وأشد ما أثلج فؤاده أن جاءه رد ذلك الرجل الصالح ينبئه أنه ملب دعوته عند أول فرصة يدنو به فيها عمله من إنديانا، وسنحت الفرصة المرتقبة بعد أيام، وحل بصقعهم ذلك الرجل الصالح، وقد قطع في سفره إليهم ما يربو على المائة ميل.
وتلقاه أيب ودموع الشكر والفرح في مقلتيه، وأذيع النبأ في الجيرة، وحدد يوم لذلك الحفل.
وفي صباح اليوم المحدد تجمع على مقربة من قبر أمه نحو مائتين من ساكني الأكواخ المتناثرة في تلك الجهة، والتفتت أعين الجمع إلى حيث يقوم كوخ توماس لنكولن، فإذا برجل الدين يمشي مشية الصالحين الأتقياء، ووراءه توماس لنكولن يتبعهما أيب ثم أخته سارا وبعض الجيرة الأقربين، وسلم الرجل وترحم على الميتة ودعا لها الله، وكانت كلماته بردا وسلاما على قلب الغلام، وأحس بعدها كأنما طرح عن قلبه عبئا كان يئوده ويؤلمه، وصار يشفي نفسه كلما ذكر أمه ما قاله القس عن شمائلها وما دعا لها به الله من دعاء.
وستنصرم بعد ذلك الأعوام وهو لا ينسى ذلك الصباح، ولا ينسى ذلك القس الرحيم ولا كلماته الطيبات التي التأمت بها جراحات قلبه الصغير.
بين الفأس والكتاب!
ازداد إقبال الغلام على القراءة، ولكن أباه لا يهش لذلك ولا يأبه له، بل إنه ليقطع عليه أكثر الأحيان قراءته، فيستصحبه إلى الغابة ليعاونه فيما يراه أجدى على الأسرة من عمل، وهو يرى فيه الآن، وقد ناهز الرابعة عشرة، خير عون له؛ إذ كان الفتى حاذقا قويا تحمل قوته على العجب، ما رأى الجيران مثلها فيمن كان في مثل عمره، ورأى فيه أبوه فوق ذلك قدرة على الرماية تجلت له في حادثة واحدة، ولكنها كانت مقنعة؛ وذلك أنه تناول البندقية ذات يوم وصوبها نحو فرخ بري فأصابه في مهارة وخفة، على أن الفتى قد امتلأ رعبا وندم على ما فعل، وعافت نفسه مثل هذه القسوة؛ فما رآه أحد بعدها يصوب سلاحا إلى مخلوق.
وما كان إذعان أبراهام لأبيه إذ دعاه ليصرفه عما مالت إليه نفسه، فإنه ليختلس الساعات فيكتب ويقرأ تحدوه اللذة وتدفعه، حتى أصبح قادرا على تناول الكتب، وكان أول ما تناوله من الكتب الإنجيل، ثم خرافات إيسوب وروبنسن كروزو ورحلة الحاج، وكم كان لهذه الكتب من أثر في خياله ووجدانه! وذلك لأن نفسه أخذت تتفتح للحياة تفتح الزهرة للربيع، وتاقت تلك النفس الزكية إلى تاريخ العظماء، فقرأ حياة هنري كليي وحياة فرانكلن وحياة وشنطون بطل الحرية وزعيم الاستقلال، ولقد أعجب كل الإعجاب بسيرة هذا الزعيم العظيم، وبات مسحورا بما طالع من مواقفه في حرب الاستقلال وبما كان في تلك الحرب من بطولة.
ومالت نفسه إلى تفهم أسرار الحياة وهو بعد في السادسة عشرة، فكان يطيل التفكر والتأمل، وإن كان مسرح الحياة حوله غير حافل بما يثير العجب، على أن في الكتب من دواعي التفكر والنظر شيئا ليس بالقليل.
ووقعت في يده ذات يوم جريدة قديمة كان قد لف بها بعض المتاع، فقرأ فيها ما تعجب له ولم يفهمه حق الفهم! فما تلك الانتخابات؟ وما مسألة العبيد وأهل الجنوب؟ إنه ليسمع أشياء كهذه في الكنيسة أحيانا وفي أحاديث الجيران أحيانا فيعجب بينه وبين نفسه! فمتى يستطيع أن يعرف كنه هذه الأشياء على وجه اليقين؟ وأعجب ما قرأه في تلك الصحيفة القديمة هو أن أندرو جاكسون على وشك أن يظفر برياسة الولايات المتحدة، وهو رجل من عامة الناس تحدى الأقوياء الأغنياء من منافسيه فما استطاعوا أن يهزموه!
وكان للفتى نظرة نافذة إلى أعماق الأشياء، لا ينصرف عما يقرأ حتى يتعمقه تعمقا عجيبا، ولا يدع مسألة حتى يفهمها حق الفهم. وكان إلى رجاحة عقله ذا نفس تنفعل بطبيعة تكوينها للجمال والحق وتنفر من الأذى والشر، لو رآه خبير بطباع البشر يومئذ لظن أنه حيال شاعر تنبسط جوانب نفسه، وتتهيأ روحه لرسالة من الرسالات، ولقد كان أبراهام يكتب الشعر فعلا يومئذ ويقرؤه على خلانه، وصارت للشاعر بيرنز منزلة في نفسه لا تسمو عليها غير منزلة شكسبير، ولقد كان يكرر ما يعجبه ويكتبه في سجل ويعاود النظر فيه، وعرف ذلك عنه منذ تعلم القراءة، فاستوى له من ذلك قدر من بليغ الكلام، تأثرت به نفسه واستقام به لسانه.
صفحة غير معروفة