وعلى الفور حاصروهم. وقف الأوميجيون لبرهة يتطلعون إليهم رافعين مشاعلهم بيسراهم وممسكين بهراواتهم في يمناهم، ثم ما لبثوا أن بدءوا رقصتهم الطقسية حول ضحاياهم. لكن هذه المرة كانت حركاتهم في البداية أبطأ، واحتفالية أكثر، وصوت الغناء أعمق، ولم يعد الغناء احتفاليا بل صار جنائزيا. على الفور انضم لهم ثيو، رافعا ذراعيه، وتلوى بجسده وامتزج صوته بأصواتهم. وواحدا تلو الآخر، انسل الأربعة الآخرون لينضموا للدائرة. لكنهم تفرقوا. ولم يكن ذلك بالأمر الجيد. كان يريد أن يكون رولف وجوليان متقاربين كي يعطيهما الإشارة بالتحرك. لكن الجزء الأول والأخطر من خطته كان قد نجح. فقد كان يخشى أن يضربوه إن تحرك، وهيأ نفسه لتلقي ضربة قاضية تنهي حياته وتضع حدا لمسئوليته. إلا أنها لم تأت.
ثم كأنما يمتثلون لأوامر سرية، بدأ الأوميجيون يدقون الأرض بأقدامهم بإيقاع متناغم متسارع ثم عادوا يرقصون رقصتهم الدورانية. تلوى الأوميجي الذي كان أمامه ثم بدأ يختال للخلف بخطوات رشيقة خفيفة، كخطوات هرة، وهو يلوح بهراوته فوق رأسه. ونظر إلى وجه ثيو مبتسما، واقترب منه حتى كاد أنفاهما يتلامسان. نالت رائحته أنف ثيو، وكان في رائحته نتن لكنها لم تكن بشعة بالكلية، واستطاع أن يتبين الدوائر والمنحنيات المرسومة على وجهه بالطلاء الأزرق والأحمر والأسود، التي تحدد عظمتي وجنتيه وتمتد حتى أعلى حاجبيه، وتغطي وجهه بالكامل بنقش كان يبدو بربريا وراقيا في آن واحد. للحظة تذكر ساكني جزر بحر الجنوب ذوي الوجوه المطلية والشعور المعقودة أعلى رءوسهم في متحف بيت ريفرز، وتذكر وقوفه مع جوليان في خوائه الساكن.
استقرت عينا الأوميجي، اللتان بدتا ككرتين سوداوين وسط وهج الألوان على عينيه. لم يجرؤ على أن يشيح بنظره عنه ليبحث عن جوليان أو رولف. ظلوا يرقصون في دائرة بوتيرة متسارعة. متي سيتحرك رولف وجوليان؟ حتى بينما كان يحملق في عيني الأوميجي، كان يرجو في ذهنه أن ينطلقا تجاه السور الآن قبل أن يمل آسروهم ذلك الود المفتعل. ثم انصرف عنه الأوميجي ليتابع الرقص أمامه فاستطاع أن يدير رأسه. كان رولف، وبجواره جوليان، في الجانب المقابل من الدائرة، وكان رولف يتقافز في حركات خرقاء في محاولة لتقليد حركات الرقص، رافعا ذراعيه لأعلى، وكانت جوليان تمسك بعباءتها بيدها اليسرى، ويدها اليمنى خاوية، ويتمايل جسدها الذي تغطيه العباءة مع غناء الراقصين الصاخب.
ثم جاءت لحظة مرعبة. فقد مد الأوميجي، الذي يتمايل خلفها، يده اليسرى وأمسك بشعرها المجدول. شده فانفكت جديلتها. توقفت لبرهة ثم عاودت الرقص من جديد وشعرها يتطاير حول وجهها. كانا قد اقتربا من حافة الطريق المعشبة ومن الجزء الأكثر انخفاضا من الجدار. رآه بوضوح في ضوء المشاعل بأحجاره المتهدمة على العشب وشكل الأشجار الحالكة خلفه. أراد أن يصرخ بصوت مسموع: «الآن. اذهبا الآن. هيا! هيا انطلقا!» في تلك اللحظة تحرك رولف. فأمسك بيد جوليان وانطلقا يعدوان نحو الجدار. قفز رولف من فوقه أولا، ثم أرجح جوليان وجرها عبره. تابع بعض الراقصين المنهمكين المنتشين عويلهم الحاد، لكن الأوميجي الأقرب إليهما كان سريعا. فألقى بمشعله وانطلق يعدو في إثرهما، مطلقا صيحة وحشية، وأمسك بطرف عباءة جوليان بينما كانت تتدلى وهي تعبر الجدار.
