ثم استدرت ومشيت مبتعدا كي لا أضطر لأن أشاهدها وهي تبتعد عني.
أكتب تلك الكلمات بعد العشاء، وأنا أتطلع من النافذة الخلفية الصغيرة إلى غابة ويثام المنحدرة البعيدة. أنا الآن في الخمسين لكني لم أذق يوما طعم الحب. أكتب تلك الكلمات وأنا أعلم أنها حقيقية، لكني لا أشعر بالحسرة على ذلك، اللهم إلا كحسرة رجل، يعاني صمم الطبقات الصوتية، على عدم قدرته على تذوق الموسيقى، حسرة ليست بالبالغة لأنها على شيء لم أعرفه يوما، لا على شيء فقدته. لكن المشاعر تختار الزمان والمكان المناسبين لها. عمر الخمسين ليس عمرا مناسبا لأن يسعى المرء بنفسه إلى ويلات الحب، بخاصة على ذلك الكوكب الهالك الكئيب حيث سيرقد البشر تحت التراب وتخبو كل الرغبات؛ لذا أخطط لأن ألوذ بالهرب. ليس سهلا لمن تقل أعمارهم عن الخامسة والستين أن يحصلوا على تصريح بالخروج من البلاد؛ فمنذ أن وقعت أوميجا، لا يسمح بالسفر بحرية إلا لكبار السن. لكني لا أتوقع أن أواجه أي صعوبة. فلا يزال ثمة مميزات لكوني ابن خالة الحاكم، حتى إن لم آت على ذكر صلة القرابة تلك. فهي تكتشف بمجرد أن أتواصل مع السلطات الرسمية. وجواز سفري به بالفعل ختم تصريح السفر الذي أحتاج إليه. سأجد من ينوب عني في تدريس الدورة الصيفية، وأرتاح من عبء ذلك الضجر الجماعي. فليس لدي أي معارف جديدة أضيفها، ولا حماس لأن أتواصل مع الناس. سأستقل العبارة ثم أطوف بالسيارة، أزور مجددا مدن أوروبا العظيمة، وكاتدرائياتها ومعابدها، بينما لا تزال توجد طرق تصلح للسير ، وفنادق بها موظفون كافون لتقديم مستوى مقبول على الأقل من الضيافة المريحة، وأضمن أن أستطيع شراء الوقود، على الأقل داخل المدن. سألقي وراء ظهري بذكرى ما شهدته في ساوثولد، ومقابلتي لزان والمجلس، وتلك المدينة الرمادية التي يقف كل ما بها حتى الأحجار شاهدا على سرعة زوال الشباب والتعلم والحب. سأمزق تلك الصفحة من دفتر يومياتي. فكتابة تلك الكلمات كان دربا من إطلاق العنان للنفس، وتركها سيكون دربا من الحماقة. وسأحاول أن أنسى الوعد الذي قطعته لها هذا الصباح. فقد قطعته في لحظة جنون. لا أحسب أنها ستأخذه على محمل الجد. وإن فعلت، فستجد المنزل خاويا.
الكتاب الثاني
ألفا (A)
أكتوبر 2021
الفصل العشرون
عاد إلى أكسفورد في آخر يوم من سبتمبر، ووصل في منتصف ما بعد ظهيرة ذلك اليوم. لم يحاول أحد منعه من الذهاب، ولم يجد من يرحب به عند عودته. كانت رائحة المنزل غير نظيفة، فقد كانت تفوح من القبو وغرفة الطعام رائحة الرطوبة والعطن، بينما كانت الغرف العلوية بحاجة إلى التهوية. كان قد طلب من السيدة كافاناج أن تفتح النوافذ من حين لآخر، لكن رائحة الهواء المكتوم البغيضة أشعرته أنها كانت مغلقة بإحكام منذ سنوات. تناثرت الخطابات في الردهة الضيقة، وبدت الأظرف الرقيقة كأنما التحمت بالسجادة. كانت الستائر الطويلة لغرفة الاستقبال مسدلة حاجبة ضوء شمس ما بعد الظهيرة فجعلت المنزل يبدو كأنه منزل أموات، وتجمعت كتل صغيرة من الركام وبقع من السخام من المدخنة، وسحقتها قدماه في البساط دون قصد. استنشق الهواء المعبأ بالسخام والعطن. بدا المنزل نفسه كأنه يوشك أن يتداعى أمام عينيه.
