على أنه يقوى على مخالفتها في أمر غير هذا تطلبه إليه؛ فهي تريد أن تفرق بينه وبين صاحبه هرندن؛ لأنها لا تطيق أن يقاسم زوجها ربح المكتب لكل نصفه مع ماله اليوم من شهرة هي في زعمها أساس الربح، فضلا عما هو معروف من ضلاعته وطول عهده بالحرفة، ويأبى أبراهام عليها ذلك مهما يكن من غضبها، فما كان هو - والأمر أمر وفاء - بالذي يتنكر لصديق، بله هرندن الذي يحبه ويكبره ويتحمس له. ولا تبرح ماري تذكر صاحبه بالسوء، فتشير إلى وضاعة منبته في لهجة أرستقراطية، وتشير إلى إلحاده وإلى أنه يشرب الخمر، وتقول إنه لا يليق أن يكون مثله صاحبا له، ولكن زوجها يعرض عن حديثها في إصرار وقوة.
وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب؛ فلقد خطا في السياسة خطوة لن يكون بعدها نكوص، على أنه لم يجعل للمحاماة كل همه، فإن للسياسة اليوم نصيبا كبيرا من وقته ومن جهده، فهو يقرأ الصحف قراءة تمعن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة الرق، ولينظر في الأمر ليتعرف كيف يتطور وإلى أي متجه تتجه البلاد فيها، وهو يدعم بنيان حزبه في إلينوى، ويعد له ما استطاع من قوة يعتد بها في غد.
على أنه يخشى الفاقة؛ فقد كتب إليه بعض أصحابه ليستأنف طوافه في البلاد ويخطب الناس، فرد عليه بقوله إنه يخشى ألا يجد قوته إذا هو انصرف عن حرفته كما انصرف عنها أثناء مجادلة دوجلاس.
وعول على أن يجمع خطبه وخطب دوجلاس في كتاب يذيعه في الناس، وفعل ذلك دون أن يزيد على خطبه شيئا أو ينقص من خطب خصمه شيئا؛ فقد نقل كلام دوجلاس من صحف الحزب الديمقراطي كما هي، وإنه ليعلم أن أصحاب دوجلاس نمقوها، وأضافوا إلى مواضع الحماسة فيها ما يزيدها حماسة، وحذفوا من مواضع الضعف ما سبب هذا الضعف؛ وذلك أنه واثق من أن حجته هي العليا وحجة خصمه السفلى؛ لأنه تكلم عن يقين وتكلم دوجلاس عن غرض. وإنه للقوي الأمين الذي لا يستطيع أن يخادع أو يغش أو يحتال.
وكان أبراهام يومئذ ممتلئا نشاطا وقوة، على الرغم من طول الصراع وعنفه بينه وبين دوجلاس. وكان الناس يعجبون من قوة بدنه وخفة حركته ونضارة محياه، على الرغم مما يعلق به أبدا من أمارات الهم والقلق، ولو أنهم ذكروا كيف سوته الغابة وكيف بنته يوم كان يهوي بفأسه على شجرها ما داخلهم من بأسه عجب.
وينظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، ويتهامسون أنه لا بد مرشح للرياسة بعد أمد قريب، ولكنه لا يزداد إلا دعة ولينا، فيدل بذلك على أن عظمته هي العظمة الحق تبدو للناس في أبسط مظهر، فتكون بذلك في أبهى مظاهرها.
والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وروعة منظره، ولن يخرج الذهب عن صفته خلوه من الزينة، والنحاس لن يكون إلا نحاسا مهما نقش وزين، والعظيم لا يتكلف ولا يتصنع، أما المتعاظم فهو إنما ينبه الناس إلى حقيقة أمره بما يدعي لنفسه من أوجه الكمال، فيرونه صغيرا وإن تكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن خيل إليه أنه جوهر.
ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه إلى ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه قلوبهم وعقولهم، ما وجدت فيه شذوذا ولا نقصا. كان في أعماله وأقواله كالكوكب في هذا الفلك الدائر؛ يتحرك وفق نظام فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.
وظل من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع بينه وبين الناس الكلفة، فيصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدرا وله اليوم مكانته وصيته، فإذا غشي مجلسا لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى أن يجلس إلا حيثما اتفق له، وإنه ليحب أن يناديه الناس باسمه مجردا من كل لقب يراد به التعظيم، وهو عندهم «أيب الأمين» أو «أيب العجوز» أو هما معا، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر وفي قلبه وقع؛ لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع.
أقام أبراهام في سبرنجفيلد يكدح من أجل قوته، ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن الكبيرة، وبخاصة في الشمال. والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد تذكر مسألة الرق اليوم إلا مقترنة باسمه. ثم إن مسألة الوحدة تذكر كلما ذكر الرق؛ فقد أخذت تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال، وكان خصوم أبراهام دائبين على أن يرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري ما ينذر البلاد من بوادر الفرقة، ودأبوا كذلك على نعته بالجمهوري الأسود حنقا عليه وكيدا له.
صفحة غير معروفة