في تلك اللحظة اندفع لوك نحوهم. وأمسك بالأوميجي وحاول دون جدوى أن يجذبه للخلف وهو يصيح: «لا، لا. خذني أنا! خذني أنا!»
ترك الأوميجي طرف العباءة وبصرخة غضب التفت إلى لوك. لوهلة رأى ثيو جوليان تقف مترددة، وتمد ذراعها تجاهه، لكن رولف جذبها بقوة واختفى شبحاهما الهاربان عن نظره وسط ظلال الأشجار. انتهى الأمر في لحظات، تاركا في ذهن ثيو مشهدا مشوشا لذراع جوليان الممدود ونظرتها المتوسلة، ولرولف وهو يجذبها بعيدا، ولمشعل الأوميجي وهو يتوهج فوق العشب.
الآن صار لدى الأوميجيين ضحية اختارت مصيرها طواعية. عم صمت مخيف بينما تجمعوا حوله متجاهلين ثيو وميريام. عندما وقعت أول ضربة هراوة خشبية على عظامه، سمع ثيو صرخة لكنه لم يتبين إن كانت قد صدرت من ميريام أم من لوك. ثم سقط لوك أرضا، وتكالب عليه قاتلوه كالوحوش حول فريستها، يتدافعون كي يفسح كل منهم لنفسه مكانا، وانهالوا عليه بضرباتهم في فورة من الجنون. انتهت الرقصة واكتملت مراسم الموت، وبدأ القتل. كانوا يقتلونه في صمت، في صمت رهيب حتى إنه خيل لثيو أنه يسمع صوت تكسر وتفلق كل عظمة من عظام جسد لوك، ويطرش أذنيه صوت تدفق دمائه. أمسك بميريام وجذبها تجاه الجدار.
قالت لاهثة: «لا. يجب ألا نفعل ذلك! يجب ألا نتركه.» «نحن مضطرون. ليس بإمكاننا مساعدته الآن. جوليان بحاجة إليك.» لم يحاول الأوميجيون أن يتبعوهما. عندما وصل ثيو وميريام إلى أطراف الغابة، توقفا والتفتا وراءهما. كان القتل لا يبدو الآن كعملية سفك دماء هوجاء بقدر ما كان يبدو قتلا ممنهجا. كان خمسة أو ستة أوميجيون يرفعون مشاعلهم ويقفون في دائرة حول ظلال داكنة صامتة، ذات صدور عارية، ممسكة بالهراوات التي تعلو وتهبط في رقصة إيقاعية طقسية تحتفي بالموت. حتى من تلك المسافة، خيل لثيو أن صوت تهشم عظام لوك كان يشق الهواء. لكنه كان يعلم أنه لم يكن يصل لأذنيه سوى صوت لهاث ميريام وضربات قلبه. أحس برولف وجوليان يقتربان منهما ويقفان بهدوء خلفهما. وقفوا معا ينظرون في صمت بينما بدأ الأوميجيون يصيحون مرة أخرى بعد أن أتموا عملهم واندفعوا نحو السيارة التي استولوا عليها. في ضوء المشاعل، تبين ثيو معالم بوابة واسعة تؤدي إلى الحقل المحاذي للطريق. أمسكها أوميجيان ليبقياها مفتوحة وسيقت السيارة عبر الحافة العشبية يقودها أحد أفراد العصابة بينما كان بقيتهم يدفعونها من الخلف. عرف ثيو أنه لا بد أن معهم سيارتهم الخاصة، التي ربما كانت شاحنة صغيرة، مع أنه لم يكن بوسعه أن يتذكر أنه رآها. لوهلة انتابه أمل أحمق أنهم قد يهجرونها مؤقتا في خضم انشغالهم بإضرام النيران في السيارة، وأنه قد تواتيهم الفرصة للوصول إليها، وربما حتى يجدون المفاتيح في موضع التشغيل. لكنه كان يدرك أن تلك لم تكن فكرة منطقية. بمجرد أن وردت على ذهنه، رأى شاحنة سوداء صغيرة تسير في الطريق وتعبر البوابة إلى الحقل.
قدر ثيو أنهم لم يبتعدوا لأكثر من خمسين ياردة. ثم بدأ الصياح والرقص الجنوني مجددا. ودوى صوت انفجار وتصاعدت النيران من السيارة الرينو. واحترقت معها المؤن الطبية التي كانت ميريام قد جمعتها، وطعامهم ومياههم وأغطيتهم. معها ضاعت كل آمالهم.
سمع جوليان تقول: «يمكننا إحضار لوك الآن. بينما هم منشغلون.»
صفحة غير معروفة