وكانت لا تلبث الهواجس أن تملأ فؤاده إذا خلا إلى نفسه بعد مرح أو لعب، وتأبى الأيام إلا أن تزيد دواعي حزنه؛ فلقد تزوجت أخته الحبيبة «سارا» شابا من أسرة قريبة، فرأى أبراهام زوجها يدل عليها وعلى أسرتها بثروته، ثم رأى أنه وأهله يكلفونها أعمال الخدم، ولقد صبر الفتى على مضض وإن نفسه لتنطوي على ثورة، وإنه ليحس لأول مرة إحساسا لم يألفه طبعه؛ وذلك هو النزوع إلى الشر، ولكن عاطفة الخير تتغلب على نزوعه، فيصبر منطويا على حزن جديد.
وتموت أخته الحبيبة وهي في فراش الوضع، ويتهامس الناس أنها ماتت مرهقة لم تمهل حتى تسترد عافيتها، ويمتلئ قلب الفتى بالضغن والشر كما يمتلئ بالألم والحزن، ويحس أن قد حان الوقت ليكايل هؤلاء القوم صاعا بصاع.
وكأن إحساسه باليتم يزداد في نفسه بموت أخته، وإلا فما باله ولم يعد بعد طفلا يشعر مرة أخرى شعورا قويا بالوحدة والوحشة، كأنما كان يرى في سارا أمه وأخته معا.
ويتعود الفتى حمل الآلام، ويحمل على الصبر نفسه وتستقر الأشجان في أعماق تلك النفس استقرارا، ولكن ذلك الشر ينطوي على جانب من الخير أو هو يبتعث ما في نفسه من خير، فإن شعوره بالرحمة والرأفة والحدب على المنكوبين يقوى في نفسه ولا تزيده الآلام إلا قوة وتمكنا.
وهو ينفس عن نفسه بمطالعة الشعر ونظمه، ينفق في ذلك الساعات، فيخرج منها وقد سرى عنه بعض الشيء، ولكن كما يسري النغم الحزين عن النفس الحزينة!
وزاد ضغنه على تلك الأسرة التي ماتت فيها أخته أنهم لم يدعوه إلى حفلة عرس أقاموها لأخوين من شباب الأسرة كانا يتزوجان، فهو وإن لم يكن يودهم يجد في عدم دعوتهم إياه إهانة ساء وقعها في نفسه؛ لذلك عول على الثأر؛ فأتى أمرا كم ندم عليه فيما بعد فما ذكره إلا تلون وجهه!
وذلك أنه استأجر من نقل خفية سريري العروسين كلا منهما إلى حجرة الأخرى، وقصدت كل عروس إلى سريرها، فلما زف الزوجان كل إلى حجرته والخمر تلعب برأسيهما ورءوس أهلهما، نام كل منهما إلى جوار عروس أخيه، حتى أقبلت أمهما فتداركت الأمر في آخر لحظة، وجعل أبراهام هذا الخطأ موضوع قصة فكاهية تهكمية كتبها وألقاها في كوخ أحد العروسين، وسرعان ما فشى في الناس أمرها واشتد إعجابهم ببراعة كاتبها وقوة فنه، وهكذا يثأر الفتى أول ثأر بقلمه لا بساعده.
وما كان لمثله أن يثأر إلا بقلمه ولسانه، وأن يناضل إلا بقلمه ولسانه، فهو يربأ بنفسه أن يفعل ما يفعله غير المهذبين، وإن له من قوة ذلك اللسان ما يستغني به عن قوة ساعده وبدنه.
وإنه ليحس في نفسه الميل إلى الدفاع عن المستضعفين، ويحس بتزايد هذا الإحساس يوما بعد يوم، وخير ما كان يمني به نفسه يومئذ أن يكون محاميا يدفع الظلم عن المظلومين.
قصد ذات يوم إلى جلسة قضائية في بلد قريب ليتفرج، وكان هذا أول خروج له من بيئة الأكواخ والأحراج البرية، وقد أعجب في هذه الجلسة بدفاع أحد المحامين إعجابا شديدا، حمله على أن يتقدم إلى ذلك المحامي مهنئا، فاقتحمته عين المحامي وازدراه وهو لا يدري أنه يزدري رئيس الولايات المتحدة في غد! ولقد التقى ذلك المحامي بالرئيس لنكولن بعد ذلك في البيت الأبيض، فذكره الرئيس الذي لا ينسى بدفاعه المجيد ولكنه لم يذكر منه شيئا!
صفحة غير معروفة