كلانا توفيت أمه. تلقيتا الرعاية في آخر أيامهما في قصر وولكوم، الذي تحول الآن إلى دار رعاية مسنين لمن يختارهم المجلس. قتل والد زان في حادث سيارة بفرنسا بعد عام من توليه حكم إنجلترا. اعترى ذلك الحادث بعض من الغموض؛ فلم يفصح عن أي تفاصيل بشأنه قط. دارت في ذهني تساؤلات عن الحادث حينها، ولا زالت تدور حتى الآن، وهذا يوضح لي الكثير بشأن علاقتي مع زان. جزء من ذهني ما زال يعتقد أنه قادر على القيام بأي شيء، يحتاج نوعا ما لأن يصدق أنه عديم الرأفة، لا يقهر، خارق للعادة، كما كنت أراه ونحن صبية.
تفرقت سبل الأختين في الحياة. كانت خالتي، بمعاونة مزيج من الجمال والطموح وحسن الحظ، قد تزوجت من بارونيت في منتصف عمره، بينما تزوجت والدتي من موظف حكومي برتبة متوسطة. ولد زان في قصر وولكوم، وهو أحد أجمل القصور في دورست. وولدت أنا في كينجستون، سيري، في جناح الولادة بالمستشفى المحلي، ثم اصطحبت إلى منزل فيكتوري شبه منفصل يقع في شارع طويل كئيب، تصطف فيه منازل مماثلة، يؤدي إلى متنزه ريتشموند بارك. نشأت في أجواء مليئة بالحقد. أتذكر أمي وهي تحزم حقائبي لزيارتي الصيفية إلى وولكوم، وهي ترتب قمصاني النظيفة وتمسك بأفضل معطف أملكه، تفرده وتتفحصه بتمعن بدا كأنه يحمل عداوة شخصية، كما لو أنها كانت تمقته بسبب المبلغ الذي اضطرت لدفعه مقابله، وبسبب أنها اشترته بمقاس يكبرني تحسبا لأن ينمو جسدي، وحينها كان قد أصبح ضيقا لدرجة غير مريحة، وبين هذا وذاك لم يكن ثمة فترة زمنية ناسبني فيها مقاسه بالضبط. كانت تعبر عن شعورها تجاه حظ أختها الحسن بمجموعة من العبارات التي غالبا ما تتكرر: «من الجيد أنهم لا يرتدون الملابس الرسمية على العشاء. فأنا لن أعمل في توزيع المنشورات كي أشتري لك حلة سهرة، ليس في سنك هذا. فتلك حماقة!» ثم يأتي السؤال المحتم، الذي تشيح ببصرها عني لتسألني إياه، فلم تكن تفتقر تماما للحياء: «هي وزوجها منسجمان جيدا، أليس كذلك؟ بالطبع أفراد تلك الطبقة الاجتماعية يبيتون في غرف منفصلة.» ثم تختم بقول: «بالطبع سيرينا لا تمانع ذلك.» كنت أعلم حتى وأنا في الثانية عشرة من عمري أن سيرينا كانت تمانع ذلك.
