قال ثيو : «المرأة التي ماتت أمام عيني لم تحظ بلمسة يد إنسان عدا لمسة يدي التي استمرت للحظة. كان ما حظيت به هو ضربة كعب سلاح هشمت جمجمتها.»
تمتم ولفينجتون دون أن يتكبد عناء رفع عينيه عن رسمه: «جميعنا سنموت وحيدين. علينا أن نقاسي موتنا كما قاسينا ولادتنا. كلتا التجربتين لا يمكن مشاركتهما.»
التفتت هارييت ماروود إلى ثيو قائلة: «بالطبع راحة الموت أمر اختياري تماما. وتتخذ جميع الاحتياطات التي تضمن ذلك. فيتعين على المشاركين توقيع استمارة؛ من نسختين. أليس كذلك يا فيليشيا؟»
قالت فيليشيا باقتضاب فظ: «بل من ثلاث نسخ؛ نسخة للمجلس المحلي، ونسخة لأقرب أقرباء المسن تخوله المطالبة بدية وفاته، ونسخة يحتفظ بها المسن نفسه وتؤخذ منه قبل أن يصعد على متن القارب. وتلك تئول إلى مكتب الإحصاء السكاني وتعداد السكان.»
قال زان: «كما ترى، فيليشيا تبقي الأمر كله تحت السيطرة. أهذا كل شيء يا ثيو؟» «كلا. مستعمرة مان العقابية. أتدرون ما يحدث هناك؟ أتدرون بعمليات القتل والتجويع والانفلات التام للأمن والنظام؟!»
قال زان: «أجل، ندري. السؤال هو كيف تعرف أنت بذلك؟»
لم يجبه ثيو، لكن وعيه الذي صار أكثر حدة أدرك أن ذلك السؤال يدق ناقوس خطر جلي.
قالت فيليشيا: «أتذكر أنك كنت حاضرا لاجتماعنا بصفتك المبهمة عندما كنا نناقش تجهيز مستعمرة مان العقابية. ولم تعترض إلا لصالح السكان الذين كانوا مقيمين بها حينها، والذين اقترحنا إعادة توطينهم في البر الرئيسي. وقد أعيد توطينهم على نحو مريح وموات في الأماكن التي اختاروها في الدولة. ولا نتلقى منهم أي شكاوى.» «افترضت أن المستعمرة ستدار كما ينبغي، وأن الضروريات الأساسية لحياة مقبولة ستتوفر بها.» «وهي كذلك بالفعل. المأوى والمياه والحبوب لإنبات الغذاء.» «افترضت كذلك أن المستعمرة ستخضع للحراسة وسيكون ثمة من يديرها. حتى في القرن التاسع عشر عندما كان المدانون يرحلون إلى أستراليا، كان لكل مستعمرة حاكم، بعضهم كان متساهلا والبعض الآخر كان متشددا، لكنهم جميعا كانوا مسئولين عن حفظ السلام والنظام داخلها. لم تترك المستعمرات تحت رحمة أقوى المساجين وأعتاهم إجراما .»
قالت فيليشيا: «أولم يكونوا كذلك؟ تلك مسألة تقديرية. لكن الوضع هنا مختلف. أنت تعرف منطق نظام العقوبات. إن اختار الناس أن يعتدوا على الآخرين ويسرقوهم ويرهبوهم ويؤذوهم ويستغلوهم، فدعهم يعيشون مع من يشبهونهم فكرا. إذا كان ذلك هو المجتمع الذي يريدونه، فلينعموا به إذن. إن كان فيهم شيء من الصلاح، فسينظمون أنفسهم على نحو معقول ويتعايشون بسلام. وإلا فسينهار مجتمعهم وتسوده الفوضى التي لا يتورعون عن فرضها على الآخرين. الخيار متروك لهم تماما.»
تدخلت هارييت قائلة: «وفيما يتعلق بتعيين آمر أو ضباط سجون لفرض النظام، فمن أين ستأتي بأولئك الأشخاص؟ هل أتيت إلى هنا للتطوع للقيام بذلك؟ وإن لم تتطوع أنت فمن سيريد ذلك؟ لقد ضاق الناس ذرعا بالمجرمين والإجرام. وليسوا مستعدين في الوقت الحالي لأن يقضوا حياتهم خائفين. لقد ولدت عام 1971، أليس كذلك؟ لا بد أنك تذكر التسعينيات، حينما كانت النساء يخشين السير في شوارع مدنهن، وارتفع معدل جرائم العنف والانتهاك الجنسي، وكان المسنون يحبسون أنفسهم داخل شققهم - بعضهم مات محروقا في محبسه ذلك - وكان المشاغبون السكارى يقلقون سلام بلداتنا؛ ولم يكن أطفالهم أقل خطورة من كبارهم، ولم تأمن من شرهم أي ممتلكات إلا تلك التي كانت تحميها أجهزة إنذار وشبكات حماية من السرقة الباهظة الثمن. حاولنا بشتى الطرق شفاء البشر من إجرامهم، بكل أنواع ما يسمى علاجا نفسيا، وطبق كل نظام في سجوننا. لم تجد القسوة والشدة نفعا، ولا الرفق والتسامح. منذ أوميجا والناس يقولون لنا «طفح الكيل». لم يستطع القساوسة ولا الأطباء النفسيون ولا الاختصاصيون النفسيون ولا علماء الجريمة إيجاد الحل. ما نضمنه هو التحرر من الخوف والعوز والملل. والتحرر من الأمرين الأخيرين لا معنى له دون التحرر من الخوف.»
صفحة غير معروفة