ويأبى الرئيس بوكانون في تلك الآونة العصيبة إلا أن يعتمد قرار المؤتمر، فيقبل الولاية في الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام الرق كما جاء في دستورها.
وجاء هذا مع الحكم في قضية دردسكوت ألما على ألم لنفوس الأحرار، ولشد ما تألم لنكولن لهذا القرار، ولكن ذلك كان عنده الألم الذي يلد الأمل ويحفز النفوس إلى العمل ويغريها بالجهاد، ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه اليأس.
وفضلا عما أحدث دستور كنساس من أثر في قضية الرق العامة، نراه يؤثر في موقف لنكولن من خصمه دوجلاس؛ فقد كان يرجى لنكولن أن يظفر بأصوات الناس إذا رشح نفسه مرة ثانية لمجلس الشيوخ، ولكن دوجلاس عرف كيف يستغل هذا الموقف ويكسب تأييد عدد من الجمهوريين أنفسهم بتلونه واتباعه سياسة اقتناص الفرصة المواتية.
رأى دوجلاس أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة الولايات في تقرير مصيرها، ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة، ولقد بات من أمره في حيرة شديدة؛ فهو يخشى أن يفقد محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس، بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل إلينوى إذا هو نسي مبدأ سيادة الولايات وسلطانها؛ فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ، وقد أوشكت مدته فيه أن تنتهي.
وآثر الآن أن يحرص على ثقة ناخبيه لمجلس الشيوخ، فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم الدهش، فهذا الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج على هذه الصورة، ولا يتورع أن يعارضهم في غير هوادة، كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد.
ولقد هلل بعض زعماء الجمهوريين لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يوحون بضم دوجلاس إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة، وراح جريلي أحد أصحاب الصحف بنيويورك، وهو من قادة هذا الحزب، يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس، وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الإطناب والمغالاة، وكان هذا الرجل من أشهر رجال الصحافة في الشمال، وكانت له عند الناس مكانته، كما كان لصحيفته عدد كبير من القراء المعجبين به.
ولكن أبراهام أنكر كل هذا الاتجاه ولم يحس في نفسه الميل إلى هذا التناقض، وهنا تعود للظهور خصلة من أبرز خصاله؛ ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على سجيتها لتسير على نهج من فطرتها في غير تناقض أو تذبذب أو اضطراب، وما كان أبراهام ليتكلف شيئا لا ينزع إلى وجدانه، ومن هنا كانت خطواته بطبيعتها مسددة صوب الغاية مفضية إليها، مهما كثر ما يعترضه من الصعاب، ثم من هنا كان خطره إذا هم بأمر، قال حين علم بتلك الدعوة الجديدة: «لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلا. إني جمهوري من صميم الجمهوريين، ولقد وقفت دائما في طليعة الصفوف عند المعركة، والآن أراه يفاوض دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات وأنصاف الحلول، ذلك الذي كان ذات مرة آلة أهل الجنوب، والذي هو اليوم أحد معارضيهم، ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي ... إنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته - إذا سره ذلك - تقوم مقام المركز الجمهوري الخالص الذي ينقصه، بل وتزيد على ذلك ... ولذلك فإن إعادة انتخابه للشيوخ - على أن يمثل القضية العامة لحزبنا - أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين الخلص ممن ليست لهم مثل شهرته، ماذا تعني «نيويورك تريبيون» بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنطون؟ هل وصلوا نهائيا في رأيهم إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيرا من ذي قبل بتضحيتنا هنا في إلينوى؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلا، على أني حتى الآن لست أعلم بجمهوري هنا يرغب أن ينضم إلى دوجلاس، وإذا استمرت التريبيون ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة الآلاف من قرائها في إلينوى، فإن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل جميعا. إنني لا أشكو ولكنني أرغب في أن أصل إلى بينة من الأمر.»
ذلك هو لنكولن اليوم، انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يجد فيه عدوانا على شخصه ونيلا من كرامته، فهو يطيق أن يكون دوجلاس خصما له، ولكنه لا يطيق أن يراه مرشح الحزب دونه في إلينوى، وهو فيما يعتقد لا يرى كفايته تتقاصر عن ذلك.
وسافر صديقه هرندن إلى الجهات الشرقية ليرى ما حال الحزب هناك، وليقابل زعماءه البارزين، فعاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام من كثير من قادة الحزب، بيد أنه يحمل إليه مع ذلك أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض؛ فإن لجريلي آراءه، ولستيوارد أطماعه، ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله.
هكذا صارت السياسة شغله الشاغل فهو لا يستطيع اليوم غير ذلك، لا لأنه يتخذ من السياسة وسيلة إلى تحقيق أطماع شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة تحرك نفسه وتستثير وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من قبل ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟
صفحة غير معروفة