أظن أن والدتي كانت تفكر في أختها وزوج أختها أكثر بكثير مما كانا يفكران هما فيها. حتى اسمي المسيحي العتيق يرجع الفضل فيه لزان. فقد سمي تيمنا بأحد أجداده وأجداد والده؛ فقد كان «زان» أحد الأسماء المنتشرة في عائلة ليبيات منذ عدة أجيال. أنا أيضا سميت تيمنا بجد والدي. فلم تر أمي أي داع لأن تتفوق عليها أختها في مجال اختيار اسم شاذ لطفل. لكن السير جورج كان يثير حيرتها. ما زلت أذكر تعليقها المتبرم: «لكنه لا يبدو لي مثل بارونيت.» كان السير جورج هو البارونيت الوحيد الذي قابله كلانا، وكنت أتساءل ما الصورة الذهنية التي تستحضرها للبارونيت، فربما تخيلت أحد أبطال لوحات فان ديك الباهتة الرومانسية يخرج من إطار لوحته، بعجرفة بايرونية حزينة، إقطاعي محتقن الوجه متعال، مرتفع الصوت، يجيد رياضة صيد الثعالب. لكني فهمت ما تعنيه؛ فلم يكن يبدو لي أنا أيضا مثل بارونيت. وبكل تأكيد لم يكن يبدو عليه أنه مالك قصر وولكوم. كان وجهه مثلثيا، مرقطا بالأحمر، وكانت له شفتان مخضلتان صغيرتان يعلوهما شارب بدا سخيفا ومصطنعا، وقد بهت شعره الأحمر الذي ورثه عنه زان فصار لونه كلون القش الجاف، وكانت عيناه تسرحان بحزن وحيرة في أراضيه. لكنه كان راميا ماهرا، وكانت أمي ستوافقني في ذلك الرأي. وكذلك كان زان. لم يكن مسموحا له باستخدام بنادق بوردي التي يملكها والده، لكنه كان يمتلك بضع بنادق كان يصطاد بها الأرانب، وكان يسمح له باستخدام مسدسين برصاصات فارغة. كنا نثبت بطاقات التصويب على الأشجار ونقضي ساعات طويلة نحاول تحسين نتائجنا في الرماية. بعد بضعة أيام من التمرين، تفوقت على زان في الرمي بالبندقية وبالمسدس. مثلت براعتي تلك مفاجأة لكلينا، ولي أنا بالأخص. فلم أتوقع أن أحب الرماية أو أن أبرع بها؛ إذ كاد يربكني اكتشافي كم استمتعت بالمتعة الحسية، المشوبة ببعض الذنب، لملمس المعدن في راحة يدي، واتزان الأسلحة الذي يبعث على الرضا.
لم يكن لزان أي رفقاء آخرين خلال العطلات، ولم يبد أنه بحاجة لهم. لم يأت أي أصدقاء من مدرسته بشيربورن لزيارته في وولكوم. وعندما سألته عن المدرسة تملص من الإجابة. «لا بأس بها. أفضل من الحال الذي كان من شأن هارو أن تكون عليه.» «أفضل من إيتون؟» «لم يعد أبناء عائلتنا يلتحقون بإيتون. فجدي الأكبر خاض شجارا كبيرا فيها أدى إلى اتهامات علنية، ورسائل غاضبة، وغادرها حانقا. لا أذكر سبب كل هذا.» «ألا تضايقك قط العودة إلى المدرسة؟» «لم ستضايقني؟ هل تضايقك أنت؟» «لا، بل على العكس أحبها. إن لم يكن بوسعي القدوم إلى هنا، كنت سأفضل الذهاب إلى المدرسة عن الإجازة.»
سكت لبرهة ثم قال: «المشكلة أن المعلمين يريدون أن يفهموا الطلاب، فهذا ما يعتقدون أنهم يتلقون أجرهم لقاءه. لكني أبقيهم في حيرة من أمرهم. فأنا في فصل دراسي طالب مجتهد، أحصل على أعلى الدرجات، والطالب المدلل لناظر القسم، ومؤهل للحصول على منحة من أكسفورد؛ ثم في الفصل الدراسي الذي يليه، أتسبب في مشاكل جمة.» «مشاكل من أي نوع؟» «من النوع الذي لا يستدعي الفصل، ثم بالطبع في الفصل الدراسي الذي بعده أعود طالبا مطيعا. وهذا يربكهم ويقلقهم.»
لم أكن أنا أيضا أفهمه، لكن ذلك لم يشعرني بالقلق. فأنا لم أكن أفهم نفسي حتى.
بالطبع أدرك الآن لم أحب زان استضافتي في وولكوم. أعتقد أني خمنت السبب تقريبا منذ البداية. لم يكن لديه أدنى التزام تجاهي، ولا تقع عليه أي مسئولية ناحيتي، ولا حتى مسئولية الصداقة أو الاختيار الشخصي. وهو لم يخترني. كنت ابن خالته، وقد فرضت عليه، وكان وجودي أمرا واقعا. وبوجودي في وولكوم، لن يضطر قط للإجابة على السؤال الذي لا مفر منه: «لم لا تدعو أصدقاءك لقضاء العطلة هنا؟» ولم قد يحتاج إلى ذلك؟ فلديه ابن خالته يتيم الأب ليسليه. خففت عن كاهله، كونه طفلا وحيدا، عبء القلق الأبوي المفرط. لم أستشعر وجود ذلك القلق بدرجة كبيرة لكن بدوني، ربما كان والداه سيشعران أنهما ملزمان بإبدائه. منذ طفولته، لم يكن بوسع زان أن يتحمل الأسئلة أو الفضول أو أي نوع من التدخل في حياته. وقد تعاطفت مع ذلك؛ فقد كنت أشبهه كثيرا جدا في هذا الشأن. لو كان ثمة وقت كاف أو داع لذلك، لكان من المشوق تتبع نسبنا المشترك للوقوف على أسباب ذلك الاكتفاء الشخصي الزائد عن الحد لدينا. أدرك الآن أن ذلك كان أحد أسباب فشل زواجي. وهو غالبا يقف وراء عزوف زان عن الزواج. فاختراق باب الحصن المنيع الذي يحمي ذلك القلب والعقل يتطلب قوة أكبر من قوة العشق الجسدي.
