كانت الورقة ذات جودة رديئة، وكانت الرسالة مطبوعة عليها بطريقة تفتقر للاحترافية. على ما يبدو أنهم كان لديهم مطبعة مخبأة في سرداب كنيسة أو داخل حظيرة بغابة معزولة لكن يسهل الوصول إليها. لكن حتام ستظل سرا إن أخذت شرطة الأمن الوطني على عاتقها مطاردتهم؟
قرأ المطالب الخمسة مرة أخرى. على الأرجح لن يثير المطلب الأول قلق زان؛ فالشعب لن يرحب بالنفقات التي سيتكلفها إجراء انتخابات عامة أو الاضطرابات التي سيثيرها ذلك، لكن إن دعا إلى إجرائها، فستؤكد الأغلبية العظمى أحقيته في السلطة، سواء وجد من يملك من الرعونة ما يجعله يقف أمامه أم لا. سأل ثيو نفسه كم من الإصلاحات الأخرى المطلوبة كان بإمكانه أن يحقق لو ظل مستشارا لزان. لكنه كان يعرف الإجابة؛ فعجزه حينها كان لا يختلف عن عجز جماعة «السمكات الخمس» الآن. لولا أوميجا، لاعتبرت تلك المطالب أهدافا يمكن للمرء أن يحارب من أجلها أو حتى يلاقي الأهوال في سبيلها. لكن لولا أوميجا، لما وجدت الشرور من الأساس. كان من المنطقي أن يناضل المرء أو يعاني أو حتى يموت في سبيل أن يحظى بمجتمع أكثر عدلا ورحمة، لكن ذلك ليس منطقيا في عالم لا مستقبل له، عالم ستصير فيه الكلمات «عدل» و«رحمة» و«مجتمع» و«نضال» و«شر» في القريب العاجل مجرد أصداء لا يسمعها أحد تدوي في هواء لا يستنشقه أحد. ستقول جوليان أن ننقذ ولو عاملا وافدا واحدا من سوء المعاملة، أو نمنع ترحيل مجرم واحد
«السمكات الخمس»، فلن يتحقق ذلك؛ فذلك خارج حدود قدراتهم. أعاد قراءة المطالب الخمسة فشعر بالشفقة التي انتابته في بادئ الأمر تزول. قال في نفسه إن أغلب الرجال والنساء، الذين حرموا من أن يكون لهم نسل، يبذلون أقصى ما بوسعهم كي يحملوا عبء أحزانهم وندمهم، وقد تدبر كل منهم ملذات بديلة، واستغرقوا في توافههم الشخصية البسيطة، وصاروا يعاملون الآخرين وأي عمال وافدين يقابلونهم باحترام. فبأي حق تسعى جماعة «السمكات الخمس» لفرض عبء الفضيلة البطولي الذي لا جدوى منه على أولئك المسلوبين غير المبالين؟ أخذ الورقة إلى المرحاض وقطعها بدقة إلى أرباع وألقاها فيه ثم سحب المدفقة. بينما كانت المياه تسحبها وتدورها لتختفي عن نظره، تمنى للحظة فقط لو كان بوسعه أن يشاركهم الحماسة والطيش اللذين يربطان بين أفراد تلك الجماعة غير المسلحة المثيرة للشفقة.
الفصل السادس عشر
السبت 6 مارس 2021
اليوم اتصلت بي هيلينا بعد الإفطار لتدعوني لاحتساء الشاي ورؤية هرر ماتيلدا. كانت قد أرسلت لي بطاقة بريدية منذ خمسة أيام كي تعلمني بولادتها سالمة، لكنها لم تدعني إلى حفل الولادة. تساءلت إذا ما كانا قد أقاما حفلا للولادة أم اعتبراها امتيازا خاصا، أو تجربة يتشاركانها معا كاحتفاء متأخر بحياتهما الجديدة معا وتوطيد لها. حتى إن كان الأمر كذلك، فعلى الأرجح لن يفوتا ما يعتبره العرف في حكم الواجب، وهو إتاحة الفرصة للأصدقاء أن يشهدوا معجزة ولادة حياة جديدة. عادة يدعى ستة أشخاص بحد أقصى لمشاهدة الولادة، لكن من مسافة محسوبة بعناية، كي لا يقلقوا الأم أو يزعجوها. وبعدها، إن سار كل شيء على ما يرام، تقام وليمة احتفالية، عادة ما تقدم معها الشمبانيا. لكن هذه الولادات لا تخلو من الحزن؛ فالقوانين المتعلقة بالحيوانات الأليفة الولود واضحة وتطبق بصرامة. وهي تقضي بتعقيم ماتيلدا والسماح لهيلينا وروبرت بالاحتفاظ بأنثى واحدة من هررها المولودة في ذلك البطن للتناسل. بدلا من ذلك، سيسمح لماتيلدا بولادة بطن أخرى، لكن حينها تعدم دون ألم جميع الهرر التي تلدها في ذلك البطن عدا ذكر واحد.
