أهوى الفتى بفأسه على الأشجار في قوة تلفت الأعين إليه، وكان اليوم أقوى من أبيه ساعدا وأكثر جلدا، وجعل يسوي الأخشاب وجه النهار، ويأتي بالثيران لتجرها إلى حيث يقام الكوخ آخره، فلما تم له ذلك نشط في بناء الكوخ حتى أتمه كما شاءت زوج أبيه من نسق، فجاء كوخا فسيحا مقسما تقسيما جميلا.
وعمد هو وابن عمه جون هانكس إلى مزرعة فأحاطاها بسور، وأقبلا على الزراعة في بقعة لم تطأها قدم إنسان قبلهما ليوفرا للأسرة ما تتطلبه من قوت، وليس ثمة ما يضايقه إلا انصرافه عن القراءة بسبب ما هو فيه من جهد متصل.
وإنه ليخشى أن يطول انصرافه عن القراءة؛ فها هي ذي شهرته في المقاطعة الجديدة تؤدي إلى استئجاره في كثير من الأعمال، وهو يكره أن يرفض؛ لأنه يحب أن يجود بمعونته أبدا، ثم إنه يكسب أجرا على ما يقوم من عمل، وعليه اليوم أن يكسب ثمن قوته وثمن ملابسه على الأقل.
وإن حديث هذا الشاب وشجاعته ليشيع في الجيران حتى ليرغب كثيرون في رؤيته، وإن شخصيته لتأسر كل من رآه؛ فالناس معجبون بقوته ومهارته ونجدته، وإنهم إلى ذلك يرتاحون منه إلى شمائل أخرى يحسونها وإن لم يلتفتوا إلى التفكير فيها؛ فحديثه محبب إليهم لا يملونه، وإنه لذو مقدرة فائقة على سرد الأقاصيص والنوادر، يتدفق في عذوبة وفصاحة وجذل، وإن كانت لتغشى جذله أحيانا غواش من الحزن كما تغشى السحب السماء الصافية داكنة مرة، خفيفة مرة أخرى، ثم لا تلبث السحب أن تنقشع فيعود لوجهه ضياؤه ولحديثه بهجته، وهو في كلا حاليه ساحر قوي السحر بعيد الأثر في نفوس سامعيه.
وهو إذا فرغ من عمله، وقلما يفرغ، يكتب لهذا رسالة أو مظلمة، ويقرأ لذاك كتابا جاءه من صديق أو قريب، ويعين غيرهما في زحمة عمله، ثم ينفلت إلى مزرعة أبيه أو إلى أخشابه التي يسويها ليبيعها بدريهمات.
والناس في هذه المقاطعة وأمثالها يعيشون على حالة أشبه بحال البداوة؛ أكثر التفاخر بينهم بالقوة والشهامة، وقلما تفاخروا بثروة؛ إذ يندر أن توجد الثروة؛ لذلك كانت قوة أيب - كما كانت شهامته - كفيلة بأن تطلق لسانه بالفخر، ولكنه لا يتحدث عن نفسه أبدا، وإنه ليخفض جناحه للناس إلا إذا تحداه ذو وقاحة كما حدث مرة؛ إذ صارع أحد المدلين بقوتهم من شباب تلك الجهة، ولقد علمه أيب كيف يهابه ويستخذي منه، والناس يعجبون من ذلك الشاب النحيف وما يبدي من قوة.
ثم إنهم يرونه ذات مرة يقذف بنفسه في الماء؛ إذ أخذت عيناه رجلين يغالبان الموج وقد خارت قوتهما أو كادت، فأدركهما ونجاهما من الغرق.
وإنه كثيرا ما يجد منجاته في تلك القوة؛ فقد تحطم زورق بحمله مرة، وكان البرد شديدا والماء يوشك أن يتجمد، فلم يحل ذلك بينه وبين أن يسبح مسافة طويلة مشى بعدها مسافة أطول منها حتى التجأ إلى كوخ أحد الفلاحين، فلبث عنده نحو أسبوعين يعاونه في أعماله، وما دعاه إلى أن يلبث عنده في الواقع إلا كتاب في القانون وجده لديه، وكان هذا الفلاح من قبل قاضيا، فلم يدع الفتى ذلك الكتاب حتى قرأه ووعاه.
ولكن أبراهام على الرغم مما يحسه من طيب العشرة وما يتمتع به من حسن السمعة، برم بالعيش هنا لا يطيق صبرا على البقاء في هذا المجال الضيق، وإنه ليكدح كدحا عنيفا ثم لا يصيب من الأجر إلا دريهمات، وأي أجر أحقر من سروال من القماش الرديء يحصل عليه في مقابل آلاف من شرائح الأخشاب، كان يقدم أربعمائة منها ليحصل على قيد ذراع من ذلك القماش؟!
إن نزعة استقلالية تسيطر على تفكيره اليوم، وإن شعورا بالرغبة في الهجرة ليلح عليه إلحاحا شديدا، وإنه لجدير بالاستقلال؛ فما اعتمد منذ حداثته إلا على نفسه، فكر لنفسه وتأمل في حياة الناس وفي مظاهر الطبيعة، وسافر فوق الماء، وتاجر في مدينة كبيرة، وقرأ الكتب، واستوعب كثيرا من القصص والأمثال، وتعود أن يتعمق الأشياء وأن يديرها في ذهنه مرات، وأن يقابل بين الأشباه وينظر في المتناقضات، ثم إنه يطابق بين ما يقع تحت بصره وما يطرق سمعه من حياة الناس على ما يقرأ، ومن كان هذا شأنه فهو عصامي في أوسع معنى لتلك الكلمة، والعصامي لا يقف عند حد، فما يزال يرتقي حتى يصل إلى القمة، أو حتى يصبح هو نفسه قمة من القمم.
صفحة غير معروفة