وهو يتمنى لو أحبها كما يكون الحب، أو لو اطمأن إلى أنه إذا أحبها لا تكون حاله حائلا بينه وبين قلبها، ولعل شعوره بضعة منبته وبحاجته إلى مثل ما يتمتع به دوجلاس من أناقة ومقدرة على محادثة النساء ونيل إعجابهن؛ هو الذي كان يكربه ويؤلمه ويسبب له هذا التردد، ويلقي به في هذه الحيرة ويجعله دائما من النساء في حالة استخذاء.
وإنه ليحس أنه موشك أن يقع في مثل ما وقع فيه من قبل من أسر وخبال إبان علاقته بماري أوين، فما له لا يقطع هذه الصلة بماري تود قبل أن يجد نفسه بحيث يستحيل عليه ذلك؟ لئن كان يعجبه ذكاؤها وظرفها، فإن من خلالها ما هو خليق أن ينفره؛ وذلك مثل حدة طبعها وسرعة غضبها؛ فإنها لتبكي لأقل شيء وتصرخ مهتاجة، وإن وجهها ليتلون بحمرة الورد وبصفرة الموتى في ثوان معدودات، وإنها لتطلق لسانها بجارح اللفظ وطائشه إذا اهتاجها من الكلام ما لا يحرك غيرها ... ولكنه على الرغم من ذلك يشعر كما تشعر هي أن ثمة شيئا فيها يحسه، ولا يستطيع بيان كنهه يريه أنها مكملة له، فإذا ربط الزواج بينها وبينه لم يكن الأمر أمر رباط فحسب، ولكنه يكون لكليهما تكملة لا غنى لهما عنها.
ولكنه يسر إلى صاحبه بعزمه على أن يقطع صلته بها بكتاب يرسله إليها، فيقول له سبيد: الرأي ألا تكتب فإن الكتاب يبقى، ولكن اذهب إليها وحدثها بما تريد، فما أسرع أن ينسى الكلام!
ويفعل أبراهام ما أشار به صاحبه، ولكنه يعود إليه وفي وجهه مثل ما يكون في وجه الغلام إذ يحاول أن يخفي حياءه، قال: «قضي الأمر فلا مناص ولا حيلة، إني ما كدت أخبرها بالأمر حتى هبت من مقعدها صارخة تدق يدا بيد والدموع تنهمر من جفنيها وهي تقول أصبح المخادع هو المخدوع ... ووجدت الدموع تنحدر على خدي أنا كذلك، فأخذتها بين ذراعي وقبلتها.» ولما لامه صديقه على تخاذله بمثل هذه السرعة قال: «قضي الأمر، وإذا كنت أعود إلى الأسر ثانية، فليكن ما يكون، ولسوف أصمم فلا أتزعزع.»
وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على أبراهام وتتحايل على كسب قلبه، وتغضي على مضض عن شذوذه وعن هيئته وعن سرواله القصير وعن حديثه الأعرج، وعما يشبه البلاهة من غيرته حينا وعدم مبالاته أحيانا ...
وكانت تحاول أن توقد نار الغيرة في قلبه، فتمشي في الطرقات وذراعها في ذراع دوجلاس، فما تتوقد في قلب أبراهام نار، وإنما تحس هي بوقدة في حشاها إذا نظر إليهما في غير مبالاة.
ورأته ماري مرات يسير مع أخت لها عذراء على نحو ما تفعل هي مع دوجلاس، فحسبت أنها أغارته، ولكنها ما لبثت أن أحست هي بالغيرة تأكل قلبها.
ورأته يصحب فتاة في نحو السادسة عشرة من عمرها إلى الملهى ويضاحكها، وكان اسمها سارا، وعلمت أنه أشار مرة إلى اسميهما، وما كان في الإنجيل من علاقة بين سارا وأبراهام، فلم تطق ماري على هذه المداعبة صبرا، أما هو فكاد يتعلق قلبه بسارا، وأوشك أن يندفع في هذا الطريق لولا أن نفرت الفتاة منه قائلة: «إن حاله الخاصة وجملة أمره لن يحدثا الأثر المطلوب في قلب فتاة على أهبة أن تغشى المجتمعات.»
وصبرت ماري وهي من لا تطيق أن تصبر، فإذا كان بين يديها حاولت أن تروضه على طاعتها بشتى الحيل، واستجمعت ذكاءها ودهاءها لتؤثر فيه دون أن يشعر فتوجهه إلى حيث تريد، ولكن ما كان أسرع نفوره من ذلك؛ أنفة منه ومحافظة على استقلاله وحريته، وإنها لضائقة بذلك، ولكنها تصابره وتسايره؛ علها تظفر آخر الأمر به، وفاتها أن السحر الذي كان كفيلا أن يجعله أطوع لها من الطفل هو الذي كان ينقصها؛ لأن الحب كان ينقصه.
وكانت تأخذه غاشية من الهم كلما مال الحديث بينه وبين أصحابه إلى الزواج، وإذ ذاك كانت تزداد رغبته في التخلص من ماري تود كما تخلص من قبل من ماري أوين، وكان يومئذ في حال إن لم نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها!
صفحة غير معروفة