بعد أن تلقيت اتصال هيلينا، شغلت الراديو لأستمع إلى نشرة أخبار الساعة الثامنة. عندما سمعت تاريخ اليوم يذكر، أدركت للمرة الأولى أنه قد مر عام واحد بالضبط منذ أن تركتني من أجل روبرت. وربما هو يوم مناسب لزيارتي الأولى لبيتهما. اخترت أن أسميه «بيتا» لا «منزلا» لأني واثق من أن هيلينا كانت ستصفه بهذه الكلمة، تعظيما من شأن بناء عادي في شمال أكسفورد بإضفاء أهمية مقدسة لما يتشاركانه فيه من حب وأعمال تنظيف منزلية والتزام وصراحة تامة ونظام غذاء متوازن، ومطبخ صحي، وجماع صحي مرتين في الأسبوع. أتساءل، بشيء من الندم على تصرفاتي الشهوانية، كيف هي حياتهما الجنسية، لكني أقول في نفسي إن فضولي ذلك أمر طبيعي ومباح. ففي النهاية، يستمتع روبرت الآن، أو لعله يفشل في الاستمتاع، بجسدها الذي أكاد أعرفه عن ظهر قلب مثلما أعرف جسدي. الزواج الفاشل هو أكبر إثبات مخز على أن شهوة الجسد عابرة ومؤقتة. فبوسع المتحابين اكتشاف أحدهما كل خطوط جسد الآخر ومنحنياته وثناياه، وأن يبلغا معا قمة النشوة التي لا توصف؛ لكن تتضاءل أهمية ذلك عندما يفنى الحب أو تخبو الشهوة أخيرا ولا يبقى بينهما إلا النزاع على الممتلكات، وفواتير المحامين، والحطام البائس الذي يشغل غرفة الكراكيب، وعندما يتحول البيت الذي اختاراه وأثثاه وامتلكاه وهما مفعمان بالحماس والأمل إلى سجن، ويرتسم الامتعاض الكدر على وجهيهما، وترى عينا كل منهما، وقد خبت منها العاطفة وزالت عنها الغشاوة، جميع عيوب الآخر الجسدية بعد أن تزول رغبته فيه. أتساءل إن كانت هيلينا تتحدث مع روبرت عما كان يدور بيننا في السرير. أتصور ذلك؛ فالامتناع عن ذلك يتطلب مقدارا من ضبط النفس ورهافة الحس أكبر مما عهدته فيها يوما. ثمة عرق من الفجاجة يشوب الوجاهة الاجتماعية التي نشأت عليها هيلينا، وبإمكاني أن أتصور ما كانت ستقوله له. «كان ثيو يظن أنه عشيق رائع، لكنه لم يكن يميزه إلا أسلوبه. ستظنه تعلمه من كتيب إرشادات للجماع؛ فهو لم يكن يتحدث معي، أعني يتحدث معي فعليا. فلا فرق لديه بيني وبين أي امرأة أخرى.»
يمكنني أن أتصور أنها تقول تلك الكلمات لأني أعرف أنها محقة؛ فقد آذيتها أكثر مما آذتني، حتى إن أخرجنا من الحسبان قتلي طفلتها الوحيدة. لم تزوجتها؟ تزوجتها لأنها كانت ابنة أستاذي وهذا من شأنه أن يمنحني الوجاهة؛ ولأنها هي أيضا تحمل درجة علمية في التاريخ فاعتقدت أن لدينا اهتمامات فكرية مشتركة، ولأني كنت أجدها جذابة شكلا، وهذا جعلني أقنع قلبي الضنين بأن ذلك وإن لم يكن حبا، فهو أقرب إلى الحب مما سأصل إليه يوما على الأرجح. نجم عن مصاهرتي أستاذي توتر أكثر مما نجم عنه من لذة (فقد كان في الحقيقة شخصا متباهيا لدرجة منفرة، ولا عجب أن هيلينا كانت تتلهف للتملص من قبضته)، أما اهتماماتها الفكرية فكانت منعدمة (فقد قبلت في جامعة أكسفورد لأنها ابنة عميد إحدى كلياتها، ولأنها بمزيج من الاجتهاد والتعليم الجيد الباهظ الثمن الذي حظيت به، حصلت على شهادات المستوى المتقدم الثلاث اللازمة للقبول، وهذا جعل جامعة أكسفورد تبرر ذلك الاختيار الذي لم تكن لتختاره لولا ذلك). والانجذاب الجنسي ؟ حسنا، لقد دام ذلك لفترة أطول، مع أنه يخضع لقانون العوائد المتناقصة، حتى قتلته أخيرا بقتلي ناتالي. فلا يوجد ما هو أكثر فاعلية في كشف الفراغ الذي يقوم عليه زواج متداع دون أي مواربة للنفس من موت طفل.
