كان الطريق مليئا بالتعرجات والمنعطفات لكن سطحه صار ممهدا أكثر. بعد ساعات من القيادة التي خلت من أي صعوبات، بدأ ثيو يشعر بالثقة تدريجيا. ربما، في نهاية المطاف، لن يكون ثمة حاجة لأن تكون تلك الرحلة كارثية. لا بد أن جاسكوين قد تكلم، لكنه لم يكن يعرف بأمر الطفل. في نظر زان، كانت «السمكات الخمس» مجرد عصابة صغيرة وتافهة من الهواة. حتى إنه قد لا يكلف نفسه عناء مطاردتهم. لأول مرة منذ بداية الرحلة، تفجر في داخله ينبوع من الأمل.
بالكاد رأى جذع الشجرة الساقط في الوقت المناسب، وضغط دواسة المكابح بقوة قبل أن تلامس أغصانها البارزة غطاء المحرك. استيقظ رولف من نومه مفزوعا وأطلق سبة. أطفأ ثيو محرك السيارة. عم الصمت لبرهة راودته خلالها خاطرتان، تبعت إحداهما الأخرى في اللحظة نفسها تقريبا، فأعادتاه إلى كامل وعيه. كانت الخاطرة الأولى هي الارتياح؛ فجذع الشجرة لم يكن يبدو ثقيلا مع أنه كان لا يزال محتفظا بأوراقه الخريفية. وعلى الأرجح لن يجد هو والرجلان الآخران صعوبة كبيرة في إزاحته عن الطريق. أما الثانية فقد كانت الهلع. لا يمكن أن يكون ذلك الجذع قد سقط عرضا؛ فلم تهب أي رياح قوية مؤخرا. لقد أسقط عمدا لإعاقة طريقهم.
وفي تلك اللحظة انقض عليهم الأوميجيون. لهول الأمر، في البداية اقتربوا في صمت تام دون أن يسمع لهم صوت. من وراء كل نافذة من نوافذ سيارتهم، كانت تحملق بهم الوجوه المطلية تحت ضوء المشاعل. صرخت ميريام صرخة قصيرة لا إرادية. وصاح رولف: «ارجع بالسيارة للخلف! ارجع إلى الخلف!» وحاول أن يمسك بعجلة القيادة وذراع النقل. فتشابكت يده ويد ثيو. دفعه ثيو جانبا وحرك ذراع النقل لترس الحركة العكسية. دبت الحياة في المحرك، وانطلقت السيارة للخلف. لكنهم اصطدموا بعائق بقوة جعلت جسده ينتفض إلى الأمام. لا بد أن الأوميجيين قد تحركوا بسرعة وبصمت وحاصروهم بعائق آخر. عادت الوجوه تحملق من النوافذ مجددا. حدق في عيونهم الخاوية من التعبيرات اللامعة المحددة بطلاء أبيض ويحيط بها قناع من الدوائر المطلية بالأزرق والأحمر والأصفر. فوق جباههم المطلية كانت شعورهم مرفوعة ومعقودة أعلى رءوسهم. كان الأوميجي يحمل في يد مشعلا مضاء وفي يده الأخرى هراوة، تبدو كعصا شرطي، مزينة بجدائل من الشعر. تذكر ثيو مرتاعا أنه سمع أن ذوي الوجوه المطلية، بعد أن يقتلوا ضحيتهم، يحلقون شعرها ويجدلونه ويحتفظون به تذكارا، ولم يصدق تلك الشائعة كليا وكان يعتبرها أسطورة من أساطير فلكلور أدب الرعب. تساءل الآن، بينما كان يحدق بهلع مذهول في الضفيرة التي تتدلى من الهراوة، عما إذا كانت لرجل أم لامرأة.
لم ينبس أحد من ركاب السيارة ببنت شفة. لا بد أن الصمت، الذي بدا أنه دام لبضع دقائق، لم يدم لأكثر من بضع ثوان. ثم بدأت الرقصة الطقسية. أطلق أولئك الأشخاص صيحة عالية وبدءوا يتبخترون حول السيارة، ويضربون بهراواتهم جوانبها وسقفها في قرع إيقاعي يتماشى مع أصوات غنائهم المرتفعة. كانوا لا يرتدون إلا السراويل القصيرة لكن أجسادهم لم تكن مطلية. فبدت صدورهم العارية بيضاء كالحليب في ضوء المشاعل، وبدت عظام صدورهم هشة ضعيفة. جعلتهم سيقانهم، التي كانت تنتفض بعنف، ورءوسهم المزينة، ووجوههم المنقوشة بالطلاء، تشقها أفواههم المفغورة الصادحة، يبدون كمجموعة من أطفال كبار يمارسون ألعابهم التي قد تكون تخريبية لكنها في الأصل بريئة.
