد خارج إلينوى.
لذلك كان للناس عجبا أن يطاوله أبراهام وأن يدعوه إلى نزل، وأخذ من لم يكن يعرفه منهم هذا الفعل من جانبه على أنه ضرب من الغرور أو نوع من الغفلة، ولو أنهم عرفوا دخيلة صاحبهم الذي افتتنوا به وتبينوا ما هجس في نفسه من خواطر إزاء هذا التحدي الجريء، لأيقنوا أن جبروت ماردهم وأساليبه ما كانت لتغني عنه شيئا من هذا العملاق الذي درج من الغابة ليقف أمامه كالسنديانة.
وكانت أتارا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع، وقد جاءها الناس ليشهدوا ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد اتفق أن يكون الكلام أول الأمر لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يتكلم بعده أبراهام ساعة ونصف ساعة، ويختتم دوجلاس هذا الدور بعده بحديث يستغرق نصف ساعة.
وكان دوجلاس في انتقاله بين المدن يتخذ مركبة فخمة تجرها ست من كرائم الخيل، وحوله ستة وثلاثون فارسا رمزا لعدد الولايات يومئذ، يتزيد بهم من الهيبة والأبهة، وكان وراء ركبه مدفع يرسل ستا وثلاثين طلقة إذا دخل مدينة من المدن، وقد وقف في مركبته الفخمة وتكلف أكثر ما يطيق من الصرامة، فما يكاد يلتف حوله الناس مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة، فيحيي الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت نحو هذا ويهش لذاك، كأنه ملك يطلع على شعبه، وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف وخفض الجناح يحيي وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل.
صفحة غير معروفة