نادرا ما كنا نرى والديه خلال أسابيع الصيف الطويلة تلك؛ فمثل أغلب المراهقين ، كنا ننام في وقت متأخر وعندما نستيقظ يكونان قد أنهيا إفطارهما. كانت الوجبة التي نتناولها في الظهيرة توضع لنا في المطبخ، وكانت عبارة عن إناء من الحساء المعد في المنزل، والخبز والجبن والفطائر المحشوة، وقطع من كعكة الفواكه الغنية المخبوزة بالمنزل، وكانت تعدها لنا الطاهية الحزينة التي كانت على نحو يتجافى مع المنطق تتذمر من عبء تحضير الوجبة الإضافية لنا وفي الوقت نفسه من غياب حفلات العشاء الراقية التي يمكنها استعراض مهارتها فيها. وكنا نعود إلى المنزل قبل العشاء بوقت بالكاد يكفي كي نغير ملابسنا ونرتدي حلتينا. لم تكن خالتي ولا زوجها يتجاذبان أطراف الحديث معنا مطلقا أثناء العشاء، على الأقل عندما كنت هناك، وكانا يستأثران هما بالحديث كل منهما مع الآخر، بينما كنت أنا وزان نأكل في صمت ونسترق بين الحين والآخر فيما بيننا نظرات المراهقين الانتقادية التآمرية. كان حديثهما المحموم يدور دوما حول خطط بشأننا ويستمر كما لو أننا لم نكن موجودين.
ذات مرة قالت خالتي وهي تنزع برقة القشرة عن ثمرة خوخ دون أن ترفع عينيها عنها: «قد يرغب الولدان في رؤية قلعة مايدن.» «لا يوجد ما يستحق المشاهدة في قلعة مايدن. يمكن لجاك مانينج أن يصطحبهما في قاربه عندما يذهب لصيد الجمبري.» «أنا لا أثق في مانينج. سيقام حفل غدا في بول وقد يودان حضوره.» «حفل من أي نوع؟» «لا أذكر، لقد أعطيتك برنامجه.» «ربما يودان قضاء يوم في لندن.» «ليس في ذلك الطقس البديع. الأفضل لهما أن يخرجا في الهواء الطلق.»
عندما بلغ زان السابعة عشرة من عمره وصار مسموحا له لأول مرة استخدام سيارة والده، كنا نذهب بها إلى بول لملاحقة الفتيات. كنت أجد تلك النزهات مريعة ولم أرافقه فيها إلا مرتين فحسب. كانت بمثابة اقتحام عالم غريب؛ الضحكات العالية، والفتيات وهن يتصيدن الشباب في مجموعات من اثنتين، ونظرات التحدي الجريئة، والحوار الذي يبدو تافها لكنه لازم. بعد المرة الثانية قلت له: «نحن لا نتظاهر بالشعور بالمحبة. فهن لا يرقن لنا حتى؛ ومن المؤكد أننا لا نروق لهن أيضا؛ لذا إن كان كلا الطرفين لا يريد من الآخر إلا المضاجعة، فلماذا لا نصرح بذلك وندع كل تلك المقدمات المحرجة؟» «يبدو أنهن يحتجن إلى تلك المقدمات. النوع الوحيد من النساء الذي يمكنك التودد إليه بتلك الطريقة هو النساء اللاتي يجب أن تدفع لهن المال مقدما. قد يحالفنا الحظ في بول إن شاهدنا فيلما واحتسينا الخمر لبضع ساعات.» «لا أعتقد أني سأرافقك.» «ربما كنت محقا. عادة ما أشعر في الصباح التالي أن الأمر لم يكن يستحق العناء.»
صفحة غير معروفة