تساءل ثيو: هل من الممكن أن يتكلم معهم وأن يحاورهم بالمنطق، أو يجعلهم يدركون على الأقل أنهم إخوة في الإنسانية؟ لكنه لم يضع وقته في التمعن في تلك الفكرة. تذكر أنه التقى ذات يوم بأحد ضحاياهم وتذكر مقتطفا من حوارهما. «يقال إنهم يقتلون ضحية واحدة يقدمونها قربانا، لكني أشكر الرب أن تلك المرة اكتفوا بالسيارة.» ثم أضاف قائلا: «لا تعبث معهم. اترك سيارتك ولذ بالفرار .» فيما يخصه، لم يكن الهرب سهلا؛ أما فيما يخصهم، وبوجود امرأة حبلى معهم فبدا مستحيلا. لكن كانت توجد حقيقة واحدة قد تثنيهم عن فكرة القتل، إن كانوا قادرين على التفكير المنطقي وصدقوها؛ وهي حمل جوليان. كان الدليل على حملها قد صار بينا الآن حتى لأوميجي. لكنه لم يكن مضطرا لأن يتساءل عن رد فعل جوليان تجاه تلك الفكرة؛ فلم يهربوا من زان ومجلسه ليقعوا في قبضة عصابة ذوي الوجوه المطلية. نظر إلى جوليان بالخلف. كانت تجلس محنية رأسها. على الأغلب كانت تصلي. تمنى لها حظا سعيدا مع إلهها. كانت عينا ميريام جاحظتين ومرتعبتين. كان يستحيل رؤية وجه لوك لكن من مقعده كان رولف يطلق سيلا من السباب.
استمر الرقص، وتحركت أجسادهم المتلوية بسرعة أكبر، وصار صوت غنائهم أعلى. كان من الصعب أن يتبين عددهم لكنه خمن أنه لم يكن يقل عن دزينة. لم يحاولوا فتح أبواب السيارة لكنه كان يدرك أن أقفال أمانها لن توفر أي حماية فعلية منهم. فعددهم كان كافيا لقلب السيارة. وكانت المشاعل كفيلة بإشعال النيران بها. كان إجبارهم على الخروج منها مسألة وقت لا أكثر.
تسارعت الأفكار في رأس ثيو. ما فرص النجاح في الهروب، على الأقل لجوليان ورولف؟ من خلال مجموعة الأجساد المتراقصة تأمل المنطقة من حولهم. على يسارهم كان يوجد سور حجري تهدمت أجزاء منه، وخمن أن ارتفاعه لا يزيد عن ثلاثة أقدام. رأى وراءه صفا مظلما من الأشجار. كان معه المسدس ورصاصة واحدة، لكنه كان يدرك أن مجرد إظهار المسدس قد يؤدي إلى عواقب مهلكة. ليس بإمكانه أن يقتل إلا واحد منهم فقط؛ وسيتكالب بقيتهم عليهم بغضب ثأري. وسيتحول الأمر إلى مجزرة. ولم يكن خيار الاشتباك معهم بدنيا سيجدي نفعا، فقد كانوا يفوقونهم عددا. كان الظلام هو أملهم الوحيد. إن استطاعت جوليان ورولف أن يبلغا صف الأشجار، فسيكون لديهم على الأقل فرصة للاختباء. متابعة الركض والسقوط بصوت مسموع وسط شجيرات غابة لا يعرفانها كان سيستحث المطاردة، لكن الاختباء قد يكون ممكنا. سيعتمد نجاحهما في ذلك عما إذا كان الأوميجيون سيتجشمون عناء مطاردتهما. كان ثمة فرصة وإن كانت ضئيلة أن يكتفوا بالسيارة والضحايا الثلاثة المتبقين.
قال في نفسه إنهم يجب ألا يروا أننا نتكلم، أو يدركوا أننا نخطط للفرار. لم يكونوا يخشون أن يسمع حديثهم؛ فصوت الصرخات والصيحات التي حولت الليل إلى جحيم كاد يطغى تماما على صوته. كان عليه أن يتكلم بصوت عال وواضح إن أراد أن يسمعه لوك وجوليان في الخلف، لكنه حرص على ألا يدير رأسه تجاههما.
قال: «سيجبروننا في النهاية على مغادرة السيارة. وعلينا أن نخطط بعناية لما سنفعله حينها. الأمر بيدك يا رولف. عندما يسحبوننا إلى خارج السيارة، اعبر بجوليان فوق ذلك الجدار، ثم اركضا إلى الأشجار واختبئا. تخير بعناية اللحظة التي ستفعل فيها ذلك. من جانبنا سنحاول أن نغطي على غيابكما.»
قال رولف: «كيف؟ ماذا تعني بذلك؟ كيف يمكنكم أن تغطوا على غيابنا؟» «بالحديث. بجذب انتباههم.» ثم أتاه الإلهام. «بمشاركتهم الرقص.»
صفحة غير معروفة