أدهشه أن الغرفة العلوية الصغيرة، المطلة على برج الجرس بكنيسة سانت بارناباس وأشجار غابة ويثام التي اكتست أوراقها بألوان بدايات الخريف، كانت باردة جدا، لكن عدا ذلك لم تتغير. هناك جلس يقلب بضيق صفحات دفتر يومياته الذي دون فيه أحداث كل يوم مر عليه في أسفاره، وبكآبة وبدقة، عدد في ذهنه المدن والمزارات التي كان يخطط لأن يعيد زيارتها كما لو كان تلميذا يحاول إتمام مهمة صيفية. أوفيرن، وفونتينبلو، وقرقشونة، وفلورنسا، والبندقية، وبيروجيا، وكاتدرائية أورفيتو، واللوحات الفسيفسائية بكنيسة سان فيتالي، ورافينا، ومعبد هيرا بمدينة بيستيوم. لم ينطلق في رحلته تلك بحس الترقب والحماس، ولم يكن ينوي خوض أي مغامرات، ولم يسع لزيارة أماكن بدائية لا يألفها؛ حيث كان شعور الحداثة والاستكشاف سيعوضانه عن رتابة الطعام وخشونة الفرش. بل كان يتنقل بطريقة منظمة ومرفهة ومريحة من عاصمة إلى أخرى: باريس، ومدريد، وبرلين، وروما. ولم يكن يقصد حتى أن يودع جمال وروائع تلك المدن التي كان قد رآها للمرة الأولى في شبابه؛ فقد كان يأمل أن يزورها مرة أخرى؛ فلا داعي لأن تكون تلك زيارته الأخيرة. بل كان الغرض من رحلته تلك هو الهرب، لا البحث عن ملذات منسية. لكنه كان يعلم الآن أن الجانب من نفسه الذي كان أكثر احتياجا لأن يهرب منه كان قد بقي في أكسفورد.
بحلول أغسطس، اشتدت حرارة الطقس في إيطاليا. هروبا من الحرارة والغبار والصحبة الكئيبة للعجائز الذين بدا أنهم يجوبون أوروبا كالضباب الزاحف، سلك الطريق المتعرج المؤدي إلى مدينة رافيللو، المنظومة مثل عش طائر بين مياه البحر المتوسط الزرقاء الداكنة والسماء. وهناك وجد فندقا صغيرا تديره عائلة، وكان باهظ الثمن وشبه خاو. مكث فيه بقية الشهر. لم يكن بإمكانه أن يمنحه السلام، لكن منحه الراحة والعزلة.
كانت ذكراه الأكثر تأثيرا هي زيارته لروما، ووقوفه أمام تمثال «بييتا» لمايكل أنجلو في كاتدرائية سانت بيترز، ورؤية صفوف الشموع ذات الأضواء المتراقصة، والنساء من الغنيات والفقيرات، والصغيرات والعجائز اللواتي ركعن وأعينهن مثبتة على وجه العذراء بنظرة توق شديد تؤلم مشاهدتها النفس إيلاما شديدا. تذكر أيديهن الممدودة، وراحاتهن التي استندت إلى العازل الزجاجي، وهمهمات صلواتهم الخافتة وكأنها أنين ملتاع خرج من حلق واحد وحمل لذلك الرخام الجامد شوق العالم بأسره الذي انقطع منه الرجاء.
صفحة غير معروفة