أتساءل إن كان حظ هيلينا مع روبرت أفضل. إن كانا يستمتعان بحياتهما الجنسية فسيكونان من الأقلية المحظوظة؛ فقد صار الجنس أحد أقل المتع الحسية أهمية لدى البشر. قد يخيل للمرء أن بانعدام الخوف من الحمل للأبد، وزوال الحاجة لاستعمال اللوازم التي من شأنها تقليل الشعور بالإثارة الجنسية من حبوب منع الحمل والعوازل الذكرية وحسابات التبويض، ستتحرر الممارسات الجنسية ويفتح المجال لطرق إمتاع جديدة وإبداعية. لكن ما حدث هو العكس؛ فمن الواضح أنه حتى أولئك الرجال والنساء، الذين لم يكونوا ليرغبوا عادة في الإنجاب، بحاجة للاطمئنان إلى قدرتهم على إنجاب طفل إن أرادوا ذلك يوما. فبعد أن انفصل الجنس تماما عن التناسل، صار مجرد حركات بهلوانية لا معنى لها. وتزايدت شكاوى النساء مما أسموه بهزة الجماع المؤلمة؛ مجرد انقباضات لا يصحبها أي لذة. تكرس المجلات النسائية صفحات كاملة لمناقشة تلك الظاهرة الشائعة. أخيرا أصبح لدى النساء - اللواتي ظل انتقادهن للرجال وتعصبهن ضدهم يتزايد خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين - مبرر قوي لتلك الكراهية التي ظلت مكبوتة لعدة قرون؛ فبعد أن صرنا لا نستطيع منحهم أطفالا، لم نعد حتى نستطيع منحهم اللذة. قد لا يزال الجماع يمثل راحة للطرفين؛ لكنه نادرا ما يكون متعة متبادلة فيما بينهما. كانت المحال الإباحية، التي تشرف عليها الحكومة، والأدبيات التي لا تنفك تزداد إباحية، وجميع الوسائل التي من شأنها استثارة اللذة، جميعها بلا جدوى. ما زال الرجال والنساء يتزوجون، لكن ليس بنفس الكثرة، وبمراسم احتفالية أبسط وعادة يتزوجون من نفس جنسهم. ما يزال الناس يقعون في الحب، أو يدعون ذلك. ثمة بحث يكاد يكون مستميتا عن الشخص المناسب، الذي يفضل أن يكون أصغر سنا أو على الأقل من نفس السن، والذي سيواجه معه المرء الخراب والاضمحلال الآتي لا محالة . ما زلنا نحتاج إلى راحة جسد يتجاوب معنا، ويد تتشابك مع أيدينا، وشفاه تلامس شفاهنا. لكننا نقرأ قصائد الحب التي كتبت في العصور الماضية بشيء من الاستغراب.
بينما كنت أسير في شارع والتون ظهر اليوم، لم أشعر بأي ممانعة لفكرة رؤية هيلينا مرة أخرى، وانتابتني بهجة مترقبة لفكرة رؤية ماتيلدا. باعتباري أحد مالكيها المسجلين برخصة ملكية حيوان أليف ولود، كان يحق لي بالطبع أن أرفع دعوى أمام محكمة الوصاية على الحيوانات للحصول على الوصاية المشتركة أو أمر بالرؤية، لكني آثرت ألا أعرض نفسي لتلك المهانة. فبعض قضايا الوصاية على الحيوانات يتنازع عليها علانية بشراسة وتكون باهظة التكاليف، ولا نية لدي أن أضيف إلى ذلك العدد من القضايا واحدة أخرى. أدرك أني خسرت ماتيلدا، وأنها، كونها حيوان غدار بطبعه محب للراحة، ستكون قد نسيتني الآن.
صفحة غير معروفة